أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - حازم الحسوني - معركة دشت زه - صفحة مجيدة في تاريخ حركة الأنصار الشيوعيين















المزيد.....


معركة دشت زه - صفحة مجيدة في تاريخ حركة الأنصار الشيوعيين


حازم الحسوني

الحوار المتمدن-العدد: 878 - 2004 / 6 / 28 - 04:52
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


توقفت مفرزة هيركي ( سمُيت فيما بعد بالسرية الخامسة ) في مساء يوم الثاني والعشرين من شهر أكتوبرعام 1981 قبل دخولها الى قرية سري كاني الواقعة في دشت زه التابع الى قضاء العمادية , وهذا الدشت عبارة عن أرض منبسطة تقع ما بين جبل كَارة , و جبل لينيك الذي هو أمتداد الى سلسلة جبال متين , حيث زُرع َ هذا الدشت بالمجمعات السكنية القسرية ( النظام الدكتاتوري كان يسميها بالعصرية !!! ) التي بناها النظام للعوائل الكردية المهجرة من قرُاها في الشريط الحدودي مع تركيا لتسهيل السيطرة على أبناء هذهِ القرى , وحشرها في هذهِ التجمعات المحاطة بنقاط المراقبةالعسكرية التي تُخضع الداخلين إليها أو الخارجين منها الى التفتيش القاسي , وكان من بين هذهِ المجمعات ( مجمع سيريه , ومجمع شيلا دزه , ومجمع الديرَلوك ) , يخترق هذا الدشت نهر الخابور السريع الجريان من شدة وعورة الأرض التي يسلكها في جريانهِ, فدائماً كنا نخشى عبورهُ دون مساعدة أهل القرى الواقعة بالقرب منهُ .
جاءتنا التبليغات من آمر السرية , وهيّ كالمعتاد بتقسيم نقاط الحراسة , والتوزيع على البيوت كما هو معتاد في كل مرة , ولكننا تفاجئنا بضرورة مغادرة القرية مباشرة بعد تناول العشاء , والتجمع في النقطة المعينة خارج القرية , وعلينا أن لا ننسى جلب كمية قليلة من الشاي والسكر , وما تجود بهِ بيوت الفلاحين الأكراد من الطعام قبل مغادرتنا لهم . بدأ كل منا يلتفت الى الآخر مع إبتسامة خفية ترتسم على الوجوه , وأشتغل الهمس بيننا , والسؤال هل سنُقدم على تنفيذ عملية ما في هذهِ الليلة أم ماذا في الأمر ؟ لماذا نغادر هذهِ القرية بسرعة , وهيّ الأمينة نسبياً , والبعيدة بعض الشيء عن جنود ومرتزقة النظام ؟ فلهذهِ القرية الواقعة في الضفة اليسرى من نهر الخابور , والمقابلة للمنطقة الواقعة ما بين مجمع شيلا دزه , و الديرَلوك , محبة وأعتزاز خاص لكل أنصار سرَية هيركي , فأهلها يتميزوا بالطيبة والكرم الكبير , وأن كانت هذهِ الصفات متوفرة عند أغلب أبناء القرى الكردية التي كنا ندخلها , ولكن الأستثناء في هذهِ القرية هو موقعها الجميل , وكونها نقطة عبورنا الى موقعنا الخلفي في قاعدة هيركي الواقعة على الحدود التركية , أضافة الى معرفة عدد غير قليل من أبناءها للغة العربية التي سهلت لنا عملية مخاطبة أهلها والأتصال بهم , وخصوصاً عندما عرفوا بأن أغلبنا من مدن الجنوب وبغداد , أنصار ونصيرات , وكلنا متعلمون وبمستويات مختلفة فكان من بيننا العامل , والفلاح , والمعلم , وطالب المدرسة والجامعة , وخريجي الجامعات , والمهندسين , والمخرج الأذاعي , والفنان ...