أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السابع:الخروج















المزيد.....


تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السابع:الخروج


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2889 - 2010 / 1 / 16 - 08:19
المحور: الادب والفن
    


الخروج
كانت هي المرة الوحيدة التي زارا فيها سينما وسط المدينة منذ التحاقه بخدمة الاحتياط في الأيام الأولى للحرب. سارا شبه متلاصقين على طول الشارع المكتظ بالسيارات المطفأة الأضواء والمارة المتراكضين. وحينما شاهدت ذلك التمثال الصغير وسط شارعين سألته عن صاحبه وقصته، لكنه لم يحر جوابا، لأن ما هو قادم أكثر غرابة من الذي كان يحيط بهما وما ينتظرهما أشد وطأة من أية قصة. وعندما ألحت عليه في المعرفة قال: سنرى ذلك قريبا ياعزيزتي! لم تفهم جوابه أبدا فآثرت الصمت كعادتها في المسائل الشائكة التي تدور بينهما. ثم عبرا الشارع بسرعة لمشاهدة فيلم " ساحة الطرق" الذي أعلن عنه مؤخرا فيلما جديدا؛ كان الفيلم يعالج قضايا المشاهدات الغريبة للناس في الحياة وهو من فن السيرة الذاتية المملة؛ وعما إذا كان ثمة عالم أخر غير عالمنا لا مرئيا يراقبنا ونترقبه ليل نهار ولحظة بلحظة بلا جدوى دائما.
سبق له أن شاهد الفيلم مرات عديدة وحده في أوقات متفاوتة دون أن يخرج بنتيجة حتى عدّ نفسه غبيا وقد أكمل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة قسم الإخراج، وحينما كان يعمل مشغلا لماكينة العرض في السينما قبل التحاقه بخدمة الاحتياط ثمة أفلام كثيرة بقي مشدوها منها لكن هذا الفيلم بقي أكثرها غموضا. ومن اجل ان يعمم عليها بعض مشاهداته لما هو قادم، رغب أن يشاهداه معا؛ كما ادعى في هذه الأربعة والعشرين ساعة مساعدة. ومن الصعب التأكد ما إذا كان فيلما حربيا او رومانسيا أو من أفلام الخيال العلمي؛ لكنه كان أقرب إلى أفلام (الغموض الشاطح) ذي الطابع التاريخي الممل. لم يشاهدا الإعلان الخارجي عنه جيدا ولم يكن يتوقع أنه الفيلم نفسه الذي شاهده قبل عامين. فانتازيا أخرى. كما إن العروض الداخلية حول الفيلم كانت غير واضحة بسبب قلة الضؤ لتعرض المدينة إلى غارات جوية معادية. وبعد حدوث غارات متواصلة قبل مدة قصيرة من الزمن. بات من الصعب الرؤية في الظلام الدامس الذي حاق بالمكان. لم يعتمر بيريته كما طلب منه الانضباط العسكري المتوقف بالقرب من باب السينما والذين شاهدوا نموذج المساعدة على مصباح يدوي صغير وجّه غير مرة إلى وجهيهما. وكان بسطاله مليئا بالطين المتيبس العالق من أماكن بعيدة، غرب الكارون، وبدا غير مهتم لما يجري في الخارج.
- الأخت وياك؟
- إي.
- زوجتك؟
- لا.
- أختك؟
- لا.
- ما علاقتك بها؟
- لا ادري..
- هل أنت سكران؟
- لا لا.
- حسنا. يمكنك الذهاب!
- شكرا.
- البس بيريتك!
