أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمعة كنجي - آثار على الثلج















المزيد.....

آثار على الثلج


جمعة كنجي

الحوار المتمدن-العدد: 2857 - 2009 / 12 / 13 - 23:00
المحور: الادب والفن
    


آثار على الثلج

سحابة من دخان المدافئ الخشبية تنعقد فوق قرية ( بوزان) ، فالبرد شديد ومن الشمال تهب رياح شتوية قارصة تلسع الجلد.. وتحت احد الجدران- في مواجهة شمس المغيب- قرفصَ جمع من الفلاحين يسعلون، ويثرثرون، ويدخنون وعندما اقبل عليهم العم(عبد الرحمن حسن) واخبرهم بأنه لم يبق في بيته سوى أرزاق يوم واحد، هزوا رؤوسهم في أسى وحيرة.. ما الذي يستطيعون أن يفعلوه له؟ فالجوع يهدد الجميع، لأن الموسم الزراعي المنصرم كان مجدبا ً.. عندئذ ذكر لهم بأن في نيته الذهاب غدا ًإلى الجبل للاحتطاب، فالحطب يباع بثمن جيد في مركز قضاء(الشيخان). لكن الرجال نظروا إليه بتعجب واستغراب كأنهم ينظرون إلى معتوه. وقال شيخ طاعن في السن:
ـ الذهاب إلى الجبل ـ في هذا الوقت- يعني الموت.
وبعد تفكير أجابه العم عبد الرحمن حسن بهدوء:
ـ الموت أهون من الجوع.
***
... قبيل فجر اليوم التالي امتطى حماره الفحمي، شرع يوجهه بحذر شديد في وادٍ عميق ينتهي بسفح جبل هكَار، كان البرد قارصا ً يلسعُ جلده بقسوةٍ، من حوله كانت ظلمة رمادية كثيفة تلف الكائنات بأجمعها.. في الأفق الشرقي بدأت تلوح له بوضوح هالة فضيّة رقيقة. همسَ:
ـ هاهو الفجر يقترب.
الطريق من حوله محفوفة بالخطر، قد يؤدي ابسط خطأ من جانبه إلى انهيال الرصاص على رأسه كالمطر. لكنه يعرف الطريق شبرا ًشبرا ً، أفضل من معرفته لراحة يده. لذلك قرر أن يجتازه في وقت مبكر من الليل تحت جنح الظلام.. ظل يصغي بانتباه بالغ إلى وقع حوافر الحمار على الأرض الصخرية القاسية. بيد أن الضجّة كانت تضيع في خضم زمجرة المياه الغاضبة المتدفقة بين الصخور الجبلية الناتئة.. هاهو الفجر. بدأت الهالة الفضية تلوح له بلون أرجواني. طرقت أذنيه زقزقة الزرازير المتزاحمة على شجيرات العوسج.. إلى يساره في وسط الوادي انتصبت أشجار الحور والصفصاف بكآبة كأشباح حزينة.. مرق أمامه فجأة من بين الدغل أرنب مذعور أجفل الحمار. عندئذ ترجل الفلاح، بصق على الأرض وهو يقول:
ـ الأرنب فأل سيء لكن الأمور بيد الله!
مضى يسوق الحمار بحذر أشد . لاحت له الهضبة إلى جهة الشرق، توقف قليلا ً ثم أمعن النظر خلال الظلمة الكثيفة وهو يهمس:
ـ هؤلاء هم.
عاود السير مرة أخرى، امتلأت خياشيمه بعبير الأخشاب المبتلة. رأى الدائرة الأرجوانية في الأفق الشرقي تزداد اتساعا ً فخاطب نفسه:
ـ لقد خرجت متأخراً بعض الوقت، لكني اجتزت منطقة الخطر على أي حال. قد أبلغ الجبل قبيل بزوغ الشمس.
امتطى حماره ثانية شرع يسوقه بحذر أقل... ثم انحرف الطريق عن الوادي إلى سهل منبسط. أحنى الحمار رقبته ليلتهم قبضة من الحشائش.
ـ الآن صرت بعيدا ً عن الجُند. حتى لو أطلقوا النيران فإني في مأمن من شرهم سأصل الجبل قريبا ً.
