أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - الشاعر خارج النص: الفصل الرابع















المزيد.....



الشاعر خارج النص: الفصل الرابع


عبدالكريم كاصد

الحوار المتمدن-العدد: 2852 - 2009 / 12 / 8 - 14:14
المحور: الادب والفن
    


تأليف: عبدالقادر الجموسي

مساحات الشعر اللامتناهية

حوارية امرئ القيس

* عبد الكريم كاصد، أتوسم أن ينقلنا ديوانك "قفا نبك" إلى معارج أخرى. لمقاربة هذا الديوان، أحبذ أن أبتدئ سؤالي من بلاغة العنوان بوصفه العتبة الأولى التي يحتضن بها القارئ كل نص جديد. قلت في إحدى حواراتك أن العنوان لا يضيء النص وحده، و إنما يضيء النص و كاتبه. كيف تختار عناوين قصائدك و دواوينك عموما؟ ثم كيف تضيء عبارة "قفا نبك" عوالم هذا النص بالتحديد و كيف تكشف نوايا صاحبه؟
**للعنوان، بسيطاً كان أم مركّباً، أهمية في إضاءة النص عبر ما يضفي عليه من معنىً أو إشارة أو إحالة إلى نص آخر، وقد يشمل بإضاءته المجموعة بأكملها كعنوان (سراباد) مثلاً لما احتوته كلمة سراباد من تيه و ترحال دائم غلب على معظم قصائد المجموعة، أو (الحقائب) حيث كان السفر هو الموضوعة الأساسية، وقل ذلك بالنسبة إلى (النقر على أبواب الطفولة) حيث الموضوعة الرئيسية أو ما يسمى بالمهيمنة هي الطفولة، ولم يكن (قفا نبك) بمنأى عن هذا المنحى في الاختيار عبر ماضٍ نستعيده قصيدة وحاضرٍ نستنطقه طللاً.

عندما أنهيت كتابة معلقة امرئ القيس كان العنوان حاضراً حضور القصيدة ذاتها يرافقني في كل سطر و مقطع، وحين أعددت المجموعة للطبع كان هذا العنوان أبرز ما فيها وقد أضاءته النصوص الأخرى مثلما هو أضاءها ماضياً وحاضراً فلم يعد ذلك الماضي الذي يتجسد طللا، بل امتدّ ليشمل تاريخاً وصحراء لا تمتد في الواقع وحده، وإنما في أعماقنا أيضاً نحن الضاربين في التيه منذ ثلاثين عاما ولم نصل بعد وقد أضعنا مكاننا الأول. أفكر أحيانا هل (قفا نبك) هو التسمية الأخرى لـ (سراباد)؟ أهو وقوفنا الطارئ في هذه المسيرة الطويلة أم هو وقوفنا الطويل في مسيرتنا التي أصبحت طارئة وقد تشابهت الأمكنة؟ في هذا العنوان الكاشف تلتقي الذات وموضوعها، الحاضر وماضيه ، القصيدة وأحلامها وما يبدو ضوءاً في إشارته هو اللعنة ذاتها: قفا نبك وهي تطل من النصوص مؤذنة بما يأتي ولعل في هذا المشهد الذي يبدو أنه لانهائي، يمارس العبث لعبته، والسخرية أصولها، ويتحول الطلل إلى إشارة أيضا إلى صاحب العنوان ونواياه.


* ما هي دواعي اختيارك للشاعر امرئ القيس؟ هل لتجربته الحياتية الاستثنائية أم لرمزيته الشعرية التي بوأته وضعا تأسيسيا في تاريخ الشعر العربي؟ أم لغنائية قصيدته؟

** اختياري عائد إلى القصيدة ذاتها وقد أصبحت لا شعوراً في ثقافتنا العامة والخاصة معاً.. لا شعوراً يحضر بدلالاته الخاصة في أحلامنا وتأملاتنا وكتاباتنا، مثلما يحضر صورةً شبيهة بتلك الصورة التي تحدّث عنها كالفينو ، أو إذا شئت شبيهة بما يتحدث عنه ( الجشتالت) في تمثل الشكل بكليته لا بأجزائه، وليس أدلّ على ذلك من أنني عندما حضرتِ الصورة أو الفكرة (كما اعتدنا أن نقول) حضرت القصيدة بأجمعها مثل بناء اكتمل فجأة ولم يبق لك سوى أن تؤثثه من الداخل وتعيد ترتيب أشيائه.

