أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 2 –















المزيد.....


رواية جفاف الحلق – 2 –


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2906 - 2010 / 2 / 3 - 14:49
المحور: الادب والفن
    


غريب عسقلاني
رواية جفاف الحلق – 2 –

- 2 -
من روضة الشيخ فرج خلف خرابة أبو الروم، إلى المدرسة الهاشمية في أول طلعة البوابة الشرقية للمدينة, المفصولة عن الشجاعية بخط سِكة الحديد ويافطة مثبت عليها سهم تشير غرباً (إلى غزة الجديدة ) عند تقاطع السكة مع الأسفلت نتفرج على المحولجي وجرسه النحاسي وناقوسه المضاء في عز النهار، يتسع فضاء الدنيا أمامنا، نقطع ساحة الشوا، نستنشق رائحة الخبز ويانسون القرشلة المنبعثة من فرن (أبو الخير ) يلوح لنا الصناقور مشرعاً إلى السماء، ننعطف إلى مقام الشيخ بشير، ونأخذ طريقنا إلى مقبرة أم مروان (الشهداء) نتسلى مع عنتر الذي يتجول عارياً بين القبور، أسماله البالية بالكاد تستر عورته، ونتحاشى الاقتراب من خص أبي صبحة في زاوية المقبرة.. نجمع بذور الخروع الجافة من الشجيرات المنتشرة حول القبور، نصطاد الجنادب من قواعد الصبار وعوسج الأسيجة، لنطلق سراحها في الفصل، أو نسقطها في ساحل أحد التلاميذ في حصة التربية الدينية، مستغلين طيبة أستاذنا الشيخ الصوالحي، وضعف بصره، نراوغ عنتر الذي يفتشنا، ويصادر ما اصطدناه من جنادب وجراد أحمر، يلتهمها حية، ويستحلب حشوتها اللزجة على طرف لسانه، يطلق ضحكاته الحادة مثل مواء القطط المفزوعة...
في الفترة المسائية، فصلنا الدراسي خيمة جرس كبيرة، زرعت أوتادها في ساحة المدرسة، وعرفنا من الأساتذة، أن عددنا فاض عن سعة المدرسة، فأضافت وكالة الغوث فصلاً مؤقتاً، بعد أن تبرع المعلمون بإضافة جدول دروسنا على جداولهم، وفي الحارة توزعنا إلى فريق صباحي يضم أولاد المواطنين يتبعون التعليم الحكومي، وفريق مسائي يضمنا نحن أولاد اللاجئين في رعاية وكالة الغوث، واعتقدنا أن الحكومة والوكالة قد ورثتا المدرسة عن جدنا هاشم بن عبد مناف، وامتثلنا للقسمة مرغمين، ولم نعد نلتئم لمواجهة أولاد الحارا ت المجاورة في لعبة العسكر والحرامية، والعرب واليهود إلا في أيام الجمع والعطلات الرسمية المشتركة.. وحيرني ابن حارتنا مسعود الخروبي، المواطن الغزي الذي يدرس معنا في الفريق المسائي، إلى أن حل أبي اللغز، وأخبرني أن أبا مسعود كان يعمل عتالاً في ميناء يافا، ويسكن مع زوجته في حارة "الجبالية"، وعندما هاجر الناس عاد إلى أهله وبيته، ولم يعد إلى فاخورة أبيه، وسجل مع اللاجئين.. وأصبح غزياً يافاوياً ببطاقة زرقاء، يتسلم عليها حصص الإعاشة، ويحافظ على شخرته الغزية الأصلية الطويلة، يسحبها من حلقومه لدرجة السعال، ويبهدل زوجته، ويدقها على لوح صدرها كلما ضبطها تتحدث باللهجة اليافاوية تدللاً وتغندراً على نساء الحارة الغزيات أو المجدليات القابضات على لهجة عسقلان المتميزة الصعبة على مسامع عباد الله الآخرين، لافحة رؤوس وقلوب الشبان الفائرين..