الخ وكنا من مختلف القوميات والأديان ... , عندما كنا ندخل هذهِ القرية لم نكن نشعر أبدأ بأننا غرباء , وكنا حتى نخجل من حسن الضيافة حيث يتقاسم أهلها الخبز َ معنا , ويقدموا لنا أنظف الأفرشة لنأخذها معنا الى مكان تجمع , ونوم المفرزة المتفق عليهِ عند كل مرة نزورها . كنا نتسائل فيما بيننا لماذا في هذهِ الليلة بالذات بعد ان هيئنا أنفسنا لزيارة هذهِ القرية الجميلة فبها نشعر بقربنا من أهلنا أكثر أضافة الى حجم الراحة والأمان الذي نتمتع فيهِ بهذهِ القرية مقارنة بالقرى الأخرى في المنطقة , المهم جاءت التبليغات , وبعد ان تم توزيعنا على البيوت توجهنا إليها كما هو متفق , فبعد الإنتهاء من تناولنا للطعام , وشربنا للشاي بدأت باخراج كيس التبغ الذي في حوزتي لعمل بعض السكَائر ( اللف ) ولكن بالطريقة التي أبتكرناها في كردستان وتتلخص في لف ورقة السكَائر على قلم الجاف ( Big ) بعد ان نبلل الورقة قليلاً بطرف اللسان مع ترك قليل من الفراغ في الأعلى لكي نحصل على أسطوانة هيّ شكل السيكَارة وثم نبدأ بملأ هذهِ الورقة بالتيغ تدريجياً, وسحبها الى الأعلى مع قليل من الدك الخفيف ثم نملأ مجدداً الجزء المتبقي من الورقة فهكذا يمكن الحصول على سيكَارة بسهولة . الطريقة التي أستخدمتها كانت موضع الضحك والفضول لدى صاحب البيت , وكنا نضحك بدورنا انا ورفيقي الذي كان جالس بالقرب مني , ولكن ما حيلتنا لابد من التزود ببعض السكَائر فأمامنا ليل طويل , وخصوصاً أننا لا نعرف الى أين متوجهون بعد مغادرة القرية أو ماذا سنفعلهُ في هذهِ الليلة , فالواجب التزود بهذهِ المؤونة للأحتياط , سارع مضيفنا الى أخذ عملية تجهيز السكًاير بنفسهِ , وكانتا يديهِ ترتجفان , فهو لم يعد قادراً على إخفاء الأسئلة التي تراودهُ , وخاصة عندما عرف أننا لاننوي المبيت هذهِ الليلة في داخل القرية كالمعتاد لأنهُ أدركَ بحدسهِ الثاقب الذي صقلتهُ تجارب السنين مع الأنصار والبيشمركَه , بادرَ بالسؤال عن العملية التي ننوي القيام بها هذهِ الليلة وهل هيّ في المنطقة أم لا ؟ وهل ستكون مضمونة , وتعودون سالميين ؟ أني أخشى عليكما فأنتم كأبنائي , و أتمنى لكم السلامة و كل التوفيق للخلاص من كابوس الظلم الجاثم على صدورنا , ولاتنسوا أن تعودوا إلينا في المرة القادمة فهذا داركم , ترقرقت الدموع من عينيهِ وهو المُله َ ( مُله َ القرية ) الشيخ الجليل , ومن عينيَ زوجتهِ وبنتيهِ اللتين هَمتا بتحضير كمية من الشاي والسكر والطعام لنأخذهُ معنا ( هذهِ عادة كل القرى الكردية بعد زيارة مفارز الأنصار والبيشمركَة إليها ) , أستغربنا كثيراً لهذا الأحساس باليقين , ألتفتت الى رفيقي وعلامات الإستغراب بادية علينا نحنُ الأثنين رغمََ أنهُ راودنا نفس الإحساس عند التبليغ قبل دخول القرية لكننا كنا على غير يقين من ذلك .
