أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - ندى















المزيد.....


ندى


خالد درويش

الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 31 - 13:05
المحور: الادب والفن
    



نعم، كان الحبّ في المخيم محرّما شرعا وشريعة ولكن ندى تسللتْ، دون أن تدري ودون إرادتي إلى قلبي خلسة وراحت تلهو وتنام وتمشي وتركض وتبكي وتضحك في أرجائه صباحا وبعد الظهر، مساء وعند منتصف الليل. كنت أشاهدها، في طريقها إلى مدرسة البنات صباحا، وأثناء عودتها إلى البيت إذا تسنى لي ذلك، وفي بعض الأحيان، خلال مشاويرها المقتضبة إلى حاوية القمامة أو ارتيادها بين الحين والآخر مطعم الأنروا من اجل تناول وجبة غداء مجانية. مرات ومرات كمنتُ في ممر المهجع المعتم المشرف على باب بيتهم لاهثا، قلقا من أن يضبطني أحدٌ متلبسا بجريرة التلصص على أبواب الغرباء، أترصّد إطلالتها الخاطفة لتمنحني جرعة من السكينة تعينني على تحمّل الليل الثقيل. ولكنها لم تكن تفارق البال أبدا؛ كنت أتخيلها في الصباح مرسومة على قطرات الندى التي تبلل وريقات الريحان في الحيز الصغير المكشوف أمام غرفتي الدار، وفي احمرار صفيحة التنك على لهب البابور الذي كنا نتزاحم حوله في ليالي الشتاء ننشد الدفء. كنت أراها في ارتعاش ماء المستنقعات التي يخلفها على الشارع وابلٌ عابر في الخريف وفي ألوان قوس قزح الزاهية المنتصب عاليا فوق مصنع الاسمنت.
كم كنتُ اشتهي رؤيتها دائما، كم تمنيتُ انتقال أهلي للسكن في البيت المقابل لمنزل ذويها. كان باب بيتهم الخشبي المتواضع محرابي؛ وكانت حديقته الخلفية الصغيرة بالأسلاك الشائكة قِبلة روحي.
في شريعة المخيم مستنكر أن تكرّرَ مرورَك ببيت غريب دون سبب وجيه تبديهِ لكل من يسأل. لذا تفتّقت حيلتي عن فكرة بديعة باشرتُ التحضير لتنفيذها في الحال: أن ارسم على جدار بيت حبيبتي المطلّ على الشارع العام علم فلسطين. لن يعترض احد، فأن ترسم علم فلسطين، في أيّ وقت، وعلى أيّ رقعة خالية فأنت تقوم بعمل صالح يقدّره الجميع. لقد صار العلم كناية عن الوطن الذي ضاع ولم يتبق منه سوى الذكريات وأسماء مدنه وبلداته وحواريه ممهورة على بوابات المدارس وواجهات الحوانيت.
لملمتُ أصابع ألوان الباستيل التي كانت تصرفها الأنروا لتلاميذ مدارس المخيم بوفرة واتجهتُ، مع صديقيَّ يوسف وفتحي إلى هناك.
- ماذا تفعلون؟
كان يسألنا من يمرّ بنا.
- نرسم علم فلسطين.
كنا نجيب واثقين، غير قلقين من وجودنا هنا، بمحاذاة الباب نلامسُ الحائط المنيع لساعات أطلتْ ندى خلالها خمس مرات، وقفتْ في إحداها تتفرج مبتهجة بامتنان لدقائق توقف الزمن فيها متأرجحا بين الغيوم.
- عافاكم!.
كان الجميع يربّت على شغلنا، فنحن لا نعبث، لا نقطف عنب دوالي أسوار البيوت قبل نضوجه ولا نسرق الدجاج. لا نحطم زجاج النوافذ بحجارة شجارات تندلع بين الصغار لأتفه الأسباب، ولا نرفع أغطية الحُفَر الامتصاصية لتنتشر الروائح الكريهة، لا نقطع سماعة الهاتف العمومي الوحيد أمام بريد البغدادي، أو نلطم الأطفال ونركلهم بلا سبب كما يفعل الأشقياء من أقراننا عادة لكسر رتابة أيامهم المتشابهة. نحن نرسم علم فلسطين، ننعش الجدار الرمادي بألوان الراية التي تتصدر أيقونات حياة الناس بعد الله والأنبياء.
