أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - الشاعر خارج النص:الفصل الخامس















المزيد.....



الشاعر خارج النص:الفصل الخامس


عبدالكريم كاصد

الحوار المتمدن-العدد: 2860 - 2009 / 12 / 16 - 13:41
المحور: الادب والفن
    


تأليف: عبدالقادر الجموسي

عن الحب و شياطين أخرى

تأملات في الوطن و المنفى/ (في محاورة ادوارد سعيد)


* عبد الكريم، من يتأمل سيرتك الذاتية و الإبداعية، على النحو الذي دأبنا عليه في هذا الحوار، سيجد أنها ظلت محكومة بثنائية ملازمة، أقصد بها ثنائية البيت/الطريق، والوطن/المنفى. ما الوطن في تجربة الشاعر عبد الكريم كاصد؟
** لم أكن أتصور أن علاقتي بالوطن ستكون بمثل هذا التعقيد. حين غادرته استحال فجأةً ذكرى بعيدة، مثلما استحال مستقبلاً بعيداً أستحضرهما كأنهما مظهران لشيء واحد. فماذا أفعل بمستقبلٍ لا أدري متى يأتي؟ وماذا أفعل بماضٍ لا أدري متى ينتهي؟ لم أكن أريد من المستقبل غير أن يكون ماضياً، فإن لم يكن فليكن إذن مستقبلاً لا يريده المنفيّ غير مسرح يدخله متفرّجاً لا ممثلاً وقد أتعبته الأدوار وضاق بالتمثيل، وأصوات ممثليه العالية بعد أن اعتاد صمت المنافي وضجيجها الذي لم يكن مهلكاً، كما في وطنه الذي عاد إليه ليشهد أن المتفرج هو الضحية والممثل هو الجلاد و أنّ للفرحة شعائرها السوداء.
كان الماضي بعيداً والمستقبل بعيداً، غير أن ما يحدث الآن لا يمكن تصديقه: كيف يكون الحاضر بعيداً؟
مرّتين عدت إلى الوطن وفي كلّ مرّةٍ يزداد الحاضر ابتعاداً، وقد يبتعد أكثر. ما الذي يتبقّى لي عندئذٍ وقد فقدتُ ماضياً ومستقبلاً وها أنا أفقد حاضراً؟

* في كتابك "أحوال و مقامات" أفردت فصلا خاصا للتأمل في الوطن و المنفى. أود لو تضيء لي، وللقارئ طبعا، بعضا من العبارات الواردة في الكتاب و التي تحتاج إلى إفاضات منك وخصوصا أن هذا النص بالتحديد يشتغل على اللغة الاشارية الصوفية.
"سعادة المنفي النسيان، لكن أنى لذاكرته أن تنسى".
"حين يكون الشعر وجودا، فكل مظهر للنسيان عدم".
"ليس الطريق إلى المنفى معبدا بالوطن".
"ما أكثر المرايا في منفاي".
"الشعر دفاعي الوحيد في المنفى".
"أيكون العراق القادم منفى آخر؟"
** كتبت هذه العبارات منذ أكثر من عقدٍ تقريباً. ولولا لغتها الإشارية لما بقيتْ حتى هذه اللحظة. هل لأنها تشير إلى نفسها وليس إلى شئ آخر؟ أم إنّ هذا الشئ الآخر كان غائباً أو صار غائباً أو سيكون غائباً؟ لا أريد أن أعود إليها وقد أصبحت حرّة تشير إلى الاتجاه الذي تريده. لندع إذن هذه العبارات تبتهج بنفسها بعيدةً عن فضولنا وقد ابتعدت بالفعل عنّا كثيراً.

* تحضرني في هذا السياق صورة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي استطاع أن يجعل من وضعه كمنفي حالة للتأمل العالي، كما استطاع أن يحول تجربة المنفى إلى تعبير و معنى. كيف تقرأ تجربة هذا المفكر العربي على ضوء تنظيراته الرفيعة و المتعددة لمفهوم الشتات وانتصاره للمهمشين و للجماعات المضطهدة في العالم بنحو نصب هذا الموضوع في قلب الجدل العالمي، سواء الأكاديمي أو السياسي؟
** بين مقاله الأول المنشور في مجلة "مواقف" في الستينات والخاص بإشكالات الثقافة العربية، وكتابه الأخير (الإنسية والنقد الديمقراطي) مسيرة فكرية طويلة وصراع مرير لم تزل تأثيراته قائمة حتى الآن، ولعل من أكبر إنجازات هذا الفكر هو حضوره في قلب الجدل العالمي الأكاديميّ والسياسيّ معاً، لا بصفته فكراً تأمّلياً حسب وإنما بصفته فكراً مغيّرا أيضاً. وتبقى طروحاته المتعلقة بالاستشراق، مهما اختلفنا حول تفصيلاتها، صحيحة إلى حدّ ما، حتى إننا نستطيع أن نطلق عليها ما عبّر عنه إدوارد سعيد نفسه يوماً بمفهوم: البداية، في مقالة له بعنوان: (تأملات حول البداية) التي تتلمس تأثيراتها لا في الحضور في الأجواء الأكاديمية والدراسات الاستشراقية الحاضرة وإنما في بعض الكتابات التي تشكل علامات بارزة في الثقافة المعاصرة ككتابات تودوروف وآخرين .
هذا المنحى قد يمتدّ إلى مجالات أخرى.. إلى حفرٍ آخر في البنيات المستقرّة التي تبدو مكتملة غير أنها تحمل عناصر تفكيكها بانتظار من يقوم باكتشاف هذه العناصر. وإذا كان سعيد لم ينقطع عن ممارسة النقد في المجال السياسيّ الذي ظلّ مواظباً في تناوله من خلال مقالاته الجريئة المتواصلة عن الوضع العربيّ الراهن إلاّ أننا لم نتلمّس مثل هذه الممارسة في الجانب الثقافيّ، إذ لم نجد، في كتاباته اللاحقة عن الثقافة العربية، ما يشعرنا بذلك الامتداد الفاعل لمقاله الأول المنشور باللغة العربية في "مواقف" في الستينات والذي يتناول فيه بنية الثقافة العربية وإشكالاتها.
قد يرجع ذلك إلى انشغالاته الأخرى التي أخذت جانباً كبيراً من وقته: المثقف والسلطة، المثقف والمنفى، المثقف والقيم الإنسانية، الانشغالات السياسية، وغيرها من الموضوعات الأخرى بالإضافة إلى شاغله الأساسي: الاستشراق، مما جعل كتاباته عن الثقافة العربية تقتصر على مقالات تقريضية أشك في قيمتها الثقافية وهي لا تعدو أن تكون كتابات أقرب إلى المجاملات منها إلى المعرفة الدقيقة بالأعمال المتناولة وعلائقها بمحيطها الثقافيّ.

* محاورة إدوارد سعيد تفضي بنا إلى مساءلة وضع المثقف في عصر تبدلت منظومة قيمه ورهاناته و الوضع الاعتباري لمثقفيه و مبدعيه. كيف يمكن للمثقف اليوم أن يعيد ارتباطه برهانات مجتمعه في المرحلة الراهنة و أي نوع من الخطاب يمكنه أن يعتمده في نشر القيم الإنسانية بأنجع السبل الممكنة؟
** يواجه المثقف إشكالات عديدة: لعلّ أهمها الموقف من ثقافته والثقافات الأخرى، الموقف من السلطة، الموقف من المجتمع، الموقف من القيم الإنسانية، وهي مواقف متشابكة ولا يمكن الفصل بينها. فإذا أخذنا موقف المثقف من ثقافته والثقافات الأخرى نجد أننا إزاء إشكالية حقيقية تتعلق بالثقافة ومحاولة عزلها وكأنها ظاهرة مستثناة من بين الظواهر الأخرى، بمنأى عن أي تأثير قادم من خارجها: هل هي ظاهرة استثنائية حقا؟ هل ظاهرة الاستيراد التي شملت السلع لم تشمل الثقافة نفسها؟ هل نحن منتجون ثقافيون أم مجرد مستهلكين؟ هل استطعنا حقّاً أن نستوعب الأفكار التي استعرناها من الثقافات الأخرى لنتمثلها و بالتالي أن لا نعيد إنتاجها مشوهة بل أن نتجاوزها إلى ما هو أعمق في التعبير عن واقعنا وذواتنا معا؟
ما زلنا نردّد كالببغاوات ما يقوله الآخرون وكأنه كتاب سماويّ. كم لدينا من كتابٍ سماويّ؟ وفي استيعابنا، فرضاً، الثقافة الأوربية هل استوعبنا هذا المجهول في الإنسان واللامنطقي لإضاءته بالتفكير لا بإلغائه باسم العقل، مثلما طرح ما يشبه ذلك إدوارد سعيد نفسه في مقالته في مواقف التي أشرتُ إليها.
لعلّ سؤالك عن إعادة الارتباط برهانات المجتمع ليس بعيداً عمّا طرحناه، ففي الوقت الذي يتكلم فيه إدوارد سعيد، في أحد حواراته، عن امتزاج النص بما حوله من أشياء أخرى يطرح مثقفون آخرون عزلة النص عن أية علائق أخرى غير علاقاته الداخلية ونقاوته وهم الأكثر التصاقاً بالسلطة و تنظيراتها. ولعل في طرحهم هذا محاولة تصعيد وهمي لما يعانونه هم، لهذا نجد أن القيم الإنسانية تكاد تكون غائبة في خطاب الإعلام العربيّ الذي يديره أو يرتبط به عدد كبير من المثقفين العرب الذين تبدو أصواتهم صدى لما هو رسميّ ... صدى بعيد لصوت صارخ فظ يصطبغ الآن بأفقع تلاوينه البغيضة: الطائفية. لهذا أرى أن مهمة المثقفين الحقيقيين في نشر القيم الإنسانية ليست بالهينة على الإطلاق لا سيما إن هذه القيم ليست أفكاراً ولا روحاً حسب وإنما هي إبداع أيضاً.
في كتابه (الإنسية والنقد الديمقراطي)، بترجمة فواز طرابلسي، يورد إدوارد سعيد رأياً لأدورنو هو: " أنّ أحد المعالم المميزة للحداثة هو كيفية احتياج الحيّز الجمالي والحيّز الاجتماعي إلى البقاء – غالباً عن وعي وفي مستوى عميق جدّاً – في حالة من التوتّر المستدام " . هذا التوتر الدائم سيظل احتياجاً لا في النص الأدبي وحده وإنما في موقف المثقف نفسه في واقع هو نفسه في حالة توتر دائم .

* أريد معرفة وجهة نظرك في مقولة "نهاية المثقف"، التي تم نحتها على غرار مقولات أخرى، كنهاية المؤلف و موت المؤلف و موت النص و غيرها من النهايات الافتراضية المحمومة. ماذا نعني بهذه المقولات، في ظل شرط تاريخي كوني يضع الإنسان بكل منظوماته التقليدية أمام مساءلة جذرية لطبيعة وجوده و تأمل حاسم لمصيره الفردي و الجماعي؟
** الغريب أن هذه المصطلحات أفضت إلى نقيضها، فموت المؤلف أفضى إلى تألق نجم المؤلف في سماء الصحافة و الإعلام، وموت النص أفضى إلى اتساع مفهوم النص ليشمل حتى إعلانات الشارع ، ونهاية المثقف ليس سوى افتراض محموم أيضاً، نرى ما ينقضه في مؤسسات الدولة وما يحيطها من مؤسسات مدنية تابعة.
حين كنت طالباً في جامعة نورث لندن استأثر بانتباهي ترديد المدرسين أسماء دريدا، وميشيل فوكو، ورولان بارت في مواضع لا تستدعي هذا الترديد ناطقين مصطلحاتهم الفرنسية بلكنة إنجليزية ثقيلة، وحين سألت زميلة لي عن ضرورة ذلك أجابتني: That is business. و ما هو أخطر من كلّ ذلك هو الإعلان عن " موت الإنسان ".