بعد الهجرة أعلن أبو مسعود كراهيته للفخار وطينه ودواليبه وشحبار أفرانه، واعتمد على كتفيه وزنديه عتالاً في السوق، يرى ما يرى من عباد الله، ويتحسر على الأيام الخوالي، ويغار على زوجته الشابة من رياح الدلال اليافاوي، وقد ازدحمت المدينة بأخلاط الناس من القرى والمدن ومضارب البدو.. وأم مسعود الضاحكة يسطع سنها الذهبي في زاوية فمها تلاعب ضوء الشمس، وفي يوم اشتعل غضبه، وحلف عليها يمين الطلاق أن لا تبقى في داره مع سنها، واصطحبها إلى الحلاق العفيفي جارنا في الدكان، وقلع سنتها الصفراء اللامعة ميراثها من حارة الجبالية، وصارت تغلق فمها كلما داهمتها الضحكة.. تزوّر وتجحظ عينيها في وجهها، وتغيب في نشيج مكتوم، أصبحت حديث الجارات.. وفي يوم مازحه أبي:
- ليش عملتها يا "أبو مسعود"؟
- في يافا كل النساء لهن أسنان ذهبية، ويضحكن في وجه الشمس.. كانت أيام راحة بال وعافية وشباب، والله بعد ما خطبتها اشتريت جهازها من شارع اسكندر عوض.. وأخذتها إلى الخواجة "مانولي" ولبست سنها ذهب عيار 24 قيراط.. وين راحة البال علشان تضحك على الفاضي والمليان.. وكمان نسيت حالها وعاملة يافاوية بتتجعص على عباد الله !!

هوايتنا وضع المسامير على قضبان السكة الحديد ، يمر عليها قطار البضائع يفردها ويفلطحها، نشكل منها مناخيز وحربات وسكاكين، نشحذها على حجارة الصوان في ضريح شمشون الجبار الراقد أسفل سور مدرسة الفلاح المقابلة لمدرستنا، نتسلح بما شكلناه من أسلحة وأدوات مع سلاحنا الأهم البطاقات الزرقاء نلّوح بها لأولاد المواطنين في طريقنا إلى مراكز التغذية الإضافية.. نزدرد الوجبة الساخنة على عجل ونخرج إلى الطرقات بقرون الموز أو حبات التفاح والبرتقال، ونصاب بخيبة أمل إذا كانت التحلية مهلبية أو أرزاً وحليباً ،إذ من المفروض أن نلتهمها داخل المركز في أطباق صغيرة من التوتيا، ولا نجد ما نتباهى به أمام الأطفال المتجمهرين عند بوابة المركز, وكان مسعود الخروبي الغزي في الحارة، واليافاوي في المركز والمدرسة، يلف قطعة اللحم خاصته في ورقة يحضرها سلفاً، ويدسها في شنطته، ليقتسمها في البيت مع أخيه الصغيـر.. وفي يوم قدموا لنا وجبة خضار بدون لحم، فاصطحبني معه إلى البيت شاهداً، حتى لا يتهموه بأنه استأثر باللحم دون أخيه (لأن بطنه واسع ولا يشبع كما تتهمه أمه ) ولم أكن أدري أن شهادتي ستجر عليّ وعلى أهلي الوبال ..
فقد تقدم أبو سعود بشكوى لمدير الوكالة أسفرت عن طرد مسؤول المركز بتهمة سرقة اللحم المخصص لوجبة التغذية، واستدعينا مع أولاد آخرين للشهادة في مركز الشرطة.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد لاحقنا الموظف المطرود عرفياً لأننا تسببنا في خراب بيته، وجوع عياله، وفي مجالس العرف والعادة جرجروا أبي بين دواوين ومقاعد التفاح والشجاعية، أسفرت أن توجه أهل الخير لمدير الوكالة واسطة لإعادة الرجل.