تجمعت مفرزتنا في المكان المحدد خارج القرية , وجميعنا قد تولد لديهِ الإحساس بأننا سوف نقوم بعملية ما ضد مواقع النظام أو مواقع قواتهِ الخاصة المتواجدة في المنطقة , ولكن كيف ؟ وماهيّ التفاصيل ؟ , ومن هم اللذين سيقومون بتنفيذ هذهِ العملية ؟, كنا نضحك ونتهامس بأنهُ ستكون انتَ في العملية , والآخر يقول أنت ستكون في مجموعة الإقتحام , والآخر يقول انت ستكون في مجموعة الإسناد , وهكذا فكل واحد منا كان يمني نفسهُ بأن يكون ضمن المجموعة المختارة لتنفيذ هذهِ العملية , فسرعان ما جاء التبليغ رفاق وردت لنا شكاوى كثيرة من أهل المنطقة جراء المعاملة السيئة التي تتبعها قوات النظام الخاصة بحق أبناء القرى و المجمعات القسرية في المنطقة , فلذلك قررنا تنفيذ عملية في فجر يوم غد بعد إجراء الإستطلاع المطلوب للموقع , وتم أختيار الرفاق الذين سيقومون بتنفيذ هذهِ المهمة , المهم على الجميع الإستعداد , والتأكد من نظافة سلاحهِ , وسوف نستدعي الرفاق المعنيين وتأتي بعدها التوجيهات الى الأخرين .
تم تقسيم المفرزة الى العديد من المجاميع , وتم أختيار كاتب السطور ضمن المجموعة التي ستفذ الكمين لضرب قوات النظام الصدامي الخاصة , فبهذا أنفصلت مجموعتنا عن المجاميع الأخرى , كانت مجموعتنا تتكون من تسعة رفاق , وبدأنا التحرك في الساعة الثانية عشر ليلاً بعد التأكد من نظافة السلاح وتوديع بقية الرفاق , وتسليم ما بحوزتنا من وثائق أن وجدت أو الممتلكات الشخصية , وهيّ بطبيعتها لا تتعدى سوى أدوات بسيطة للأستعمال الشخصي كفرشة الأسنان أو أدوات الحلاقة أو دفتر صغير لكتابة الخواطر والمذكرات , والأصح أن نقول دفتر صغير لتفريغ حالات الكبت , وهيجان الأحساسيس والمشاعر الإنسانية أو لتصوير الحلم الذي نطمحهُ , كانت عليجتنا ( عبارة عن كيس من القماش يخيط باليد بكل عناية يوضع على الظهر بواسطة حمالات ) لا تخلُ من كتاب فالمفرزة كانت عبارة عن مكتبة متنقلة, فالكتب تُتداول بين أعضاء المفرزة بالتناوب , وأحياناً تُوزع علينا بعض الأدوية لمساعدة الرفيق دكتور المفرزة عندما يعجز عن حملها, فالدواء مخصص لمعالجة الأنصار الجرحى والمصابين أو لتوزيعهِ على سكان القرى مجاناً عند الضرورة .
تحركت مجموعتنا بعد ذلك بإتجاه المكان الذي نقصدهُ , الصمت والهدؤ كانَ مخيماً على كل شيء , وضوء القمر كان هو دليلنا في تلك الليلة , فبواسطتهِ نتوجس الصخور والأشجار في المنحدرالذي نزلناه بإتجاه نهر الخابور , أنقسمت مجموعتنا الى قسمين , فذهب ثلاثة منا لتغطية عملية إنسحاب مجموعة القتال , ومن بينهم الشهيد أبو محمد , وتوجهنا نحنُ الآخرين الى مواصلة التقدم بإتجاه النهر للوصول الى أقرب نقطة يمكن أن نصيب بها قوات النظام الصدامي الخاصة , فهكذا وصلنا بعد قليل من النزول بين الصخور أو بعبورالسواقي التي تروي أراضي الفلاحين القريبة من نهر الخابور الى النقطة التي يفترض ان تكون أمنة مع الآخذ بنظر الأعتبار كل مستلزمات العمل الأنصاري البعيدة عن التهور .