ما من استعادة في القصيدة وإنما هنالك تركيب ، واستدعاء لأزمنة وأمكنة قلّ أن تتضمنها قصيدة أخرى بهذا الاتساع والتعدد، وما تخلل ذلك من سردٍ يقطعه بوح لا للحبيبة وحدها وإنما للموجودات الأخرى فكأنّ الشاعر يقف لا إزاء أغراض محدودة كما يزعم النقد، وإنما إزاء الكون بتجلياته العديدة ابتداءً بالحبيبة وانتهاءً بطقوس الطبيعة من مطرٍ و وحش.
* في توصيفك لقصيدة "قفا نبك" اعتبرتها "محاولة لإعادة كتابة معلقة امرئ القيس بأسلوب آخر". كيف استطعت أن تتحرر من سلطة النص الأول و جمالياته المؤسسة على خصائص الشعر الجاهلي؟
** ليس ثمة سلطة هنا.. ثمة شيء أقرب إلى الحوار.. ثمة غياب للنصين وحضورلهما. يغيب نصّي ليحضر الآخر ويغيب الآخر ليحضر نصّي، وبين الاثنين ثمة لعبة خفيّة في الظهور والاختفاء. ثمة أساليب لا أسلوب واحد وثمة نصّان لا نصّ واحد، غير أن هذين النصين متشابكان أحياناً حتى لتجد أن من الصعب الفصل بينهما. حين أقول مثلاً:
وتصدّين عن عارضٍ واضحٍ
وتردّين عن ناظرٍ من نواظرَ وحشٍ بوجرةََ
جيدك ، جيدُ المهاة ، هو الحَلْيُ دون حُلُيّ
إذا ما برزتِ

هذا المقطع هو صدىً لهذين البيتين:

تصدّ وتُبدي عن أسيلٍ وتتقي بناظرةٍ من وحش وجرةَ مطفلِ
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ إذا هي نصّته وليس بمعطلِ

ثمة مسافة بين النصين تحيل النص الأول، الذي كان صدىَ، إلى صوتٍ آخر يحتوي الصوت الأول وينأى به بعيداً حيث تتردّد الأصداء من خلال قوافي النص الداخلية وجناسه (تصدّين، تردّين).. من خلال التقابل بين (عارض ، ناظر) ومن خلال ما يسمى بالجناس اللفظي أي تكرار حرف واحد في كلمات عديدة في نصي كتكرار الضاد والظاء (عارض، واضح، ناظر، نواظر) والحاء في (وحش، حلي، حلي) والجيم في (وجرة، جيد، جيد المهاة). والتحول الذي يطرأ في شطر البيت الثاني باختصاره في: (إذا ما برزت).
وقل ذلك في ما سبقه من مقطع:

إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء، ضامرة الخصر
هفهافةً
( يصمتُ الحجلُ حين تميلين )
مصقولة أنت عند الترائب

الذي هو صدىً للبيتين :

إذا قلتُ هاتي نوّليني تمايلت عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل

ما الذي يجمع بينهما و ما الذي يفرقهما؟ هل الأسلوب وحده؟ هل حقّاً أن نصي في هذا المقطع هو صدىً للبيتين أم أن ثمة شيئاً يضفو على هذا الصدى فيحيله صوتاً ؟ ثمة ثبات وحركة.. ثبات النص الأصلي بسياقه الذي اكتسب سياقاً آخر مترابطاً، وحركةً تخرق الثابت وتحاول تجسيد المشهد لا بالكلمات القادمة من النص، بل بكلماتي وهي تحدّق في مرآتها لترى في البعيد ظلالها وهي تحضر وتختفي. إنها أقرب إلى اللعبة أو المخيّلة إذا شئت وليست مجرّد أسلوب:

بات والسرج حتّى الصباح
وبات لجامُهُ في فمهِ
وهو ذاك الكريمُ بعينيّ
لا مهمَلٌ أو ذليلٌ

هنا يترك السياق مجاله للدلالة التي هي ليست الدلالة الأولى في قصيدة امرئ القيس وإن كانت هي أيضاً .. هنا يشتبك القديم والجديد ليؤلفا شيئاً واحداً هو أبعد من الحديث عن الأسلوب.
هذه الأبيات كانت بيتاً واحداً لامرئ القيس هو:

وبات عليه سرجه ولجامه وبات بعيني قائماً غير مرسل

ما العلاقة بين الاثنين، بين حضور أحدهما وغياب الآخر، وتبادلهما الأدوار في الحضور والغياب؟