وفي تلك الأيام تميزنا بقدرتنا على التمارض، والرفس بالأيدي والأرجل، وإخفاء الشواحيط والأحذية والكتب والدفاتر، حتى نتغيب عن المدرسة برغم ما يترتب على ذلك من علقة ساخنة على الأيدي "ومدة " على الأقفية.. نتشبث بذيول أمهاتنا يوم تسليم حصص الإعاشة، نملأ جيوبنا بالتمر، ونلحس ما تيسر من سكر البنجر الأحمر الرطب، نعتلي أكياس الدقيق فوق الكارات، ويوم تسليم بقج الملابس شتاءً نقيم كرنفالاً بما نرتديه من ملابس لا نعرف إذا ما كانت للصغار أو الكبار، وما لا نقدر على تمييزه إذا ما كان من أشياء الأولاد أو البنات خاصة إذا تعلق الأمر بالأحذية أو الكنزات الصوفية والمعاطف والجاكيتات.
حول المجامر، نحدق في الجمرات المتوهجة، ونغفو على حكايات الآباء والأمهات والجدات عن الغولة، التي كانت تسكن بلادنا البعيدة، وما زالت تفرخ أولاداً وأحفاداً تسبغ عليهم كل ما هو مرعب وحقير من الصفات.. فنسحب الحكايات معنا في أحلامنا، نختزن آهات الألم والحسرة على بلاد ضاعت، كل الناس فيها أغنياء، وكل الرجال أعفياء ،وكل النساء جميلات فاتنات عاشقات "وسقى الله أيام زمـان" .
نشتاق ليوم العودة الموعود، أعتقد أن يوم العودة وثيق الصلة بصديقي عودة خليل عودة المجدلي مثلي، وأعتقدت أنه الأحق منا جميعاً بالعودة التي يعرف دروبها عن جده عودة..لا يثنيني عن اعتقادي معلم الحساب الذي يشفشف كفيّ عودة بالخيزرانة حتى تصبحا في لون حبة البندورة المفغوصة، يفور دمه القليل على جلده الأبيض الرقيق، تفز عيناه ،تبقان دمعاً مثل حنفية، وقبل أن يفهق يتوقف الأستاذ عوض عن ضربه.. يداعبه فاقداً الأمل منه:
- والله لن تفهم الحساب يا عودة حتى يوم العودة .
وكنت أتخيل يوم العودة، فتبرز أمامي معضلة موقعه بين الأيام، فهو بلا شك يختلف عن أيام الأسبوع السبعة، ووصلت إلى حل مريح مفاده أن أسبوع المواطنين سيظل سبعة أيام، أما أسبوع اللاجئين العائدين فيكون ثمانية أيام يبدأ بيوم العودة ولا يتعارض مع يوم الجمعة الذي سيبقى نهاية الأسبوع، ليتيح لكل الناس صلاة الجمعة.. وكنت أوغل في التوصيف، فأرسمه يوماً محايداً تختفي فيه المواعيد والمواقيت ليس فيه ليل ولا نهار، ولا ينتمي إلى نور أو ظلمة ، ولا يخضع لصيف أو شتاء، لأن الله سبحانه وتعالى سيخلقه خلقاً مختلفاً..وبانتظار يوم العودة تعزز اعتقادي بأن جدنا هاشم بن عبد مناف صاحب مدرستنا يرقد حياً في الأرض السابعة، يغفو صباحاً ولا يكترث بأبناء المواطنين الذين لم يغادروا بيوتهم وأراضيهم.. ويصحو قبل الظهر يسجل علينا نحن اللاجئين حسناتنا وسيئاتنا ثم يرفعها إلى حفيده الرسول الكريم الجالس على كرسيه في السماء السابعة، شفيعنا نحن عصافير الجنة، وتسابقنا إلى حصاد الحسنات وحفظنا نشيد العودة، والكرمل المعطر، والبرتقال المزهر، وما بنى أجدادنا قبل أن نتعرف على الأبجدية، وذرفنا دموعنا مع هارون هاشم رشيد ، قبل أن تذرف فيروز دموعها، وتساءلنا قبل أن تتساءل، لماذا نحن يا أبتي لماذا نحن أغراب؟ فقام أبي إلى صندوقه (لم يكن أبي الذي صار تاجراً قد امتلك خزانة ملابس حتى لا يبتدع عادة اختفت من بيوت اللاجئين، وربما لأن قوانين الدار الكبيرة والمال المشترك المشاع يحتم عليه توفير خزانة لكل حجرة من حجرات الدار، مما يرهق ميزانيته…) وسحب البندقية الألمانية من لفافتها، ومعها ثلاثة أمشاط رصاص أصفر لامع، هزها أمامي حتى لامست أنفي..رد التهمة..