عثرتُ ذات يوم في مكان بعيد عن بيوت المخيم على ورقة نقدية من فئة الخمس ليرات. فرحتُ بها؛ إذ كانت تعادل في حينها مصروفي لمئة يوم. ولكن فرحي بملقيتي ازداد حين افترضتُ، ثم اقتنعتُ، ثم قرّرتُ أن الورقة الخضراء، ربما، أو إنها فعلا سقطت سهوا من محفظة أم ندى أومن جيب أبيها، فسارعتُ جَزِلا إلى بيتهم اطرق الباب وأسال أمها:
- هل أضعتم خمس ليرات يا خالتي؟
وكانت عيناي المتعطشتان تجولان بحثا عن ندى في الفناء الضيق عبر الجيوب والثغرات الشحيحة التي تركها جسد أمها الكبير في الباب الصغير.
التمعتْ عينا أم حبيبتي وهي تتلقف الورقة العزيزة من يدي وتشكرني وتتمنى لي الخير وتغلق الباب.
مضيتُ خائبا، لم يحزنني أنني فرطتُ بهبة خصني بها الله ولكن الذي أكربني هو عدم تمكني من رؤية من أهوى.
كنتُ أؤثر أحيانا صحبة خالها زعل، ابن صفي البليد، البائس، الأبله ذي الملابس المتسخة دائما على اللعب مع أصدقائي النظيفين المرحين الأذكياء؛ حسن واحمد وأسامة. كنت أتقرب من زعل ذي الاسم المتجهم المثير للضحك والتندر كلما سنحت لي الفرصة، وأناور ليدعوني إلى بيتهم علني أحظى برؤيتها لدقائق. كنت أعرض عليه جهدي لشرح ما يستعصي على فهمه من الدروس وأغويه بفخاخ متينة لصيد العصافير.
استهوتني حصص اللغة العربية، كانت الأكثر إثارة بين الحصص الأخرى؛ الحساب والعلوم والجغرافيا والدين، لمجرد أن مدرس هذه المادة هو خالها الأكبر فاضل.
كنت اعتني، كلما تصفحتُ خريطة فلسطين المعلقة على جدار البيت وجدار غرفة الصف بالعثور على قرية أهلها الساحلية الواقعة جنوب حيفا، متمعنا في الأرقام المتصلة بسكانها وأراضيهم. كم تبعد القرية عن البحر، كم كان عدد سكانها قبل اللجوء والى أين نزحوا؟.
كان قلبي يخفق لكل ما يتعلق بندى. افرحُ برؤية أمها وهي تتنقل، آخر النهار من دكان إلى آخر، تنحني على بسطات الخضار لتنتقي الأصلح بين ما تبقى من خضروات ذابلة لتشتريها بنصف ثمنها. كانت جوارحي ترتعش لخالتها الأرملة نجوى حين تمرّ بي في الشارع الكبير بوجه متغضن ويدين ممسكتين ببطنها الممغوص في طريقها إلى عيادة الأنروا. كنت ابتهج لمشهد أخواتها الصغيرات خيرية، سعاد وسلمى يلعبنَ في ساحة البيت الخلفية بدمى يصنعنها من عيدان ومزق قماش ملونة. وكنتُ اشعر بالحبور لمشهد الملابس المبللة المنشورة على حبل الغسيل وراء دارهم؛ هذا قميصها الأصفر وتلك تنورتها الزرقاء، هذا مريولها المدرسي وذاك سروالها الزهري.