أو خذ هذا المقطع مثلاً :

أنتِ يا للفتيت من المسك فوق فراشك
أنتِ النؤوم .. نؤوم الضحى
لم تشدّ نطاقاً
إذا ما استطالتْ ودارتْ بثوبين في الدار
أنتِ العمايةُ لي والصبا حين يسلو الرجالُ الصبا
والعمايةَ
كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ

أصل هذا المقطع هذه الأبيات :

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق بتفضل
إلى مثلهـا يرنـو الحليم صبابـة إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول
تسلّت عمايات الرجال عن الصبا وليس صباي عن هواها بمنسلِ
ألا ربّ خصم منك ألوى رددته نصيحٍ على تعذاله غير مؤتل

ما الذي فعلته في هذا النص؟ لقد تحوّل من سياقٍ إلى نصّ دلاليّ، من الغائب إلى المخاطب ومن الخبر إلى الإنشاء، وعبر هذه المخاطبة حاولتُ أن يكون للمشهد حركته وإيقاعه وزمنه الحاضر الذي يمتص ماضيه ليشيع فيه ظلالاً نائية يبصرها الآخر دون أن يغادر المشهد الحاضر.
رافق هذا التغيير التخلص من علائق خارجة عن النص:


إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
أو
وليس صباي عن هواها بمنسل

ولا يخفى التغيير في الأبيات الأخرى، الذي يتجاوز الأسلوب إلى ما هو أبعد منه. هناك إذن حضور وغياب.. حضور غائب، إذا صحّ التعبير، وغياب حاضر، وظلال تتقدّم أحياناً، دون أن تطمس المشهد الذي يظلّ بارزاً.. معلناً معاصرته في استدعاء ماضيه. ولا يخفى على القارئ أيضاً ضعف البيت الرابع وسكونه الذي تحول إلى بيت آخر:

كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ

متخلّصاً من الزوائد (غير مؤتل) أي غير مقصّر. اعتقد أنها زوائد وليدة الصنعة والانتحال.
من جهة أخرى أوردت بعض أبيات المعلقة في نصّي كما هي بلا أي تغيير:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الأصباح منك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأن نجومه بكلّ مغار الفتل شدت بيذبل

أو :
مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخرٍ حطّه السيل من عل

أو:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

ذلك لأنّ في البيتين الأولين من الدلالات ما يجعل أية إضافة دلالة أخرى صدى باهتاً لتلك الدلالات التي أصبحت مثلما قلت لاشعوراً جمعياً، ولأن في البيت الثالث من الحركة والامتلاء ما يجعل أية محاولة للاختصار أو الإضافة أو التحوير تشويهاً للنص، ولأن في البيت الرابع من الحسّية ما يجعلني عاجزاً عن النفاذ إلى ما فيه من معنى غائر جديد. هذا بالإضافة إلى ما في هذه المحاولة من تغريب يوقظ لدى المتلقي إحساسه باختلاف النصين ، قبل أن يستغرق في النص الجديد كما أشار إلى ذلك الصديق الفنان المبدع فيصل لعيبي في دراسة له عن الديوان. ولا أخفيك أني أعتبر مطلع قفا نبك في نصّي هو من أنجح المطالع في قصائدي:

قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ
عفتهُ الرياح
وطافتْ بأرجائه الموحشات الظباء
كأنّيَ يومَ الرحيل لدى شجر الحيّ ناقفُ حنظلْ
يقول صحابي تجملْ
وأنى :
ودمعي شفائي
وهذي الديار أنيسي

* دعنا نتوقف عند عبارة "الأسلوب الآخر" الواردة في إضاءتك للقصيدة. و هنا لا أجد غضاضة في أن أتوسل بمقطع بالغ الدلالة من كتاب "الشعرية العربية" للناقد جمال الدين بن الشيخ حيث يعرف فيه مصطلح الأسلوب بكونه: "مختلف الطرق للتمكن الشعري من واقعة ما، و الطرق الشعرية لإدراكها. إنه يتحكم في علاقة الشاعر بالعالم، و يفرض عليه موقفا إزاء هذا الشيء أو ذاك مما يراد إدراجه في القصيدة". على ضوء هذا القول، ما هي خصائص هذا "الأسلوب الآخر" الذي قمت بتوظيفها في إعادة كتابة المعلقة الشهيرة؟
** أتفق مع هذا التعريف وأرى في إجابتي عن السؤال السابق تطبيقاً له. تتبدّى مهمة الشاعر الصعبة حين يتعامل لا مع واقعة ما، وإنما مع أسلوب آخر مترسخ في ثقافة شهدت من الثبات ما لم تشهده، ربّما، أيّة ثقافة أخرى في العالم. غير أن موقفي ليس إزاحة النص الآخر ولا المباراة معه بل تمثّله ليكون الحاضر الغائب معاً في نصّي. وهذه علاقة خاصة بتراثي والشعر وبموقف من العالم أيضاً وباستنان طريقة ليست أسلوبية محضة في فهم ما يحيط بي من تراث لم يزل حاضراً وحاضرٍ غائب.