الساعة قاربت الثانية والنصف صباحاً عند وصلنا الى الموقع المطلوب , بدأنا في تهيئة الموضع القتالي ما بين وضع الصخور في أمكانها المطلوبة لغرض الأحتماء بها أو جلب الأحراش للتمويه , فأستطعنا خلال نصف ساعة من العمل الجاد أن نهيء مواقعنا نحن الأربعة حيث تقدمَ الرفيقين الأخرين بضعة أمتار من أمامنا أحدهم لتوجيه قذيفة صاروخية مضادة للدروع والآخر لحمايتهِ .
مكثنا في مواضعنا منبطحين على الأرض في وضع قتالي لعدة ساعات قبل بزوغ الفجر , كان الصمت والسكون يغلف المكان لا يعكرهُ سوى نباح كلاب الرعاة في الجبل , وخشخشة الحشرات بين الأوراق اليابسة في الأرض , كنا نخشى الحركة والحديث بصوت عالي خوفاً من إنكشاف مواقعنا , داهمنا النعاس قليلاً , وكنا نحسد رفاقنا الأخرين لأنهم في موقع آمن نسبياً حيث يستطيعوا القيلولة ولو لبعض الوقت , كنا نتمنى أن يخرج الصباح بأسرع وقت لننجز عمليتنا وننسحب , ولكن علينا الصبر أكثر فمع الصباح سندخل معركة كنا نتمناها منذ زمن ضد قوات النظام الخاصة في المنطقة , خطرت على بالي تدخين سيكَارة فكيف يمكنني عمل ذلك في هذهِ الساعات الحرجة وفي هذا الموقع الحرج القريب من مواقع الجيش , أنها مجازفة بلا شك , لم أحتمل أكثر من ذلك فطلبت من آمر المجموعة فعل ذلك , أجابني بالإيجاب , ولكن عليك إدارة وجهكَ الى الخلف , وإخفاءها بين يديكَ خوفاً من رؤية ضوء جمرها من بعيد فهكذا فعلت كما طلب ذلك .
مع سَحبْ النَفسْ الأول والثاني للسيكَارة حلقت عالياً في فضاءات وسماوات بعيدة كنتُ بها مع الحبيبة التي تركتها في البصرة , والأهل الذين لم يرتاحوا من مضايقة رجال أمن البعث يوماً , وأصدقاء الطفولة والدراسة , ظهرت أمامي صور و أحداث اليوم السابق , و جلوسنا في بيت الملا , وتوديع الرفاق , و التوقعات لما يحملهُ صباح اليوم بعد تنفيذ العملية .
بدأت برودة تشرين الأول تزداد تدريجياً , كنا نرتجف , وأحسسنا أن البرودة وصلت الى عظامنا , لم نكن نمتلك المعاطف التي تقينا البرد , كنا نرتدي الملابس الأنصارية المعتادة فهيّ عبارة عن قميص وسروال عريض مع يشماغ يلُف بهِ الرأس , كما هو الزي الكردي المعتاد أصابعنا على الزناد , والعيون شاخصة على الطريق , والمنطقة التي حولنا من مواقع عسكرية وربايا , بدأت خيوط الصباح الأولى , فسمعنا صوت المؤذن من جامع شيلا دزه , وسمعنا أيضاً زقزقة العصافير , وصوت الديَكة من القرى التي خلفنا والمجمع الذي أمامنا , الظلام تراجعَ أكثر فأكثر, كتلة اللهب شقت الظلام , وصعدت الى السماء أنها الشمس خرجت أيها الرفاق . بدأنا نميز ملامح الموقع الذي نحنُ بهِ , والتضاريس التي حولنا من سواقي بعمق المتر أو أكثر قليلاً مغمورة بالمياه , وأشجار , وصخور صغيرة وكبيرة , و خلفنا تلة مشقوقة الى نصفين من جراء نهر أو سيل جارف قديم لم يتبقى منهُ إلا الصخور المتناثرة , وممرات ضيقة بينهما , أحسسنا كم أننا قريبين من مواقع