تتعب السحب من اللهث وراء القمر، تتجمع في بقعة من السماء هدأتْ فيها الريح، كأنها جياد بيضاء تستكين إلى ضفاف الجداول. يستعيد وجهها الحنطي صفاءه وتبقى طيور انتباهها متيقظة، فيما يستسلم جسدها الدافئ ليديه الحانيتين وصوته العميق:
كانت ندى تجاور الله في وجداني. وكنت ناجحا في التوفيق بين ميولي نحوهما على نحو يمنحني السلام والاطمئنان؛ له الإيمان وطقوس العبادة ولها رفيف القلب. ولكنها، رويدا، رويدا أخذت تزاحم الله في فؤادي. بدأت تظهر لي بين أغصان الصنوبر وتويجات الزنبق على أطراف حديقة المسجد، في زجاج النوافذ المغلقة التي تطل على قاعة التوابيت المركونة للغبار والصمت الثقيل بانتظار موتى جدد...ثم تمادتْ وصارتْ تتراءى لي، أثناء صلاتي، في نمنمات الجدران وفي النقشات المحفورة على خشب خزانة المصاحف، على عباءة الإمام وفي زركشات السجاد. حتى إنني رأيتُ وجهها ذات مساء يتنقل بين أسماء الله الحسنى المطرّزة بخيوط ذهبية على المخمل الكحلي في البرواز الكبير المعلق على يمين المحراب. حينذاك، صار عليّ أن أتدخل، أن أتصرف لمنع القلب من التمادي والعبث.
عصر اليوم التالي لحادثة شذوذ القلب، غادرتْ والدتي البيت لعيادة صديقتها بكرية في مستشفى التوليد حيث وضعت ابنتها الرابعة - رندة، وكانت تخشى من أن يطلقها زوجها، أو يتزوج بغيرها لأنها لم تلد له ذكرا يفخر به بين الأهل الأصدقاء. خرجتْ أمي من البيت بعد أن أوصتني بأن اسقي الحبق والنرجس والزنبق والجوري وفم السمكة وزهرة المحكمة المزروعة في صفائح الزيت والحلاوة/ نباتات أمي وسائر نساء المخيم الأثيرة، يزرعنها في أصص مرتجلة لإنعاش غمّة البيوت؛ نباتات مؤقتة، تنمو وتخبو في الحياة المؤقتة، في الطريق إلى الوطن البعيد. سقيتُ الزهور واتخذتُ قراري. عزمتُ، خشية فساد تعبّدي واهتزاز إيماني على أن أقاطع ندى، أن انصرف عنها واصرفها عني، أن أنساها مرة وإلى الأبد. راقتني الفكرة، وأراحني الهام أوحى إليّ بأن الله سيعوّضني عنها في الآخرة بعشر فتيات حوريات يضاهينها جمالا ويفقن كل نساء هذا الزمان الفانيات بكل شيء.
غادرتُ البيت، مرورا ببيت ندى إلى بيت الله في غير ميقات الصلاة، في وقت كسول بين العصر والمغرب. لم التفتْ، كعادتي إلى باب بيت ندى. مع أنني مشيتُ بخطى متباطئة في المربع الأثير قبالة الباب الخشبي، إلا أن طاقة ربانية أعانتني على تجاوز منطقة الخطر دون عناء...ثم أسرعتُ إلى مبتغاي خفيفا منتشيا بانتصاري على نزواتي.
سرتُ إلى ركن الوضوء، غسلتُ يديّ وفمي وانفي ووجهي وأذنيّ وشعري وقدميّ ومشيتُ مبللا بالماء إلى قاعة الصلاة. توجهتُ إلى ربي الذي شفاني بركعتي شكر وامتنان، ثم مضيت إلى الحديقة لاستنشق هواء الصنوبر النقي وأسيّرُ زوارقي الورقية على ماء البركة الأزرق احتفاء بخطوتي الكبيرة نحو الفردوس.
كنت قد سمعتُ إمام المسجد ذات مرة يقول في سياق درس الخميس بعد صلاة العصر أن عبد المطلب جدّ النبي كان ينام أحيانا بجوار الكعبة كي يرى منامات مقدسة ويأتيه الإلهام. ففكرت حينها أن افترش السجّاد بجوار المحراب، أقدس بقعة في المسجد، وأنام علني احلم بالجنة. وكنت أظن، بعدما تخلصت من ندى، وطهّرتُ نفسي مما يدنسها وأخلصتُ نفسي لله تماما أنني مهيأ لمثل هذه التجربة.
وجدتُ نفسي في المنام أصعدُ سطح المهجع لأقطف بعض العنب من الأغصان العالية. زلت قدمي وكدت أقع من علو فتشبثت بأغصان الدالية خشية الانزلاق على سطح الزينكو المائل نحو الزقاق.