ليس ثمة أسلوب محض وحتى الأسلوب المحض هو مضمون أيضاً في احتوائه موقفاً ما من الشعر أو العالم. حين يبدأ ما لارميه أحد دواوينه بـ (لا شيء) ،فهو يعني شيئاً، بأسلوبه الخاص موقفاً أنطولوجياً واجتماعيّاً من العالم.. عالمه الشخصيّ والعام آنذاك الذي شهد من المساخر والمجازر ما يجعله شبيهاً بالعدم.

* في تعاملك مع المعلقة هناك نوع من اللعب أو التجريب بقدر ما هنالك احتفاء بجماليات النص الجاهلي. إذا وافقتني هذا الرأي، ما هي شرعية و حدود التجريب خصوصا في حالة تناول نموذج سابق من عيار قصيدة امرؤ القيس؟
** مثلما أوضحت في أجوبتي السابقة إنّ نصّي رغم معاصرته هو احتفاء أيضاً بجماليات النص الجاهلي التي قد تحضر جليّةً في مقاطع عديدة من القصيدة. إنّ نصّي ليس طمساً للنص الجاهليّ ولا إجلاء له، بل هو حركة بين الاثنين. ليس نصّا ثابتاً.. إنه يتحرّك بين نصّين وأسلوبين، فيظهر الاختفاء والتجلّي وكأنما ثمة لعبة، ومرآة، وصورة، شبيهة بالأصل وليست هي الأصل، ومفارقة أيضاً.. ومن هنا يشهد النص حركته ودوامه:

وأضحى السحاب يسحّ ويهدأ
ثمّ يسحّ ويهدأ
حتّى انحنى الدوحُ وهو يكبُّ على وجههِِ
ثمّ لم يتّرك أيّ جذعٍ ودارٍ بـ " تيماء "
يا لـ " طميّةَ " من جبلٍ
مغزلاً صار وسط السيول
ويا لـ " أباناً " وقد صار شيخاً تزمّل بالعشب
أيّ سباعٍ طفتْ
و أيّ سحابٍ يغطّي السماء
ويلقي بـ " بسيان " صدرهُ
يُنزلُ كلَّ الوعول من العصم
من هضبات الجبال

وكأني بامرئ القيس أراه حاضراً يردّ على مقطعي هذا بأبياته منشداً بصوته البدويّ المدوّي وهو واقف لا على طلله الآن، بل على قمة جبل وهو يرى السيل وقد طفت فيه السباع وغمر كلّ شيء:

وأضحى يسحّ الماء عن كلّ فيقةٍ يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ولا أطماً إلاّ مشيداً بجنـدل
كــأن طميـة المجيمـر غـدوةً من السيل والغثاء فلكة مغزل
كأنّ أباناً في أفانين ودقه كبير أناسٍ في بجادٍ مزمّل
و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المخول
كأن سباعاً فيه غرقى غديّة بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
على قطن بالسيم أيمن صوبه وأيسـره على الستـار فيذبـل
و ألقى ببسيانٍ مع الليل بركه فأنزل منه العصم من كلّ منزل

وهكذا أردّده ويرددني ونغني معاً.