الجيش الى الحد الذي خطر على بالنا في كيفية تدبير عملية الإنسحاب من هذا الموقع بعد تنفيذ الكمين , تهامسنا مع بعض( كل شيء يهون مو مشكلة رفاقنا سيغطوا إنسحابنا ) , مر الوقت سريعاً وأصبحت الساعة السادسة صباحاً ولم يأتي رتل الجيش الذي نحنُ في انتظارهِ , الدقائق تمر وتجاوزت السادسة والنصف وثم السابعة إلا ربع , الحركة دبت في الشارع العام حيث مرت أمامنا سيارات النقل المدني تكسيات وبيكبات , وبدأ أطفال المدارس بالتوجه الى مجمع شيلا دزه من القرى القريبة اليهِ , فشد إنتباهنا قهقهة مجموعة من أطفال المدارس اللذين لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يسيرون على الطريق العام, وشاهدنا لعبهم و مزاحهم مع بعض , واذا بأحدهم يقف على جانب الشارع تاركاً أقرانهِ يفتح أزرار بنطالهِ لكي يتبول والآخرين واصلوا المسير , خالجنا الضحك الصامت وتمنينا ان يسرع ويلتحق بأصدقاءهِ , فربما يأتي الرتل العسكري الذي نحنُ بأنتظارهِ الآن فما العمل ؟ لم يمر الوقت طويلأ وكأنهُ يسمع ندائنا نحنُ اللذين قابعين خلف الصخور فركضَ وألتحق مسرعاً بزملائهِ , تجاوزت الساعة الآن السابعة وثم خمسة دقائق فوقها وعشرة أخرى , واخيراً في العشرين دقيقة بعد السابعة صباحاً جاء لنا الصوت من مجموعة الرصد بأن الرتل قد غادر مجمع شيلا دزه وهو في طريقهِ أليكم , لم تمضي ألا دقائق قليلة حتى شاهدنا الرتل العسكري بأعيننا مكون من سيارة بيكب عسكري يحمل في الخلف عدد من أفراد القوات الخاصة جالسين في سطرين متقابلين وجوه بعضهم مقابلنا والآخرين جالسين العكس , وسيارة جيب عسكري مخصص للقيادة العسكرية تليها أربعة سيارات بيكب عسكري من نفس النوع الأول وجميعها محملة بالقوات الخاصة بزيهم المنقط , وبيرياتهم الحمراء الدالة على هويتهم العسكرية نادينا بأصواتنا الى الرفيق الذي بيدهِ القاذف الصاروخي أضرب أضرب , فلم يعد الوقت يحتمل , ولا الصمت ممكن فالمنطقة امتلأت بصوت السيارات العسكرية , وما هيّ إلا لحظات حتى أنطلقت القذيفة التي لم تصب السيارة الأولى بشكل مباشر لأنها أرتطمت بحافة الطريق , ولكن دوي أنفجارها , وكومة الغبار الذي أحدثتهُ , وتناثر شظاياها على السيارة كان كافياً لوقف الرتل , فتحنا النار من كل الأتجاهات والمواقع التي نحنُ فيها , توقفت السيارات المدنية بعيداً عن ساحة المعركة , أستمر أطلاق مجموعتنا للنار حوالي نصف ساعة بعد أن أردناه كمين خاطف لبضع دقائق , أكملنا مهمتنا , وأحدثنا أصابات بالغة في صفوف القوات الصدامية الخاصة , جاءت التعزيزات العسكرية , وأنهمر الرصاص علينا , وقذائف الهاون والمدفعية من كل المواقع العسكرية في المنطقة من ربايا , وموقع للسَرية , وفوج شيلا دزه , وجاءت مدرعة عسكرية لأنقاذ من تبقى من أعضاء الرتل , رفاق علينا الإنسحاب خوفاً من مجئ الطائرات , وتجنب الإنجرار الى معركة أكبر لم نعُد العدة إليها , فهكذا بدأت عملية الإنسحاب