* في محورنا السابق، وصفت ادوارد سعيد، تلميحا و دون ذكر اسمه، بالمفكر الكبير. و قلت بالتحديد: "لا أفهم أن يكتب مفكر كبير عن الروائي ف.س.نايبول باعتباره نموذجا للمثقف في العالم الثالث ثم يطرده من مدينته الفاضلة. أو يهجو لغة ليمدحها فيما بعد". هل تخشى التناقض إلى هذا الحد؟ ألا يمكن اعتبار هذا نوعا من التطور في فكر صاحبه ينم عن مراجعة ذاتية بدل أن نرى فيه تناقضا كما أوحت بذلك عبارتك؟
** لا.. أنا لا أتحدّث عن ذلك التناقض اللصيق بأيّ فكر حقيقيّ والمفضي إلى تركيب متطور، وإنما أقصد به هذا التناقض الذي لا تتوضح لي أسبابه ولا يؤدي إلى طباقه. وإنما يبقى في حدوده تناقضاً فاقعاً بين قطبين: خطأ أو صواب؟ لست أنا الذي يضع الحدود بين هذه القطبين وإنما النص نفسه. لا أخشى التناقض إذا كان تركيباً، وإنما أنا أخشى ذلك الفكر الذي يقودني لا إلى منطقه الجدلي، بل حتّى إلى منطقه الأرسطي دون أن يحقق شروط هذا المنطق، لأنه لا يفضي إلى نتيجة معينة في نقضه نفسه، أو يحاول الاغتناء بهذا النقض. إنني قد أفهم هذا التناقض وأفهم الظرف الذي أفرزه ولكنني لا يمكن أن أبرّره، مثلما لا أجد تبريره في ما كتبه نايبول، مثلاً، سواء في رحلاته إلى ما يسمى بالبلدان الإسلامية أو في تصريحاته، أي أنني بصفتي قارئاً سيكون مثلي كمثل الثالث المرفوع في المنطق، معلّقاً بين قوسين، وهذا ما لا يقبله أي قارئ مثلي. كلّنا نعرف المدائح التي كالها إدوارد سعيد لمن ترجموه، أحيانا بشكل سيء، ناعتاً إيّاهم بنماذج مثقفي العالم الثالث وهم لم يكونوا غير موظفي مؤسسات، أو متملقي مؤسسات، ولبعض الكتاب العرب بسبب علاقاته الخاصة بهم، وهذا يمكن تبريره بذرائع شتى، إنسانية ومهنية وعلائق خاصة، ويبدو صغيراً إزاء المشروع الضخم الذي أنجزه هذا المفكر الإنسانيّ الكبير.
يمكن أن أجادل إدوار سعيد في موقفه التقريضيّ من ماسينيون وأقول عنه إنه خاطئ لأن ماسينيون لم يكن مبرءاً من موقفه الاستشراقيّ مثلما أشار إلى ذلك نقاد إدوارد سعيد، مثلما أستطيع أن أناقشه في مواضع أخرى كثيرة سواء تعلقت بأفكار ما أو شخوص ما ولكنني لا أجادل في ذوقه الخاص وتفضيله هذا الكاتب أو ذاك حتى لو كان مضلّلا إلاّ عندما يكون هذا التفضيل أو التقييم مفضياً إلى ما ينقضه تماما من دون أي توضيح.

* في حالتك أنت، هل سبق لك أن أدليت برأي أو موقف في حوارات سابقة اتضح لك فيما بعد أنك كنت فيه مجانبا للصواب؟
** لا أعتقد أنني وصلت بأخطائي إلى ذلك الحد الذي يدفعني إلى الجلوس على كرسيّ الاعتراف، وإذا كان ثمة أخطاء فهي أخطاء انفعالات لا تناقضات مواقف وأفكار تستدعي الاعتراف. واقصد بتناقض الانفعالات أن ثمة حماساً زائداً في هذا التقييم أو ذاك ولعلني مارسته أيضاً في حوارنا هذا لا سيما إنني في حقل شديد النسبية هو حقل الأدب والشعر. و إذا كان ثمة أخطاء فعليّ أن أوضحها، فإن لم أفعل فليوضحها لي الآخر لأتعرف عليها أو ليسمع وجهة نظري. لأن غياب الوضوح هو خطأ آخر. إن طريق الأخطاء ليس طريق فروسية على الإطلاق، وليس دلالة دوماً على غنى الشخصية إن لم يكن مفضياً إلى تركيب ما، أو توضيح ما، كما أسلفت. أما أن يكون مجرد نقلة في الخطى فهو أمر لا يمكن التغاضي عنه، وقد كثرت النقلات في مواقفنا وأفكارنا وشاعت المواقف المذبذبة لكتاب ومثقفين لم يعودوا يعبأون بكلمة (خجل) التي ترد في قصيدة لأراغون بهذا المعنى، ولكن ما أبعد عزيزنا الراحل الكبير عما استطردنا فيه من أفكار.
من جهة أخرى، فإنني لست بذلك الباحث الذي يقدّم أفكاراً، وما أقدّمه ليس سوى رؤى وأحلام تتضمن أفكاراً هي ليست بذلك التحديد التي تتصف به أفكار الباحث. إنني لا أحمل، بصفتي شاعراً لا باحثاً، حقيقة كاملة أو تصوراً كاملاً عني أو عن العالم بل أكتشف هذه الحقيقة أو هذا التصور عبر تشابكات عديدة وبحث دائم، وعبر ما هو نسبيّ دوماً. لا تصورات قبليّة لديّ، وتقييماتي لا تتحدّد بي، بل بعلاقتي بالعالم.. حتى أفكاري لا أستخدمها دائماً لأنني لستُ معنيّاً باستخدامها وتقديم الحقيقة جاهزةً إلى الآخرين، بقدر ما أنا معنيّ بعلاقتي بالعالم والبحث عن الحقيقة عبر وسائلي الفنية العديدة، ولولا الحوار الذي تجريه معي لبقي، ربّما، الكثير مما أحمله من أفكار ومواقف وأحاسيس، غير واضحٍ ، أو معبّر عنه ، حتى بالنسبة إليّ .

* إدوارد سعيد مفكر عربي عالمي. كيف نصون، نحن أبناء جلدته، تراثه المحتفى به عالميا، في الوقت الذي يستفاد من ثمرات فكره في الجامعات الأوروبية كما في القارة الهندية والأمريكية والآسيوية ؟
** مرّة قرأت مقالة لإدوارد عن رحلته إلى كوريا بدعوة من اتحاد الكتاب الكوريين، كما أظنّ، فأدهشه ما رآه من ترجمات عديدة لأدبنا العربيّ، مثلما أدهشته معرفتهم بنا ، ومن بين الترجمات التي رآها هناك بعض أعمال غسان كنفاني. هذه المعرفة يقابلها جهل يكاد يكون مطبقاً بأدبهم وكأنهم أمة بلا أدب أو فكر، بينما يمكن لأيّ متابع لأدبهم، في اللغتين الفرنسية أو الأنجليزية، أن يلمس مدى غنى هذا الأدب المتعدد في رؤاه وأساليبه. ولعلّ من المصادفات الغريبة حقّاً أن أكتشف مرّة في أحدى الأنتولوجيات عن الشعر الكوري المعاصر المترجمة إلى الإنجليزية أن من بين شعرائهم شاعراً اسمه "كيم كريم"، (هل هو من أصلٍ عربيّ؟)، وفي إحدى قصائده يصف سلسلة جبال بهذا البيت: " جبال تغطت بأردية عربية ملونة".. بيت يذكرنا بامرئ القيس:
كأنّ أباناً في أفانين ودقه كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزمّلِ
الاحتفاء الحقيقي بإدوارد سعيد ينبغي أن يبدأ بإعادة ترجمة بعض كتبه الرئيسية كـ (الاستشراق) وترجمة ما تبقى من كتبه كـ (البدايات) واعتماد مؤلفاته مصدراً للدراسات في الجامعات لكي يصبح جزءاً لا من نظام التعليم لدينا بل جزءاً من ثقافتنا المستعادة وتاريخاً للفكر الإنساني الذي تميز به الراحل والذي اتخذ أبعاداً أكثر اتساعاً من نقده الاستشراق والبقاء في حدوده . تحضرني هنا كلمة لإدوارد سعيد وردت في كتابه (الإنسية والنقد الديمقراطيّ)، يقول فيها: " لو كنت مجبراً على أن أختار لنفسي دوراً، بما أنا مثقف إنسانيّ، بين أن أدلي بـ " شهادة توكيد " لصالح بلدي بعصبية وطنية، كما فعل ريتشارد رورتي مؤخّراً (وقد أستخدم عبارة" الإنجاز" لا "التوكيد" على أنها تؤدي المعنى ذاته، في نهاية المطاف) أو أن أضع بلدي موضع التساؤل على نافٍ لأية عصبيّة وطنية، لاخترت دور المسائل بلا أدنى تردّد."، لذا أخشى أن يُقدّم إدوارد سعيد مثلما قدّمه الفكر القومي المتعصّب بصفته " شهادة توكيد " وليس ذلك المفكر الإنسانيّ المعجب بعبارة فيكتور هوغو البليغة: " إنه لمصدر عظيم، إذاً، من مصادر الفضيلة لدى العقل المتمرّس أن يتعلّم في البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرته إلى الأشياء الظاهرية والعابرة، كيما يتمكّن بعدئذٍ من تركها وراءه إلى الأبد.. فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غرّاً طريّاً، أمّا الذي يجد موطنه في كلّ أرض فقد بلغ القوّة، غير أنّ المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضاً غريبةً، فالنفس الغضّة تركّز حبّها على بقعةٍ واحدةٍ من العالم ، والرجل القويّ يشمل بحبّه كلّ الأماكن، أمّا الرجل الكامل فهو الذي يطفئ جذوة الحبّ لديه ".

