أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)-23















المزيد.....

أسير العبارة (رواية)-23


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2887 - 2010 / 1 / 13 - 01:21
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الذي علم بالقلم،
علم الإنسان ما لم يعلم
25/11/1991م
أمدرمان

الأخ المفضال حامد عثمان حامد


لم يكن عادل سحلب يرتشف كأساته. كان يتجرعها. المسافة ما بين الكأس والأخرى قصيرة. يتناول الكأس، يرمي بها إلى فمه، هناك يُبقي بقاياها الأخيرة للحظات، يدفعها نحو جوفه مغمض العينين، يهز رأسه صوب اليمين وصوب اليسار بشدة، ينفث آهة حرى في الهواء، تنفرج أساريره قليلا، قبل أن يفتح عينيه باحثا عن سيجارته المشتعلة دائما، ويواصل ما انقطع من حبل الكلام بلذة، ونادرا ما يصغي، وإن فعل يبدو كمن يتزود مكرها بوقود لا بد منه للمواصلة في حديث آخر. حاسة الاستقبال لديه ضعيفة. أتصور أحيانا أن وظيفة مذيع نشرات اخبارية قد تكون ملائمة له. لقد أوقعه حظه العاثر أخيرا في وظيفة غاسل أطباق في مطعم مزدحم على مدار الساعة. مهنة لا تهب شيئا من سعادة إلا إلى أولئك الأشخاص من ذوي الحوارات الداخلية الصامتة. ربما كان الصيني كرفيق سكنى خيارا من جانب عادل سحلب على قدر عال من الذكاء. كان بمثابة صندوق نفايات ملائم لاستقبال خواطر عادل سحلب المختزنة طوال زمن الوردية. يبدو لي أحيانا أن ما يُبقي الصيني الصامت على صبره أن عادل سحلب ظل يدبج كلامه بالكثير من أسماء مشاهير السياسة في الوطن. ما كان يسمع عنه الصيني بكثير من الرصانة في سياق إذاعة نشرات "هنا أمدرمان" إذا هو يتحول في حكايات عادل سحلب القاهرية إلى شخص من لحم ودم يركب مع عادل سحلب "الترماي" في طريقهما إلى "ميدان العتبة" لشراء ما يسميه عادل سحلب "لوازم إنسانية" مثل "بعض الملابس الداخلية ماركة رويال". الحق، كان يسعدني كذلك أن أنصت إلى مثل تلك القصص ذات "اللوازم الإنسانية". كان هناك وزير سابق، لا أذكر اسمه الآن، "يعشق الرقص على الإيقاعات الغربية الصاخبة"، يقول عادل سحلب، لكنه يخاف على صورته العامة من أن تهتز أمام العالم، كان يفعل ذلك سرا أثناء تقلده للوزارة، يقول لسكرتيرته العجوز المعينة من قبل الحزب إن عليه أن يعمل في بعض الأوراق الهامة قبل اجتماع مجلس الوزراء القادم، "لا زيارات اليوم"، قبل أن يتأكد أنه أغلق باب المكتب من ورائه يلتفت نحوها قائلا "تؤجل كل المواعيد المسبقة". كان ينفق ساعات طيبة من الرقص. المزاج معتدل، الهواية مشبعة، والصورة مصانة. ما إن يغادر المكتب، بوجه عليه آثار الاعياء، وفي داخله رغبة قوية في النوم بأسرع ما يمكن أن تدركه سيارة تتقدمها عربة خاصة من الحرَّاس، حتى تبتدره السكرتيرة كما تفعل في كل مرة قائلة "حفظكم الله يا سيادة الوزير لخدمة الناس والوطن".
كان من عادات محمد شكري في المغرب أن يذهب إلى المقابر ويكتب. بدأت أتقمص في القاهرة نفس العادة. لم أكن أكتب. فقط أتجول بين قبور "مصر القديمة" من حين لآخر. أحيانا كانت تملأ أنفي رائحة قوية. ثمة شخص لم تمض على وفاته الكثير. أحيانا أخرى كنت أصادف أفرادا يترحمون على من في قبر أوآخر. الأثرياء منهم كانوا ينادونني برجاء ليمنحونني شيئا من المال. لا بد أن حالي وقتها كان يرثى لها. الناس طيبون أمام سلطان الموت. الفقراء في بعض الأحيان يحضرون معهم مصاحف إضافية ينادونني بتوسل لأقرأ على أرواح موتاهم سورة يسن أوالإخلاص والمعوذتين معا نحو تسع وتسعين مرة. كنت أتظاهر بالقراءة ريثما يفرغون بعدها لتوزيع الطعام البسيط الذي بحوزتهم. ذات مرة، اقتربت كثيرا من رجل في منتصف السبعين، كان منهمكا في تصفية حسابات غريبة مع قبر حجري مصمت إلى الدرجة التي لم يشعر معها بوجودي. سمعته يقول "أنا لا أعفو عنك، لأنك انتحرت في نصف عمر أبيك، فعلت ذلك لأمرين: لتتركني متسولا الناس في عمر لا أقوى فيه على عمل شيء ما، ولأنك تعلم أي عذاب يمكن أن يصيب المرء حين يرى أمامه فلذة كبده ميتا". كنت قد بدأت أكون تدريجيا معرفة واسعة بعالم تلك القبور. كان هناك بعض القبور لا يزورها أحد. قرب هذه القبور، كنت أعيد ترتيب عالم المنفيين الغرباء في القاهرة عشرات المرات. هناك بدأت تختمر في ذهني فكرة الاحتفال بعيد ميلادي التاسع والعشرين. هناك نصبت فخا محكما لفتاة جريحة تدعى "مها الخاتم".