- خرجت من المجدل بك وبها، تركت ورائي كل شيء، وهما لك حتى تعود بها مع زغاريد أمك وأخواتك الولايا.
- ولماذا خرجتم ؟ ولماذا علينا العودة..
- قرروا أن بنادقنا لا تستطيع حماية الأرض، وأقاموا الدشم والمواقع، فصدقنا وسحبنا بنادقنا..حفظناها لحماية العرض ولحم الولايا، يا ولدي نحن أفضل من غيرنا.. لجأنا من فلسطين إلى فلسطين..
وتيبس حلقي عى جفافه، وقبضت المرارة لساني، فصديقي عودة دليلي إلى المجدل، ممصوص مثلي وفاشل في حل مسائل الحساب.. وأبي يحملني بندقية ألمانية اشتركت في الحرب العالمية الأولى، ويتحدث عن دروب أجهلها، يورثني داراً لم أضيعها، وكرماً لم أتذوق ثماره فجة أو ناضجة، اللهم إلا من بعض حبات التين أو بلميات الجميز يحضرها محمد فارس لجدتي نفيسة، يدربني على حلاوتها حتى أتعرف عليها عندما أعود.
يتحدثون عن شيخ رابض عند عتبة البحر، يرصد أمواج عسقلان، يفتقد تلاميذه ومريديه، وخاصة "أبو صبحة " الذي " كسر الطبل.. واحتفظ بالرق الصغير والسنجة، وأقام خصه في المقبرة من هلاهيل قش وخيش، لا يزور ولا يزار، لا يقبل صدقة ولا يقرأ القرآن لميت أو غائب، يغتسل بماء البحر فجراً كل جمعة صيفاً.. ويلجأ إلى حمام السمرة قبل توافد الرواد شتاءً مسبحته الطويلة على صدره، ولم يعد لكتابة الأحجبة، يبكي طويلاً كلما سأله الشيخ محمد مهدي الضرير:
- خذ بيدي يا أبي صبحة
- تعرف على طريقك بنور بصيرتك يا شيخ محمد، الله يأخذ بيدنا جميعاً.
يطلبه الشيخ محمد بعد أن يقرأ الآيات:
- شاركني الطعام يا أبا صبحة ، تعرف على خبز الأحياء وأرواح الأموات
يسبــّح ويشيح بعــيداً:
- نويت الصيام حتى ألقى وجه الحبيب وأعود إلى المقام.. طردنا البركة عندما تركنا المعلم وحيداً يا شيخ محمد..
يقولون إن محمد فارس يمر على أبي صبحة في المقبرة، كلما رجع من عملياته، ويضع في كفه حفنة من رمل المقام، يسفها الشيخ على الريق، ويغمى عليه، لا يفيق إلا بعد أن يجف الزبد حول شدقيه.. وأبي يطبع في قلبي صوراً وحكايات وخرائط لطرق وسبل وأسبلة، يرتج عقلي، أنا الذي جئت إلى الدنيا على عطش بعد أربع بنات.. أنا العطش، وأنا الحكاية، وحافظ الرواية، والرواية تحوصلت في قاع الدماغ، توزعت مع الدم إلى خلايا جسدي الممصوص، جلداً على عظم كمصران الجائع ، أندس في حضنه، يتكئ على عمود ظهري الطري ويغفو..