* عودا إلى ضوء الشعر. في العديد من حواراتك مديح لصورة الشاعر الجوال المتجسدة بامتياز في الياباني سانتيوكا تانيدا، الذي ترجمت له ديوان شعر الهايكو بعنوان "نكهة الجبل" (2005)، وهولدرلين، الذي تكن حبا خاصا. هل في تقديرك لا يمكن للشاعر أن يكون إلا عابرا ومرتحلا؟ ثم ماذا يقدم له وضعه المتوتر، بوصفه شخصا عابرا للزمان والمكان، من عناصر وزوايا متعددة لمقاربة الواقع و استشراف آفاقه؟
** ليس بالضرورة أن لا يكون الشاعر إلاّ عابراً ومرتحلاً، رغم أنني أمضيت عمري عابراً مرتحلاً حتى هذه اللحظة.. موزّعاً بين أمكنةٍ شتّى و أزمنةٍ شتّى، بين وطنٍ غائب حاضر و منفى حاضر غائب . ألا يقيم الشعر في كلّ شيء.. في الإقامة و الترحال، في المدينة والصحراء، في السماء و الأرض؟ لا أعتقد أنّ وضع الشاعر المتوتّر مقتصرٌ على شخص الشاعر العابر، فهو قدر الشاعر مقيماً أو مرتحلاً.. الشاعر الحقيقيّ المأخوذ بجمال البشر والأشياء والذي يحزنه ما يتعرض له هذا الجمال من تهديدٍ و فناء.
يبقى الواقع ، بشخوصه وأشيائه ، نصب عينيّ أينما حللت أتعامل معه مثلما تعاملت معه في مكاني الأول، ففيه لا في الواقع المتخيّل تكون قصيدتي ، وحتّى لو تعاملت مع واقع متخيل فإنّ تعاملي لن يكون بمنأى عن تأثير واقعي الحقيقيّ الذي أعيشه منفىً أو وطنا. هل أجرؤ أن أعيد كلمة فيكتور هوغو الأثيرة لدى عزيزنا الراحل إدوارد سعيد؟

* يقول ستيفن هاو، أستاذ العلوم السياسية بأكسفورد، عن ادوارد: "كان سعيد مسافرا دائما، بالمعنيين الحرفي و المجازي: رجل، بكلمات شاعر آخر كبير هو آرثر رامبو، يبدل الأوطان كما يبدل الأحذية". و هو وضع مشابه للوضع الذي عشته أنت منذ خروجك من العراق، وانتعلت مدنا عديدة..دمشق..بيروت..عدن..باريس...موسكو..و لندن. كيف عشت حالة العبور المزمنة هاته؟ و كيف استطعت أن تحول مقامك الشعري الموسوم بالعبور و الممزوج بنوع من المرارة، إلى مادة للإفصاح و الإبداع الإنساني الجميل ؟
**نعم .. قرأت هذا الرأي عن سعيد من قبل في مقالة ستيفن هاو المنشورة في الكرمل وضحكت وقتها لأن عبارة " يبدّل الأوطان كما يبدّل الأحذية " هي لبريشت وليست لرامبو وأعطيته العذر، هذا الـ (ستيفان هاو) الجميل، لأنه أستاذ علوم سياسية وليس معنيّا بالدقة التي نتطلبها في الاستشهاد.
عندما أستحضر هذه المدن أشعر باتساع هائل تضيق عنه مخيلتي وتبدو هذه المدن كأنها مدن خيالية أو غابرة لم أعشها يوماً، ومن عاشها هو شخص آخر غيري. ولعلّ ما يخلّف فيّ المرارة أنني التقيت فيها أناساً أحببتهم وأحبوني هم الآن أحياء غائبون أو موتى يحضرون في ذاكرتي أشباحاً، وقد أحضرفي ذاكرتهم شبحاً أيضاً. وحين أستعيد تلك الأمكنة الحاضرة أبداً بأزمنتها الغابرة وارى فيها شبحي العابر أتساء ل: هل كان هذا الشبح هو أنا؟ وهل أنا الذي عشت هذا الحدث حقّاً ؟ وهل .. وهل ..؟ ، لذلك لا أخفي عليك أنني أتوجس من السفر أحياناً: كيف تراني سألتقي باريس ثانية بعد فراق دام أكثر من ثلاثين عاماً وهي القريبة منّي؟ لِمَ لمْ ألتقِ بها كلّ هذه السنوات؟ أ هي خشيتي من اللقاء لا بالمدينة وحدها بل بي أنا ذلك الفتى اليافع الذي هجرتُه منذ أكثر من ثلاثين عاماً في زاوية ما.. في شارعٍ ما.. في مقهىً ما.. يا لأعراس الشارع! ويا لبساطة الناس، ما أسهلهم! وما أصعبهم!: مرةً كنتُ في شارع سان ميشيل، بصحبة صديقين، وقد أتعبنا أحدهما بالحديث عن نشاطهم الطلاّبي في لندن، وفجأة مرّت فتاة جميلة تحمل وجوه تماثيل للبيع فاستوقفتنا لشراء بعضها. قلت لها مازحاً لماذا تبيعين وجوه الناس؟ فاستوقفتها عبارتي هذه ثم انشغلت بالحديث معي مما اضطرني أن أعتذر من صديقيّ اللذين بدا عليهما المرح أيضاً بعد حديثهما الجاد بالذهاب مع الصديقة الجديدة. كانت فتاة رائعة تدعى (روز) وقد ورد ذكرها في قصيدتي (الحقائب).
كم كان العالم صغيراً! وكم كان الناس قريبين وربّما لا يزال العالم صغيراً والناس قريبين في عيونٍ أخرى. أتساءل أحياناً: إذا كانت المحبة هي ما طالعتني في أسفاري وعبوري، فمن أين يأتي هذا الشرّ الذي يملأ العالم؟ من أين يطلع هؤلاء البشر الأشرار؟ تراني التقيتهم يوماً؟ ثمة شرور صغيرة تمرّ بها ولا تعيرها انتباهاً، ولكنني أتحدّث هنا عن هذا الشرّ الذي يهدّد الحياة .. هذا الذي يبدو بعيداً وفجأةً تراه وهو يقترب منك.. يتطلع فيك على بعد خطوتين..
كيف يكون الشعر بعيداً عن كلّ ما هو جميل في هذه الرحلة؟ وهل ثمة رحلة حقّاً بلا أشياء جميلة؟ وكيف لا تكون الأشياء الجميلة وما يهدّدها من شرّ موضوعاً للشعر؟ غير أن للرحلة أشكالها فكم من شاعرٍ مقيم راحلٍ أبداً في مخيلته المعذّبة إلى فراديس الجمال: بودلير، كفافي، بيسوا، البريكان.. أجل.. لقد قادت الرحلة أوليس إلى العالم السفليّ ، ولكن كم من مباهج صادفها في الطريق !

* أوحت لك مدينة موسكو بقصائد مضمومة في ديوانك (نزهة الآلام)،1991. أخص بالذكر قصائد "الصلب" و "المخلصة" و رحيل"، و هي قصائد مليئة بالإشفاق و الأمل و الألم الجميل. لم ارتبطت لديك موسكو بهذا الشعور تحديدا؟ و هل الألم ملازم لتجربة الشعر و مخاضاته العسيرة اللاذعة؟
**زرتُ موسكو مرّاتٍ عديدة. الزيارة الأولى كانت في السبعينات. كتبتُ إثرها قصائد بعنوان (حكايات موسكوفية): المشهد، فتاة الكورس، إلى تشيخوف ، الزوج الأبديّ، يمكن ذات ليلةٍ، حكاية عادية .
في قصيدة (فتاة الكورس) إشارة إلى قصة فتاة الكورس لتشيخوف ، وفي قصيدة ( إلى تشيخوف) ثمة إشارة إلى قصة تشيخوف: سيدة الكلب الصغير، وفي الزوج الأبديّ إشارة إلى قصة دستوييفسكي الشهيرة: الزوج الأبديّ. أما القصائد الثلاث الأخرى فهي، وإن كان باعثها أحداثاً واقعية ارتسمت ظلالها في القصائد، إلاّ أنها من جهة أخرى لم تكن بعيدة عن قراءة متأنية لعالم شاعرٍ أحببت صنعته هو باسترناك ولا سيما في تشكيل الصورة الحسية الشديدة التجسيم والإيحاء وهذا قد يكون واضحاً أو خفيّاً في هذا القصائد الثلاث خاصة وفي قصيدة لي في الشاهدة أيضاً بعنوان (إلى عام 1977).
فاجأني عالم موسكو ، منذ ذلك الوقت، بخرابه الروحيّ المعكوس على الجاليات العربية بشكل واضح، و مافياته، وأسواقه السوداء:

حكاية عادية
من كثرة الأنخاب
أخاف أن تنكسر الكؤوس
كانوا بضعة صيّادين
وكلبين
وعدّة صيد
رفع الكأسَ كبيرُ الكلبين
فأقعى الصيّادون
واصطفقتْ في الأيدي الأنخاب
كان الكلّ كلاب
أمّا زياراتي الأخرى التي كتبت إثرها قصائدي الأربع: الصلب، غناء، المخلصة، رحيل فكانت بعد زيارتي الأولى بعشر سنوات حيث الأشياء انكشفت عن خرابٍ شامل، وما كان ظاهراً، لإخفاء جوهرٍ ما، اختفى هو بدوره، وحلّ محله الجوهر نفسه عارياً يبعث على الإشفاق، وحلّ محلّ الأمل المقيم ألمٌ سيمكث طويلا. كانت الأشياء تتداعى حولي، وقد أوشكت عيناي على الانطفاء. إنها مرحلة من أحرج مراحل حياتي: كيف تراني سأواجه العالم بلا عينين؟ وكيف تراني سأبصر هذا العالم وقد اختلطت أزمنته ولم يعد المكان شارة له أبداً. وجدتني ذات يوم وأنا أسير في شارع أربات فتذكرت رواية (المعلم ومرغريتا) التي جرت أحداثها في هذا الشارع وتذكرت صلب المسيح الذي يشغل جزءاً كبيراً من الرواية فتخيلتني وكأنني أندفع مع الناس في طريق أربات الذي أصبح طريق الجلجة لرؤية الصلب.

الصلب



عند "أربات"
رأيتُ الله يدعوني فأقبلتُ عليه
ثمّ لم أبصرْهُ..
كان الورقُ اليابسُ يسّاقط
والريحُ تمرّ
وعلى الشارع بحرٌ هائجٌ من سَقَطِ الناس
ومحكومون يمضون إلى الصلب
وجندٌ خائفون
قلتُ لو كلّمني الله بـ "أربات"
لو انّ الشجرَ الصامتَ لم ينعقْ
وهذي الشمسَ لم تدنُ من الأرض
و"أربات" بأحجارهِ لم يهرعْ إلى الصلب
لو ان الربّ
أطرقتُ قليلا
ثمّ ناديتُ على السائر خلفَ الموكبِ اللاهثِ في القيظ على السفح :
" يهوذا ..
أيّها الخائن "
فارتجّ الصدى الغابرُ في الأفق
" يهوذا.. ا.. ا.. ا.. ا"
كان رأسي حاسراً
والناسُ يمضون بـ "أربات"
وكان الشجرُ اليابسُ يسّاقط
والريح تمرّ



