أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)















المزيد.....


الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2902 - 2010 / 1 / 29 - 00:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


((الملك الفيلسوف))

في هذه الحلقة سنرى لماذا ينبغي علينا أن نعرف أفلاطون جيداً، ونتعلّم عنه الكثير؟... عالم أفلاطون المثالي... كيف ندرك المُثُل الأفلاطونية؟... حكومة أفلاطون المثالية...

ما هو الأمر المهم بشأن أفلاطون؟ ...
بالإضافة إلى أرسطو، يعتبر أفلاطون أحد أهمّ الفلاسفة الإغريق القدماء على الإطلاق. في الحقيقة، لقد مثّل الفيلسوف الإنكليزي "ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead" كامل تاريخ الفلسفة الغربية بدءاً من اليونان القديمة "كهامش لأفلاطون".
أفلاطون الذي عاش في اليونان فترة ما بين عامي 428 إلى 347 قبل الميلاد، كان أوّل فيلسوف تناول المفاهيم الأساسية في الفلسفة _الوجود، المعرفة، الأخلاق_ ووضعها مع بعضها ضمن نظام واحد متماسك.
إنّ موضوع الوجود والكينونة هو من أهمّ المواضيع التي اهتمّ بها أفلاطون، بل إنه قد أسّس كامل فلسفته على الوجود، لكنه تضمّن على مجموعة كاملة من الأفكار حول المعرفة والأخلاق أيضاً، والتي نستطيع فهمها في ضوء أفكاره عن ماهية الوجود. تتميّز أفكاره بأنها متماسكة منطقياً، كما أنه فكّر بمجموعة كبيرة جداً من المواضيع. وأكثر من ذلك، أنه كان كاتباً بارعاً للغاية. فأعماله صافية جداً وممتعة. ثمّ إنّ أفلاطون هو بمثابة الملك بين الفلاسفة. في الواقع، لقد آمن فعلياً بأنّ الفلاسفة يجب أن يكونوا ملوكاً.
تنويه: إنّ اسم "أفلاطون" في الحقيقة هو عبارة عن لقب معناه "صاحب الأكتاف العريضة" في اللغة اليونانية، أمّا اسمه الحقيقي فقد كان "أريستوكليس".
*******************
كان أفلاطون يحاول دائماً أن يرى الصّورة الكبيرة والشاملة، لكّنه كان في صباه مهتمّاً بالسياسة بشكلٍ خاص. ثمّ انجرف أفلاطون بعيداً عن السياسة عندما آمن أنّ السياسيين لا يفكّرون بشكلٍ جليٍ وواضح عن أنسب علاقة تربط بين النظام السياسي والحقيقة المثالية المجرّدة. لقد أصيب بخيبة أمل من السياسة وخصوصاً عندما أجبِر سقراط على الموت. ومع ذلك، بقي مؤمناً بأنّ الفلسفة يمكن أن يكون لها تأثيراً إيجابياً على الحكومة.
كان لسقراط التأثير الأكبر على تفكير أفلاطون، لكنه لم يكن الشخص الوحيد. بل كان أفلاطون متأثراً بالرياضيات، وبعلم الهندسة بشكلٍ خاص، وقد كان يأمل أن يجد طريقةً لجعل الفلسفة بأكملها موثوقة على غرار مبادئ علم الهندسة. كما أنه كان متأثراً بالنظام السياسي في مصر القديمة. وقد زار مصر عندما انطلق في أسفاره بعد موت معلّمه سقراط حيث أنه أبدى إعجابه باستقرار وثبات الحكومة المصريّة آنذاك.
كان أفلاطون يأمل بأن تلعب الفلسفة دوراً قوياً في الحياة السياسية للحكومة. في الواقع، حاول أن يستخدم الفلسفة للتأثير بالحكومة خلال سفره إلى "صقلية"، بينما كان يزور صديقه الذي كان نسيبه دكتاتوراً في "سيراكيوزه". لقد حاول تعليم الطّاغية الشاب مبادئ الفلسفة والهندسة، على أمل أن يساعده في أن يحكم بشكلٍ أفضل، لكنه فشل في ذلك. أمّا الطّاغية ونسيبه [صديق أفلاطون]، أصبحا من ألدّ الأعداء، وقُتِل صديق أفلاطون فجأةً.