من منا الكبير ومن منا الصغير؟ من الساند ومن المسنود؟ تفوع فيّ التفاصيل، أجمع ما تناثر من حكايات، أنصت لأحاديث جدي وأبي حسنة وأبي رباح المنزرعين في "جور" الأنوال كفسائل نخيل شاخت قبل أن تطول السماء، أو خلفات موز جفت بعد انحسار الماء عنها، أتسقط أحاديث العمال الشباب على الأنوال الجرارة العالية، أحمد شمعة الذي عاد يتعلم القراءة في المدرسة الليلية، حتى يرضي حسنة، ورضوان العتيق الصامت على نوله بعد أن كان صاحب قاعة "تطبل وتزمر" في المجدل، وجواد المنسي القوِّيل الدبيك اللويح الذي يرقّص أبا بشير حتى يغسله عرقاً وعافية..
لطش منديل وباطرافو لواهن
وسبع ضلوع في قلبي لواهن
حُرمت النوم يا لاحق هواهن
هدوني البيض وعيون المها..
يتراودون حول رياح ولت، وصباحات ضاعت، وعيون صبابات عزت في ملاعب روبين ووادي النمل، موسم الحسين وسهمود الدبيك، وارغول (أبو عقيل )، عن لصوص وشطار، وبنات مثل الورد، وتباريح مواويل يحملها البحر على صدر الموج، تغور في الأرض، تعود مع ماء العين جرار ماء يفيض من جابية الشيخ نور الظلام ومن بئر بيارات أبو خضرة والشيخ عمر..حكايات عن بطولات وخيبات ومعركة خسة، ولغم وقطار لم ينسف، وبايكة تطايرت، وطيرت عمران شقورة وعوض الفار، وأبو لبدة، وأبو اللبن والدقري، لحم تناثر نتفاً تعلق في أغصان الشجر، أو غاص في ثنايا الأرض المبقورة، عن أرض مفتلحة، وحفر صغيرة.. أشتال الخشخاش والليمون الحلو المزروعة حديثاً تنتظر مواسم الرقعة، عن ماتم جماعي في ساحة البلدية ومآتم في الحارات.. نواحات وردادات على لحم اختلط نسبه على الناس، بقايا سيقان وأقدام وعقل أصابع، عن رابعة تشق الثوب حتى سرة بطنها المتكور مثل"زقطة " البطيخ ، تعلن حملها على أهل البلد تشهدهم على لحم الثوار المفروم بنار اللغم، تقبض على كف عوض، وقد تعرفت عليها من بين النثار، دافئة تناولتها عن غصن شجرة ..
لم تخطىء كفاً جاست في بدنها، وأصابع تدللت على لحمها وارعشتها.. بكت البلد ، وسجل الشيخ عثمان زقوت عقد زواجها من المرحوم.. ولم يعدم الشهود يصادقون على عقد النكاح ، ويصدقون الحكاية التي توزعت في الحواري، واعتمد الجنين المخبوء تحت الجلد، يومها أعلنت أم عوض:
- اذا جاء ولد سموه صابر ،وإذا جاءت بنت سموها ناعسة
وأما أن حبا صابر اليتيم على الأرض، حتى كانت جدته لأبيه قد طفشت إلى الجبل مع زيات جوالّ، استضافته وحممته في بيتها، فتهامسوا عليها، ورجموها، فاستجارت به، فأجارها، باعت عنزاتها وقليل متاعها ومضت في أثره تاركة صابر لأمه.. ونشأ الطفل في كنف زوج أمه الكحيان الذي ورثها أرضاً محروقة، لم يتبق من معالمها سوى دمعة معلقة على بياض عينها، تطلب الستر في ظل رجل بدلاً من ظل حائط، مرتاحة لسرتها التي لم ترتفع بعد عوض، تتحمل ركلات الكحيان الطارئ على لحمها الذي يرفض نطفاته، تخلصها أم بشير منه.