ـــــــــــــــــــــ
شارع شهير في موسكو كان يسكنه كبار الفنانين والأدباء


موسكو1989



* أهديت قصيدة "المخلصة" إلى سينيدو بسكايا، طبيبة العيون في معهد فييدوروف، و هي، على غرار قصيدة "الصلب"، تمتح مناخها العام و استعاراتها الشعرية من التراث الصوفي المسيحي. هلا حدثتنا عن هذه التجربة بالذات؟ و بصفة عامة، كيف أفدت شعريا من مقامك في بلد بوشكين و دويستويفسي و تولستوي و يسنين و ماياكوفسكي... لا أعتقد أن روحا شاعرة مرهفة تستطيع أن تمر من هناك دون أن تصاب بعدوى هذا التراث الإنساني الكبير.
** مثلما قلت لك استوحيت الكثير من قصائدي عن موسكو من أعمال تشيخوف (فتاة الكورس، سيدة الكلب الصغير)، ودستوييفسكي في (الزوج الأبديّ)، و بولغاكوف في (الصلب، غناء)، مثلما استفدت من صنعة باسترناك في تشكيل الصورة في (المشهد ، يمكن ذات ليلةٍ، رحيل)، ولم يغب عنّي المشهد اليوميّ للحياة الموسكوفية في بساطتها ومفارقتها وتداخلاتها: النائم الذي يباغت الراكب جواره في المترو بالغناء، السرير الذي ينفتح في غرفة الفندق عن زهرة كبيرة بيضاء، راكب الباص الذي يتعلق كطير مذبوح، القطة التي تدخل في الليل حذائي وتنام، الموائد الفارغة في المقهى والعصافير التي تنقر صحن فتاة نهضت ، الوردة المتفتحة في آنية الشارع، السائح الذي ينشر جواربه السوداء ويتعلق بحبل الأحلام، وغيرها من الصور و المشاهد، ثمّ هذا الرعب المفاجئ:
يمكن أن يتبعك الليلة كلبٌ
فتسارع في قفل الباب المفتوح
وتندسّ سريعاً تحت غطائك ،
أما قصيدتي المخلصة التي أهديتها إلى طبيبة العيون الشابة سينيدوبسكايا فهي وليدة تجربة مريرة حقّا إذ رفض الأطباء في معهد فييدوروف إجراء العملية لعيني اليمنى لأنها حالة مستعصية ولم يقبل بإجراء هذه العملية الصعبة سوى طبيبة العيون هذه التي أبدت كلّ جهدها وبراعتها لإنقاذي لاسيما عندما علمت أنني كاتب وأنّ أداتي الوحيدة في الصلة بالعالم هي عيناي. كان ذلك أشبه بالمعجزة ، بل هي المعجزة ذاتها التي استدعت أورشليم وقد ألقيت فيها عصاي، وأقبلت أجري بعينين مفتوحتين أشقّ القوافل تعبرني ...


المخلّصة

إلى سينيدوبسكايا طبيبة العيون في معهد فييدوروف


مخلّصتي أنتِ
باركني الله في أورشليم
فألقيتُ عنّي عصاي
وأقبلتُ أجري إليكِ يعينين مفتوحتين
أشقّ القوافل تعبرني
يومَ ناديتني
(دون كلّ الحجيج)
وأطلقتِ طيرين من راحتيك وباركتِني
ثمّ أدنيتني
لألاقي بكِ الربّ
أروي عن الطير ينقلُ مملكةً
ليؤمّ النبيّون
- فليدخلوا
( هو الضوء أخضرُ .. أبيضُ )
وليُقبلِ التائهون
هو الظلّ
شمسُكِ برجٌ
وبرجُكِ شمسٌ
وعيناي ..
عيناي ..
مبصرتان


موسكو1989



* تحدثنا في محور سابق عن علاقتك الشعرية بمدينة عدن، و قلت لي "بالنسبة لعلاقتي بعدن فهي ليست بتلك العلاقة ذات التعقيد الكبير الذي شهد مراحل وأزمات ولكنها لم تكن بعيدة عن تشكيل رؤيتي للزمن". ماذا عن علاقتك بلندن؟ يبدو أن مقامك فيها لأكثر من عشر سنوات كفيل بتشكيل رؤية ما عن هذه المدينة الكونية التي وصفتها بأنها "بابل الحديثة بلا برج" ؟
**لا أصدّق أنّ لهذه المدينة أطرافاً. قد تسير بك الحافلة أو القطار ساعاتٍ دون أن تصل إلى ما ينبئك أن ثمة حدّاً هناك. الحد الوحيد الذي ينبئني، ربّما ،هو المطار الذي لم أتجاوزه يوماً إلاّ طائراً في فضاء لا نهائيّ لمدينة لا نهائية .
مساحات تكاد تخلو من البشر وشوارع تكتظ بالبشر. و حين لا تجد بينهم للإنجليز أثراً تطالعك لندن أيضاً. إنها الحاضرة دوماً حتى وإن اختفى بشرها. ثمة علامات عديدة تشير إليها: البشر أنفسهم بلغطهم وضجيجهم و لغاتهم وهي تعلو معلنة هويات أصحابها. ما من مظهرٍ، حديقة أو شارعاً أو مقهىً، لايشير إليها حتى سماؤها الغائمة أبداً. ولعلّ الشيء الذي يبدو لا مظهر له في لندن هو السلطة لأنها جوهر صرف روح إن شئت لا يتخذ مظهراً أبداً ولكنه حاضر كالمدينة دون أن تراه وإن رأيته ففي أشدّ أشكاله عبوراً. هذا الجوهر يستطيع أن يرصد في لحظة واحدة المظاهر أجمعها.. هويات كلّ المقيمين فيها، مثلما تروي شفرة دافنشي، دون أن يدرك المقيمون ذلك أو يشعرون بحرج أو خوف.
هنا يجد الديالكتيك تطبيقه كاملاً، غير أنك حرّ في التطبيق: المبادئ بكلّ تجلياتها، والعنصرية بكلّ موارباتها.. العقل بكلّ بهائه، والغرائز بكلّ دركها دون أن تصطدم ببعضها بعضاً . وحين تضطر صدفة ما إلى الاتصال بمؤسساتها فلا أسطع من قوانينها ولا أعتم من دهاليزه ودهاليزها. ويا للمنفيّ المسكين الذي لا يعرف لغة سيتحول حيواناً أعجم وقد يتحول مترجمه أيضاً إذا كانت المقابلة ، كما تجري الآن، لا عبر اللقاء المباشر بل عبر الهاتف وكان محدّثك صوتاً قادماً من بعيد.. صوتاً محضاً بلا فم. هنا السلطة البعيدة اقرب من كل شيء إليك: رسائل لا تنقطع، أسئلة لا تنقطع ، تقارير لا تنقطع.. كابوس لا ينقطع.. لندن المضيئة القاتمة.. العظيمة الصغيرة بصيحات سكانها المفزعة أحياناً، وهدوئهم المفزع أيضاً
في الساحة ليلاً تأتي امرأة تتحدّث ساعات في كشك الهاتف دون أن تدير قرص التلفون وبعد أن تغضب تلقي بالسماعة وتعود إلى الساحة هائجة.. تجلس قليلاً وتعود إلى حديثها المرعب المرير.. كل ليلة...
قالت لي زوجتي وهي تشير إلى الساحة جوار النافذة: انظر! ماذا يمكنني أن أفعل للمرأة؟ وفي النهار يأتي أصحاب الياقات حين تجئ الشمس ليلتهموا سندويشاتهم على عجلٍ ليعودوا إلى أكشاشهم الأخرى ملتذين بالشمس وقد يلتذون بالغيم .
مدينة مفتوحة أبداً يصيبك الدوار أحياناً وأنت تتطلع إليها، بم تبدأ؟ بل أنك قد تستسلم لاتساعها متخلياً عن طموحك المعرفي الذي لا يقل اتساعاً مكتفياً بالقليل، فاقداً دهشتك بالمعرفة والأشخاص.
يروي لي ابني: إن طلاباً أحاطوا بطفل صيني جالس إلى الكومبيوتر وهم يسخرون منه والمعلمة تنظر بلا مبالاة مما اضطر ابني إلى تنبيهها ومن ثم الصراخ في وجهها وتهديدها إن لم تضع حدّا لمثل هذه المهزلة...
ومرة حين غادر الكنيسة لأنه غير معني بترتيل الأناشيد الكنسية صادف قساً في الخارج فتبادلا الحديث وحين اطمأنّ القس لابني بدأ اعترافه معلنا لابني الطفل أنه ملحد وأن ما يمارسه مجرد مهنة. ولولا الوظيفة لكان الآن بين أفراد عائلته. أين حدود الفضيلة والرذيلة في مثل هذا الاعتراف؟
مدينة ثقافات تعج بكل أشكال الجهل؟ نجوم سماء وزواحف أرض. وبربرية تطلع من عمق الحضارة فجأة. و حضارة كأنها لم تمر بطور البربرية أبداً. كيف نلخص لندن. في مكاني القديم في بيتي الذي يشكل ركناً في المبنى كان ثمة مراهقون يتقدمون يومياً ليقذفوا بابي بالأحجار وحين أمسكت واحداً من هؤلاء محذرا إياه من مغبة ما يفعل استدعى عائلته وكانت حشداً من السوقيين ذوي العضلات المفتولة ولولا شجاعة طفليّ باستخدام ألفاظهم ذاتها ولولا موقفي في مواجهة شراستهم لالتهمونا جميعا وسط ذهول زوجتي الراحلة التي لم تر مشهداً كهذا في حياتها من قبل، ولو عاشت لتشهد ما يحدث في العراق الآن لأعادت تقييمها بالذي حدث. وحين استدعيت البوليس وقف البوليس إلى جانبهم لأنني أمسكت بذراع مراهق منهم، فاضطررت إلى استخدام وسائلهم الخفية الماكرة ذاتها في المرة الأخرى وكان القادمون شرطيين في غاية اللطف استدعيتهما خفية ليمسكا المراهقين متلبسين بفعلتهم وإحضارهم أمام بيتي هم وعوائلهم مذلين مهانين ثم طلبا مني أن أقدمهم إلى المحكمة غير أنني تخليت عن حقي هذا حين رأيت رئيس هذه العصبة وهو يبكي وسط ضحك الأطفال والمراهقين وشتائم الشرطة وإطراق الآباء وقد فوجئوا بتسامحي الغريب. إثرها غادرت المنطقة تماما وقد عافت نفسي كلّ شيء، رغم كل ما طرأ من هدوء في حياة عائلتي في ما بعد.. إلى منطقة آمنة قريبة أيضاً من أكبر مركز حضاري في أوربا.
متى ترى ندخل مملكة التاريخ؟ متى يكون الإنسان إنساناً؟ وأين سنضع ما نحمله من عبء على الأرض ؟
أفكر أحيانا فأتخيل أنّ لمدينة لندن وراء كل طبقات العقل الكثيفة الصعبة الاقتحام لاشعوراً رهيباً .. لاشعوراً يحتدم بكل الغرائز الخفية والمعلنة والتي يمر بها العقل لا منكراً بل متفهماً متسامحاً ولعلّ ما كان تصوراً أصبح واقعاً.. لم أكن أتخيل أبداً أنّ الدكتور جيكل والمستر هايد يمكن أن أراهما في شخصٍ واحدٍ في الشارع. مرة التقيت في مكتبة شاباً لطيفاً وتحدثنا عن الأدب والشعر ثم التقيته مرات أخرى ولم يكن يبدو في مظهره ما هو غريب أبداً. فجأة في يوم ما مشمس رأيته يطوح بذراعيه وهو يصرخ مهتاجاً كأنه دون كيشوت وهو يصارع طواحين الهواء والناس تفرّ من أمامه والزبد يتطاير من فمه و يا لحزني وأنا أمرّ أمامه دون أن ينتبه لي. ومرة دعتني امرأة جميلة إلى شقتها لنشرب القهوة معاً وكانت مهووسة بالكتب والمعرفة ويا للغرابة في المرة الثانية حين رأيتها وهي تدقق بأشياء الصالة وتبدي تشككها المذعور بالترتيب مما ذكّرني بفيفيان زوجة إليوت وما عانى من ذهانها فارتعبتُ ولم أرها مرة أخرى.
لندن المفتوحة المغلقة.. لندن البشر الوادعين حدّ البكاء الشرسين حدّ الجريمة لندن البشر العاديين المقهورين المتسلطين.. البشر مثل كل البشر.