الأجندة:

- تأمين.
- مالية.
- تنظيمي.
- سياسي.
- أخرى (بلاغ، نقد ذاتي).
- ثقافي.

أخيرا، آن للمنفي الغريب أن ينظر إلى المدينة من عل. عثرت وقتها على وظيفة مساعد باحث في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ليس هذا فحسب. بدأت أراسل مطبوعات عربية عديدة مقابل مبلغ جيِّد من الدولارات والدراهم أحيانا. التعقيد، الغموض، تضمين أسماء أجنبية في سياق كتاباتي، كل ذلك بدا بمثابة جواز مرور لا غبار عليه إلى تلك المطبوعات. "حسب استعارة لويس ألتوسير بالغة الدلالة، تلك القائلة (كالبط، يحاول الركض حتى بعد قطع رأسه)". "يعلق وليم كوستنر على مثل هكذا تمفصلات جيوسياسية حين غزا الجيش الأحمر براغ قائلا (الاتحاد السوفيتي جبار، ليس صراخه إلا تغطية لفقدان ذكورته)". "نسبر جدلية هذا النصّ وفق مقولة رولان بارت (الايحاء هو نمو نظام ثان من المعاني)". كان لمثل هذا النهج وقع السحر على القائمين على أمر تلك المطبوعات. الأدهى من كل ذلك لحظة أن ألجأ إلى مقتطفات من ميشيل فوكو قام بنقلها إلى العربية مترجم رديء. كانت المقابر ولا تزال توحي لي بالكثير من الأفكار الشيطانية. حين نجح الأمر هناك، بدأت أمشي وسط المنفيين الغرباء بعبارات بدت لهم دائما كما لو قُدت من طلاسم ديانة سرية. كنت أستفيد من هذا (الابهار) لتغطية قصوري أمام مخضرمين ولدوا وترعرعوا في مستنقع المناورات السياسية وحيلها التي لا تنتهي. أقابل مثلا قائدا نقابيا سابقا. أتصيد حديثة بدقة لأضع بمهارة مثل هذه المقولة لكولون ولسن "لقد تحول كل من فان جوخ ونيتشة إلى شعلة متوهجة من اللا انتمائية، ولكن أكثر اللا منتمين لا يتحولون إلى أكثر من جمرة خابية، فلا ينتجون إلاّ بعض الدخان الأسود يلطخهم ويلطخ كل من حولهم". كنت أشعر بعدها كما لو أني أكبر على أنقاض حسرات جهلهم الكظيمة. ولو أن أحدهم تجاوز معي وقتها حدود تلك العبارات، لتهدم معبد المعرفة الزائفة على رأسي بلا شفقة، لكنه ذلك الخوف الكامن في دواخلنا من السؤال عما لا نعرفه خشية أن يكشف ذلك عن جهل نبذل ما في وسعنا لإخفائه عبر الصمت أحيانا.
"أتدري.. كلما أقلب الذاكرة أجد صورة زهنية زاهية لحامد تجسد شخصا تعودت أن أراه مبتسما، حتى إذا غضب يغضب وهو يبتسم. ولو قُدِّر أن أفتح قلبه لوجدته بلا مضغة سوداء... عهدتك رجلا عامر القلب بالإيمان. ذو عزيمة قوية، مجاهدا يجاهد النفس جهاد من لا يرضى بغير النصر. فهل أنت على ما كنت عليه. أم أنك بدأت تهتز أمام الرياح. أحب أن أراك كما كنتَ.
أحسست من خلال رسالتك الأخيرة بالتغير الواضح الذي طرأ عليك وأنا نفسي من أكثر الذين يحبون الحركة والتغير. لأن الركود والثبات يشعرانني دائما بأن الزمن لا قيمة له وأن الكون في ثبات وأحس بالتالي بأني مثل الجماد فلا فائدة إذن لبقائي... فالتغير والحركة "وهي طبيعة الكون" يشعران الإنسان بمعنى الوجود ولكن يجب أن لا يُنْشَد التغير حبا في التغير، فقد يكون للأسوأ وقد يكون للأفضل، وهو المطلوب.