- اللي راح ما بيرجع يا خاله ، اللحم إن ما عشق بيخاوي
تزجرهــا القابلة:
- قسمتك ونصيبك يا خايبة، والرجل له حقوقه، أنت بدك تعملي كل يوم زوج؟
- هو أنا منعته؟ ايش أعمل له إذا كان ظهره فاضي.؟
- فاضي ولا مليان، ربنا لمّا بيرزق ما بيشاور
ولم تلحق رابعة الناس إلى غزة، وتضاربت حولها الروايات، وغابت مع من غابوا تحضر عندما تناوش النساء سيرة صابر، ويأتين على سيرة الكحيان الذي يمم شمالاً..أما صابر فقد أخذ عن أمه العينين الواسعتين والرموش الطويلة، تظلل البؤبؤ المحير دائم السهوم، ورث الأرق والعشق، تسوقه قدماه إلى قشع "النور" في الشجاعية، يطرب لنقرات الدفوف، يتمايل على إيقاع الطبل، ويغشى عليه على صغر سنه.. تنوح ربابة النوري القهقير بعد أن تخمد نار الكيرعلى بقايا جمرات تحت ابريق شاي ثقيل، مزاج راحة بعد عناء يوم ثقيل.. يتمدد صابر، يستعيد سيرة أبيه اللّويح، يرسمه متمنطقاً بالسللحك، يجرجر في أذياله صبية ذات عيون سوداء، تهبه نفسها مختارة.. يهم بها على سنة الله ورسوله وبحضور شاهدين من الثوار، تناثرا معه يوم انفجار اللغم، وترسبا في حكاية أثمرت الصبي العفي السائر نحو فحولة مبكرة، لا يعرف له بيتاً، يتصرمح بين بيوت الأعمام والأخوال والأقارب، يشاكس في الحواري والطرقات يضرب ويُضرب، ويسيل دمه وتتمزق ثيابه، يتعرى ويجوع، يأتينا يملأ بطنه، ويغتسل ويمضي، حضوره فرحة وزفة نقوم بها نحن الصغار، نضحك معه وعليه، لازمته الجاهزة رداً على كل الأسئلة والإستفسارات " عليك العوض يا (أبو عوض)" تعقبها ضحكة مجلجلة لرجل صغير، يحملني ويمضي بي إلى سدرة الخروبي، يملأ جيوبي بما تساقط من ثمار التمور، لا يأبه بزعيق عمال المقهى، يصعد بي إلى شارع فهمي بيك..يهامس "أبو الروم" في الخرابة، يستفز ديك الحبش الرومي يلوح له بخرقة حمراء ( ديك الحبش لمّا انتفش قال خربط خربط يربط مالطي) ينفش الديك ريشه وينفخ عرفه الأحمر، يفرد مروحة ذيله ويصهل.. يطاردنا الرجل يسبنا ويلعن جدودنا، نكون قد ابتعدنا وتركناه لتعليقات الباعة والتجار "الله يهديك يا أبو الروم" انت مربي عندك ديك أهبل بيرد ع الفاضي والمليان"، يتجرأ أحدهم ويقذف أبا الروم بحصوة مداعباً "سكر يا قليل الدين راحت منك فلسطين.."
يهتاج أبو الروم، تحمر عيناه:
- ما هو الحق مش عليكم، الحق على المفتى اللي إنغش فيكم، وبدو يرجع البلاد بزنودكم .. إخص عليكم شعــب عرص..
يعــود إلى الخرابة يصب جام غضبه على الديك:
- ولك يا عرص اللي ينفش ريشه بينتفوه ، ما ظل فيها مراجل.. سقى الله لما كنت أقفل سوق العرصات وأهز أتخن شنب.. نت بتفكر أن الشوارب اللي على وجوههم شوارب رجال، .. الرجال راحت.. الله يسامحك يا حاج أمين.. ضعت وضيعتنا وراك.
