أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - جهاد علاونه - كانت أمي2















المزيد.....

كانت أمي2


جهاد علاونه

الحوار المتمدن-العدد: 2889 - 2010 / 1 / 15 - 16:02
المحور: ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
    


كان وجه أمي وما زال مثل التفاح أومثل ورقة عبّاد الشمس ,وخصوصاً حين تبكي أو حين تخافُ علينا يحمر نتيجة تعرضه للأحماض المختلطة بدموعها, فأحياناً يصبح أحمرَ.. أحمرْ.. وأحياناً برتقالياً, واليوم يتأثرُ لون وجهها بمؤثراتٍ جديدة مثل السكر الذي تعجز غُدة البنكرياس عن تمثيله في الدم أحسن تمثيل, وبضغط الدم الطالع والنازل وبمشاكل القرحة في الإثنى عشر...إلخ.

وكانت أمي أثناء النهار تمشي في قاع الدار مثل الدجاجة وفي الليل مثل القطة تنقلنا من مكان إلى مكانٍ آخر في فصل الشتاء ,وفي فصل الصيف حين نرفض أن نذهب للفراش وننام خارج غرفتنا على حجرها أو بجانبها أو على عتبة البيت أو في منتصف الجلسة أمام الناس أثناء السهرات الصيفية (التعليلة) فتحملنا واحداً تلوى الآخر إلى فراشه وهي تقول : الله يسعدهم قطعوا ظهري من ثقلهم , الله يرضى عليهم هدوا حيلي الله يحفظهم ويخليهم أتعبوني ضيعت عمري معاهم , وأبي يتعالى شخيره , وكنتُ أشاهد إخواني الأصغر مني وهم يمشون خلفها مثل الصيصان , فإذا توقفت لتتزود بالماء أثناء مسيرها يتوقفون معها ويطلبون منها كوب الماء ويشربون قبلها وكنتُ أسمعها وهي تقول : ول ما بتعطشوا غير بس اتشوفوني بدي أشرب ؟ فتسقيهم من كوبها وهي تقول (اسم الله عليكوا على مهلكوا ) وحين يرتوون تطبُ بيدها على ظهورهم وهي تقول (صحه) وإذا مشت بسرعة مشوا خلفها بسرعة وكانت هذه العادة تعيق حركة أمي أثناء عملها لأنها كيف ما (كيفما) توجهت كانت تصطدم بهم وهم إما أن يكونوا خلفها وإما أن يكونوا أمامها وإما أن يكونوا بجوارها على جانبيها من اليمين أو اليسار لذلك كانوا يتسببون لها في كثير من الإصابات كأن تتشركل بثوبها فتقع على الأرض فيضحكون عليها بدل أن يقدموا لها المساعدة , وإن جلستْ جلسوا بجوارها وإن ذهبت للنوم ذهبوا ليناموا بجانبها وإذا جلست على حافة البئر جلسوا في حجرها وإذا فتحت باب البئر لترمي نفسها فيه من شدة القهر يلحقون بها وإذا أقفلته يقفلون خلفها عائدون , لقد كانت أمي ذات مرة تريدُ أن تلقي بنفسها في قاع البئر ولم يثنها أحدٌ عن فعل ذلك حتى أن أبي كان يجلسُ قبالتها ولم يتحرك له أي ساكن , ولكن صراخ أخي وأختي الأصغر مني منعوها من أن تموت فقررت أمي أن تعيش من أجلنا جميعاً وأن تنسى قصة البئروالإنتحار.