ساحـة

أشجارٌ لا تسكنها الطيرُ
وبضعُ مصاطبَ
والكشكُ المهجورُ هناك
ونافذةٌ
(هي عينُ الساحة)

يأتيها الناس فرادى
وفرادى يمضون
وتكتظّ سريعاً حين تطلّ الشمس
تُعِدّ لحافاً من ورقٍ أصفرَ في الليل
وتصغي:

تأتيها امرأة
تمرقُ كالطيف وتدخل كشكَ الهاتف
تابوتَ الهاتف
تخرج شبحاً
بغدائر بيضاء
وأصواتٍ لا تفهمها حتّى الأشباح

- أ تسمعني ؟
- هل تبصر ذاك الشبحَ العائدَ في الفجر؟
- ألا تبصر نافذتي؟
(تلك العينُ المسحورةُ)

يأتي رجلٌ
من جهة السوق
فتستيقظ من غفوتها الساحةُ وتحدّق:
معطفهُ ينتفخ الآن ولا ريحَ هناك
خطوتهُ تنتقل الآن ولا صوتَ هناك
يداهُ تمرّان على جسد الساحةِ
رجلٌ
يأتي من جهة السوق
بمعطفهِ الإسمنت
ويمضي
( قبّعة حائلة تخفي وجهَهُ )

نافذة تغلقُ ..
نافذة تفتحُ ..
نافذة
وتمرّ جنازتها ( مَنْ ... ؟ )
تحت ظلال الساحة

رجلٌ
يجهش خلف النافذة الآن
ويُصغي
لحفيف الأشجار


لندن: نهاية الرحلات
* أود أن أستحضر ها هنا مقولة لك عن رحلاتك السندبادية إلى لندن التي ولجت فيها "طرق الأبدية حيث الرحيل لا عودة منه و لا رحيل إليه...". هلا حدثتنا عن هذه الرحلة الأخيرة التي أودعتها، على حد تعبيرك، أعز ما عندك؟
** مرّة قال لي الطبيب إن زوجتي ستعيش عشرين سنةً قادمةً أو أكثر، وأنا الآن لا أريدها إلاّ لحظةً.. لحظةً واحدةً لا لتبكي عليّ، بل لأتحسّسها، لأشمّها، لأعرف أنّ الموت زائل كالحياة، وأنّ منْ عشتُ معها جلّ سنوات حياتي ليستْ ظلاّ بل من لحمٍ و دمٍٍ.. لأعرف أنّ نصفَ جسدي القابع هناك في حفرةٍ مظلمةٍ محضُ وهم، ولكن هيهات! هيهات! ما أبعدني! ما أبعدني! وقد تساوت اللحظة والسنوات في زمنٍ لا يمرّ.
ما الأبدية؟ ما الطريق إليها؟ وأين أنا؟ إذا كانت اللحظة والسنوات تساوتا في زمنٍ لا يمرّ. أحباء كثيرون ماتوا لي. بعضهم مات بين ذراعيّ، ولكنني لم أعشْ تجربة كهذه. كيف من قاسمتها وقاسمتني كلّ شيء، ربع قرن، تختفي فجأة، لتعود إليّ شبحاً يتجوّل في أروقة ماضيّ لأرافقه وقد غدوتُ شبحاً أيضاً؟.. و قد نزور معاً قبرها الوحيد بين قبورٍ تتجاور ولا تلتقي أبداً. كلما شارفته تساءلت: أمملكة الموت أعبر؟ مثلما أتساءل كلّما غادرته: أ مملكة الموت أغادر؟ وبين المملكتين .. مملكة الموت التي أدخلها كلما زرتُ المقبرة واجتزت بوابتها، ومملكة الأحياء التي أدخلها كلّما غادرت المقبرة واجتزت بوابتها سأظلّ أنا ذلك الغريب عن المملكتين، أتطلع فلا أجد نفسي: إقامة أم رحيل ؟ في طرقٍ للأبدية أم في الأبدية نفسها ؟ أين أنا؟

لم تفارقني الصدمة سنين ثلاثاً، وأنا أتردّد بين المقبرة وبيتي. وآنس مع الأحياء، مثلما آنس مع الأموات، أتحوّل شبحاً، وأتجول طيفاً لا يراني أحدٌ. هل يراني الموتى؟ لكنني لم أتخيل أنّ للشبح تلك القدرة على مشاركة الناس أفراحهم، وربما، الموتى؟ أ ليس للموتى أفراحٌ أيضاً؟


مملكة

كلّما اجتزتُ بوّابة المقبرة
وتخطيتُ تلك القبور
ولاح السياج بعيداً
يسدّ السماء
وشارفتُ قبرك
قلتُ: أ مملكة الموت أعبرُ؟
أم إنّني
- وقد وقف الموت بيني وبينك –
ذاك الغريب الذي اجتاز مملكة
وعاد إلى عالم الناس
وهو الغريب
يودّع بوّابةً
ويغادر
يفصله عنكِ ذاك السياج
يلوح بعيداً
بعيداً
ويصغرُ
يصغرُ
في الأفق
حتّى
يغيبْ


مررنا أنا و حذام ببلدان عديدة ينقصها الدواء فلم يحدث لها ما يفزعني، على قلقي وتوجّسي الدائمين. كنت أتطلّع حولي وأقيس المسافة بين أقدارٍ محتملةٍ، ووطنٍ بعيد وأدفع الموت بيديّ.. ودفعته، فهل كانت نجاتها آنذاك خطأ؟ وحين وصلنا هذه البلاد خفّ هاجسي واطمأن ما كان يختلج في خاطري وخاطرها ، ونسيت أن الخطأ قد يكون معياراً، والمعيار خطأً وأسلمتُ أو أسلمتْ روحها وجسدها إلى مشارط الطبّ، ونجت ثانيةً، بعد أن توقّف قلبُها دقائق، وحين عادت إلى البيت ما كنتُ أحسب أبداً أنها ستفارقني، وفارقتني وما كان ذلك بسبب قلبٍ ضعيف عاد ينبض ثانيةً، بل بسبب خطأ بسيط .. خطأ في المعيار.. معيار دوائها الذي تتعاطاه بعد كلّ فحص دمٍ.
حين قرأت لها قصيدتي عن نجاتها بكتْ كثيراً:
ستأتيك أمي والنائحات
بالتعازيم و الأدعيهْ
سيأتين في الريح كالساحرات
ويُرجعن ما ضاع منّي ليَ
سأوقظ أمّيَ من قبرها
وأصيحُ بها راعفَ الصوت : " أمّي .. أطلّي عليّ ! "
ستهتزّ أمّي كثيرا
لتنفضَ عنها الغبار
ستهتزّ أمّي كثيرا
لتنفض عنّي الغبار
ستهتزّ أمي
ستأتي بأسمالها
ستأتي بصرّتها وعصاها
وتقرع ُ
تقرع ُحول سريرك
حتى تقومي على عجلٍ
وتعودي على قدمين إليّ

من قصيدة ( الوقوف عند بوابة الليل )

وعادت ثمّ رحلت ثمّ عادت ثم ... وها هي تقطع الطرق معي: أترانا نقطع طرق الأبدية ؟

* عبد الكريم، كتبت قصائد عديدة كانت فيها الحبيبة هي المحاور الأبدي سواء في قصائد "عن حذام و بصرتها" أو "مملكة الأنهار". و أكاد، بعد قراءة استرجاعية في دواوينك، أستشعر حضورها يتخلل مجمل أثرك الشعري إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. و قد لمست لديك ما يكفي من الرغبة في البوح و الإفضاء في هذا الموضوع لأتجاسر على طرح سؤالي عن زوجتك حذام. من تكون؟ و كيف ترسم لنا صورتها الواقعية بعدما جعلت منها محاورا رمزيا أو قل "نسيج العناصر في عين الشاعر" على حد تعبير محمد جميل أحمد.
** حين التقيتها كانت في أوائل عشريناتها وحين تزوجتها كانت في أواسطها جميلة مرحة وظل جمالها ومرحها هذان يلازمانها حتى رحيلها . كان لضحكتها رنّة بهيجة أميّزها من بين آلاف الضحكات .. كأنها مخلوقة للبهجة وإشاعة الفرح. لم أرها غاضبة قط، مثلما لم تفارقها وداعتها يوماً حتّى وهي تحتضرعلى فراش المرض. تتحسس راحتي باطمئان وتغيب ذاهلة. كنت أتمنى أن تقول شيئاً .. ولكن هيهات!
بعد رحيلي سنة 1978عبر الصحراء تبعتني وهي تجتاز رحلتها الشاقة أيضاً عبر سفارات تتوجس، وسفرٍ مربك، وأفق مجهول. وحين حضرتْ حضر معها كلّ شيء: أعراس عدن الغائبة، العراق الخائف حتى من الفرح، رائحة الأهل.. إنها نسيج العناصر حقّاً.. ما أجمل تعبير صديقي الشاعر السوداني المرهف محمد جميل أحمد وما أجمل اختيارك!
وفي دمشق كان بيتنا محطة للأصدقاء القادمين والذاهبين من و إلى شمال العراق .. جنوب لبنان.. البقاع.. أقاصي الأرض ، تستقبلهم بوداعتها المعهودة التي اجتازت حدوداً ومخافر وكأنها تجتازها في الأحلام خفيفة لم يروّعها حقولها التي امتلأت ألغاماً .
أتذكر حين استوقفونا في مطار بوخارست طويلا للتحقق من جوازاتنا المزورة ومعنا طفلتنا الصغيرة سارة لم تفزع ولم تتغير ملامح وجهها وظلت تداعب طفلتنا وتكلمها وكأننا في مقهىً أو شارع، رغم منظر العوائل العراقية المحتجزة التي صادفتنا في المطار وهي تفترش الأرض أمام أعين المسافرين في الفسحة المجاورة دوماً لرجال الجوازات.
في طريقي إلى جيكور السنة الماضية مررت بقريتها قرية حمدان التي يعيش فيها أعمامها والتي تقضي فيها دوماً عطلتها كلّما سنحت لها فرصة الذهاب هناك. وجدتها ليست تلك القرية الصغيرة التي حدّثتني عنها ولم أرها والتي كتبت عنها قصة تضمنتها مجموعتي القصصية (المجانين لا يتعبون) هي قصة (اختفاء عبد الرحمن) التي سردتها إليّ بتفاصيلها، وإنما قرية أخرى.. مدينة أخرى تضج بناسها ومشاغلها وصخبها اليوميّ فحذرت السؤال عن أقاربها لئلا أثير أشجاناً لم أكن متهيئاً لها وربما لم يكونوا هم أيضاً متهيّئين لها فاكتفيت بإطلالة سريعة موجعةٍ وغادرت.