بعد أن عاد إلى اليونان، أقام أفلاطون مدرسة هامّة جداً سمّيت "بالأكاديمية Academy"، ويقال أنها كانت أوّل جامعة في التاريخ. وبقي يعلّم في الأكاديمية بقيّة حياته، وألّف الكثير من المؤلّفات الفلسفية يبلغ عددها أربعاً وعشرين محاورة dialogues فلسفية عرض فيها أفكاره على شكل محاورات بين أصدقائه.
إنّ محاورات أفلاطون هامّةً جداً في طريقة عرضها لفلسفته. فبدلاً من القول: "هذا ما أعتقده" عرض أفلاطون أفكاره على شكل محاورات تتناول مواضيع فلسفية مختلفة بين اثنين أو أكثر من الناس. وكان سقراط في أغلبها هو الشخصية القيادية التي تقود الحوار.
إنّ الشكل الحواري جعل أفكار أفلاطون أشبة بالروايات. بالرّغم من أنّ الأفكار نفسها ذات أهمّيّة محوريّة، فقد تمّ إدخال شخصّيات الأشخاص المتحدّثين فيها. غالباً ما يثير سقراط مسألة فلسفية معيّنة مع الناس الذين لهم اهتمامات شخصيّة خاصّة بتلك المسائل. على سبيل المثال، نراه يناقش مسألة الشجاعة مع شخصٍ ما يفاخر بشجاعته، أو يناقش موضوع التقوى مع شخص يعتقد نفسه أنّه تقيّ بشكلٍ خاص.
ليس فقط شخصيّات هؤلاء الذين يتكلّمون متعلٌّقة بالأفكار التي يتمّ مناقشتها، بل إنّ موقع وحالة المحاورات له أهمّيّة دراماتيكية. فسقراط وأولئك الذين يحاورهم قد يكونون في المدينة محاطين بعدد كبير من الناس المستمعين، أو يمشيان في طريق ريفي، أو في الأكاديمية، أو في السّجن. لذلك فالشكل الحواري يمنحنا أسلوباً لعرض كيف أنّ أفكار أفلاطون تتكلّم حول العلاقة مع الناس الأحياء الذين يفكّرون فعلياً.
*******************
إنّ الفكرة الأساسية عند أفلاطون هي "الفكرة" idea. فالأفكار عند أفلاطون ليست مجرّد مفاهيم تقفز في عقول البشر وتدفعهم إلى القيام بأمور غريبة وغبيّة كالحصول على ملابس وردية كالنمر الوردي. بالنسبة لأفلاطون فالأفكار موجودة بشكل فعلي في عالم خاصّ بها وحدها. فالأفكار هي عبارة عن أشكال أو مثل forms مستقلة تمنح العالم الواقعي شكله المشابه لها. وأكثر من ذلك أنّها صحيحة دائماً. أمّا العالم الفيزيائي _أو عالم التغيّر والصّيرورة_ فهو عالم مزيّف وناقص.
ولأنه وضع الأفكار فوق عالم الأشياء المتغيّرة، فغالباً ما كان يسمّى أفلاطون "بالعقلاني rationalist" _أي الشخص الذي يؤمن بأننا يمكن أن نعرف الأفكار الحقيقية من دون أن نتعلّمها عن طريق التجربة_ لكن إذا كان بمقدورنا أن نعرف الحقيقة فهذا لا يعني بالضرورة أننا نعرفها. في الواقع، ولأنّ العالم الفيزيائي ليس هو أساس الحقيقة بالنسبة إلى أفلاطون، فإنّ هذه الحقيقة يمكن أن يكون اكتشافها عبارة عن امتحان صعب.
يرى أفلاطون أنّ المهام الصّعبة للفيلسوف تتضمّن أولاً معرفة ماهية العالم المثالي ثمّ تعليم الآخرين كيفية إدراكه وتنظيم حياتهم وتفكيرهم وفق هذا العالم المثالي. وهذه المهام صعبة لسببين هما: أولاً، من الصّعب رؤية العالم المثالي على ما هو عليه. ثانياً، من الصّعب التصرّف وفق ما تمليه علينا شروط كماله.
الرياضيات: من المفاهيم المحتملة التي اعتبرها أفلاطون في عالمه المثالي حتى في القرن العشرين. فهل الرياضيات مجرّد اختراع بشري أم هي اكتشاف من نوع خاص؟ على الأرجح أنّ أفلاطون سيقول بأنها موجودة بشكلٍ مستقلٍ عن التفكير الإنساني. وهناك العديد من الرياضيين الذين سيوافقونه رأيه هذا.