وسط زخات الرصاص والقذائف علينا من كل جانب , غادرنا مواقعنا , وتوجب َعلينا الركض والإنحناء والزحف بعدها حوصرنا في منطقة مكشوفة لا تتجاوز العشرين متراً طولاً , وعشرة أمتار عرضاً قبل النزول الى السواقي , ولكن علينا إجتيازها , أنها لحظات ما بين الأستشهاد وتوقف الحياة , أو التشبث بالحياة , و مواصلة النضال , ألتصقنا بالأرض أنحناءاً دون حراك كمن يحتضن حبيبة فارقها دهر من العمر , وجوهنا ملتصقة بالأرض شممنا رائحتها العطرة , وأحسسنا كم نحنُ قريبين منها , أيدينا ملتفة حول الرأس لحمايتهِ . لحظات ودقائق تمر سريعة نسمع بها صوت رصاص رفاقنا الذين يشاغلون قوات الجيش وصراخ بعضهم لنا بالحركة , علينا إستغلال أي لحظة يقف بها إطلاق الرصاص أو القذائف للنهوض , و الركض سريعاً ثم القفز في الساقية , هكذا أتفقنا بعد ان تحدثنا بصوت عالي مسموع لنا رغم أبتعادنا عن بعض بضعة أمتار , ففعلاً تم تسلل أحدنا تلو الآخرفقفزنا في الساقية مع سلاحنا وعتادنا المتبقي . السير في الساقية المغمورة بالمياه لم يكن سهلاً فعلينا تثبيت الأقدام في الغرين جيداً , ومسك الحشائش على ظفتي الساقية بقوة للأندفاع الى الأمام بعكس إتجاه التيار , وعلينا أيضاً إخفاض الرؤوس خوفاً من أنكشافنا أو من رصاصة طائشة , أستفدنا كثيراً من الإنحناءات الطبيعية للساقية التي أبعدتنا بعض الشيء عن نيران الجيش والقوات الخاصة . بعد أن خرجنا من الساقية مبللين كان يتوجب علينا الركض والأختفاء ما بين الأشجار والصخور الكبيرة والصغيرة المتناثرة للنهر القديم الجاف الذي فصل التلة الى قسمين فهو طريق الإنسحاب النهائي ولايوجد غيرهِ , فتم التسلل ومزاوغة رصاص الجيش والقوات الخاصة الأضافية التي جثلبت للمنطقة , وقذائفهم التي لم تنقطع لحظة واحدة , أخيراً أستطعنا الوصول بسلام من دون أي خسائر الى رفاقنا الذين تشوقوا الى رؤيانا , ونحنُ لهم بعد هذهِ الليلة العاصفة , وكأننا نلتقي بعد طول فراق , هبَ الجميع الى إستقبالنا , وأكتمل إنسحاب بقية المفرزة بسلام الى موقع خلفي ما بين التلال والأشجار , توقفنا للحظات للتأكد من سلامة الجميع , ولكن الحذر والخوف كانَ مسيطراً علينا من مجيء الطائرات لملاحقتنا , أستمر تمشيط المنطقة التي إنسحبنا إليها بالدوشكات وقذائف المدفعية الى حد الساعة العاشرة تقريباً , أما بعدها فهدأ كل شيء . تفاجئنا في حوالي الساعة الثانية عشر من مجيء شباب القرى في المنطقة , ومن بينهم شباب قرية سري كاني مسلحين , ومعهم بغال محُملة بالغذاء والمؤونة إلينا , كانَ عتابهم كبيراً علينا لماذا لم تُشركونا في المعركة ؟ فنحنُ على أستعداد لمساعدتكم , والأشتراك في ضرب قوات صدام في المنطقة , الجواب جاء سريعاً من آمر المفرزة سنعمل على ذلك في المرات القادمة , بعدها غادرنا المنطقة عابرين جبل كَاره متوجهين لزيارة القرى المنتشرة في بري كَاره ثم العودة الى المنطقة بعد عدة أيام .