* حدثتني من قبل عن تجربة الشاعر الإنجليزي تيد هيوز و محاولته لإعادة كتابة قصائد الشاعر الروماني أوفيد. لقد تعامل هيوز مع نص لاتيني فقام بتحويله إلى اللغة الإنجليزية، وهو ما أتاح له هامشا واسعا من حرية التصرف و الابتكار و الترجمة الإبداعية. ألم تجد نفسك أمام ضرورة الانضباط لثقل قوانين الشعر العربي القديم؟ أو بمعنى آخر، هل منحتك هذه التجربة كل الحرية التي تتيحها لك كتابة نص شعري بكر طالع من صميم الذات؟
** أقول لك بصدق إنني كتبت النص بمتعة نادرة. كنت أغنّي خلاله مستمتعاً بغنائي الذي ما طربت له يوماً . لم أفكر بابتكار أو محاكاة إطلاقاً. كانت علاقتي أقرب إلى محبة الصوفيّ الساعي بقلبه ووارده منها إلى المعرفة. كان انتباهي إلى تجربة تيد هيوز هي الشرارة الأولى لانطلاق محاولتي التي اتخذت من النص أرضا لها صوب فضاء آخر، غير أن النص لم يفارق هذه الأرض قطّ صوتاً أو صدىً أو نجمة هادية. كان امرؤ القيس حاضراً في فضائه أيضا.. فضائه الشاسع الصحرواي الذي لم يكن أقل اتساعاً من فضاء قصيدتي فلا أدري أيّ الفضاءين هو فضائي.
في تجربة تيد هيوز يحضر أوفيد عبر وسيط ثالث هو الترجمة وليس من خلال صوته الخاص الذي يتلمسه القارئ في هذا اللفظة أو تلك، في هذا التعبير أو التضمين أو ذاك وهذه معضلة بحد ذاتها كما لو أنك تتعامل مع شاعر ثالث، هو مترجم أوفيد إلى الإنجليزية. لا يعني العمل على نص آخر أن ما تكتبه ليس طالعاً من صميم الذات. قد تجد الذات تعبيرها من خلال ما يحدّها وليس من خلال الحريّة وحدها.

* أليس في محاولة إعادة نص قديم مجازفة ما؟ أليس في المسألة، رغم ما تدعيه أنت من تواضع و بساطة، جرأة و خرقا لهيبة نص شعري مكرس في الوجدان العام يتخذ لدى البعض لبوس قداسة ما؟
** قد يكون ما تقوله صحيحاً ، لكن ما يشفع لتواضعي وبساطتي في تقربي إلى المقدّس هو تواضع المقدّس نفسه وبساطته في تقربه إلى ما هو غير مقدس ..

* ما الذي حدث في المحصلة النهائية: هل استدرجتك المعلقة إلى عبق مناخها القديم؟ أم استطعت فعلا أن تستدرجها إلى مجال متخيلنا الشعري الحديث؟
** الاثنان معاً. ولكنني إن كنتُ على يقين من أن المعلّقة استدرجتني إلى عبق مناخها القديم فإنني لا أدري هل استطعت حقّاً أن أستدرجها إلى مجال متخيّلنا الشعريّ الحديث؟ الإجابة عن ذلك أتركها للقارئ. أما إجابتي أنا فهي متعتي التي رافقتني عند كتابتها، والتي لا تزال ترافقني في إنشادي لها في بعض الأمسيات التي تقام لي، أي إنها لم تكن حالة سرعان ما تختفي وتزول. لا بد أن يكون لهذه المتعة أساس ما متجذر في النص ذاته يندفق كالنبع أحياناً وما الحالات إلا الطريق إلى هذا النبع.

* على ذكر الإنشاد. هل تقوم باستعداد معين قبل القراءة أمام الجمهور؟ و ما مدى تدخل الجمهور في هذا الاختيار؟ كيف تختار بين القصيدة الملائمة للإنشاد و القصيدة التي تحتاج إلى قراءة بصرية؟
** ما من استعدادٍ معيّن قبل القراءة غير اختيار القصائد و ما يرافقها من توجّس واحتمال بالتغيير في اللحظة الأخيرة، وقد لا يكون الاختيار و التغيير موفقين، لوجود مثل هذه الإشكالية التي طرحتَها.. إشكالية الاختيار بين القصيدة الملائمة للإنشاد والقصيدة التي تحتاج إلى قراءة بصرية، غير أن القصائد عموماً يمكن أن تقرأ رغم تباينها، وهذه الإمكانية تعتمد أساساً على مزاج الشاعر، ونوعية الجمهور، و ما يرافق ذلك من جوّ قد يقترب أو يبتعد عن الألفة التي يمكن أن تولّدها قراءة الشعر نفسها ، بصفتها إبداعاً أيضاً.