لن يتفق الجميع مع رأي أفلاطون بأنّ هناك عالماً مثالياً مفارقاً. في الواقع، إنّ أفلاطون جاء بهذا المفهوم كردّة فعل على السفسطائيين الذين كانوا يشيعون الفكرة التي تقول بأنّ الحقيقة هي ما تجعلها أنت كذلك. أمّا أفلاطون فقد تحدّى هذه النسبيّات، بحجّة أنّ الصّواب والخطأ هما شيئان مختلفان ونحن نحتاج إلى معرفة ماهيتهما.
إذاً كيف علينا أن نعرف؟... إذا لم يكن العالم المثالي فيزيائياً بالفعل، فكيف يمكن أن نعرف حقّ المعرفة بأنه موجود هناك؟... يخبرنا أفلاطون بأنّ هناك طريقتين: الأولى منطقيّة logical، والثانية حدسيّة intuitive.
إنّ الطريق المنطقي لإدراك ماهية العالم المثالي مرتبط بشكلٍ مباشر بعمل سقراط في التدقيق بالمفاهيم والأفكار بشكل منطقي من أجل التأكّد بأنها يتمّ استخدامها بطريقة صحيحة. نحن بحاجة إلى أن نسأل ما هو الشيء المشترك بين مثال معيّن وغيره من المثل الأخرى؟
ولنأخذ على سبيل المثال مثال الشجاعة. هل هي مجرّد كلمة أو أنّ هناك شيئاً ما يسمّى "الشجاعة" يمكن أن يمتلكه بعض الناس؟
للإجابة عن هذا السؤال، بحث أفلاطون على أمثلة معيّنة من التصرّفات التي تتسم بميزة الشجاعة. ويقول أفلاطون أنه من خلال تأمّل السّمة المشتركة بين هذه الأمثلة يمكننا أن نفهم فكرة الشجاعة على حقيقتها على الرّغم من المواقف المختلفة. وهذه الفكرة الكونية للشجاعة هي الفكرة الحقيقية، بالنسبة إلى أفلاطون، من النوع التي يمكنها أن توجد بغضّ النظر عن الموقف بدون أن تتأثر بالاعتبارات الأخرى.
بالنسبة لأفلاطون إنّ مثال الشجاعة هو الخاصّية الكونية التي تشترك فيها كافّة الحالات المعينّة للسّلوك الشجاع. وعن طريق النظر في أمثلة معيّنة، يمكنك أن تتوصّل إلى الفكرة الأصليّة الحقيقية. تسمى هذه العملية المنطقية باسم "الاستقراء induction". وهو كما رأيت في الفصل الثالث، عبارة عن عملية منطقيّة يتمّ فيها الانتقال من الخصوصيّات إلى العامّيات. فمن خلال الاستقراء بإمكانك أن تتوصّل إلى طبيعة المفاهيم الكونيّة، الأفكار الحقيقية، بغضّ النظر عن الموقف.
لاحِظ أنّ نظرة أفلاطون هي واحدة من وجهات النظر الكثيرة إلى مثال الشجاعة. يمكنك أن تقول بدلاً من ذلك أنّه ليس هناك شيء اسمه الشجاعة إلاّ باعتبارها فكرة ابتكرها البشر من أجل يطلقوها على مجموعة معيّنة من البشر الذين يقومون بأعمال معيّنة يمكنها وصفها بهذه الكلمة. إنّ فكرة الشجاعة لها استخدام محدّد: إنّها تدفع الجنود للاستبسال في القتال وتمنعهم من التذمّر حول أمور قد تخيفهم. ويتمّ إطلاق هذه الصّفة عليهم من أجل مكافأتهم للتغلّب على مخاوفهم. يعلم جميع الناس أنّ الحرب أمرٌ مروّع وفظيع. فإذا كان عليك أن تذهب إلى الحرب بأيّة حالٍ من الأحوال وتغلّبت على خوفك، فالناس سيكافئونك بالمديح بأنك شجاع ومقدام.
هذا هو الفرق بين "مُثُل أفلاطون" و"إيديولوجيا ماركس". أمّا المثل فهي حقيقية وموجودة بالفعل. بينما تمّ اختراع الإيديولوجيا من أجل جعل البشر يتصرّفون بطرق معيّنة.