وأذكرُ سنة 1978م حين أرادت أمي أن تغضب (تحرد – تزعل) في بيت أهلها أخذ أبي أخي الأصغر مني وكانت أمي متعلقة به جدا وفتح باب البئر وقال لها وهو ينزله ويدليه من يديه في البئر : إذا ما ابترجعي هسع بدبه...بزته.. في البير(البئر) , وأخي أخذ يضحك وهو ينظرُ إلينا ويقول : ياي ..ياي ..بدي أطيح ألعب بالبير ,معتقداً أن أبي يلاعبه ودموع أمي وجدتي يتساقطن مثل الدرر أما أنا فقد انكمش جسمي خوفاً ورعباً من هول المشهد وبالنسبة لأمي تغير لونها مثل ورقة عباد الشمس و هاجت وماجت وكانت ترسلُ بيديها إلى أبي وكأنها غريقة تطلبُ منه النجدة بلسانٍ غير قادرٍ على الحركة ,وارتمت على التراب وتمرغت به كما تتمرغُ الدواب حين تريدُ أن تحك جسمها بالأرض أو حين تريد أن تأخذ حماماٍ شمسياً مخلوطاً بالتراب ,أما نساء الحارة اللواتي شاهدنها فقد وصفن أمي بقولهن : صارت ترقص على الأرض مثل الطير المذبوح, لقد هاجت أمي وماجت مثل مشهد الجبال يوم القيامة أو مثل زلزال (سان فرانسيسكو) واستيقظت حارتنا كلها على صراخها واندفع الناس من كل حدب وصوب وتوسلت أمي لأبي بكلماتٍ غير مفهومة لأن لسانها انعقد أو أصبح ثقيلاً من هول المشهد في أن يترك أخي ولكنه أصر على إلقاءه بالبئر إن لم تعد إلى المنزل ,وفعلاً كان لأبي عقلا استخدمه دون قلبه يقدر أو يستطيع أن يلقي بابنه في البئر مثل الأسد الذي يأكل أشبال اللبؤة لكي تنساهم وتتفرغ له , وما زالت أمي تهيج وتميج وكأنها أمواج صوتية وفي النهاية قالت لأبي : كلشي بدك إياه بصير ما راح أفتح ثمي(فمي) بأي كلمه , ورد عليها : هذي المره عندك علم ثاني مره برميهم كلهم بالبير بدون علمك, وأخي الصغير الذي كان يبلغ 4 سنوات كان يضحك ويلعب وهو يقول : كيفت وانبسطت أبوي بده ينزلني في البير وقال لي : إنت أبوي ما كانش بده ينزلك بالبير بس أنا نزلني , وكان بذلك يعتقدُ أنه محظوظ وأنا غير محظوظ ,وأمي تتمرغ بالتراب لقد كان مشهداً مؤلماً بالنسبة لي ولو وضعت الشمس في يمين أمي والقمر في يسارها وأجلستها على كرسي الخلافة لما وفيتها حقها في ذلك اليوم , وحين ترك أبي أخي ركضت أمي بسرعة الصاروخ والتقطت أخي من أمام باب البئر وبدأت تقبله على وجهه بل بدأت تأكله من شدة البوس (القبل ) فكانت عدد القبلات تتساوى مع عدد الدموع الساقطة منها وركضت نساء الحارة إليها وأخذن أخي منها خشية أن يموت بين يديها من كثر التقبيل ومن شدة التحضين (الضغط) على ظهره حين ضمته بقوة 100 حصان إلى صدرها , ومنذ ذلك اليوم أصبحت التضحية من أجلنا درساً تأخذه أمي كل يوم من تصرفات أبي , ومنذ ذلك اليوم بدأ أبي يحافظ علينا كورقة رابحة في جيبه للسيطرة على أمي فكلما أراد منها شيئاً هددها بنا جميعاً وفتح باب البئر.

وكانت أمي مثل رمح القصيب أو الخيزرانة التي تنثني من قوة الأحمال ولا تنكسر , وكانت أمي بعد طلوع الشمس تطلع من أجل أن نبقى نحنُ نائمون وكانت في فصل الشتاء لا تنامُ في الليل على الإطلاق لأن سقف البيت المصنوع من القُصيب (الرماح) يسمح لحبات المطر من النزول علينا وعلى أغطيتنا ونحنُ نيام , فكانت تسهر طوال الليل وهي تراقب (الدلف)حبات المطر فتلاحقها بالصحون أو بوعاء كبير أو صغير فتضع فوق رأسي صحناً لكي تنزل فيه حبات المطر وفوق رأس أختي وأخي وكل إخواني وكانت أحياناً تلك العملية لا يمكن أن تمنع حبات المطر من الوصول إلى وجوهنا ونحن نيام فكانت تضطرُ طوال الليل لتعمل عتالاً يحملنا من غرفة إلى غرفه ومن سرير إلى سرير وكان أبي على الأغلب ينام في المكان الذي لا يسقط فيه المطر عليه فيسمح للأصغر مني في أن يشاركه فراشه , بينما أمي تبقى طوال الليل تنقلنا من مكان إلى مكانٍ آخر وكان شخير أبي يتعالى وخصوصاً إذا أخذ حبة (فاليوم- مُنوّم) لقد كان أبي في كافة المواقف الصعبة يأخذ حبة (فاليوم – منوم) لينام مرتاح البال , بينما أمي تتنشط من جديد, ولم تكن أمي الحنونة تقبل أن توقظ أحداً منا من نومه لكي لا نخسر لذة النوم لذلك كانت تحملنا بين يديها كالقطة التي تحملُ أولادها من جحرٍ إلى جحر ومن أرضٍ مبتلة بمياه المطر إلى أرضٍ ناشفة , وكانت جدتي تدخلُ علينا لتطمئن على أبي ابنها فتقول أمي لها (سبحان الله يا عمه المكان اللي بنام فيه أبو جهاد مستحيل ينزل فيه الدلف) فتنظر جدتي لأمي وتراقبها وهي تحملنا لتقول لها : والله إنك مثل القطه اللي شايله أولادها من حاره لحاره ) فترد أمي عليها وتقول : هاي الله وهاي حكمته ,وكنا نسمي المطر الساقط من سقف البيت علينا (دلف) فكانت غرفتنا التي ننامُ فيها تدلفُ علينا طوال فصل الشتاء وكانت أمي طوال فصل الشتاء تقفُ وكأنها جندي في وظيفة حراسة , لقد عملت أمي حارسا ليلياً في غرفتنا لكي ننام نحن... ونحنُ مرتاحون البال .