بدأ الفجر يزحف بسرعة، لاحت له الكائنات بلون رصاصي. تناهت إلى أسماعه زقزقة الطيور تغني بجذل للفجر من مخابئها في الدغل مؤذنة بطلوع نهار جديد. أصغى إليها في نشوى، وهو يحمي كفيه بين طيات ملابسه من لسع هواء الفجر البارد، عندما أشرقت الشمس كان قد بلغ قمة الجبل.. في منعطف الطريق بذل الحيوان محاولة أخرى لقضم قبضة من الكلأ فتركه قرفص بجانب شجرة بلوط في مواجهة الشمس البكر. قال بتذمر:
ـ ما أفظع البرد في الجبل.
حاول أن يهيْ لنفسه سيكارة لم يفلح إلاّ بعد محاولات عديدة، برغم أن الجهد الذي بذله في الصعود قد بعث في جسده الدفء .
طار من أمامه حجل كان يسرح في عرض الطريق، مثيرا ًصخبا ً عظيما ً، وهو يزعق بسخط حتى اختفى على مسافة غير بعيدة.
لاحت له الغابة مقفرة كئيبة موحشة في ذلك الفصل من السنة.. كانت الأشجار تنتصب عارية في خشوع كأشباح محزونة.. على الأرض تتبعثر في فوضى أكوام من الأوراق الذابلة والأغصان الجافة المتكسرة.. كل شيء يبدو موحشاً ساكنا ً. في أعماق التربة أيضاً ترقد البذور في سباتها العميق بانتظار هزة الربيع السحرية لتبعث فيها الحياة والحركة من جديد.
تنفس بحبور رائحة الغابة السحرية ملء صدره.
فرك يديه وهو يتأمل مخيمات الجند فوق الهضبة. من وراء الهضبة لاحت له السهول واسعة منبسطة تمتد في الأفق.. تتناثر عليها آلاف القرى البائسة. تناهت له أصوات إنفجارات بعيدة :" طم! ..طم!"... الجحيم يفتح أبوابه على هذه الربوع منذ أعوام. حمد ربه لأن النيران المندلعة لم تمتد بعد إلى قريتهم. نظر إلى القرية الرابضة تحت سفح الجبل في نهاية الهضبة مباشرة، رأى خيوطاً بيضاء من الدخان تتصاعد من المدافئ الخشبية، من بيوت القرية ثم لا تلبث أن تتجمع إلى الشرق على هيأة سحابة ناصعة البياض.. اهتز جسده فجأة وتقلص على أثر قشعريرة مفاجأة، فنهض، فرك يديه بقوة ثم خاطب نفسه بصوت عالٍ:
ـ لقد بردت، ينبغي أن أعمل حالاً لكي أبعث الدفء في جسدي. سار عدة خطوات والفأس في يده، سمع طقطقة الأغصان اليابسة تتكسر تحت قدميه. التفت إلى الوراء على اثر خشخشة في الغابة، لمح رجلين يرتديان الملابس الكردية يتقدمان نحوه، أدرك أنهما من الحرس. خطر له أنهما قد يعتقلانه.. تذكر نصيحة الشيخ بالأمس، غير انه تمالك نفسه ووقف ينظر إليهما بشجاعة. كان الأول فتى أعور نحيف القامة، والآخر كهلا ً في الخمسين من عمره، قصيراً ضعيف البنية، مربد الوجه. بادره الكبير قائلا ً بلهجة غير ودية:
ـ مرحباً يا ابن العم.
تأمل الفلاح وجهه القاسي الذي لا يبشر بالخير. وأجاب:
ـ مرحبا ً.
ـ من أي قرية أنتَ؟
ـ من بوزان.
ـ أظن أنك جئت تحتطب؟
ـ اجل!
ـ ألا ترى في ذلك خطورة على حياتك؟
وأشار الفلاح إلى ملابسه الرثة وهو يجيب:
ـ خطورة؟ هذا صحيح لكني رجل معدم، أولادي جياع، لا يوجد أي عمل آخر فقررت بيع الحطب.
ـ أين تبيع الحطب؟
بعد لحظة تفكير أجاب:
ـ في مركز القضاء حيث يدفعون ثمنا ً جيدا ً.
ـ لكن كيف تذهب إلى هناك إن لم يكن لك علاقة بالحكومة؟
ـ أوه! أذهب إلى هناك خلسة مثلما جئت إلى هنا خلسة.
بعد لحظة سأله الرجل الكهل:
ـ لمَ لا يلتحق أهل قريتك بصفوفنا؟
أجابه الفلاح بعد تردد قليل:
ـ نحن فقراء.