نصل الدكان، تكون أصداء فوعة (أبو الروم) قد سبقتنا، فيدرك أبي أن صابر خلف الهيصة، وأس البلاء، يوبخه ويهم بضربه، لا يحميه غير جعفر فلفل الذي يبدأ محاضرته باللغة العربية الفصحى، عن أبي الروم الذي شارك في ثورة 36 وكان من شبيبة المفتى وأحد أفراد حرسه الخاص أيام المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول الذي انعقد في غزة, وكيف منعه المصريون من مرافقة الحاج إلى مصر.. يؤكد الأستاذ جعفر:
- لازم نحفظ للناس حقوقها وتاريخها ونضالها حتى نحترم أنفسنا.
يستهجن أبــي ما يسمعه:
- معقول يا( أبو السعيد).. أبو الروم كان من الثوار، ايش كان يعمل يربي لهم دجاج وحبش؟!.
- كان يملأ الجردل بماء المجاري، ويدور على التجار في السوق يوم الإضراب " سكر يا قليل الدين، راحت منك فلسطين" ومن لا يقفل محله يرشقه بالقاذورات، مشوار واحد يكون الإضراب التجاري قد شمل السوق.
يسرح أبي بعيداً يخرج صوتاً ساهماً:
- ما هو أبو صابر راح مع الثوار في لغم المجدل، فاكره يا "أبو السعيد"؟
يربت أبو السعيد على كتف صابر، يتحسس زنديه الناميين، يحدق في وجهه..
- يمكن أبوك ناضل مع أبو الروم، هل ترضى ازعاج أصحاب أبيك ؟
يقف صابر مبهوتاً ملجوماً، يسمع الكلام ولا يعيه، تستغلف عليه لغة الرجل الفصحى، ينفحني أبي قرش، ويدس في يد صابر شلناً ورقياً، يمضي صابر بي نشتري أقراص الكسبة المرشوشة بالسكر والسمسم، نستحلب ريقاً مغمساً ببقايا الزيت والطحينية الحمراء ثم ننعطف الى سباط المفتي، حيث معمل صوان للمكسرات والحلويات، يملأ صابر جيوبه بالحلقوم والشيكولاتة.. يوصلني إلى البيت ولا يستجيب لنداء أمي له بالمبيت في الدار، بدلاً من "الدشارة والصرمحة" يحشو رغيفه بالفلفل الأحمر المخروط ، ويتزود بالزيتون ،يأكل بشهية ، يشفط لعابه مع لسع الفلفل.. تشيعه أمي مستفزة منه خائفة عليه:
- الحق على اللي أعطاك مصاري تصرفها على النوريات يا نوري.
يعطيها حبة حلقوم امتناناً، ينقر على جيوبه تباهياً، ويختفي، نسمع أخباره من الكبار، يتحدثون عن تعلقه بياسمين بنت الجنكية "روجينا"...تعلمه ياسمين، دق الطبل والنقر على الدف، تجرجره وراءها إلى الأفراح والموالد.. نتخيل صابر وهو ييفرغ جيوبه في حجر ياسمين، ويتمدد عند باب قشعتها بجانب الكير يحاور بقايا فحمات ماتت نارها..



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –
- طقوس امرأة بريئة – 2 –
- طقوس امرأة بريئة – 1 -
- الجمر والحريق
- كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة
- رواية نجمة النواني - 21 - والأخير
- رواية نجمة النواتي 19,20
- نجمة النواتي - 19 -
- رواية نجمة النواتي 17 ,18
- رواية نجمة النواتي 15,16
- رواية نجمة النواتي 13, 14
- رواية نجمة النواتي 10,11,12
- غريب عسقلاني - رواية نجمة النواتي 7,8,9
- غريب عسقلاني - رواية نجمة النواتي - 4,5,6
- رواية نجمة النواتي - 2 , 3


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 2 –