كانت أمي مثل النار تشتعل علينا أو تشتعلُ فوق رؤوسنا حين لا نجدُ في فصل الشتاء مدفئةً وكانت أمي تعملُ لنا في فصل الصيف مروحة تهبُ علينا بنسمات عليلة , وكانت أمي تعملُ لنا طباخاً وكانت أمي تعملُ لنا غسالة تغسلُ بيديها ما نتركه لها متسخاً , وكانت أمي تعملُ لنا طبيباً في كل يوم فقبل أن ننام كانت تمرُ علينا واحداً واحداً تتحسسُ وجوهنا وجباهنا لتبحث عن أي حرارة زائدة في أجسامنا لتقول : الله يوخذنا الولد عليه حراره , وأحياناً تقول : الله يقطعني البنت نامت بلا عشا , ومرة كنتُ أسمعها تقول : ول ول ول عليّ أنسيت أعطي الولد دوى القحه.

لقد كانت أمي في كل يوم إذا نسيت شيئاً يخصنا تبدأ بتوجيه اللوم والشتائم والسباب لنفسها ولم تكن تسمح لضميرها بأن لا يحاسبها لقد كان ضمير أمي يقضاً ويحاسبها على أقل هفوة في حقنا أو حق أبي أو جدتي , الكل يحترمها والكل يعترها نبطشي المنزل أو ضابط المنزل لقد كانت أمي فعلاً كضابط الإيقاع في الفرقة الموسيقية مسئولة عن أي نغمة شاذة والكل يحملها مسئولية أي شيء والجميع لا يتحمل أي شيء , وكانت جدتي تحبها جداً ربما لأن أمي لم تكن تقولُ لها كلمة (لاء) وكنتُ أشاهد علاقة حميمية بين أمي وجدتي فجدتي تعتبرها ركناً أساسياً من أركان المنزل وخصوصاً بسبب تضحيات أمي من أجلنا .

وكانت أمي طوال النهار ساطعة مثل أشعة الشمس وكانت في الليل نجمة يستدلُ بنورها المسافرون عبر الزمن إلى زمنٍ آخر لا تنتهي فيه قصص الظلم والطغيان والموروثات الدينية.



#جهاد_علاونه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وزارة الثقافة الأردنية دون بيان الأسباب
- كانت أمي1
- لو تعتنق أوروبا الإسلام
- كان أبي
- سيرة أمي المرضية
- أمي على مائدة الطعام
- اللغة السريانية والمسجد الأقصى
- الخلفيه الثقافيه
- الحياة العامة في الأردن3
- العلاج بالقرآن الكريم
- من نوادر البخلاء
- بيت الكرم1
- كيف أصبحت الأنثى امرأة؟
- وجه الشبه بين زوجتي والحكومة الأردنية 2
- مثقف أردني يحكي قصة اضطهاده2
- مثقف أردني يتحدث عن نفسه2
- ضك الجينز
- المرأة مصنع الرجال
- المخلوق العجيب
- تحديد النسل من وجهة نظر سياسية


المزيد.....




- ريموند دو لاروش امرأة حطمت الحواجز في عالم الطيران
- انضموا لمريم في رحلتها لاكتشاف المتعة، شوفوا الفيديو كامل عل ...
- حوار مع الرفيق أنور ياسين مسؤول ملف الأسرى باللجنة المركزية ...
- ملكة جمال الذكاء الاصطناعي…أول مسابقة للجمال من صنع الكمبيوت ...
- شرطة الأخلاق الإيرانية تشن حملة على انتهاكات الحجاب عبر البل ...
- رحلة مريم مع المتعة
- تسع عشرة امرأة.. مراجعة لرواية سمر يزبك
- قتل امرأة عتيبية دهسا بسيارة.. السعودية تنفذ الإعدام -قصاصا- ...
- تحقيق: بلينكن أخفى بلاغا بانتهاكات إسرائيلية في الضفة قبل 7 ...
- تحقيق: بلينكن أخفى بلاغا بانتهاكات إسرائيلية في الضفة قبل 7 ...


المزيد.....

- جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي / الصديق كبوري
- إشكاليّة -الضّرب- بين العقل والنّقل / إيمان كاسي موسى
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- الناجيات باجنحة منكسرة / خالد تعلو القائدي
- بارين أيقونة الزيتونBarîn gerdena zeytûnê / ريبر هبون، ومجموعة شاعرات وشعراء
- كلام الناس، وكلام الواقع... أية علاقة؟.. بقلم محمد الحنفي / محمد الحنفي
- ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر / فتحى سيد فرج
- المرأة والمتغيرات العصرية الجديدة في منطقتنا العربية ؟ / مريم نجمه
- مناظرة أبي سعد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي ببغداد ... / محمد الإحسايني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - جهاد علاونه - كانت أمي2