تطلع الفتى إلى رقعة السماء لمح غيوما ً بيضاء تزحف باتجاه الغرب. ثم التفت إلى صاحبه وقال بلهجة ذات مغزى:
ـ لنمضِ ِ!..
بذات اللهجة التهديدية قال الرجل الكهل وهو يعلق بندقيته في كتفه:
ـ لا تحاول أن تخدعنا . لا توقد أي نار، لأن الدخان يلفت نظر العدو.
..ثم مضى الرجلان فراقبهما حتى اختفيا في الغابة بين الأشجار الكثيفة. عندئذ قال في سره:
ـ إنهم شرسون!
ألقى نظرة أخرى على القرية. الدخان يتصاعد من المدافئ دون انقطاع.. والرجال؟؟ إنهم الآن يقرفصون تحت أحد الجدران في مواجهة الشمس.. ماذا تراهم يقولون عنه؟ مجنون؟ ليكن.. غدا ً سيحصل على وزنة حنطة، سينقذ أولاده من غائلة الجوع. أما هم سوف يتعجبون أشد العجب لذلك.
.. ظل يجتر أفكاره حتى انحدر على السفح الآخر للجبل، فاختفت القرية عنه. لاحت له إلى الشمال سلاسل جبلية متعاقبة ترتفع بشموخ حتى عنان السماء، وقد أحاط ضباب بنفسجي بآكامها البيضاء.
ارتعد جسده من البرد، لكنه كان يدرك بأنه سيدفأ بالعمل. وارتفعت يده في الهواء قابضة بقوة على الفأس:
ـ طاق.. طاق.. طق.. طقطق..
كان صدى ضربات الفأس يتردد في أنحاء الجبل . ومضى الرجل يقتطع الخشب بهمة ونشاط وهو يفكر مع نفسه:
الأمور إلى حد الآن على ما يرام. سأرجع في الليل لن يلحظني الجند. أما هؤلاء فلن يعودوا ثانية!
بعد فترة من العمل قرر:
ـ سيكون حمل الحطب جاهزا ً عند الضحى.
استمر يقطع الخشب ويشذبه من الأغصان الصغيرة. استمر فترة طويلة بدون توقف. بين آونة وأخرى كان يمسح العرق المتصبب على جبينه بكمه، كان يختار خشب البلوط أو العفص، فبقية الأخشاب رديئة غير مرغوبة. وينتقي متوسطة الحجم، لأن الغليظة ترهق الحمار والرفيعة زهيدة الثمن.. أحسّ بالجوع فجلس على صخرة فيها حفرة مليئة بمياه المطر.. نظر إلى السماء رآها ملبدة بالغيوم.. غيوم بيضاء زاحفة نحو الشرق. على مقربة منه غرد عندليب، أثار انتباهه التراب الرطب الذي طرحه النمل حول حجره في الليل، فتطلع ثانية إلى صفحة السماء بشك. أيقن أن الثلوج ستتساقط بغزارة.
عاود العمل كرة أخرى. صفع وجهه رذاذ من المطر. آه ..
لقد بدأت تمطر شرع يفكر بقلق في أمر العودة وهو يضرب بالفأس على أصل شجرة بلوط يابسة. استمر يعمل بسرعة فائقة... كيف يتسنى له أن يقطع ذلك الجزء المكشوف من الطريق الممتد بين الجبل والهضبة؟ محنة! لو رأوه ينحدر من الجبل؟! قطعت أفكاره إنفجارات متلاحقة غير بعيدة. ثم مرقت من فوق الغابة طائرة تئز بغضب رفع رأسه لكنها اختفت عنه بسرعة البرق.
... هاله أن يرى نتفات من الثلج تتراقص فوق رؤوس الأشجار باضطراب شديد قبل أن تصل الأرض لتذوب. قال يحذر نفسه:
ـ يجب أن افرغ بسرعة.
شرع يراقب بيقظة بالغة نتف الثلج وهي تذوب مباشرة بمجرد وصولها إلى ارض الغابة المبتلة.