* في قصائدك "عن حذام و بصرتها" تحدثت عن مقابر لندن التي هي أشبه ما تكون بحدائق حقيقية. كيف استثمر الشاعر هذه المفارقة المستعصية التي تجعل من فضاء الموت عتبة لاحتضان الحياة؟ أليست هي نفس الثيمة التي أوحت بها هذه المدينة للشاعر إليوت نفسه؟
** مفارقة مستعصية حقّا.. المدينة لدى إليوت جحيم وإنسانها عظمة على الشاطئ وإذا كان ثمة غبطة فهي غبطة لازمنية.. إشراقة هي كالومضة خارج الزمن كما في الرباعيات. تنتظم مواقفه هذه رؤية لاهوتية هي في صلب تفكيره ورؤاه، أما بالنسبة إليّ فليس ثمة رؤية لاهوتية ولا رغبة في الخلاص بل تجربة تتكشف شيئاً فشيئاً عن أحاسيس لم تكن موجودة من قبل، وأشياء تحضر لا بدلالاتها بل بحضورها الممتلئ المضئ الذي يطغى حتى على ما فيها من دلالةٍ. وإذا كان ثمة غبطة فهي غبطة زمنية.. وإذا كان ثمة إشراقة فهي إشراقة في الزمن ذاته.. وليست تلك الإشراقة العابرة التي سرعان ما تنطفئ مخلفة رماد خيبتها وراءها.
بعد أن ألفني الموت وألفته وأصبحت زيارتي المقبرة طقساً عاديّاً اكتسبت الأشياء ظلالاً أخرى وصار للموت ملامح جديدة، وللذاكرة عينان مختلفتان، وما كان غضباً أصبح استسلاماً.. ثمً صار الفقدان يكتفي بما يملأه من ظلال...

مثلما في الحدائق

مثلما في الحدائق
ينتشر الناس عند الظهيرة بين القبور:
مصاطبُ غارقة بالظلال
جناحٌ يمرّ وثرثرةٌ
أ مقبرةٌ هذه؟
أم ترانيَ أخطأتُ؟
ينقصها بضعةٌ من أراجيحَ
ينقصها صبيةٌ
وصياحٌ
لتصبح مثل الحدائق
وسط ابتهاج القبور

* على ذكر الحبيبة "حذام"، أرى أن قصائدك عنها فيها نوع من الميلانخوليا، ما يذكرني بقصائد الحب الحزينة التي كتبها إدغار آلان بو عن حبيبته الفقيدة.
** أجل ! لم أكن غافلا عن هذه المقاربة.. لقد حضرت في ذهني من قبل. في قصص بو: ليجيا وموريلا و أليونورا و في قصائده: الغراب و أنابيل لي و غيرهما من القصائد، ثمة حزن كثيف قاتل و رؤى و أحلام تتداخل مع واقع مسكون بالأبدية و الصمت. و لعل من المصادفات الغريبة التي يثيرها سؤالك هذا أن حذام كانت تحرص على اصطحاب كتب معينة عزيزة لديها في ترحالها الدائم مهما كان ظرفنا الذي نمر به و الذي يضطرنا أحيانا الى التخلص من مكتبات كاملة كما حدث لنا في اليمن أو في دمشق حيث تركنا وراءنا مئات الكتب العزيزة. من بين كتبها الأثيرة التي لا تفرط بها أبدا (مغامرات و أسرار) لادغار ألان بو الصادر عن دار النهار بترجمة الناقدة المعروفة خالدة سعيد.

* في قراءة جميلة لقصيدتك "مملكة الأنهار" يقول الناقد محمد جميل أحمد "و إذ يغادر الناس وتبقى حذام يبرز الرمز الذي يرتقي إلى مصاف صورة الوطن/الأنثى". ما رأيك في هذا التأويل؟ ثم هل فعلا تمثل قصائد "حذام وبصرتها" رغبة الشاعر في إعادة تمثل و صوغ للوطن المشتهى ولو على طريقة الشعر و انخطافاته؟
** القراءة التي كتبها الصديق الشاعر والناقد السوداني محمد جميل أحمد هي من أجمل ما قرأت من نصوص نقدية. إنها نص إبداعيّ بحقّ يمسك ما هو عصيّ على الإمساك. حديثه عن عالمي القصيدة المتجاورين واللذين ينقض أحدهما الآخر، والذاكرة التي لا تتذكر بل ترى، والمرآة التي هي ذات و موضوع، هو من الرصد البارع.
ما الوطن إن لم يكن الحبيبة والبيت والشرفة، وكلّ هذا النسيج من الأشياء غائبةً وحاضرةً؟ غير أن البيت لم يعد هو البيت وقد استحال أشجاراً ونهراً تهبط الحبيبة إليه، ومعراجاً أرتقيه، السدرة بابه والممشى ظلاله، والشرفة لم تعد شرفة (سدرةٌ أم شرفةٌ ؟)، والحبيبة لم تعد تلك التي تسبقها السلاحف في الطريق في مملكة الأنهار القادمة بحذائها الورديّ اللامع في الغبار. عالمٌ يتسع ويضيق وطناً، ووطن يضيق ويتسع عالماً.
أما قصائد (حذام وبصرتها) فهي نمط آخر من الشعر قد تقترب في بعضها من (مملكة الأنهار) لكنها لا تبلغ بدلالاتها ذلك الاحتشاد بالأشياء ودلالاتها التي تحيلها إلى رمزٍ يرتقي إلى مصاف صورة الوطن الأنثى حتى في القصائد التي تقترب من (مملكة الأنهار) لأنها، ربّما، ليس ذاكرة ترى، بل رؤيا لم تكن ولن تكون:


مملكة الأنهار


1- السدرة

هي سدرةٌ
مرّتْ بها الأفعى
ومرّ بها الطريق
وعلّقتْ إقبالُ في أغصانها حرْزاً
وجاء الطير من سبأٍ
وغادرت اليمامةُ
سدرةٌ
أم شرفةٌ
منها أطلّت في الصباح حذامِ
واتكأتْ على خشب السياج
وردّدتْ لحناً
ترى الأفعى تمرّ
ترى الطريق
الهدهدَ المسحور
أجنحةَ اليمامة غادرتْ
- إقبال
هل أعددتِ شاي العصر؟
- هل مازلتِ جالسةً إلى خشب السياج
تردّدين اللحن؟
جاء الليل
وانطفأتْ فوانيس المساء
ونشّرتْ تلك الظهيرةُ ثوبَها المغسول
واختبأتْ بجنّتها السلاحفُ
واستعاد الليل سدرتَهُ
وغاب الناس
إلاّ أنتِ
ساهرةً
وصابرةً
ترين الهدهدَ المسحور
والأفعى
وسدرتك الحبيبة
واليمامة
والطريق
يحدّقون
يحدّقون
- حذام ! هل ما زلتِ؟
هل ما زلتِ؟
ساهرةً
ألا تأتين؟

وابتعدوا
وأظلم...
آه .. أظلم تحت شرفتها الطريق



2- المرآة

عبرتْ بك المرآة.
جسرٌ
تعبرينهُ في المساء إليّ
ضوءُ قواربٍ (تأتي وتذهب)
موجةٌ...
وتكاد تغرقها المياه
وأنتِ
أنتِ مليكةُ الأنهار
تسبقك السلاحف في الطريق
حذاؤك الورديّ يلمع في الغبار
حذاؤك الورديّ عند الباب
تدنو شرفةٌ
وتلوح في المرآة سدرتك الحبيبة
يستطيل النخل
والأسماكُ تلمع
والصغارُ يجذّفون
- حذام.. هل تأتين؟
تبتعد القواربُ
صفحةً بيضاءَ
كان النهر
كانت ليلةٌ أخرى
وتعقبها ليالٍ
والصغار يجذّفون
يجذّفون
يجذّفون


3- البيت

بيتٌ على نهرٍ يُطلّ
أكان بيتاً؟
هل رأيتكِ فيهِ؟
بيتٌ أبتنيهِ
إذا اختفيتِ
أصيح من جزعي "افتحي!"
فيزول
ثمّ يعود أشجاراً
ونهراً
تهبطين إليهِ
بيتٌ أرتقيهِ
إليك
بابُه سدرةٌ
وظلالهُ ممشىً
وخطوكِ في الظلال
يرنّ
يرنّ
يرنّ
حتّى تخفت الأصوات
حتّى تختفي
كلّ البيوت


4- السدرة البيت المرآة

البيت قال:"سأكسر المرآة"
قالت سدرةُ البيت"احترسْ"
قالت:"سأرحلُ"
واختفتْ في صمتها المرآة
واتّشحت نوافذ بالحداد



ضحكة
(على هامش مملكة الأنهار)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لضحكتكِ الهواء
يرنّ
يهبط نورسٌ
ويطير
تلتمع المرايا
والبيوت تغادر الأبواب
ضحكتك الحديقةُ أقبلتْ
بطيورها
و تفرّقتْ
بطيورها
وتوقّفتْ
طيراً
يرفّ
يرفّ
ضحكتك السماء
نجومُها اشتعلتْ
وضحكتك انطفاء



* يظل الحب الموضوع الأكثر شاعرية لدى كل شعراء العالم، أراغون، لوركا، نيرودا و نزار القباني. ألا ترى أن العالم اليوم بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى قصائد الحب الكبير ضدا على حالة الحرب المفتوحة و مشاعر المأساة المثبطة التي باتت تجثم على روح البشر اليوم؟ هل هناك غير الشعراء من هم أقدر على إعطاء الإنسانية شحنات الفرح اللازمة و الأمل في حياة أجمل؟
** نعم.. ثمة حرب مفتوحة ومشاعر مأساة. كنتُ أرى الحرب صورةً وأحداثا بعيدةً اقتربت منها أحياناً في أماكن شتّى: بيروت، البصرة، بغداد، لكنني لم أكن أتخيلها بهذا القرب. ما يطالعنا من مشاهد لا تنتمي لتاريخ بشرٍ: طفل ميت في حافلة ملتف بكفن لا تخرج منه سوى قدميه الصغيرتين، أطفال مرميّون في الشارع وأمهات يقبلن من بعيد بصرخاتهن المفزعة، وشعورهنّ المحلولة في لقطة تعيد إلى بدء التاريخ. ماذا نسمّي ذلك؟ وفي أيّ عصرٍ نحن؟ هل حقّاً أن كوكبنا الصغير قادرٌ على تحمّل كلّ هذه الآلام؟
ثمّة أسئلة أخرى تطرحها إشارتك إلى الحبّ: هل حاجتنا تعبير عن مطمحٍ للشعر إلى مزيدٍ من الحبّ أم حاجتنا تعبيرعن افتقار شديد للحبّ؟ هل هي تشوّف إنساني أم حالة لصيقة بنا نتحرق إليها حين نفقدها؟
ما يثير حيرتي حقّاً هو فقدان شعرنا للحب لا كموضوع شعريّ يتجسد في شخص أو طبيعةٍ أو كون بل كرؤيةٍ إنسانية حادبة على الناس والطبيعة والكون، متواضعةٍ، ذاهبةٍ في العمق من موضوعها: طفلاً أم امرأة أم حجراً..بغض النظر عن قيمة هذا الشعر .
ما نجده بلاغة هي نقيض البلاغة، و ألفاظ جرداء ومهارات هي ليست بالمهارات إطلاقاً لأنّ الشعر ليس حلبة لمصارعة ثيران، ولا عرضاً لرياضيين مفتولي العضلات.
لماذا مثلاً لا أتذكّر من كلّ ركام الشعر المكتوب عن بورسعيد إلاّ قصيدة ناظم حكمت المترجمة إلى العربية، عن صباغ الأحذية منصور؟ أين نجد جواب ذلك؟
نحن لا نجيد حتى الحديث عن أنفسنا. خذ مثلاً الموقف من الموت: كم من القصائد كتبت عن الموت بتجريد لا ملمس فيه لتجربة بتفاصيلها وحرارتها وعذابها! وحين عاش الموت شاعر كالسياب واكتست قصائده لحماً ودماً حقيقيّين متقدّمة ببساطة مذهلة إلى القارئ، كبساطة الموت حين يفجؤنا ظن العديدون من الجهلة بالشعر إن السياب لم يعد يكتب الشعر الجيّد وفي ظنّهم إن الشعر كاتدرائيات ضخمة لم يدخلوها يوماً.
إذا كنّا لا نجيد حتّى الحديث عن أنفسنا فكيف ترى سنجيد الحديث عن الناس وحين أقول الناس فأنا أعني ضمناً ما تتضمنه هذه اللفظة من محبة وأخوّة ومشاركةٍ وتعاطف وكلّ ما يطرأ في الذهن من قيم إنسانية حبيبة إلى البشر، رغم كلّ اختلافاتهم واختلاف أجناسهم.