لم يصدق إن التحقيق سار بسهولة وتذكر إنها الحرب التي تخفف من وطأة بعض الأشياء وتجعل من أخرى كالجبال. ربما هاتان النظارتان المعيقتان مفيدتان أحيانا. أخيرا. حدث كل شيء بسرعة. وبدا ثمة نهاية ما قادمة. هوووو. تصوري بعد كلّ ذلك العناء؛ بخت؛ وحينما غادر الجميع المكان وسط عاصفة من غبار السيارات العسكرية، غادر هو أيضا، بعد أن زور له نموذج إجازة لمدة سبعة أيام. لم يقل لها شيئا واضحا وهي كانت حبيبة مطيعة ذات الستة عشر ربيعا. أربعة وعشرون ساعة فقط وقت كاف للمشاهدة لو تدرين يا حبيبتي. ومنذ أن دعاها لمشاهدة الفيلم قال لها ما كان: وهو أنه غير مجاز إلا لمدة أربع وعشرين ساعة فما الذي يمكن أن يفعله الإنسان في أسبوع؟ كبير هو الأسبوع لدى الجنود. يحسب الجنود المتزوجون عدد المضاجعات فيه.. وكان ثمة حاجة ماسة لتغيير الجو لكليهما في تلك الأربعة والعشرين ساعة، فأعلن عن رغبته في تلك السويعات المتسارعة لمشاهدة فيلم ساحة الطرق معا ومضاجعتها في غرفة العرض. لم توافق. قالت أنها سترى الفيلم ويمكنه تقبيلها في الصف الأخير كلما أطفئت الأضواء فقط. لكنه آخر مرة مدّ يده وداعب بضرها فشهقت خوفا.. كانت السينما تسليته الوحيدة في الحرب، وقبل الحرب، أما ما بعد الحرب فلا أحد يمكنه تصور ما يكون. وشدّ ما رغب في أن تنتقل العدوى إليها في مداعبة ذكره.. يفشل دائما في سحبها إلى مواقعه وهذه هي المرة الأولى التي يفلح فيها.
- فيلم ؟
- فيلم!
- أأنت جاد؟
- تعالي. بس.
سارا ملتصقين على طول شارع السعدون من جديد، حيث يمكن أن توجد سينما حكومية نظيفة إلى حدّ ما. كلّ السينمات مغلقة تقريبا بسبب الغارات. اخبرها: أنه كان يعمل في السينما قاطع تذاكر قبل أن تنشب الحرب ثم رقي إلى مشغل ماكينة عرض بعد خمس سنوات من الخبرة في بناية السينما. بدت أضواء المدينة خافتة عموما. وعوت صافرة إنذار قريبة أخرى.. كانت الحرب في شهورها الأولى. لا احد يعلم في أي شهر تنتهي؟ لم يتحدثا عن ذلك طويلا لكن الأشياء بدت غريبة إلى حدّ بعيد في الشهر الحادي عشر للحرب؛ كأنه لم يعد يعرفها من قبل، وسرت في جسد البنت رعشات مفاجئة كأحلام مضاجعة سريعة. وهي لم تعد تعرفه جيدا، وهما يدخلان بناية السينما؛ كأن مخلبا ما جوفيا أخذهما على حين غرة وغاص بهما عميقا في مكان ما. لم يحدثها عن المخلب الذي يشعر به، كما أنها لم تحاول أن تخبره بذلك خشية ضياع متعة أربع وعشرين ساعة إجازة كما اخبرها. كانت أربع وعشرون ساعة طائرة فهل تنتهي بهواجسه؟ كما أنه لم يحدثها عما حدث في الجبهة أثناء هزيمة النهر بعد.