يحاول أفلاطون أن يربط أفكاره حول كيف يجب أن يتصرّف البشر بنظرته للعالم بشكلٍ عام، وليس بفكرته عن كيف يجب أن يعمل المجتمع فحسب. لقد قال أنّ المثل الكونية هي المصدر الحقيقي للعالم الفيزيائي جميع الأمور التي تحدث فيه. الحقيقة المرئية تنبثق emanates أو تأتي من عالم المثل. وتقودنا هذه الفكرة إلى الطريقة الأخرى في استنتاج حقيقة وجود العالم المثالي، الطريقة الحدسية.
وهذا يعني بكلّ بساطة، أنّ العالم المثالي يمنح العالم الفيزيائي شكله الذي هو عليه.
تنويه: قال أفلاطون أنّ الفلاسفة سيكونون من أفضل الملوك. وإحدى الأسباب التي دفعته لقول ذلك هو أنّ الفلاسفة الحقيقيين يهتمّون بالحقيقة أكثر من اهتمامهم بمصالحهم الخاصة. هل هذه الفكرة صحيحة، أم أنها مجرّد تعبير عن رغبة أفلاطون غير المعلنة في أن يكون مهمّاً؟.
*******************
لتوضيح كيف يتمّ ذلك، قام أفلاطون باختلاق قصّة قصيرة عُرِفت "بحكاية الكهف The parable of the cave" _ غالباً ما يضع أفلاطون أساطير وروايات في محاوراته لعرض أفكاره التي ترينا أنّ إدراك الحقيقة قد يكون تحدّياً، ويتطلّب ذلك منّا أن نفكّر بالأشياء بطرق جديدة وقد تكون غريبة أحياناً. وهذه الحكاية عبارة عن قصّة يجب تأويلها إلى معناها غير المصرّح به. وقد وردت حكاية الكهف في كتاب أفلاطون الشهير "الجمهورية The Republic" حيث جعل أفلاطون معلّمه سقراط يقصّ على مجموعة من الشبّان الذين أرادوا أن يستمعوا إلى أفكاره التي تتعلّق بثقافة الحاكم.
يطلب منهم سقراط بأن يتخيّلوا كهفاً حيث تمّ تقييد بعض السجناء منذ طفولتهم داخله على يد بعض الغيلان الدنيئة. أمّا رؤوسهم فقد كانت مستندة بحيث أنهم لم يكن باستطاعتهم أن ينظروا إلاّ باتجاه واحد: علة حائط الكهف المقابل لهم. وهناك نار ضخمة متأجّجة خلف السجناء، وبين الناس والسجناء هناك أناس يتحرّكون في كافة الجهات، ويحملون أشياء.
السجناء ليس باستطاعتهم أن يروا النار لأنهم يديرون لها ظهورهم وهم لا يستطيعون النظر إلاّ إلى الحائط المقابل لهم، كما أنهم لا يرون الناس، ولا الأشياء التي يحملونها. لذلك فهم لا يرون سوى الظّلال التي يلقيها أولئك الناس والأشياء على الحائط من جرّاء وهج النار. يقول سقراط أنّ هؤلاء السجناء على الأغلب سيعتقدون بانّ الظّلال التي على الحائط هي أشياء حقيقية.
تخيّل ماذا سيكون شعور السجناء إذا تمّ تحريرهم من قيدهم وإخراجهم من سجنهم وشاهدوا النار والناس والأشياء. قال سقراط أنه سيعتقد أنّ الأشياء الغريبة هي الخياليّة، بما انه اعتاد على رؤية الظّلال التي كان يعتقد منذ نعومة أظفاره بأنها حقيقية. والأكثر من ذلك أنّ النار ستؤذي عينيه وأنه سيتراجع مبتعداً عنها.
والآن تخيّل أنّه تمّ إجلاء السجناء من الكهف وإخراجهم إلى الخارج حيث ضوء الشمس. يا إلهي، إنه ضوء ساطع! فإذا نظر هذا السجين المسكين بشكلٍ مباشر نحو الشمس، التي يقول عنها سقراط أنها مصدر الأشياء جميعها، سيصيب الألم عينيه ولن يعرف ما الذي كان ينظر إليه.
