أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 1 -















المزيد.....

رواية جفاف الحلق – 1 -


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2904 - 2010 / 2 / 1 - 01:58
المحور: الادب والفن
    


غريب عسقلاني
رواية جفاف الحلق – 1 -

- 1 -

وعيت على الدنيا وأنا أعاني من جفاف في الحلق ومرارة في اللسان، واعتقدت في طفولتي الأولى برواية جدتي لأبي، عن مجيئي إلى الدنيا على عطش بعد أربع بنات، انتظرن وأمي سنداً يطرد شبح الضرة الذي كان يحوم في الدار...
وقبل أن أرتوي من حليب أمي، هاجروا بي، وأنا لم أبلغ عامي الأول، وفقدوا مع ما فقدوا شهادة ميلادي، واتفقوا على عدم تمكنهم من غسل قدمي في مقام (الشيخ عوض) على عتبة بحر عسقلان، ولم يعلق الشيخ أبو صبحة ( الذي يأكل القش ويهرس الفخار والزجاج ) حجابه فوق قلبي، إذ حال توتر الحال والأحوال دون دق طبله ونقر رقه ودفه، وإشعال حلقة الذكر في باحة المقام، ولم يلعب الدراويش بالسيوف والأقواس والسنج في حواري المجدل على عادتهم في موسم الحسين وعرس وادي النمل... فالساحات والمساحات كانت تحت تصرف الجيوش المصرية, التي اتخذت من مبنى البلدية مقراً لقيادتها، وأخذت على عاتقها تحرير البلاد والعباد من الإنجليز الملاعين واليهود الأنجاس، وحظرت على الناس الاقتراب من الشاطئ، حيث أقيمت المواقع والدشم، ونصبت المراصد لرصد تحركات الأعداء، ودبيب النمل في زمن الحرب. ولحرماني من الحجاب والتعويذة والرقية تفرغت أمي لإرضاعي مذعورة، تبصق في عبها كلما وقعت عليّ عين مدوّرة حاسدة، مثل عين جارتنا العاقر، وتصب جام غضبها على اليهود والإنجليز جهاراً، وعلى العرب في سرها، لأنهم قطعوا السبل على الدراويش، وأفسدوا موسم وليّ الله فهزموا، وبلبلوها في مواجهة عللي وأمراضي، والحمى التي تزورني ليلاً، وتورثني مغصاً وإسهالاً في النهار، تستنجد وتستجير بأبي صبحة (الذي توزع مع الناس في الهجرة) ولا من مجيب
وعندما درجت مع أترابي في الحارة، بطحوني، فاكتشفت نحافة عودي، وأيقنت أن المكابرة تؤدي إلى الهلاك، فبحثت عن أولاد الأعمام والأخوال والأقارب، وعلمت أنهم تفرقوا في مواقع وحارات بعيدة..واستأنست بكتف صابر الذي يأتينا جائعاً مخربشاً ممزق الثياب، تطعمه أمي، وتدخله الحمام عنوة، وتلبسه ما تيسر من ثياب قديمة احتفظت بها من فوائض صرر (بقج) الوكالة..أتشبث بكتفه وأنا السند المأمول، وأفتقده إذا طال غيابه، أسأل، فتحدثني أمي عن جوع وعطش وعشق بعيد، ومأذون وشهود، ثبتوا أبوة جنيناً يرفس جلد بطن أمه..
يصعد الجفاف إلى حلقي، وتقبض المرارة على لساني، أرهف السمع، وأتحول عن رواية جدتي إلى رواية أمي التي فطمتني بعد أن هجر الحليب صدرها خلال مشوار المطاردة من المجدل إلى غزة، على ظهر الحمارة القبرصية العالية الثكلى (بعد أن هج جحشها الأبيض ويمم صوب البحر) تؤكد أمي أن الحمارة صامت وظلت تبكي طوال الرحلة, وتعتقد أمي أن حليبها (شرد) من صدرها مع آخر قطرة ماء تزودت بها من جابية مقام (الشيخ نور الظلام)، الموصوف ماؤه للمرضعات، لما كان يشاع عن سر الولي المذاب في ماء الجابيه ،وكراماته في إدرار الحليب الزلال الصافي الشافي من العلل والأمراض، تقول أمي أنها فطمتني بعد أن عافت معدتي حليب وكالة الغوث المجفف المنزوع الخي، والمتاح الوحيد في تلك الأيام المنزوعة البركة والرحمة، فتشكلت رفيعاً مثل مصران الجائع, أدور حول أبي الذي اعتصم بحرفته الأولى، ونصب نوله ووصل الليل بالنهار مدفوناً في جورة النول خلف خيوط السداة (يترسك ) تساعده أمي خلف دولابها تعبيء فوارغ مواسير اللَّحمة, وتدور مع لفات شلخات الغزل على محيط الطيار، يفرخان رقعة القماش القطنية المطلوبة في زمن الهجرة, وقد استبد بالناس عناد التمسك بالأنسجة الشعبية والتلفع بالأردية الرخيصة، في غياب الأقمشة البديلة، لأن الإستيراد من مصر لم يكن قد وجد سبله المنظمة إلى القطاع.