كانَ للعملية صدى كبير في المنطقة , فهيّ العملية الكبيرة الأولى التي يقوم بها الأنصار الشيوعيين في المنطقة رغم قوة وجبروت النظام الصدامي في تلك الفترة , فلم تقم الأطراف السياسية الأخرى بأي عمل نوعي في المنطقة أنذاك رغم التعاطف القومي والعشائري معها . كف منتسبي القوات الخاصة على أثر العملية من إيذاء المواطنيين حسبَ ما نقلهُ لنا أبناء القرى في المنطقة التي عدنا أليها بعد فترة من الوقت , وأدركت جماهير المنطقة حقيقة , ومصداقية الأنصار الذين همهم الرئيسي الدفاع عن الشعب , وخدمتهِ قبل كل شيء .
قدمت مفرزة هيركي خلال عملها الأنصاري كوكبة من الشهداء في طريق نضالها من أجل حرية الوطن وسعادة الشعب , فمنهم من أستشهد أثناء عملياتها العسكرية والآخر بعد أنتقالهِ منها , والعمل في مواقع نضالية أخرى أتذكر من بينهم :
*- الشهيد أبو سمير معلم من مدينة العمارة , كادر حزبي متقدم , أشترك في معركة دشت زه كان ضمن مجموعة الإسناد الثانية والمراقبة , أستشهد في بشتاشان عام 83 .
*- الشهيد أبو محمد طالب كلية العلوم – قسم الكيمياء , متخصص في المتفجرات , أشترك في معركة دشت زه , وكان يقود مجموعة الإسناد الأولى التي غطت مجموعة التنفيذ , و أمر فصيل , أستشهد في بشتاشان عام 83 .
*- الشهيد أبو الندى من مدينة الناصرية , ترك إقامتهِ في إيطاليا وألتحق بحركة الأنصار في كانون الأول عام 81 , طيار حربي , أستشهد أثناء أقتحام ربية سيكَير في تشرين الثاني عام 82 حينها كان أمر فصيل .
*- الشهيد سليم من مدينة كربلاء , موظف , أداري مفرزة هيركي تميز بالهدؤ والمبدئية العالية , أشتركَ في معركة دشت زه , وكان ضمن المجموعة التي تغطي الإنسحاب النهائي للمفرزة , أستشهد في العملية التي نُفذت بمناسبة الأنتصار على الفاشية عام 87 على أثر أنفجار مدفع الهاون الذي كان يستخدمهُ في قصف مواقع الجيش الصدامي بعد ان حُشرت قذيفة في داخلهِ .
*- الشهيد أبو صلاح من مدينة العمارة , شاعر شعبي كان مراسل صحيفة طريق الشعب في فترة السبعينيات , أستشهد في معارك بشتاشان عام 83 .
المجد والخلود لكل شهداء الحركة الأنصارية والوطنية والشعب العراقي
السويد 26-6-2004



#حازم_الحسوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقاومة المسلحة للاحتلال بين دجل الأدعاء وحقيقة الأهداف
- نقاط الضعف والقوة في الحكومة الأنتقالية القادمة
- من لهُ مصلحة في إغتيال السيد عز الدين سليم ؟
- أسئلة لدعاة الإسلام السياسي في عيد العمال العالمي
- الدوافع وراء سماح بريمر بعودة البعثيين من جديد
- رؤية في الصدامات التي حصلت بين قوات الاحتلال وأتباع السيد مق ...
- قراءة في الخطاب السياسي الإسلامي
- عام على سقوط الدكتاتورية واحتلال العراق- وقفة تأملية
- تساؤلات وباقة ورد في يوم المرأة العالمي
- أوقفوا الباحثين َعن الجنةِ من العبور ِ فوق أجسادنا
- تظاهرات كركوك – دروس وعَبر
- سياسة فرض الأمر الواقع الأمريكية
- محاكمة صدام والمطلب الشعبي العراقي
- السيد مقتدى الصدر واللعبة السياسية


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - حازم الحسوني - معركة دشت زه - صفحة مجيدة في تاريخ حركة الأنصار الشيوعيين