إنّ الفكرة الأساسية في هذه القصّة هي أن نعرف كم هو صعب إدراك العالم المثالي. فالظّلال على جدار الكهف هي كتصوير للأشياء. فصورة شيء ما أو انعكاسه هو ليس الشيء ذاته، بالرّغم من أننا قد نعتقد ذلك. بشكلٍ مشابه، إنّ تلك الظّلال على جدار الكهف ليست الأشياء التي ألقت الظّلال، على الرّغم من أنها قد تساعدنا على استنباط وجود تلك الأشياء.
وهذه الأشياء التي كان يحملها الناس في الكهف هي كالأشياء التي نصادفها في حياتنا اليومية العادية. والعالم الذي يقع خارج الكهف يمثّل عالم المثل الذي توجد فيه كلّ تلك المثل. لا يمكن رؤيتها إلاّ بصعوبة إذا كنت معتاداً على ضوء الكهف الخافت. أمّا الشمس فتمثّل مثال "الخير" أعلى الأمثلة بالنسبة لأفلاطون، وهو مصدر كلّ شيء، لكن قد يكون من الصّعب النظر إليه مباشرةً، بالرّغم من أنها تعطي الحياة لكافة الموجودات وتجعل كلّّّّ شيء يبدو مرئياً.
هنا نورِد التأويل المرجّح لرواية الكهف لأفلاطون:
• الظّلال المرتسمة على جدار الكهف ثمّل الصّدى، التصوّرات الحسّيّة، الانعكاسات، وصور أخرى.
• الأشياء التي كانوا يحملونها الناس تمثّل أشياء العالم الفيزيائي.
• الأشياء الموجودة خارج الكهف تمثّل المثل.
• أمّا الشمس فهي تصوير لمثال الخير أرقي المثل.
إنّ أسطورة الكهف تقول أنه من الصّعب إدراك عالم المثل والأفكار المفارقة لأننا أصبحتا متعوّدين على التفكير بأنّ العالم الظاهري هو كلّ شيء. ولتكون فيلسوفاً وتتعلّم كيف تقوم بالعمل الصّائب في أيّ موقف من المواقف عليك أن تنظر من خلال الظاهرات وتتصرّف حسب مثل العالم المثالي.
*******************
حقيقة العلم أو المعرفة
كان لدى أفلاطون الكثير ليقوله حول كيف يمكننا أن نفهم العالم المثالي عن طريق الحدس. لقد قال أننا جميعنا نولد ونملك فهماً لعالم المثل. لكنّ المشكلة في أنّ أغلبنا ينسى المعرفة التي ولدت معنا لأننا نؤخَذ بعالم المظاهر الخادعة.
على الرّغم من أننا قد ننسى عالم المثل، فإننا يمكن أن نتذكّره في بعض الأحيان. وقد أطلق أفلاطون على هذه العملية اسم "anamnesis". وتوضّح لنا هذه العملية كيف يمكننا أن نفهم بعض الأمور حتى وإن لم نختبرها أو نجرّبها من قبل.
للبرهنة على أنّ عمليّة أفلاطون "anamnesis" صالحة حقاً قام أفلاطون بقصّ الرّواية التالية:
سأل سقراط في أحد الأيام عبداً شاباً إن كان يعرف شيئاً عن علم الهندسة. فأجاب العبد بأنه لا يعرف شيئاً عنه. ثمّ أعطاه سقراط اختبار صغير في الهندسة، وفشل فيه العبد فشلاً ذريعاً. ثمّ أمر سقراط العبد بان يرسم خطوطاً على الرمل باستخدام عصا. وقد شكّلت الخطوط أشكالاً هندسيّة كان سقراط قد سأل عنها العبد. وبعد أن طرح عليه مجموعة من الأسئلة، خمّن ماذا؟ كان العبد قادراً أن يجيب على اختبار سقراط الأوّلي بشكلٍ صحيحٍ تماماً.
يقول أفلاطون أنّ هذه الرّواية توضّح بأننا نعرف الأشياء التي لم نختبرها معرفةً تامّة ويمكننا أن نتذكّرها إذا تأمّلناها بدقّة ووضوح. وهذا برهان على أنّ النفس البشرية خالدة. ومن هنا نستنتج أننا كنا موجودين بشكلٍ ما سابق على هذه الحياة إذا كنا قادرين على إدراك أمور لم نتعلّمها من قبل _ يرى أفلاطون أنّ المعرفة التي نسيناها منذ صغرنا يمكن أن نستجمعها مع بعضها ونتذكّرها فيما بعد من خلال عدّة طرق منها التعليم فأنا عندما أعلّم الطلاّب فكرة ما، فإنني لا أعلّمهم شيئاً جديداً بالمعنى الفعلي، بل أساعدهم على تذكّر تلك الفكرة التي كانوا قد نسوها عند ولادتهم وسقوطهم في هذا العالم، لذلك فعمليّة التعلّم ما هي إلاّ تذكّر. وقد قطعت هذه الفكرة شوطاً طويلاً حيث استمرّت حتى عهد فلاسفة مذهب الأفلاطونية المحدثة في العصور الوسطى، لقد أحبّوها حقاً.