لم تتحمل أغصان الدالية الهشّة فانزلقتُ على السطح المُمَوّج ووقعتُ على أرض الزقاق بين الناس المتجمهرين لوداع مجموعة من الشباب المسلحين، الذين اتخذوا أماكنهم في حافلة صغيرة ستمضي بهم بعد قليل إلى قواعد الفدائيين في تخوم هضبة الجولان للقيام بعمليات داخل فلسطين. كان الصعود إلى الحافلة والنزول منها متاحا لمن يرغب. غادر من شعر بالخوف وصعد من دبّت فيه الحماسة بعد تردد. تمنيتُ المشاركة في الرحلة رغبة في السفر ليس إلا. حاولتُ الصعود. أبعدوني. بكيتُ، فصعَّدني مشهور، صديق أخي محمد الذي يكبرني بست سنوات إلى الحافلة وصعد بسلاحه مرتديا، كغيره من الركاب بذلة مموهة مهيبة. أجلسني عند الشباك واخذ يلوّح للمتجمهرين مودعا. ثم انطلقتْ الحافلة. كنت اشعر بالرضا مستسلما في مقعدي قرب مشهور الفدائي الحقيقي الذي شارك في تسع عمليات فدائية في عمق الأرض المحتلة، جُرح خلالها مرتين، وكاد يقع في الأسر مرتين، وجلب لأمّه مرَّة حفنة من تراب صفد وزعتْ بعضه على جاراتها ودفنتْ الباقي في تميمة علقتها على صدرها.
اجتازتْ الحافلة المحملة بالفدائيين مسرعة بساتين الفستق الحلبي وكروم الزيتون، انعطفتْ عند محطة الوقود يسارا نحو أول حارات المدينة المتشكلة من بيوت متفرقة مرتجلة تسكنها عائلات عمال المياومة في المعامل الصغيرة الذين هجروا قراهم البائسة وأراضيهم القاحلة على ضفاف نهر الفرات واستقروا على أطراف المدينة الكبيرة، ثم عبرتْ الحي الصناعي إلى الطريق الالتفافي نحو الطرف الغربي للمدينة. ومن هناك اتجهتْ جنوبا إلى الحدود.
امتلأتُ بالغبطة، فها أنا ذاهب إلى فلسطين، إلى الأرض التي لم أرها في حياتي ولكنني أحببتُها، وطالما اشتقتُ إلى تضاريسها وتفاصيلها التي احفظها كما يحفظ الصغار سورة الزلزلة في الليلة التي تسبق الامتحان.
طال الطريق ومللتُ السفر فرحتُ أتسلى بعدّ أعمدة الهاتف التي ترتفع على جانب الطريق؛ 1، 2، 3، 4، 5، 6....، وحين وصلتُ إلى الرقم 219 غفوت. ولمّا أفقتُ أكملتُ العدّ من حيث انتهيت؛ 220، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 227، 228، 241....وثمة، على امتداد النظر كانت تمتد الحقول والسفوح موشحه بأشجار سنديان متفرقة وصخور سمراء وشوك كثير. وكان المطر يهطل خفيفا بلا انقطاع فيعزز الإحساس بالعزلة.
اجتازتْ الحافلة كلّ المدن الكائنة على خط شاقولي من الشمال إلى الجنوب؛ ادلب، حماة، حمص، دمشق ثم درعا، اجتازتها تباعا وكانت تتوقف في محطاتها المركزية لتنزيل بعض الركاب وتحميل مسافرين جدد. وما إن وصلنا المحطة الأخيرة حتى كان الملتحقون الأوائل بالرحلة قد تبدّلوا جميعا، ولم يتبق منهم سواي.
على مشارف نقطة الحدود التي لاحت أنوارها في الأفق المظلم أوقفَ السائق حافلته على الرصيف الترابي وأخطرنا بقراره:
- من أراد منكم اجتياز الحدود عنوة، بسلاحه عليه أن يترجل الآن ويكمل طريقه سيرا على الأقدام إلى الحدود. وهناك يتسلل عبر ثغرة في الأسلاك الشائكة. ومن يرغب في المرور من خلال المعبر عليه أن يتخلص من سلاحه ويبقى مكانه في الحافلة.
ترجل البعض وانتشروا في الظلام جماعات وفرادى، وبقي البعض الآخر في الحافلة التي أكملت طريقها بتؤدة نحو نقاط التفتيش المتتالية.