انهمك في جمع الأخشاب المقطوعة. اخذ تساقط الثلج يتزايد. بدأت النتف تقاوم قليلا ً قبل أن تذوب. شعر ببرودة فظيعة تدب في يديه المبتلتين. لكنه ناضل بعناد حتى رزم الحطب وحزمه فوق ظهر الحمار. أظلمت الدنيا.. هبَّ إعصار. امتلأت السماء بمجموعات هائلة من نتف الثلج المتجهة نحو الأرض باضطراب شديد. بعد فترة أضحت الأرض بيضاء بلون الورق. ضاعت معالم الطريق أخذ الرجل يهتدي بالصخور الكبيرة والأشجار الباسقة. عندما اعترضته شجرة صنوبر ضخمة علم أنه يسير في الاتجاه الصحيح.. تزايد تساقط الثلج حتى لم يعد بإمكانه أن يرى أكثر من مسافة عدة أمتار. وصل إلى منحدر صخري ساق الحمار بحذر شديد. توقف لحظة ليزيل الثلوج المتراكمة على قلنسوته وكتفيه، وحذائه المنسوج من الصوف.
خطرت له فكرة مرعبة:
ـ ليس بالإمكان المرور من هناك في وضح النهار إنهم سيطلقون النيران بدون سابق إنذار. التوقف أيضا ً معناه الإنجماد فالموت.
بدأ يهبط السفح الآخر للجبل. كانت الرياح تعوي في الوديان. الغيوم تندفع مسرعة من فوق رأسه. تدحرجت قطرات باردة من المياه على قفاه متوغلة باتجاه الظهر.. ابتلت ملابسه. شعر أن أصابعه تتورم حتى كاد يطفر منها الدم، وأضحى من المستحيل عليه أن يستمر في المشي. قال لنفسه:
ـ سأتوقف في احد الكهوف حتى المساء.
كان يشعر بمشقة وهو ينتزع قدميه من بين الثلوج الرخوة الهشة. الحمار أيضا ً يترنح تحت حمله الثقيل ويرتعد من البرد.. لاحظ أن الغيوم - باتجاه الجنوب- أخذت تتبدد بسرعة لائذة نحو الغرب على هيأة سحابة سوداء قاتمة. تابع سيره.. كان صوت الإنفجارات يطرق أذنيه بوهن. الرياح الشتوية ما تزال تعربد بقسوة في الغابة فتهتز لها الأغصان ملقية بحملها الثقيل من الثلج على الأرض، توقف سنور بري يتأمل في استغراب المخلوق العجيب الذي اقتحم عليه الغابة في ذلك الجو المكفهر. انحنى الرجل ليلتقط حجرا ً من تحت الثلج فولى الحيوان الأدبار مذعورا ً.
خف تساقط الثلج، ثم انقطع تماما ً لاحت له السهول مغطاة بالثلوج حتى أطراف مدينة الموصل. وأشرقت الشمس لحظة من ثغرة بين الغيوم . فكر الرجل:
ـ إنهم لا بدَّ قلقون الآن.
تابع سيره. زلقت رجل الحمار ترنح باتجاه الهاوية لكنه استعاد توازنه ومضى في طريقه بإذعان. كان قد بلغ الآونة، منتصف السفح. عاد يفكر ثانية في أمر العائلة ورجال القرية هم ينعتونه بالبغل لدأبه على العمل.. ماذا تراهم يقولون عنه الآن بعد هذه المخاطرة؟ البغل المجنون؟ ليكن إنه على أي حال يعرف كيف ينتزع رزقه حتى من بطن صخرة. وهو كثيرا ً ما يقول لهم: أيّها الكسالى. يا أولاد العاهرة. إن الرجل خلق للعمل.. انه يعلم أنهم يتصورونه نصف مجنون. قطع عليه تفكيره أزيز طائرتين تحلقان فوق رأسه ببطء.. تابعهما بأنظاره وهما تتجهان نحو الهضبة ثم تستديران نحو الجبل.. حوّمت أحدى الطائرتين فوق الجبل على شكل دائرة حتى بلغت قمة الجبل ثم انقضت كالصقر فوق رأسه مزمجرة كالرعد.. أحسّ بالخوف والوحدة فجمد في مكانه:
ـ طط...ط..طط..طم!