* على صعيد بيداغوجي، تطرح قصيدتك "قفا نبك" سؤالا مغيبا في مناهج الدرس التربوي العربي، ألا و هو: ما العمل بتراثنا الشعري الرائع في واقع عام تستفحل فيه الأمية اللغوية والثقافية على حد سواء؟ ألا ترى معي أن هذا السؤال ينبغي أن يوضع، بكل جدية ممكنة، في صميم حقل مناهج الدرس الأدبي، لإعادة تدبير العلاقة مع تراثنا الشعري وردم الهوة اللغوية والجمالية التي باتت تتسع معه؟
** حضور التراث الشعريّ مرهون بالحاضر الذي تستفحل فيه الأمية اللغوية والثقافية على حدّ سواء. إنه تراث بالقوّة ، إذا استعرنا تعبيرات الفلسفة ، وليس تراثاً بالفعل. ولن يكون بالفعل مادام الحاضر نفسه غائباً.
نحن لا نعيش الواقع بل ظلاله، وإن شئت، أشباحه. كيف ندرك تراثاً بهذه الضخامة ونحن غير قادرين على إدراك حاضرنا المريع الذي يرجع القهقرى ليصبح ماضياً.. ماضياً مسكوناً لا بالبشر الماضين وحدهم وإنما بالأشباح أيضاً.

ثمة نصوص في الشعر الجاهلي لا تزال تحتفظ بطراوتها وبساطتها وثمة شعر أمويّ رائع تحاول الدراسات أن تقلل من قيمته.. شعر ملئ بالشجن والمواقف الإنسانية واللغة الطرية والحب. ثمة شعر عباسي شهد امتزاج حضارات وحركة شعرية تنوعت روافدها وأصبحت من الغنى وكأنها طفرة نوعية في الشعر تجسّدت في تجارب عديدة: أبو نواس، ابن الرومي، أبو تمام، المتنبي. ولا تستغرب إذا قلت لك إنّ ثمة شعراً مدهشاً حتّى في ما يسمى بالفترة المظلمة وعبر هذا التاريخ تاريخ الشعر الطويل ثمة أساليب ومضامين استخدمت في الحقل الواحد لا يراها أصحاب النظرة الأحادية إلا أغراضاً شعرية محدودة و لا يرون ما فيها من مستويات واختلافات وحدود تفترق وتلتقي في العمق. وأحب أن أشير هنا إلى ما كتبه عبد الفتاح كيليطو في كتابه (المقامات)، مفنّداً الكثير من هذه المزاعم وإلى من جاء قبله من النقاد كالناقد المصري محمد مندور الذي رأى في بكاء الديار عند هؤلاء القوم الرحل من جمال وصدق ما يندر وجوده في شعرنا العربيّ. إن نماذج كشعر المرقش الأكبر والمثقب العبدي تبقى نصوصاً خالدة قل نظيرها في الآداب الأخرى كما أشار إلى ذلك طه حسين وباحثون آخرون .


* ننتقل من القصيدة المفردة إلى الديوان في شموليته. و هنا أود أن أستعير مقولة موحية للفنان المبدع فيصل لعيبي، في معرض قراءة نقدية مميزة قام بها لديوانك (قفا نبك)، يقول فيها: "كل نص مهما انغمر بذاتيته، فهو يحمل حواريته الخاصة التي ترتبط بالنصوص التي قبله والنصوص المعاصرة له". و بناء عليه، أرى أن هذا الديوان تحديدا يتكئ على شرعية جمالية جديدة تتأسس بها حواريته مع أصوات و نصوص تتحدر من أزمنة و مجالات معرفية متعددة تجعل منه نصا تشعبيا بامتياز.
في قصيدة "شواهد المعري"، مثلا، تفتح حوارا مع شاعر المعرة تصل حد التقمص أو التصادي المرآوي. هل تقبل بهذا الطرح الذي يجعل من صوتك مجرد صدى لصوت أبي العلاء؟ أم ذاك هو جزء من اللعبة؟
** القراءة النقدية التي كتبها أخي وصديق العمر الفنان الكبير فيصل لعيبي هي نصّ إبداعيّ أيضاً. إنها من الدراسات النادرة التي لا تحرّكها المعرفة العميقة وحدها وإنّما الذائقة التي لا تقلّ عنها عمقاً، لذلك تتملس روح فيصل نابضة وهي تتحدّث عن قصائدي. أمّا بصدد سؤالك عن (شواهد المعرّي) فأعتقد أنني وضحّت ذلك في مقالي (تناص: تجربة قصيدة) وقلت فيه: هذا التردد بيني وبين أبي العلاء أصبح من الاختلاط ما يصعب تحديده: من المتحدث أنا أم المعرّيّ؟ من منّا مرآة الآخر؟ أم كلانا أصبح مرآةً للآخر ؟
فإذا كان صوت أبي العلاء هو :