اجتزنا الحدود إلى فلسطين بيسر. كان العبور هينا وهنيئا، كأننا في نزهة، فلماذا كان على أهلي أن ينتظروا كل هذه السنين التي بدّدوا خلالها الكثير من الأماني والحنين.
كان الظلام دامسا وتراب الطرقات يوزع صدى خطواتنا على الصمت الطاغي برتابة ناعسة. مشينا صامتين، قابضين على غبطة غامضة بالعبور نهتدي في العتمة برائحة الحطب المحروق، المتسللة من بعيد، الدليل الوحيد على الوجود البشري...وحين اتشح الأفق باللون الوردي/ الرصاصي إيذانا بطلوع النهار كنت وحدي أتهجّى التضاريس بحثا عن الطريق إلى ترشيحا، بلدة أهلي في الجليل الغربي.
وصلتُ تخوم بلدة تشبه المخيم الذي غادرتُه في المساء. لا بل انه المخيم ذاته. اتخذتُ الدرب المختصر إلى بيتنا، الدرب الذي يعبر حقول الذرة وسرتُ بين السيقان الخضراء العالية اهتدي بطقطقة مواتير شفط الماء من الآبار الارتوازية المنتشرة في البساتين المحيطة بالمخيم.
اجتزتُ المساكب الخضراء المسوّرة بشجيرات ورد الجوري إلى الملعب الرياضي المجاور لحينا. وصلتُ أول الزقاق الذي يفضي إلى بيتنا. كان كل شيء على ما كان عليه في الأمس؛ شجرة التّوت الشامي، جرن الماء الغرانيتي الأصفر المهيأ لغسيل أم قاسم، مكتب بريد البغدادي، صور الشهداء على الحيطان، الصخب المعتاد في حارة الغوارنة المجاورة ورائحة الثوم المنبعثة من شبابيك دار أم حسين. كان كل شيء على ما كان عليه إلا أبي. فوالدي الذي كان ينتظرني عند بوابة منزلنا لم يكن والدي، وإنما والد عمر نعيم أبو عرب، الشاب الجميل الخجول الطيب الذي التحق بقواعد الفدائيين في غور الأردن وحده بلا مودعين، خلسة بلا ضجيج، ومن هناك تسلل ذات ليلة ماطرة إلى فلسطين، عابرا مخاضات نهر الأردن مع ثلاثة من الفدائيين ولم يعد. لقد أصيب بطلقة في بطنه اثر مواجهة مع جنود دورية باغتته ورفاقه على مشارف مستوطنة قرب بيسان فتركه الرفاق عند جذع شجرة خرّوب عتيقة بجرح بليغ نازف لا يبرأ، وتركوا له إناء ماء يرجئ به موته المحتوم.
عانقني والد عمر وأمسك بذراعي وأدخلني غرفة غريبة بجدران مطلية حديثا بالأزرق الداكن. أجلسني على مقعد وثير من جلد اسود وجلس قبالتي على سرير نحاسي وراح يلفّ سيجارة من تبغ برائحة التفاح.
لم يسألني الرجل الذي افترضتُ انه والدي عن أحوالي، لم يسألني عن شيء، لم يحدثني بشيء وظلَّ صامتا يُحدّق في دوائر دخان سيجارته بعينين دامعتين. وفجأة دخلتْ علينا شقيقة عمر الكبرى تسبقها عاصفة من الزغاريد والفرح، وانكبتْ عليَّ بالعناق والقبل وهي ترددْ:
- حبيبي يا حبيبي، حبيبي يا عمر، رجعت يا أخي! الحمد لله على سلامتك يا حبيبي!.
شعرتُ بالحرج؛ فالمنزل الذي استقبلني ليس منزلي، والرجل الذي استضافني ليس أبي والصبية التي غمرتني باللهفة والقبل ليست شقيقتي. وحين عرفتُ أن أهلي، كل أهلي رحلوا من هنا إلى ديارهم أصابتني الحيرة، فغادرتُ البيت الغريب وابتعدتُ عن البلدة.