ولم يمض طويل وقت حتى استعاد أبي لياقته وحيوية جيوبه، فتجاوز وقته ،وجمع قروشه على قروش خالي وجدي لأمي، وأصبح صاحب أنوال ودكان وتحول إلى التجارة، يعمل عنده أجراء من أهل المجدل، في الدار الكبيرة على صدر طلعة الجرجاوي تحت كتف مدرسة صلاح الدين الأيوبي.. نطل منها على بيارة أبو راس، الممتدة بين ساحة الشوا وسدرة الخروبي، ومن براندا الدار تلوح لنا حارة التفاح بأزقتها ومنعطفاتها حتى بركة " قمر" شمالاً وحارة المشاهرة غرباً.
وفي الدار الكبيرة ، الدار الفوقا ، وهي مخصصة للسكن والمعيشة وتتألف من خمس حجرات ولوانين تصل بينهما براندة عريضة مبلطة تفتح عليها أبواب الحجرات، نهبط من الدار "الفوقا" على درجات حجرية إلى الدار "التحتا"، حيث أقيمت القاعة بسقفها الزينكو وحوشها الترابي...
عشنا نحن الصغار في القاعة بين الأنوال والعمال نجمع فوارغ المواسير لنساء الدار اللواتي يقطعن نهارهن خلف الدواليب للف خيوط اللحمة, وتوفير المواسير لتلقيم المكاكيك التي لا تستقر تحت دفع اللطاشات المجنونة بترسكات (دفع ) أقدام العمال على دواسات الأنوال الجرارة، أو نقرات أصابع عمال الأنوال اليدوية على أبواز المكاكيك الصغيرة، وكان على كل امرأة (مموسرة ) أن توفر ما يُشغل أربعة أنوال لاسكات خالي الذي يهتاج إذا أعلن أحد العمال عن نقص المواسير في جعبة نوله.. وغالباً ما كان هياج خالي يستفز جدي في جورة نوله، فيثور من القاعة منتصراً للنساء:
- مالك الدنيا أكلتك.. ايش بدك منهن ، خليهن يشوفن غسيلهن وطبيخهن، كفاية الواحدة ملاحقة على أربعة فحول.
وارتبطت حياتنا بالقاعة، والقاعة في عرف أهل المجدل هي ورشة النسيج اليدوي تواضعاً أمام مصانع النسيج الآلية، مثل مصنع "المنار" الذي يملكه صديق أبي الأفندي الأسمر الضخم "جعفر فلفل" والذي يعزو جدي فشله إلى كونه أفندياً يتكلم أكثر مما يعمل، ويلبس البنطلون، فالبنطلون والنول لا يلتقيان, والأهم من ذلك أنه ليس مجدلياً, لأن حرفة الخيوط والنسيج وقفت على أهل المجدل منذ أيام النبي شيت، النبي الذي سمعت جدي أكثر من مرة يعاتبه ويتمرد عليه ويلعنه، ويحمله مسؤولية ربطه في جورة النول منذ لبس الشروال, وربط حبل دكته حول وسطه، وبحثتُ عن النبي شيت دون جدوى، فاعتمدته على إيمان جدي نبياً ورسولاً للغزل والنسيج ومهندساً أزلياً للنول هبط في المجدل وفرّخ فيها أولاداً وأحفاداً، ولازمني الإعتزاز بانحداري من سلالة نبي يعود إلى سيدنا آدم، الذي نسخ أمنا حواء من ضلعه، واعتقدت أن الرجال في المجدل ينسخون زوجاتهم من ضلوع جنوبهم ليقعدن خلف الدواليب فيما هم يمتطون الأنوال، ويغطسون في جوّرها.(حفرها)