عن المسرح و الشعر و العالمية
* في موضوع الحرب، خضت تجربة الكتابة الشعرية المسرحية في عمل اعتبره بعض النقاد "أول تجربة في المسرح العالمي من هذا النوع" حيث تم الاشتغال، باللغتين العربية و الانجليزية في نفس الوقت، على نص الكاتب السويسري راموز(V.D. Ramuz) "حكاية جندي" (1918) المستوحى من حكاية شعبية روسية حول جندي يبيع روحه للشيطان مقابل وعد بتحقيق ثروة لا تنتهي.
كيف تفاعلت مع موضوع المسرحية و مع صيغة التأليف المزدوج على أساس فكرة فاوستية بامتياز شاء لها مخرج المسرحيةAndrew Steggal أن تكون بمثابة أليغوريا للتعليق، بطريقة فنية و جمالية، على ما يجري حاليا في العراق؟
** لم يكن موضوعها غريباً عنّي وإن اختلفت تفاصيل النص عن تفاصيل النصوص الأخرى مسرحياتٍ أو حكايات شعبية تناولت الموضوع ذاته، كذلك وجدت ألفة في الشعر الذي كتب به النص وسلاسة نادرة وكأنه مكتوب للإلقاء وليس للكتابة، وليس النص الإنجليزي المترجم بعيداً عمّا تلمسته في النص الأصلي ّ وهو ليس النص الأخير نص المترجمة الإنجليزية ربيكا . وحين طلب المخرج مني أن أترجمه إلى العربية لم يشترط شكلاً معينا، فآثرتُ ترجمته نثراً غير أنني وجدت نفسي إزاء أبيات شعرية خالصة وأخرى تقترب من الشعر وقد تأتي القافية دون أن أطلبها وبدون أن اشعر بها أبداً وكلما أعدت قراءة النص أراه يتشكل أكثر ويقترب من صيغته الأخيرة . لم أكن على عجلٍ ولم يكن المخرج على عجلٍ أيضاً. وكلما قرأت له النص مترجماً إلى العربية وأعدت ترجمته إلى الإنجليزية لكي يفهمه كلما رأيت النص وهو يأخذ أبعاده ليتأسس في اللغة الأخرى التي هي اللغة العربية نصّاً أصلياً لا سيما وأن المخرج أجاز لي أن أتصرف بالنص الفرنسيّ فأحذف ما أريد حذفه وأضيف ما أريد أن أضيفه، غير أنني لا أحبذ الذهاب في حريتي بعيداً عن النص كما فعلت ربيكا، وما إضافتي إلا امتدادٌ لبنيته الداخلية بالذات وليس شيئاً يبدو وكأنه طارئ من الخارج. فأبدلت العربة التي يحمل فيها الشيطان الجنديّ بالبساط الطائر وهذا ما فرضه المخرج أيضا على النص الأنجليزي، وقد أتاح لي البساط السحريّ أن أقترب من أجوائي المحلية لكي أصور بعض المشاهد ذات الصبغة المحلية الخاصة. ومثلما أتاحت لي المسرحية ممارسة الأشكال جميعاً وكتابة الشعر كأنه نثر والنثر كأنه شعر، أتاحت لي أيضاً اكتشاف الامكانات الكامنة في اللغة ومستوياتها العديدة فمثلما هناك مسافة بين الشعر والنثر للتحرك بسهولة فأن هناك مسافة أيضا في التعامل مع اللغة في مسافة تمتدّ من الألفاظ العامية والقريبة منها وحتّى أكثرها جزالة حين تنتقل المسرحية إلى مستوى آخر من الغناء والإنشاد ، وبقدر ما تُؤخذ وحدة العمل في مجموعها بعين الاعتبار أثناء الكتابة بقدر ما تبزغ أبيات لها بروزها الذي يتطلب إلقاءً وانتباهاً من الممثل الذي قد يمرّ بها دون أن يعيرها اهتماماً مثل هذين البيتين اللذين كانا يعجبان المخرج كثيراً ولم يكن ثانيهما موجوداً في النص الفرنسيّ:
يمضي يمضي أبداً أبدا
يهجر ماضيه ويدعوه غدا
*اعتبرت الناقدة الأدبية Sarah Bowie المسرحية "عملا تجريبيا بحمولة سياسية" رغم إصرار المخرج على أبعادها الإنسانية. كيف كان صدى هذه القراءة المباشرة لدى فريق العمل والإنتاج؟ و إلى أي حد يستطيع العمل الفني، في شكله النهائي، خلق التوازن بين الخيارات الجمالية الإنسانية من جهة، وبين ضغط الظرف السياسي الحاسم؟ كشاعر، هل من السهل تحقيق هذه المعادلة دون السقوط في رطانة البلاغة السياسية المباشرة؟
** ما من حمولة سياسية على الإطلاق وقد حرصنا أن نتحرك أنا والمترجمة الإنجليزية والمخرج في داخل النص نفسه ، وأن تكون إضافاتنا ليست جسماً غريباً عليه، ومن جانبي سعيت أن أجد الفراغات في النص، باحثاً عن ثغراته لأنفذ منها إليه لأرممه من الداخل أو أضيف إليه لا بدافع ما لديّ من هاجس سياسيّ ، وإنما طبقاً لما تفرضه عليّ بنية العمل نفسه .
سأورد لك بعض ما أضفته من مشهد البساط السحريّ الحامل الشيطان والجنديّ لأدلّل على ما أقول:
انظرْ!
هل تبصرْ ؟
ذاك النهرْ
دجلةُ ما أجملَهُ!
وذاك القصرْ !
كم يبدو سحريّاً !
لكنْ ما أبشعَ ذاك المنظرْ!

وحين يسأله الجنديّ :
ما هوَ؟

يجيبه الشيطان:
احذرْ !
أن تتردّد في ذهنك تلك الأصداء

حينئذٍ يسأله الجنديّ :
أية أصداء ؟!

لم يكتم المخرج فرحه الشديد بذكر الأصداء وما أضفتْ على الحدث من غموض، أي أن عملنا كان على النقيض مما يدعيه النقد من "حمولة سياسية". ثمة مشهد آخر يكاد أن يكون من وضعي بأكمله عندما ينادي الجنديّ، وقد أصبح تاجراً للأقمشة: يا حلوات ياحلوات، قماشات قماشات، الوصلة بدينار.. إلخ، بإلقاء شعبيّ. بعدها يتحول من تاجر أقمشة إلى تاجر أعلاف، فأصواف، ثمّ إلى تاجر أسلحة، فيغطي لون القماش الأحمر على كلّ الألوان ويسود مشهد جعلته يجري في سوق (القشلة) في البصرة، غير أنّ المحل في ما بعد لم يعد في القشلة وحدها، بل في كلّ مكان حتّى في جسد الطفل. هذا المشهد أعجب الممثلين الإنجليز وتمنوا هم الذين يمثّلونه.
في بعض المتابعات النقدية ثمة لغو ينمّ أحياناً عن عدم معرفة حتى بالأوليات: بعض المتابعات مثلاً ظنت النص العربي مترجماً عن الانجليزية، وبعضها ظنّ أن النص مكتوب باللغة العراقية، وبعضهم ظنّ أنه مكتوب باللغة العامية . وثمة خلط لا أول له ولا آخر يبدو أمامه خلط عزيزنا ستيفان هاو بسيطاً جدّا حين خلط بين برشت ورامبو.

* على صعيد اللغة، كيف تجاوب الجمهور البريطاني مع مسرحية تخاطبه بلغتين في آن واحد؟ ثم انه في بعض المقالات التي تناولت العمل أبدى النقاد و المتتبعين عدم رضا عن بعض جوانب العرض. هل خرجت بأية خلاصات حول ما يتطلبه الجمهور الانجليزي في عمل مسرحي، وخصوصا جمهور مسرح Old Vic الذي احتضن المسرحية، و هو من أعرق مسارح لندن الذي له جمهوره المميز ة المتمرس على الفرجة المسرحية؟
** في الليلة الأولى والثانية كاد يقتصر الحضور على الجمهور الإنجليزي الذي واجه العمل بالتصفيق المتواصل للممثلين العراقيين خاصة. ويا لدهشتي حين رأيت البعض منهم وهو يتبعني بعد خروجي من المسرح ليعبر لي عن امتنانه لما منحه النص من متعة لن ينساها أبداً، مثلما لا أنسى ما قالته لي المذيعة التي قابلتني في راديو 3 "لقد ارتفع النص الإنجليزي إلى الموسيقى أما النص العربي فهو الموسيقى ذاتها" ، أما أيام العرض الأخيرة وقد تمكن الممثلون من اللغة نوعاً ما وأصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم فقد كان الجمهورفيها يتقد حماساً للعمل. كان النصان العربيّ والإنجليزيّ مختلفين تماماً ولكنهما يلتقيان في مواضع شتّى، وكلما افترقا التقيا من جديد. لذلك لا يحتاج المشاهد عربياً كان أم انجليزياً إلى الترجمة لفهم النص.

* على مستوى التمثيل و الأداء، كيف كان تقدير المخرج ثم الجمهور لأداء المثلين العراقيين في هذا العمل ذي المواصفات العالمية؟ و كيف كان شعورك و أنت ترى نصك الشعري يأخذ أبعادا أخرى من خلال بلاغة الجسد و الحركة و حرارة التوهج الدرامي على خشبة المسرح؟
** لم يكن المخرج راضياً عن تمثيل الممثلين الأنجليز ولعل جزءاً من عدم عرضه العمل ثانية هو قراره استبدالهم بممثلين آخرين، بينما هو أبدى ارتياحاً كبيراً للممثلين العراقيين الذين أبدو صبراً كبيراً في التدريب المرهق المتواصل، لا أكتمك أنني كنت مشدوداً للعمل أحسبه نأمةً نأمةً وأتتبع ألفاظه لفظة لفظة وأحسّ كأنني أهبط هاوية أمام أيّ تلفظ خاطئ أو لحن غير مقصود في لغة مسرح تتطلب مستويات عديدة وقافية دقيقة تتطلب انتباهاَ شديداً وسخرية مبطنة تحتاج عمقاً وتحسسا نادراً للألفاظ. قد يكون الممثل جيدا ولكنه ليس بالضرورة أن يكون جيداً في نطقه اللغة بمداخلاتها والتواءاتها وأسرارها.. كانت تجربة احتوت من الفرح بقدر ما احتوت من توجس وانتظار وتصحيح حذرٍ لا يثبط الآخر الذي لا يخلو من تواضع، ولكن التواضع ليس كلّ شيء في العمل الفني ّ.. أيّ عملٍ فنيّ.

