أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عيلبوني - مطر قصة قصيرة















المزيد.....

مطر قصة قصيرة


نادية عيلبوني

الحوار المتمدن-العدد: 2892 - 2010 / 1 / 18 - 08:15
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة من مجموعة قصصية صدرت للكاتبة عام 2005 بعنوان "مقام عراقي"

رذاذ خفيف. رذاذ تحوله ذاكرتك إلى مطر.
مطر يعيدك إلى زمن النبوءة.
وتفر من أمام وجهه. تشهق حين تراه يتابعك. هنا يستوقفك، فتصيح من أعمق أعماقك"صدقناك صدقناك" وصوته لا يزال يلاحقك:"أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟". تتوقف أمام وجهه النحيل. تفزعك النبوءة حد الارتجاف. والمطر يبعث في ذرات روحك صورا بعيدة. صورا عزيزة. صور الظلام وهو"يحتضن العراق". لم تستطع الاحتمال أكثر. تشتد بك رغبة شديدة في الصراخ أو البكاء. تغادر المكان وأنت تود لو تغادر إلى الأبد.
مطر … مطر … مطر.
يحاصرك من جديد صوت المطر، ومعه يجيئك صوت أم حسين.يجيئك محملا بصوت الأم البعيدة. تحاول أن تتذكر صورتها، فتفر منك. وأم حسين تواصل وهي تحاذيك نواحها. تعدد مراثيها. وصوت ساخر يخرج من أعماق دمك:"لا لست الابن اليتيم. لست الابن الضال كما تهيأ لك! انتظر هنا قليلا، فربما صادفت وجهها.
تلاحقك كلماتها المفجوعة، كما تنغرز في لحمك وخزات المطر:
"حسين وحيدي، ما تحملت شوفته بنعش مثل أبوه، حملته بسنوني وشردت".
امرأة تخطو بتؤدة نحو عامها السبعين. تجتاز بلادا لا تعرف كيف تلفظ أسماءها، إلا أنها تعرف جيدا بردها وصقيعها. تتذكر الوحوش التي أحاطت بها وهي تجتاز حدودها. تصل أخيرا إلى موسكو: "المهرب باك كل فلوسنا هناك وعافنا". لا مأوى إذن ولا حماية. "نعمل ، وماذا نعمل؟ نلف الشطائر … نبيع السجائر".
وينهمر الحجر. تشعر به يخترق رأسك، بينما تواصل أم حسين رحلتها.ووجهتها بلاد الثلج. تبحث عن مكان …مكان آمن لا يطال فيه القلق الوحشي وحيدها. تتوقف هنا في محطة قد تبدو الأخيرة. تصمت المرأة، وتصمت أنت، ويصمت الجميع. صوت الرعود يجتاح الأمكنة.
وترحل أنت في الغمام… ترحل أنت في الأثناء إلى هناك. كما ترحل أم حسين. تراها وهي تفر من جسدها. ترى روحها وهي ترحل في "البروق". تراها وهي تتجول في شوارع العمارة. يتوقف قلبك وهي تطرق بابا عرفه القلب. في ذلك المكان تركت جزءا من أمومتها. عند فاطمة -ربما-. اليوم هو عيد ميلاد حفيدها. ترفع أم حسين عقيرتها احتجاجا:" هذا غير كاف سراج عزيز على قلبي, ربيته كما ربيت وحيدي حسين، أهذا كل ما أعددته يا ابنتي؟ وين الكبة والدولمة والبرياني؟ ما يخالف أنا أعد له كل شيء". تلطم المرأة وجهها.يئن قلبها. لم تعد تطيق صبرا. هي لا تحمل سماعة الهاتف. هي تحتضنها. بلهفة تتلقف صوته الطفولي. تبادره السؤال: " شي تريد جدة أدزلك من النمسا؟". تجرحها الإجابات البريئة، تنهمر عليها كما الصخر. كما المطر الجارح:
"أنا ما اريد شي جدة. أريدك أنت وكاف". تختنق في كلماته. تتعثر بها. تسندها بيدك المرتجفة وأنت تعيد السماعة إلى حسين. تفترش أم حسين الأرض:"وشنو جبرك على المر غير…"
ويسح في وجهك المطر، يلطمك حين ترفع المرأة عينيها إلى السماء لتصيح:
"يا واهب المطر."
تسأله وتستغيث. يخيم على الجمع ظل ثقيل. يصمت الرجال عجزا، تصمت النسوة قهرا. وتندلق محاجر الأطفال خوفا. وإليها يسلم الجميع ألسنتهم طوعا. هي تبكي وتنوح بالنيابة. تفرج عن ذلك المعتقل في صدوركم على طريقتها. وتشعر بالاختناق. وعبرات من المطر تغرقك. تغادر القاعة الفسيحة التي تضمك مع رهط وفير ممن هم مثلك.
مطر… مطر… مطر.
تجتاحك نوبة ذعر مفاجئة. تقاومها دونما نجاح. يحاصرك من جديد وجه النبي وهو يحتضن المطر. يعيد على مسامعك رؤاه. تصيح به: هل حقا…؟ أحقا"لم تترك الرياح في الوادي من أثر"؟
مطر … مطر… مطر.
تتناهشك الصور… صور المدن وهي تخترق الغمام، هذه (بغداد) وتلك هي (البصرة) وهنا (النجف). "البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون". ويهطل المطر. يهطل كهطول مدن غريبة. تتراءى لك وقد تحولت إلى (سدوم) أو (عمورة)؛ (ثمود) أو (عاد). صوت من المدى يصيح بك:
يا علي! هم ما عادوا هناك. تفحّص مكانك جيدا. انتبه. لا تبحث عن البصرة هناك. فالبصرة أمامك يا مولاي! لا تبحث عنها في ذاكرتك! لا تبحث كثيرا. اقلع عنك ذاكرتك ، فهي هنا. وها هي أم حسين تسوقها بخفة. تقودها لتصل بها إلى (العمارة) وها هي جارتها الشابة التي، ربما، تكون أختك، تأتي إليها مع مطلع كل صباح.
تضحك ساخرا أو باكيا ، لا فرق:"شي تريدين خالة. أنت مثل أمي. أنا غريبة عن العمارة. أمي بالبصرة. وأنت كل أهلي هنانا".
تشيح بوجهك. تتمنى من أعمق أعماقك لو تغيب أم حسين. أن يفيض المطر ويبتلعها ويبتلعك معها. شيء عزيز وحميم يتقصّف في داخلك.
تخرج من جديد. تستقبل المطر. تستنشق الهواء البارد. أما زلت تكره الاستماع إلى النصائح؟ "لا تجلسي كثيرا بوحدك.لا تفكري! التفكير ما هو زين لصحتك". تستجيب المرأة بأمانة. عند مدخل البهو تجلس إلى بعض النسوة من البوسنة. تستخدم لغة الجسد مدعمة بلغتها المحكية. تبادلها النسوة اللغة ذاتها. تضع أم حسين يدا على خدها، لتسند بالأخرى رأسها المثقل. تدرك أنت على الفور عقم التواصل. يفرحك أن ترى أم حسين وهي تلزم غرفتها. لا داعي للقلق. أم مقداد تتفقدها من حين لآخر. لا بأس أن تضبطها متلبسة بالبكاء. ولكن أم مقداد تعترض، تثور لذلك العزف المنفرد على الأحزان. تصيح بها:" هاي شنو. تبشين بوحدك؟ خو انتظري! أخلص طبخ وآجيك، ونبشي سويا".
ماذا تنتظر؟ هل ستحلم مرة أخرى؟ خفف عنك! فها هي أمك تنال الاعتراف. تنال الحق في أن تكون لاجئة. بكاؤها هذه المرة له مذاق المر. غدا تبدأ أم حسين رحلتها نحو المستقبل. غدا تبدأ حياة جديدة . غدا تعود تلميذة وتجلس كصفحة بيضاء لتتلقى دروسا في لغتها الجديدة. لا تعترض! القانون هنا هو القانون. هو لا يأخذ عمر أم حسين ولا ذاكرتها على أي محمل إلاه.
تضرب المرأة وجهها:" أنا ما اعرف اتعلم ألماني… يعني بعد ما كبر وشاب…" تتسمر في مكانك. تشعر بالنخلة العظيمة وهي تهوي فوق رأسك. حذار حذار ، لا فرات هنا ولا نخيل. تتزعزع الأرض تحت أقدامك. تغادرك. لا تنظر هكذا إلى الأفق البعيد! إذ ربما جاءك المطر ك"رحى تدور في الحقول… حولها بشر". ربما جاءك هذه المرة محملا بأم حسين جديدة، أو أي أم ؛ أمك ربما. فمن يدري؟ ألا تحب أن تراها؟ ألم ترها؟ لا ليس هناك، بل هنا. فأنت لن تعود. وهي أصابها ما أصابك. هي مثلك تبحث عما كنت قد ضيعت. تبحث عن روحها وعنك. لن يبقى هناك أحد ينتظر أوبتك. أمك هنا . معك. تحفظ دروسها. ألا تريد أن تساعدها؟