ولأنني من سلالة شيت المجدلاوي كنت محظياً عند الجارات، يتوددن لي، فأم على الجرجاوي تنفحني بيضة مشوية كلما أوقدت طابونها، وأم فرهود تحشو جيوبي بقطين الجميز، فاسرق لهن ما يطلبن من خيوط الحياكة والرتق والتنجيد من بقايا الخصلات الفائضة عن السداة، أو أعقاب المواسير.. وعند أولاد الحارة كنت المصدر الوحيد لقصبات "البوص" والخيوط اللازمة للطيارات الورقية (الأطباق).. فقد كنت أغتنم أيام السداة في صباحات أيام الجمع، حيث ينصب العمال العدة في الطريق بين الساحة والسدرة، وكان علينا نحن الصغار تزويد العمال بالشاي وطعام الإفطار وجمع فوارغ البوص التي تلفظها مرادت الجاغات، وتلقيم المرادن بمواسير بكر، نخبئ أعقاب المواسير بما عليها من خيوط منشاة, وإن لم تتوفر نقوم "بنفل" مواسير وخربشتها، فيلفظها العمال مع العوادم ،لتسلّكها النساء على الدواليب، وتلفها من جديد للمسدية الثانية.
أما عيد باب الداروم (خميس البيض) فهو يوم زهوي وحنجلتي وخيبتي وقلة حيلتي أيضاً، في العيد تتفنن نساء الدار في لف خيوط الحرير الفائضة عن حواشي المقاطع (قماش الثوب المجدلاوي) حول البيض المسلوق، فتحل الخيوط ألوانها على قشور البيض تشكيلاً بديعاً تعكس ألوان مقاطع الجنة والنار، والجلجلي، والبلتاجي، وأبو مئيتن والمحيَّر، بيضتي الملونة تبهر أولاد الحارة ،وتثير غيظهم وغيرتهم، فهم لا يمكلون من وسائل التلوين غير قشور البصل وقشور الرمان المجففة، وفي أفضل الأحوال نوار "العصفر".. ما أن أَهبط إلى الحارة حتى أعود مع قلة حيلتي، وهزال عودي أنزوي متحاشياً أخواتي الأربع، وأخي الرضيع (الذي ولد في الدار الكبيرة) لا أستجيب لدعوات هيجر للعب في الليوان.. أنا السند المكسور والمبطوح في الحارة، أتمنى لو كان صابر معي في الحارة، حتى لا يكسروا بيضتي، ويشوهوا قشرتها، ولا يتركوني ألا وقد قضموا حشوتها ليتأكدوا من تشابهها مع حشوات بيضاتهم البصلية والرمانية، يصعد الجفاف إلى حلقي ،وتتركز المرارة في لساني، لا يعصمني غير حضن أمي التي تكون قد احتاطت للأمر وخبأت بيضة احتياطية..
- ولا تزعل أنا شايلة لك بيضة الديك أم صفارين
- هو الديك بيبيض؟.
- مرة واحدة في السنة، ليلة باب الداروم, يهدي بيضته للولد الشاطر .
أزهو ببيضة الديك على أخواتي وبنات خالي ، أمارس هيبتي على هيجر الضاحكة الضحوكة أم العيون الزرق ، أخربشها فتضحك ، أختبر فتوتي الطفلة ، أبطحها وأضربها.. وأفوع مع تحريض جدي الملقوح على فرشته أمام الليوان يعجعج على غليون البوص دخاناً عربياً أخضر جافاً:
- أيوة يا سيد أشكمها من اليوم عشان تحسب حسابك بكرة.
تسحبها أمها بعيداً عن جوري وفجوري، تقرصها أسفل بطنها:
- يضربك وتضحكي له؟! من اليوم موليّه وساكتة يا هبلة !!
يرشقني خالي بطرف عينه، تتضخم كفه الغليظة في عقلي تسد عليّ حيز المكان، مذعوراً أنزوي خلف جدي، أختفي في ظلال سحابة دخان الغليون.. ترتخي قبضة خالي، يعود إلى برميل البوش أو القصرة، يدسني جدي في حضنه ،يشعلل رعونتي، يحرضني حتى يسمع خالي:
- أيوة يا سيد أشكمها وخليك جدع اوعك تخــذل وتطرى عند دلع النســوان.
جدتي تتدخل قبل أن يتمادى جدي:
- أُسكت يا اختيار وكفاية تلقيح كلام ع الفاضي والمليـان.



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –
- طقوس امرأة بريئة – 2 –
- طقوس امرأة بريئة – 1 -
- الجمر والحريق
- كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة
- رواية نجمة النواني - 21 - والأخير
- رواية نجمة النواتي 19,20
- نجمة النواتي - 19 -
- رواية نجمة النواتي 17 ,18
- رواية نجمة النواتي 15,16
- رواية نجمة النواتي 13, 14
- رواية نجمة النواتي 10,11,12
- غريب عسقلاني - رواية نجمة النواتي 7,8,9
- غريب عسقلاني - رواية نجمة النواتي - 4,5,6
- رواية نجمة النواتي - 2 , 3
- غريب عسقلاني - رواية نجمة النواتي – 1 –


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 1 -