رشقته الطائرة بصلية من مدفع رشاش. ثم أعقبتها الثانية برشقة أخرى تطاير في الهواء من حواليه خليط من التربة ونتف الثلج والأغصان المتكسرة ومرقت بالقرب من أذنه شظية تطن كالزنبور.. لمح على صفحة الثلوج حفر حمراء غير عميقة، اندفع إلى بطن الوادي بدافع غريزي غير آبه إلى الشجيرات الشائكة التي اعترضت طريقه. علت وجهه صفرة مريعة، أحس برغبة عنيفة لقضاء حاجة طبيعية. قبعَ في مكمن حصين بين الصخور، شرع يراقب الموقف بذعر وهو يرتجف من الخوف والبرد. أحسّ بدفء شديد في قدمه الأيسر، لمح بقعة من الدم على حذائه فهمس:" لقد جرحتُ! لكنه جرح بسيط على ما اعتقد" تطلع إلى الحمار كان ما يزال واقفا ً في مكانه، عادت إحدى الطائرتين لتشن غارة أخرى. رأى الحمار يكبو مترنحا ًثم يتدحرج باتجاه الوادي، ندت عنه نهقة قصيرة متوجعة ضاعت في غمرة هدير الطائرة الصاخب نهض الرجل بصق بغضب تفو وهو يتابع بأبصاره الطائرة التي ابتعدت في الجو. وقال بحزن:
ـ لقد نفق الحيوان.
تأمله بأسى، وهو يعاني النزع الأخير.. ثمة شظية اخترقت رأسه تحت العين مباشرة قوائمه تختلج بوهن، رأسه يمتد في إعياء فوق الثلج. أسنانه منطبقة على بعضها في تكشيرة مريعة تنطق بهول الموت. خليطا ً من الروث والثلج والطين الأحمر تحت الحيوان فقال:
ـ يجب أن أحرره من حمله على الأقل.
بعد أن نفذ مهمته جلس على الثلج بجانب الجثة بدأ يلف سيكارة.. شرعت مجموعات أخرى من الغيوم تندفع للغرب. أحس ببرودة جليدية تسري في عظامه.. آلمه جرحه نزع الحذاء، تمتم أن الجرح بسيط لن يعيقه عن المشي، تخثرت دماؤه حالاً بفعل البرودة الشديدة. تناهت إلى أسماعه قرقعة قريبة، ومن خلال الضباب الذي بدأ ينقشع تدريجيا ً بدت له معالم غير واضحة من قريته. تذكر أطفاله الجياع، ورجال القرية الذي سيسخرون كثيرا ً لحماقته.. عندئذ سحب نفسا ً عميقا ً من الدخان، تنهد، ثم طوح بالسيكارة فوق الثلج غاضبا ً، قال بصوت مسموع:
ـ سأوصل الحطب إلى القرية حتى لو كان في ذلك هلاكي.
قعد على الثلج مستندا ًعلى عجيزته، غارسا ً قدميه في الأرض بقوة. امتدت يداه إلى الوراء سحب حمل الحطب فوق ظهره بعناء شديد وببطء مميت ومشقة قاتلة تمكن أن يعتدل في جلسته مستندا ً على أطرافه الأربعة مثلما يفعل الحيوان، هكذا شرع يصعد من بطن الوادي الى الطريق على أرض مغطاة بالثلوج الهشة.
قبيل الغروب وصل الهضبة. تساقطت الثلوج من جديد. لكن الرجل واصل طريقه نحو القرية بعناد عجيب، وظهره يكاد ينقصم تحت حمله الثقيل.. كان يشعر بجوع شديد، وتؤلمه ذكرى الحيوان المسكين الذي ظل منطرحا ً على الجليد في بطن الوادي، لكنه واصل طريقه وهو يترنح في مهب الرياح الشتوية الباردة، ومن ورائه ظلت آثار أقدامه على الثلج حتى جن الليل..
وبلغ القرية.
وتساقطت ثلوج غزيرة فمحت كل أثر.

جمعة كنجي



#جمعة_كنجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرية المهجورة قصة قصيرة
- القلعة القديمة قصة قصيرة
- المقامة التكريتية
- الخلاص قصة قصيرة
- الثلوج قصة قصيرة
- كوخ على نهر الكومل*قصة قصيرة
- الاحتجاج قصة قصيرة
- في دائرة البيطرة .. قصة قصيرة
- العلاج الديني للأمراض لدى اليز يدية
- الأشجار لا تموت
- العقاب العادل
- السمكة الفضية
- الثيران لا تستحق الرحمة !
- الطوفان
- الشمس والثلج والجبل
- الينبوع الحزين
- الديك في مملكة الثعالب
- لماذا هرب الحصان ؟
- البيضة


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمعة كنجي - آثار على الثلج