اجتزتُ تلالا كأداء يغطيها الشوك والحجارة وبقايا عظام حيوانات نافقة حتى وصلت إلى الكهف الذي يرمي فيه الأحياء أجداث موتاهم. كان الكهف ضيقا، رطبا ومزدحما بجديان سوداء تتدلى من آذانها أجراس ذهبية صغيرة، تعوي كالذئاب فيختلط عواؤها برنين الأجراس في ضجيج شيطاني مرعب. جاهدتُ لشق طريقي بين الجديان إلى نهاية الكهف حيث تبدأ حدود بلدة ترشيحا ببحيرة زرقاء مترامية الأطراف.
على الضفاف المشمسة عثرتُ على شقيقاتي وعمّاتي وخالاتي ونساء أخريات. كنّ يرتدين أثوابا مخملية سوداء مطرزة بصور بوذا، ينحنين على ماء البحيرة، يغسلن سجادا مزدانا بصور بوذا بهيئات متنوعة: بوذا طفلا، بوذا يافعا وبوذا كهلا. بوذا يحنو على وعل وبوذا يمشي على السحاب. بوذا يفلق الصخر بعصا فيتدفق الماء وبوذا يسقي الأرض اليباب بدموعه فتزهر...
ولكن بوذا الذي رأيتُ مرسوما على السجاد وأثواب النساء لم يكن بوذا. انه القديس المُرسي أبو العباس، سيد الطريقة الشاذلية الذي ترفرف روحه على هذه الأرض منذ ألف عام – أخبرتني امرأة من قريباتي البعيدات وكانت منهمكة بقلع شتلات مشمش من طين المشاتل الرخو وإعادة غرسها متباعدة في حقل واسع. ثم أردفتْ:
- انه سيدُنا المُرْسي أبو العبّاس حامينا من مكائد الشيطان.
مشيتُ بخطوات متثاقلة على أرض محروثة للتو نحو حارات البلدة التي يقيم فيها أهلي آمنين، يحرسهم الربُّ من الصخب والهمِّ والخيبة. يدفئ برودة لياليهم ويلطف حرّ نهاراتهم، يرسل طيف المُرسي ليسهر على نومهم ويتفانى من أجل راحتهم.
التوبة طريقهم إلى الله، وإخلاصهم منذور للأرض التي تنبت لهم الغلال وتحفظ رفاة أسلافهم.
النيّة النقيّة أساس أعمالهم وأخلاقهم، واعتزال الثرثرات سبيلهم إلى طريق الحق.
زاهدون إلا بالمعرفة وقلوبهم خاوية مما سوى الله.نفوسهم طيبة، مكرسة للطاعات والمبادرات الصالحة، عفيفة عن الشهوات والمخالفات.
ورِعُون لله وبالله على البَينة الواضحة والبصيرة الكامنة، مثابرون على طلب المُرْسي المحبوب والسنتهم تلهج بذِكْرِه على الدوام.
يحبون خالقهم مرتين؛ مرة لأنهم يعشقونه ومرة لأنه أهْلٌ لذاك العِشق.
يضحكون كثيرا من غير تكلف وخزائنهم عامرة بالغلال. لا يعرفون الغيظ ولا يدركهم السأم وكل أيامهم زاهية.
يعبدون الله بالعمل والتأمل والرقص والغناء ويرمون أعداءهم بازدراءات تتعفف عن شهوة الدم.
يتناسلون في ضوء القمر، ويتدانون في بيوت مفتوحة على بعضها تفيض بالسكينة والهناء والبركة.
أيقظني من النوم متعبّدٌ كهلٌ برَكلة على مؤخرتي، وكان المصلون يَفِدون تِباعا وينتظمون في صفوف متراصة خلف الإمام لأداء فريضة مغيب الشمس. أسرعتُ إلى المتوضأ لأغتسل من آثار الوَسَن والتحقتُ بالمصلين.

* فصل من رواية "موت المتعبد الصغير" التي صدرت مؤخرا عن دار "جهات" في رام الله



#خالد_درويش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيّان
- اشياء بسيطة
- محمود درويش في صوفيا
- موت المتعبّد الصغير
- أول مرّة/6
- أول مرّة/ 5
- أوّل مرّة/4
- أول مرّة/ 3
- موتي
- أول مرة/ 2
- أول مرة
- الصين والمجلس الثوري لحركة فتح
- خطايا البحث واخطاء المبحوث في استطلاعات الرأي
- نبيذ رمادي
- اسماء الريح
- خميس الموتى
- احلام اخرى
- جذور
- الجنة
- منامان


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - ندى