*******************
العلم الحقيقي
قال أفلاطون أنه عندما يفهم الناس كيف عليهم أن يتصرّفوا لكنّهم لا يتصرّفون وفقاً لذلك، فهم يعانون من نوع خاص من الضّعف أطلق عليه اسم "akrasia". و"الأكراسيا" هي ضعف الإرادة ويمكن أن يحلّ بك تستسلم أمام رغباتك وحاجاتك الأنانية بدل أن تفعل الشيء الذي تعرف أنه الأمر الصّائب.
على الفلاسفة ألاّ يحذروا من الجهل فحسب، بل من حالة "الأكراسيا". وأنّ يقوموا بالأفعال والأعمال التي تجعل من بشراً متميّزين لكي يحكموا ويديروا شؤون الآخرين الذين هم أكثر جهلاً وأضعف إرادةً. كما أنّ عليهم أن يمتلكوا الصّفات التي أطلق عليها أفلاطون اسم "arete": وهي الشخصيّة القويّة والنزيهة التي تتصرّف وفق ما يمليه عليها مثال الخير.
*******************
الجمهورية: آمن أفلاطون بأنّ ليس جميع الناس متساوين في حالات ضعف الإرادة والنزاهة. فبعض الناس أفضل من غيرهم فحسب. وقد أخذ أفلاطون فكرته عن التفاوت الطبيعي بين البشر عندما كتب محاورته الشهيرة "الجمهورية" التي تضمّنت على تعليماته حول نمط الحكومة المثالية.
فإذا كان كلّ الناس خيّرين وفاضلين على حدّ سواء، فلن يكون هناك حاجة إلى وجود الحكومة، حيث سيكون الناس قادرين على حكم أنفسهم. سيعيشون ضمن جماعات صغيرة ويساعدون بعضهم البعض بشكلٍ طوعي، مفضّلين مصلحة الجماعة على مصالحهم الأساسية. وسيدرك الناس أنّ مقتنياتهم المادّيّة تخدّم غايات عبثيّة زائدة عن حاجاتهم الأساسية اللازمة للبقاء وبأنهم ليسوا بحاجة إلى المزيد. لن تكون هناك حاجة إلى الثراء وجمع الثروة، لذلك لن يكون هناك جشع ولا حسد. وبالمقابل، لن تكون هناك حاجة لوجود حكومة منظّمة، للشرطة، أو للجنود لحماية مقتنيات الناس المادّيّة. يبدو الأمر رائعاً، أليس كذلك؟
المشكلة هي أنّ أغلب الناس لا يدركون أنّ الحقيقة الفعلية والخير لا يمكن إيجادهم إلاّ في الواقع المثالي. وبدلاّ من ذلك، غالباً ما يرغب الناس بمقتنيات هذا العالم المادّي. وهذه الرّغبة تقود إلى المجتمع الناقص وغير الكامل القائم على وجود مجموعات من الناس الذين لا يهتمّون إلاّ بجمع الأموال الثروات، والأطبّاء الذين يصفون للناس الأدوية عندما يمرضون بسبب انشغالهم بالملذّات البدنية، والحكّام والجنود الذين يحمون ممتلكاتهم من أولئك الذين يحاولون أخذها منهم. ومن أجل الاهتمام بكافة هذه الحاجات، قسّم أفلاطون الجمهورية إلى ثلاث طبقات من الناس: حكّام، جنود، وعامّة الشعب من حرفيين وصنّاع مزارعين وتجّار. خمّن من يجب أن يكون من طبقة الحكّام؟... الفلاسفة، طبعاً. لأنهم يفهمون طبيعة العالم المثالي _الذي يتضمّن على مثال الحقيقة، الخير، والعدالة_ أكثر من غيرهم، لذلك يجب أن يكونوا هم المسؤولون. بالإضافة إلى أنّ الحاجات الأنانية بالكاد موجودة عندهم، وهم لا يحتاجون إلى الكثير من الممتلكات المادّيّة. حتى أنهم ليسوا بحاجة إلى أن تكون لديهم عائلة، بما أنهم يعتبرون كلّ شخصٍ تحت سلطتهم كجزء من عائلتهم، وهم يحبّون جميع الناس بشكلٍ متساوٍ. والأهمّ من ذلك، هم لا يكوّنون علاقات وملحقات خاصّة، بل إنّ الحكّام يوجّهون كلّ شيء بذكائهم وفطنتهم.