* ألا ترى أن مسرحة العمل الشعري تبرز التعدد الصوتي للشعر كما تستخرج طاقاته الكامنة في التعبير على الذات الجماعية فضلا عن ذات الشاعر المفردة؟
** عليك أن تتمثل كلّ شخصية لا بملامحها وحدها وإنما بلغتها ونطقها هذه اللغة، وقد تتعدد الأصوات في الشخصية الواحدة في مواقف مختلفة، دون أن تضرّ بصوتها الخاص الذي يظل خفيّاً كتيّار خفي ّ ولكنه حاضر دوماً، لذلك نرى نجاح الأعمال الشعرية نادراً وهذا ما يفسّر ربما فترة السبات الطويلة التي مرّ بها المسرح الإنجليزي الشعريّ، واستيقاظه مؤخّراً في القرن الماضي عبر تجارب شهد الكثير منها الإخفاق ولم تنجح منها إلا تجارب قليلة لم تشهد بالضرورة إجماعاً في التقييم.
في مشهد يحاول فيه الشيطان إغراء الجنديّ الجائع ثمة صوتان مختلفان وإن كانت اللغة واحدة لغة الجندي المنكسرة التي تنتهي بـ (طعامي، شرابي) والقريبة من العامية (حلو) وبين لغة الشيطان الفخمة التي تنتهي بالسكون الجازم، أو الياء المشدّدة ذات النبر القويّ:

الجنديّ

ما سيكون طعامي؟

الشيطان
لحمْ
عشرة أوقاتٍ في اليومْ

الجندي وهو يعيد إلى جرابه ما أخرجه من أشياء،

و ما سيكون شرابي؟

الشيطان
عرك

الجنديّ
وماذا سأدخّن؟

الشيطان
السيجارَ الكوبيَّ
الذهبيَّ
يدور لفائف في الجوّ

الجنديّ
حلوْ
حلوْ

* مسرحية "حكاية جندي" في أصلها عمل مسرحي موسيقي حيث كتب موسيقاها الأصلية المؤلف الروسي Igor Stravinsky. و قد حاول العمل الجديد أن يحافظ على هذا العنصر المحوري في العمل، خصوصا و أن المسالة تدور حول آلة الكمان التي تجسد، حسب جل النقاد، روح الجندي. وهكذا، يقول محمد ناجي، في قراءته للمسرحية، "لقد منح المخرج الموسيقى وقتا كبيرا و مساحة بارزة بدون أي حوار". كيف استطاع العمل خلق هارمونيا بين الصوت البشري ممثلا في الكلام الشعري و بين توزيع الصوت والصمت والموسيقى؟ ثم، من وجهة نظر الشاعر، ما البعد الذي منحته موسيقى المؤلف العراقي أحمد مختار للكلمة الشعرية لعبد الكريم كاصد ؟
** قد يتسع العرض المسرحيّ للموسيقى والتسلية والطرب والاستراحات الكرنفالية فيجد المؤلف الشاعر أنه في بيته يكتب المقطوعات الغنائية واللغة القريبة من النثر والنثر القريب من الشعر، ويستخدم المستويات والأساليب العديدة التي تجعل من نصّه عرضاً مسرحيّاً حقّاً. لقد اشار نقاد كثيرون ولا سيما الإنجليز منهم إلى أن المسرح لا تختصره المواقف (situations) ولا الأفعـال actions ، وإنّما هناك أيضاً ما يسمّى بالأجواء( atmospheres ) التي لها أهميّتها في المسرح. وهذا ما تحقق في مسرحية (حكاية جنديّ)، فكان لموسيقى سترافنسكي ومقطوعات أحمد مختار وما تخلل المسرحية من صمت أعمق الأثر في الجمهور. لقد واجه الفنان أحمد مختار تحدّياً استطاع التغلب عليه بمهارة وإبداع وحسّ نادر فبهر الحاضرين رغم عدّته الموسيقية الضئيلة وموسقييه الذين لم يتجاوزوا الثلاثة، واستطاع أن يطوّع أشدّ النصوص صعوبة مستخدماً الأطوار الغنائية التقليدية كطور ( المحمداوي ) في الغناء العراقيّ كهذا النص:
إن نحن ملكنا الأشياء
فستملكنا الأشياء
وسنصبح حجراً نتطلع في الكون
حجراً أعمى
مانملكه الآنْ
لن يوهبَ ثانيةً
فلتمسكْ نفسك عن جمع الأشياء
ولتتذكّرْ
أن سعادتنا واحدة لن تتكرّرْ
أو مبدعاً ألحاناً جديدة لهذا النص الصعب المعنون بـ (أغنية الشيطان)، بقوافيه المشددة القاطعة وبتوتّره الدرامي الشديد التكثيف والذي أدّاه الممثل العراقيّ ببراعة حقّاً على صعوبة أدائه:
فلْتلهُ ما شاء لك اللهوْ
ما تحسبُهُ مملكةً تمتدّ
ليس سوى قبوْ

هذا أمرْ
منْ ينتهكِ الحدّ
فليعلمْ
أن هناك حدوداً للصبرْ
سأقودهُ صوب جهنمْ
وسيُشوى حيّاً بالجمرْ

* يقول الشاعر و الكاتب المسرحي البريطاني، هارولد بنتر، الحائز على جائزة نوبل للآداب، سنة 2006، "إن المسرح في جوهره هو فعل استكشاف". ما الذي اكتشفه عبد الكريم كاصد في ذاته بعد كتابة "حكاية جندي"؟
** ليست المسرحية التي بدأت هي المسرحية التي انتهت. لم تكن البداية هي النهاية إطلاقاً، أي أن المسرحية لم تكن مكتملة حين بدأ المخرج العمل بها والممثلون بتدريباتهم، وإنما أخذت تنمو وتنمو وتتكشف شيئاً فشيئاً معهم، مثلما بدأت بالانكشاف معي، أي أن تحولاتها التي بدأت معي فرديّاً سرعان ما اكتسبت طابعاً جماعيّاً لتتخذ أبعاداً أخرى لم تكن موجودة من قبل أو يمكن التكهن بها أبدا.
قد يأتيني قائد الأركسترا لتغيير هذه الكلمة أو تلك أو هذا السطر أو ذاك ، وقد نعود للقديم حين يدخل الفنان أحمد مختار بفكرة أخرى، وقد يطابق الشعر الموسيقى قبل أن يلتقيا لأنهما استلهما روحاً واحدةً. أمّا الممثلون فلم يكونوا غائبين أبداً عن التأليف أيضاً في ما يستحسنونه أو يقترحونه من تغيير في هذه اللفظة أو تلك ، في هذا المقطع أو ذاك، وإن كان ذلك قليلاً، حتّى أنني أستطيع القول أنهم لم يمثلوا مقطعاً واحداً دون أن يحبوه.
لقد كان في تجربة العمل المسرحيّ كثيرٌ من الفردية، وكثيرٌ من الجماعية، دون أن ينقض أحدهما الآخر. وعندما انتهى العمل المسرحيّ وتفرق الجميع ولم نُعد المحاولة ثانية، في عرض آخر، بسبب مواقف معيّنة تتعلق باختيار ممثلين إنجليز جدد وما يتطلب ذلك من أموال كثيرة، ومواقف أخرى تتعلق بالتمويل، شعرت أنني افتقدت شيئاً عزيزاً وأنني افترقت عن عائلتي ثانيةً. ولعلّها مصادفة غريبة أن يتصل بي المخرج اليوم وأنا أنتهي من كتابة الفصل الأخير من كتابنا هذا معيداً الحديث عن المسرحية و ما ينبغي أن نفعله مستقبلاً.

* إلى جانب ترجمتك الشعرية لنص عالمي مثل "حكاية جندي"، قمت بترجمة لدواوين كاملة من عيون الأدب الإنساني، "كلمات" جاك بريفير، و "أناباز" لسان جون بيرس، و"قصاصات" يانيس ريتسوس، ثم "نكهة الجبل" للياباني ساتيوكا تانيدا، و كذلك قصائد للمكسيكي أكتافيو باث، وغيره. بل و أكثر من ذلك، ترجم شعرك إلى لغات عديدة أخص بالذكر منها على وجه التحديد الفرنسية و الانجليزية و الدانماركية. كما وردت سيرتك و أعمالك في معظم أنثولوجيات الأدب العربي، خصوصا في "معجم الكتاب المعاصرين" و " معجم البابطين" و "أنطولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر" للدكتور لطفي حداد و من قبلها "أنطولوجيا الشعر العربي" لسلمى خضراء الجيوسي. أضف إلى ذلك أنك شاركت في منتديات شعرية دولية بألمانيا و السويد و الدانمارك وبريطانيا. كما نشرت و ما تزال تنشر أعمالك في أهم الدوريات و المجلات الأدبية والشعرية أبرزها عربيا مجلة "الكرمل" الرائدة التي يشرف عليها الشاعر العربي الكبير محمود درويش.
عبد الكريم،مع علمي بتواضعك الكبير، صراحة، ماذا تبقى لنا كي نتحدث، بكل جرأة وثقة، عن عبد الكريم كاصد كشاعر عربي عالمي؟
** تكفيني لفظة شاعر. لقد غمرتني أيها الصديق العزيز بمحبة وتقدير نادرين، وجعلتني أنطق بما أجهله، وأعجز عن التعبير عمّا أعرفه، وإذا كان لي من حديثٍ تبقّى فهو الحديث عن محبّةٍ أعرفها وأجهل التعبير عنها.
شكراً لك أيها العزيز ثانية! ومعذرة إذا لم تكن لأجوبتي وضوح أسئلتك وأرقها المعبّر عن روحك المرهف الصابر الدقيق.



#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر خارج النص: الفصل الرابع
- الشاعر خارج النص: الفصل الثالث
- الشاعر خارج النص: الفصل الثاني
- الشاعر خارج النص: المقدمة والفصل الأوّل
- غابات الماء أم غابات الأخطاء؟
- الأيديولوجيا لا تأسرني - حوار: عدنان البابليي
- ترجمات إليوت إلى اللغة العربية
- ما أوسع المقبرة.. ما أضيق الجبل!
- نوافذ
- مرثية
- أربعون فدّاناً- ديريك والكوت
- هنالك في مالمو
- شهادة أم شهادتان: القسم الثاني
- شهادة أم شهادتان: القسم الأول
- قصائد قصيرة
- شجرة الرمّان..شجرة طفولتي
- الضحك
- الرحلة الأخيرة إلى المربد
- البناؤون
- حوار حول حكاية جنديّ


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - الشاعر خارج النص:الفصل الخامس