كاتبة فلسطينية مقيمة في فيينا

كتبت في فيينا 1996



#نادية_عيلبوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرضاوي ينبغي محاكمته، ردا على بدر الدين المدوخ
- الهجوم الإسرائيلي الحمساوي على حكومة سلام فياض هل هو مصادفة؟
- لا حل للأقباط إلا بالخروج من وصاية الكنيسة
- متى يتحرر الدين من سجن السياسة
- لماذا تجاهلت الصحافة الفلسطينية ترشيح الروائي ربعي المدهني ل ...
- ظهور العذراء ليس حلا لاضطهاد الأقباط
- ظهور العذراء والعقل الخرافي المصري
- إنهم يعهرون الشريعة!!
- أين هي مقاومة حماس وحزب الله؟
- هل تحولت صدور نسائنا إلى ساحات للجهاد؟
- حماس وانفلونزا الخنازير
- مجرد أسئلة ، الفلسطيني وحقوق الإنسان
- أيضا منظر الملتحين وأصحاب - الدشاديش- القصيرة يجرح ذوقنا وهو ...
- هذا حق مشروع لنسائنا ملكة جمال لفلسطين ما الذي يمنع؟
- -كل الحق- على الرئيس عباس!!؟؟
- اللعب بقضايا الاندماج في النمسا
- المتوكل طه والدفاع عن ثقافة الاستبداد - نعم الثقافة العربية ...
- وقع القاص زياد خداش بورتريه لجديد الأدب الفلسطيني
- فيينا أم فينستان ؟


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عيلبوني - مطر قصة قصيرة