توقفت صافرة الإنذار عن العواء. وشعرا ببعض الراحة المفتعلة عند بوابة السينما. ووجدا أن مشبك الحديد مفتوحا قليلا، فدفعه بيده بقوة كي يتسع لكليهما ثم أعاده إلى مكانه بقوة وهو يصدر الصرير نفسه منذ سنين. ترددت قليلا ثم لم تلبث أن دخلت حيث أعاد المشبك الذي أصدر زعيقا خفيفا هذه المرة. قال: هههه ربما تذكروا أن يضعوا له دهانا أخيرا. يريدوننا أن ندخل بسرعة. فضحكت لأول مرة. وتعثرت عباءتها بالمشبك فساعدها على فكها متحسسا ساقيها. تفحصت العباءة قليلا فوجدت شقا كبيرا: يييياه! ماذا سأقول لأهلي. قال: لن تحتاجي إلى ذلك بعد الآن. لكنه أشار لها أن ليس ثمة ما يستحق التدقيق بعد ذلك. ثم وضع القفل المفتوح على المشبك من الداخل. لم تنتبه جيدا إلى تصرفاته. كانت تثق به ثقة عمياء. ولم تسأله عما يفعل ذات يوم منذ أن تعارفا في الطابق الأعلى من حافلة نقل الركاب الحمراء. الطماطم الحديد الكبيرة. وسارا ملتصقين بقوة إلى الداخل من جديد كأنما تجتذبهما قوة مغناطيسية ثقيلة. كان المكان مظلما كلما توجها نحو باب الصالة الرئيس. لكنه اهتز فجأة وبدا ثمة أشياء تتساقط من السقف، لكنهما واصلا السير إلى الداخل حتى اختفيا عن الأعين.
كانت السينما مطفأة وليس ثمة رواد هذه الليلة. من يحضر إلى السينما في هذه الظروف؟ ما جرى خارج السينما شيء خاص بكم وحدكم انتم؛ يا من تلاحقونني من اجل أن أعود عن تلك "الشردة" اما ما يخصني فهذا شأني، سينماي، أنا، وقد آثرت ان اشرك به هذه المرأة الحبيبة، فمن الصعب ان أسافر وحدي. السفر أروع ما يكون مع امرأة. طبعا. من لايحتاج إلى امرأة في ظرف قاهر؟
ربما بسبب تعرض المدينة إلى غارات جوية تم إلغاء العرض. لكنه فيلم رائع رغم ذلك ويستحق المشاهدة تحت القصف أيضا. جاء بملابسه العسكرية الملحية، بعد ان عاد من جبهة "غرب الكارون" رأيناه نحن رفاق السلاح في الجيش؛ حيث بدأت أول "شردة" للجنود بعد محاصرة قليلة: أعدم قائد الفرقة وعدد من الضباط والجنود المتخاذلين. شاهد مظاهر الإعدام بنفسه وحضر مراسيم اطلاق النار، وقراءة قرار الإدانة المكتوب بعجالة بخط يد سريعة وبقلم جاف من (قلم) وحدة الإعدام المتنقلة، حيث أملاه عليه ضابط برتبة كبيرة لم يتبينها وسط الظلام، وقد أحيط بعدد من افراد حمايته. ثم كتب كل ما كان في دائرة القلم السري لوحدته على عجالة بالغة. بعد أن أمر أن يرفع ذلك في برقية وكتاب مطبوع إلى الجهات العليا كما هي السياقات العسكرية المعمول بها في الحرب. فعل كلّ شيء بدقة متناهية.
- جندي أول إسحاق!
- نعم سيدي.
- هل انتهى كلّ شيء؟
- نعم سيدي، كلّ شيء!
- أكتب: نفذ حكم الإعدام وجاهيا كما أمرتم تلفونيا. انتهى!
- انتهى سيدي!
الجنود الذين يعتمرون يبريات حمر أطلقوا الرصاص على بضعة رجال بلا رتب، تدلت كتافياتهم كألسنة مرتجفة، مع عبارات هائجة من جمع قليل كان محتشدا عن بعد: جبناء جبناء! ثم جيء بالجميع ممن تبقى إلى مجلس عسكري سريع بالقرب من "دائرة القلم" نفسه حيث يعمل هو في الخطوط الخلفية لتنفيذ حكم الإعدام أيضا. هو الوحيد الذي كان بإمكانه الهرب إلى منزله بعد ذلك، لأنه لم يكن لديه واجب في الجبهة الامامية باعتباره جنديا غير مسلح. وكرر في نفسه دائما: لو كنت مسلحا لأطلق عليّ الرصاص مثلهم.