لا أميرَ ولا سوقةٌ
يا ثعالةُ
فاحذرْْ

فإن صداه هو صوتي الآخر :

إنّ لي أخوةً بين تلك الثعالبْ

وإذا كان المقطع التالي امتداداً لصوتي:

لا سميعَ ولا سامعٌ
يا ثعالةُ
فانظرْ

فإنّ صداه صوت أبي العلاء :

أقبل الصائدون من كلّ جانبْ



وهذا الاختلاط الذي يصبح فيه ثعالةُ إنساناً والإنسان ثعالةَ، وصوتي صدى صوت أبي العلاء،
وصوتُ أبي العلاء صدى صوتي نبتدئ كتابَ حيرتنا أنا والمعريّ.

الشاعر..ناقدا
* مقالك التحليلي الذي يحمل عنوان (تناص: تجربة قصيدة) ينم عن قراءة متمعنة وصاغية لنصوص المعري، قصائده و رسائله على حد سواء. ما الذي سحرك في عالم المعري؟
** منذ قصيدته (غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي) التي يقول عنها طه حسين إنها أعظم مرثية في الشعر العربي وأنا مأخوذ بشعر أبي العلاء، ولم تكن قصائده الأخرى أقل مرتبةً:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر

التي كنت أردّد فيها هذا البيت ذي المشهد الهائل:

إذا همى القطرُ شبّتها عبيدُهمُ تحت الغمائم للسارين بالقُطرِ (عود يتبخر به)

أو قصيدته:

علّلاني فإن بيض الأماني فنيت و الظلام ليس بفانِ

لا أدري لِمَ أقرأها دائماً:

فنيت والزمان ليس بفانِ

أو قصيدته المليئة بالشجى مودّعاً فيها أهل بغداد :

نبيّ من الغربان ليس على شرع يخبّرنا أنّ الشعوب إلى صدعِ

أما قصيدته التي قرأتها، أوّل مرّة ـ في كتاب مدرسيّ:

طربن لضوء البارق المتعالي ببغداد وهناً مالهنّ ومالي

فقد استوقفني هذا البيت الغريب:

إذا لاح إيماضٌ سترتُ وجوهها كأنّيَ عمرٌو والمطيّ سعالي

التي يشير فيها إلى أسطورة جاء فيها أن عمر بن يربوع تزوّج سعلاة هي خير امرأة ما لم ترَ برقاً فكان إذا لاح برق سترها .. إلى أن غفل عنها، مرّة، ففارقته. منذ ذلك الحين وأن أتتبع ما يرد من موروث شعبيّ في شعر أبي العلاء وفي كتاباته الأخرى كرسالة الغفران.

* قلت في نفس المقال: "وجدتني أردد أبياته مشغوفا و كأن أبا العلاء خصني بها وحدي". هل ما يزال الشعر العربي القديم في نظرك يمتلك الشحنة الضرورية لمواصلة حواره مع الحساسيات المعاصرة و مدها بوسائل التخييل و الرؤية، أم هو مجرد ذريعة شعرية محكومة ببحث الشاعر المعاصر عن روافد مغايرة للتحديث؟

** السؤال لا يتحدّد بامتلاك الشعر العربي القديم الشحنة الضرورية لمواصلة حواره مع الحساسيات المعاصرة، و إنما يتحدّد أيضاً بالشحنة الضروريّة التي يمتلكها القارئ الحديث ناقداً أو مؤلّفاً أو قارئاً.

إذا كان العمل الإبداعي نفسه لم يعد بنية بل ابتناء أي نصّا مفتوحاً على احتمالات ودلالات شتى فما بالك بتراث له مثل هذا الاتساع هو التراث العربي القديم الذي يمتلك من العمق ما يتطلب منّا لا الحساسية وحدها، بل والأدوات المعرفية للحفر باتجاه مستوياته الأعمق التي لم تستنفد بعد.

إنّ أهمّ الأعمال النقدية التي كتبت في أوربا هي تلك التي تناولت الآثار الكلاسيكية لتكتشف فيها ما هو أبعد من الحوار أو الحساسية المعاصرة ذاتها: أعمال بارت عن راسين وبلزاك، مثلاً، وقبلها كلنا يعرف ما فعل جويس الذي اتخذ الأوديسة أرضية لعمله الكبير (يوليسيس).