ثمّ تأتي طبقة المحاربين في المرتبة الثانية، فالجنود كالحكّام الفلاسفة، ليسوا أنانيين بل فاضلين وغيورين. فغايتهم هي أن يحموا الدّولة من الصّراعات الدّاخليّة ويدفعوا عنها أي عدوان خارجي. فضيلتهم الخاصّة التي تميّزهم هي الشجاعة والجرأة.
أمّا الفئات المتبقّية فهي عامّة الشعب من المزارعين والحرفيين والتجّار، من ناحية العبيد لم يضعهم أفلاطون ضمن طبقة خاصّة بهم، بل كان يرى أنّ العبوديّة أمر طبيعي، وأنّ العبيد هم أقلّ منزلةً من المواطنين الإغريق، وأنهم محكومون بواجب أبدي هو خدمة الأسياد وإطاعتهم طاعة عمياء. وهذه الطّبقة تتحكّم فيها رغباتها وشهواتها. وأناس هذه الطّبقة متفاوتين بدرجة الشجاعة والذكاء، لكنهم ليس من الضروري أن يتّصفوا بهذه الصّفات. فشهوتهم الحادّة، ورغبتهم الكبيرة في جمع المقتنيات المادّيّة تجعلهم عوام صالحين. وعند تلك النقطة، يتدخّل الحكّام والجنود ليضمنوا أنّ أحداً منهم لن يصبح فقيراً جداً أو غنيّاً جداً.
هذه الطّبقات الثلاث في جمهورية أفلاطون تتطابق مع السّمات الشخصيّة الثلاث الموجودة داخل كلّ فرد: الحكمة، الشجاعة، والرّغبة. وبالرّغم من أنّ الناس لديهم _بشكل طبيعي_ كلّ هذه السّمات، إلاّ أنّهم متفاوتين في نسبة كلّ واحدة من هذه السّمات من شخصٍ إلى آخر. لذلك تمّ اختبار الناس عندما كانوا صغاراً في السّنّ للتّأكّد إذا حكماء بالفطرة، أو شجعاناً، أو شهوانيين. أمّا الأطفال الحكماء فيتمّ تجهيزهم وتعليمهم ليكونوا حكّاماً مستقبليين للجمهورية، أمّا الأطفال الشجعان يتمّ تدريبهم ليصبحوا جنوداً مخلصين، وأمّا الأطفال الشهوانيين فهم الذين سيشكّلون طبقة العوام في المستقبل.
قال أفلاطون أننا يمكننا أن ننظر إلى طبقات الناس الثلاث في الجمهورية على أنّ أرواحهم خلقت من ثلاثة أنواع مختلفة من المعادن، فأرواح الفلاسفة الحكّام مصنوعة من معدن الذهب الثمين، وأرواح طبقة الجنود المدافعين عن الجمهورية مصنوعة من معدن الفضّة، أمّا أرواح عامة الشعب فهي مصنوعة من الحديد أو الرصاص أبخس أنواع المعادن.
إنّ النقطة الأساسية في الجمهورية هي في الوصول إلى أعلى مرحلة من الاستقرار للحكومة، معطياً سمات الطّبيعة البشرية كما فهمها أفلاطون. هذا يعطي بديلاً نظرياً لأشكال الحكم التي كانت سائدة في اليونان: الديمقراطية والدكتاتورية. وكان أفلاطون سعيداً مع كلٍ من هذين الشكلين. فقد آمن أنّ كلاً منهما يعطي الناس الأنانيين سلطة كبيرة بالإضافة إلى الكثير من الصّلاحيات. وقد اعتقد أفلاطون بأنّ على الفلاسفة أن يتولّوا إدارة الأمور لأنهم غير أنانيين وسيعملون من أجل خير الناس أجمعين.

يتبع...



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟
- الدر المعين في معرفة أحوال الشياطين!!!؟
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثالثة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثانية)
- هذا هو ردي


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)