- يمآآآ أسم الله.
- صدقيني!
- نعمة فضيلة أنت سلاح سز!
- لكني رأيته أخيرا يا حبيبتي
- من هو؟
- الذي كان يعزف بعد إطلاق الرصاص.
- من من ؟
- بلعوط!
- من بلعوط هل أعرفه؟
- لا.
- جندي هو؟
- لا!!
- هل تخرف؟؟
- لا.
غير مهم الآن؛ كان يعزف على ربوة بآلة كمبوي لم يسبق لي أن رايتها قط. رأيته رأيته. وبعد العزف كان الجميع قد تطايروا ما عداي، فسألته من تكون؟ قال أنا السنطور هل نسيتني أيضا؟
قلت: وأين حيونه؟
- اووهو أنتم؟ لا أعلم!
- هل سبق لك أن سمعت بحيونه من قبل؟
- لا. من تكون امرأة تنافسني فيك؟
- هل أنت متأكدة أنك لم تسمعي بها يوما؟
- لاشيء مؤكد مذ خرجنا.
- حيونه حيونه! اووهو!!
- أأنت سكران؟
- أأنت ممن خرجوا معنا؟
- من أين خرجت.. هل تهذي يا إسحاق؟
- لا يعرف الجميع بعضهم: هذا ما تعلمناه.. عددنا عددنا..
- أي عدد تقصد؟
- كم كان عددنا؟ ستون؟!
- لست طبيعيا هذه المرة يا حبيبي. ربما أثر عليك مشهد الإعدام.
- هل أنت وحدك في السينما؟
- وحدي.
- وهل ستشغل لنا الفيلم نحن الاثنين فقط؟
- أجل.
- هل مازالت معك مفاتيح غرفة التشغيل؟
- مازالت.
- أنا خائفة!
- لا تخافي.
وبعد أن صعدا إلى غرفة التشغيل نزعت عباءتها وانطرحت على طاولة مستطيلة قرب ماكينة التشغيل حيث بدأ بتعريتها ومارسا اللعبة معا. فاهتزت البناية بعنف وهو يلج قضيبه فيها، وبدا أن ثمة سقفا قد هوى بقوة أيضا. فبقيا ملتصقين وقد توقفت أنفاسهما اللاهثة. لم يكن قصفا جويا على ما يبدو. ثم عاد الاهتزاز من جديد فانهارت سقوف اخر بعنف أشد. وسمعا صراخا بعيدا. بقيا ملتصقين بلا حراك هذه المرة. ولكن بعد لحظات شعرا بأنهما يغوصان إلى الاسفل في مكان ما. وسمع صرخة خفيفة تشبه المواء. وبدا صوت معلق الفيلم خشنا ومحشرجا في قاعة العرض. ربما ثمة عطل ما في جهاز الصوت. قالت وهي تتحسس ظهره العاري:
- لم تقل لي شيئا عن أهلك؟
- أنا جئت من جوف اداجوبا!
- أهذه ديرتك؟
- لا ادري. ربما.
- أسم غريب لم اسمع به من قبل.
- بعض الشيء.
- حدّثني عنك .. أريد أن أعرف كلّ شيء عنك الآن، لم أعد احتمل.
- بعدين!
من الصعب التأكد مما حدث، كما أن احدا من المارة بالقرب من بناية السينما لم يؤكد بأن المكان قد تعرض إلى قصف ما. كان شيئا ما يشبه الهزة الأرضية الغامضة المتواصلة ضربت المدينة من خارج الخارطة الزلزالية. وظن السكان أنه مجرد قصف لطائرات مغيرة ليلا. لكن الوثائق الوطنية تؤكد إن آخر هزة أرضية تعرضت لها البلاد حدثت في 5-4 آذار عام 1944 في منتصف الليل تقريبا في منطقة "شبكه" من صحراء السماوة. وعلى إثرها ظهرت فوهة أرضية كبيرة، حيث تطلب الامر من السلطات المحلية الحضور بعد مشاهدة عائلة بدوية لتلك الفوهة التي ظهرت لأول مرة على بعد امتار عن مخيمهم.