أعود إلى رسالتك: فيها رائحة التغير. فقد تغير أسلوبك في الكتابة تغيرا جوهريا. وإزدادت ثقافتك بصورة واضحة وبدأ أسلوب "الصحفي" جليا من خلال العبارات وتمازجها ولا أغفل العمق الذي كُتبت به الرسالة فلك التهنئة الحارة ومزيدا من التقدم ومسيرة الجهاد.
ولكني حزنت يا أخي حامد، أتدري لماذا؟.
أحسست لسبب سأذكره بأن حامد لم يعد ذلك العامر القلب بالإيمان "أتمنى أن يكون ذلك الإحساس كاذبا" ولكن هكذا بدأت أحس منذ أن وقعت عيناي على بداية الرسالة. كانت الرسالة مبتورة. بمعنى أنك لم تفتتحها بالبسملة أوبأي عبارة فيها إسم الله لماذا؟. لا تقل لي أن هذا أسلوب جديد في إفتتاح الرسائل. ولا تقل لي أن من يكتب البسملة يعتبر "تقليديا" في كتابة الخطابات. ولا تقل لي أنك زكرتها سرا "منطوقة" (أقلب الصفحة) ثم شرعت في كتابة الرسالة. كل هذا غير مُقنع، فنحن على الأقل السودانيين إن لم أقل المسلمين، نبدأ رسائلنا بسم الله والثناء على النبي وهذا لعمري نعم الموروث الأدبي عن أسلافنا.
هل هذا يكفي مبررا يجعلني أن أقلل من إيمانك. بالطبع لا. ولكن هناك عبارة خطيرة وردت أيضا بالرسالة، ألا وهي طلبك مني التحدث في بعض القضايا مثل الحياة- المرأة- الحب- الصداقة... "الله".
هكذا فجأة وقفت وفاجئني إسم الجلالة "الله". حامد يود أن نتحدث بعضنا البعض عن "مشكلة الله"- إسم كتاب لزكريا إبراهيم- هذا شيء أنكرته منك. لأن حامد ليس بحوجة في أن يبحث عن الله. فلو كان وجود الله في قلبك مثل ما كان موجود في السابق لما تبادر إلى ذهنك التحدث عنه...
ألست على حق فيما ذهبت إليه من أن حامد قد أُصيب إيمانه بهزة. أم أنك بدأت تغوص في كتب الفلسفة. هذا أمر جيِّد ولكن أحذرك من تناول هذه القضايا بمفردك. مصر فيها خيرة العلماء إذهب إليهم فلاسفة ورجال دين وأهل ذكر.
أنا آسف يا أخي حامد. فقد بدأت رسالتي منصِّبا نفسي ناقدا لك وموجها. ولكن هل تعتقد إن لم يكن يهمني أمرك أقول مثل هذا الحديث؟ لا والله. فأنت ما زلت الأحب في قلبي من بين الأصدقاء والإخوان. ولكن مشاغل الحياة حالت دون...
بعد هذا أستطيع أن أبدأ رسالتي إليك".



#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 24
- أسير العبارة (رواية)- 17
- أسير العبارة (رواية)- 15
- أسير العبارة (رواية)- 16
- أسير العبارة (رواية)- 14
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10
- أسير العبارة (رواية)- 11
- أسير العبارة (رواية)- 12
- أسير العبارة (رواية)- 13
- أسير العبارة (رواية)- 1
- مرثية للطيب صالح
- إني لأجد ريح نهلة


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)-23