- كانت هزة أرضية!
- هزة!
- أجل ، كبيرة.
- لم اعد أسمع شيئا.
- طبعا.
- لم؟ هل كانت غارة علينا؟
- لا.
- ماذا إذا؟!
- لم تكوني مولودة آنذاك.
- ماذا تقصد؟
- كلّ شيء ناتج عن اهتزاز.
- كم هو عمرك أنت؟
- لن تصدقي.
- عشرون؟
- ..
- إحدى وعشرون
- ....
اهتزت الأرض وانهارت الخيام الهشة وقتذاك. ثم ظهر في إثر ذلك ثقب في الأرض لولبي كأنما عمله آكل نمل حيث انبعثت منه غمامة ترابية مفاجئة. شعر افراد الشرطة الخيالة من مكافحي التهريب الذين حضروا إلى المكان والمقيمون في نقطة قريبة نسبيا. لكن الفوهة أستمرت بالتوسع وكذلك الثقب الفاغر فاه. ربما سمع بعضهم اصواتا ما شبه بشرية من الثقب لكنهم لم يعلنوا ذلك خوفا من هياج العامة كما امرهم السيد معاون الشرطة الخيالة. وكانت الأصوات أكثر وضوحا في الليل بسبب هدؤ الصحراء.
وعند الصباح بدا أن الفوهة أكبر مما كان متوقعا فقد شملت مساحة كبيرة من الأرض . كما كان يمكن مشاهدة المياه وهي تتدفق منها مثل ينبوع نبط قديم. كان لتلك الظاهرة التي دامت شهرا كاملا حصة كبيرة من أحاديث السكان المحليين وتفسيراتهم بعد ان غادرت العائلة البدوية المكان وبقيت خيمة الشرطة قائمة على مسافة بعيدة نسبيا ترقب التطورات. ثم قامت نقطة الشرطة بمنع العامة من التقرب لأسباب غير معروفة.
يمكن تفسير تلك الظاهرة بعد أرسال احد خبراء الجيولوجيا من بغداد للأيام 17 و18 و19 من شهر أيار عام 1944 بأن ثمة كهفا صحراويا تحت الارض كان مغطى بطبقة سميكة من الترسبات الغرينية ظهر على سطح الأرض بفعل تلك الهزة المتواصلة الخفيفة. ولذلك فقد نشرت معلومات توثيقية عن تلك الظاهرة تتعلق بقطر الفوهة البالغ ثمان وتسعين قدما وعمقها ست وثمانون قدما. اما جدران الفوهة فهي عمودية ومستديرة وحجم الصخرة التي غارت أثناء الظهور (13) ونصف قدما. ثم نشرت احدى المجلات الجغرافية تفسيرات اكثر وضوحا عن عدد آخر من الظواهر في بادية منخفض السلمان لم يتنبه لها احد وعلى مسافة (350) كيلومترا مربعا.
- ما هذا الفيلم؟
- غريب؟
- لم أفهم منه شيئا.
- تعالي إلى حضني وستفهمين.
أمكن مشاهدة العائلة البدوية الشاوية التي غادرت المكان بأنها تحمل على جمل وحيد شاب بملابس خاكية: كان يبدو عسكريا هاربا من الخدمة يحمل خلفه إمراة شابة في السادسة عشرة من عمرها، اجلسها خلفه وهي ترتدي عباءة سوداء لاصفة تحت الشمس وعلى غير العادة إذ لم يكن الشاوية معنيين بتربية الجمال.
- هذه أنت؟
- هل تمزح؟؟
- لا.
- لا أصدق!
- ألم أقل لك فيلما مهما؟
كان الشرطة الخيالة في نقطة مكافحة التهريب قد لاحظوا هذين الزائرين الغريبين أيضا الذين خرجا من جوف العين في لحظة مراقبة مهيبة، ومن الصعب التأكد من انهما قد خرجا وحدهما أيضا بعد هروب مفرزة الشرطة بالقرب من تلك الفوهة. كما أشاع بعض البدو الرحل بعد ذلك في تلك المنطقة: إن أعدادا من الناس خرجوا من العين ما هم بالأنس ولا بالجن. لكنهم أناس من لحم ودم. وان الأسرة البدوية التي غادرت المكان لم تظهر في اي واحة معروفة، ولا أثر لها على الإطلاق في المناطق القريبة بعد أن بحثت عنهم الشرطة الخيالة في معظم الأماكن.
وأغلق معاون النقطة محضر التحقيق الخاص بالحفرة دون اي ذكر للإشاعات المحلية، وبحضور الخبير الجيولوجي الحكومي ملخصا الحادث الغريب: بأن ما كان هو ظاهرة طبيعية، ولم تحدث أية خسائر في الارواح او الممتلكات ومنعا للإشاعات المحلية قامت الشرطة السيارة ببحث في منطقة على مساحة (100) كيلومتر مربع ولم تجد ما يثير الشبهات. ثم خطّ بقلم قصبة اسود على غلاف المحضر: حادثة العين الصحراوية 4-5 آذار عام1944.
أما العين التي ظهرت فقد كانت في البداية حركة تموجية مباغتة لسطح لزج بلون الرماد الداكن المبتل تآكل بفعل الريح والمطر والزمن: ضع يديك على هذا الحائط - فقط -وستعرف كلّ ما كان وما يمكن ان يكون. قف، قليلا، كما كان يفعل الأولون رافعا كلتا يديك وتحسسه جيدا؛ سينتقل إليك ما لا تعرف من قبل. التصق به بقوة، وسترى، حتما سترى. تعلم من اللمس ما لا يتعلمه آخرون. ماذا تعلمتم في زمانكم إذا؟ مازلت لا ارى شيئا من تلك الدعاوى. ماذا يمكن أن يفعله تلمس حائط ؟
- فيلم لا معنى له.
- ربما.
- أنا ضجرة.
- لنكمله.
- أنت تهذي.
تشققت جدران القبة القديمة المبنية في العقد الاول الهجري بلمسة واحدة من الحركة المهاجمة، فسقطت الحجارة المرصوقة بعناية مرة واحدة فجرا دون ان يصب احد ما بأذى، ولتظهر إلى الضؤ خطاطات قديمة من الأعلى زرعت بسرية تامة أكثر من ألف عام.
لسقوط تلك الخطاطات وقع غريب على المعرفة يصعب تداركه، فقد اجتمع عدد من المعنيين باللقى القديمة والمخطوطات ساعة الظهور الاولى وجمعوها بسرعة ثم اخبرت جهات عليا بالحدث، وسرى كتمان كامل بعد ذلك. لم تلبث ان اخفيت الخطاطات بسرعة عن الاعين. وحينما توقفت تلك الحركة الغامضة اختفت الرقع تماما عن الناس كأن لم يعد لها أثرا.
حركة مفاجئة لمخلب جوفي غير مرئي لطائر أسحم يشبه الغراب مزق الروح مرة اخرى في ليل بهيم. حينما أقول روح: أعني روحنا جميعا نحن الذين خرجنا مع الخطاطات في لحظة واحدة تقريبا وسط تطاير الغبار. نحن من روح واحدة جئنا؛ وهذا أفضل ما في الامر. لكننا لم نرغير غبار متطاير حالما فتحنا اعيننا. كنا نتحدث منذ البداية إذ لم نجد ثمة احد من المخلوقين يعلمنا اللغة.
لا، لم يكن زلزالا. أبدا. للزلازل قوانينها المعروفة. لا حركة على مقياس رختر. لكن منذ أن بدأ الناس تداول الحديث والبوصلة تتحرك. بوصلتنا نحن. كان على صدر كلّ واحد منا بوصلة سوداء صغيرة مثل كائنات فضائية. رختر ساكن. لاشيء يتعلق بالجغرافيا ابدا. لاشيء يتعلق بالتاريخ المكتوب أيضا. للتوضيح. زلزلة ساعة. هي. هذا ما يحاول ان يشيعه آخرون من حفاري الخنادق والدهاليز الأرضية، العاملون تحت الأرض، من اجل ذر الرماد القديم لتضييع الرؤيا.
- العمى العمى. اي والله.
- ما بك؟!
حينما خرجنا كنا مغمضي الأعين والرمص لما يزل كثيفا مثل صمغ صومالي عتيق؛ أكثر من ألف عام نوم في جوف أرضي مظلم. احسبوها جيدا. أيّ رحم هذا؟ لم يكن رحما كان زخما من ألهوي متواصلا يطوح بنا في كلّ لحظة ولا يترك لنا لحظة للتفكير. نعترض بشدة على ما كان وما سيكون. لا يعدّ هذا الوضع عدلا. ماذا العدل سيرفع من القاموس أيضا؟ منطوون كسلاحف في قواقع صخرية ملساء. من الصعب اكتشافنا. بقينا كذلك قرونا طويلة يصعب حصرها. عد ونحن نعد.
الباحثون عن الأعمدة والكراسي الحجرية والحيطان المحترقة هناك، هم من أشاع فكرة الزلزال اولا. اما لحظة انهارت القبة الذهبية الوحيدة المتبقية، بكينا بحرقة. كان ذلك الحدث الارضي الوحيد الذي سمعنا به على أية حال على الرغم من أننا لم ندرك ماذا يعني البكاء بالنسبة لنا بعد.
نؤكد: ان لا علاقة للحركات التكتونية بتلك الانهيارات المتواصلة مرة اخرى. اما نحن فلم نطلق اصواتا مبهمة كما كان يفعل غيرنا، ولم نشهق بصوت احتجاج واحد؛ كان بكاء صامتا من النوع الذي يقوم به الكهنة في المعتزلات الجبلية البعيدة. أسألوا بحيرى إن كنتم لا تعلمون. ليس في هذا العصر ولا ذاك العصر تعرف الأصوات. نحن من نهرق الدمع في الليالي الماطرة وحيدين مشردين وغرباء. هكذا تعلمنا من العين الكبيرة كلّ ما كان وما يكون: أن نصمت وان نعمل بصمت. لا احد مثلنا. عمر كلّ واحد منا ألف عام أو يزيد. وكلما غصتم في الامر اكتموا. أيها العدّادون. وما كتمنا كل ما نعرف وها نحن هنا.
- لم يكن فيلما.
- ماذا كان إذا؟
- لا ادري.
- من يعرف ما جرى؟



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبولة محمود درويش
- فوبيا هب بياض
- تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السادس:بغا ويوسف
- تلال القادم/رواية فانتازيا/ الفصل الخامس: احافيرهووووو
- تشظي الدكتاتورية، تطبيقات الشرق الاوسط الجديد
- تلال القادم/رواية فانتازيا الفصل الرابع
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الثالث
- عدميات
- صلاح شلوان:عالم الميناتور في ميسان
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الثاني
- الواقعية القذرة العربية.. آتية؟
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الاول
- مراجعات غير مطمئنة لعالم محمد خضير( محنة الوراق)
- لم يتبقَّ لدى نوح من ينقذه
- بانوراما ليل سعدي الحلي
- عجز مكتسب: قفص حديد امن البصرة
- على ماذا يراهن المالكي في الانتخابات القادمة؟
- زخرف: ملحمة ظهور محمود البريكان مؤخرا
- الأدب السرياني العراقي دليل مضاف على وحدة الثقافة العراقية ا ...
- تعليم الببغاء صوت إطلاق الرصاص


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - تلال القادم/ رواية فانتازيا/ الفصل السابع:الخروج