ليس في الشعر ذرائع إذا كان حقيقياً لا سيما أن مجاله ليس الحاضر وحده بل الأزمنة جميعاً مثلما ليس مجاله الأرض وحدها، بل السماء أيضاً منذ ملحمة جلجامش حتى الوقت الحاضر حيث تتحدث الأرض والسماء معاً في نصوص هيدغر و هيلدرلن.

هذا التعارض تناوله إدوارد سعيد في آخر ما كتبه (الإنسية والنقد الديمقراطي) ووجده تعارضاً زائفاً حين يتمّ إعلاء الماضي على حساب الجديد أو العكس، لأن كل قراءة أو تأويل هو تموضع للحديث بصفته "عملية لا أدرية قيد التكوين". وهو يورد مثالاً على نفي هذا التعارض: باخ الذي شكّل إنتاجه ذروة في الفن الألماني الاتباعي المتعدد الأنغام مثلما كان فاتحة لاستقبال كلّ ما هو جديد في أساليب الرقص الفرنسية والإيطالية.

* لقد شكل الشاعر أبو العلاء المعري لحظة فارقة في تاريخ الشعر العربي. فقد أبدع رؤية فلسفية للحياة و من خلالها قدم مقترحات جمالية مجددة في الكتابة شعرية بشكل عام، كما يتضح ذلك في "رسالة الغفران" التي تجاوز تأثيرها، حسب العديد من النقاد، الوسط العربي-الإسلامي إلى الوسط المسيحي للقرون الوسطى. هلا حدثتنا عن عطاءات المعري الفكرية والشعرية.
**تكمن أهمية المعري في رؤيته للأشياء وقدرته على النفاذ إلى جوهرها عبر التوليد العقلي للأفكار والمخيلة في آن واحد، خالقاً أساطيره الخاصة في التعرف على هذه الأشياء، مثيراً الشكوك بتساؤلاته المريرة الدائمة النابعة لا من تأمله وحده وإنما من تجربته. ولعلّ غنى مخيلة المعري ترجع إلى استخدامه الموروث الشفوي من قصص وأمثال وخرافة.

وقد يلخص هذان المنحيان (التوليد العقلي و المخيلة) قوله:

وليس على الحقائق كلّ قولي ولكن فيه أصناف المجاز

إنّ عالم الحيوان وحده في شعر المعري ونصوصه الأخرى يتطلب وقفة طويلة لما لها من دلالات عميقة نفسية وفلسفية في آن واحد، لم يشر إليه الباحثون إليه إلاّ إشارات عابرة كطه حسين في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء) و العلايلي في كتابه (المعري ذلك المجهول) الذي يوضّح فيه: "إن الجاحظ ملك المعرّيّ إلى أبعد حذّ، ولاسيّما في الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعرّي وفي رسائله التي أدارها على السخرية الحادة اللاذعة". ولعلّ أهمية هذا الموقف من الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعرّي هي التي تكمن وراء كتابتي قصيدة (شواهد المعرّيّ).

لم يأنس أبو العلاء للبشر مثلما أنس للحيوان وحتّى الوحشيّ منه . يقول في واحدةٍ من لزومياته:

أذود عن الفرائس ضاريات وأعلم أنّ غايتها افتراسي
ما يستوقفني أيضاً في شعر المعرّيّ وكتاباته الأخرى استيعابه لثقافات عصره دون أن يبقى في حدودها إذ تجاوزها إلى آفاق أخرى أكثر استشرافاً من خلال تساؤلاته الجادّة والعابثة، ومن خلال جرأته النادرة في اجتراح الأفكار التي نمت عن شخصيّة لم تعد تربطها بالمقدس أو البداوة وشيجة ما، فهو لا يطرب لمديح ابن القارح في رسالته ويردّ عليه ساخراً متشكّكاً بإيمانه الذي يفترضه فيه ابن القارح: " ويقال إنني من أهل الدين، ولو ظهر ما وراء السدين (الستر) ما امتنع الواصف لي بسبّ، وودّ يسقيني جوزلاً (سمّاً) بشبّ". أما رفضه المديح: "يظن أنني من أهل العلم، وما أنا له بالصاحب ولا الخِلم ، وقد شهد الله أني أجذل بمن عابني، لأنه صدق فيما رابني" وهذا يندر أن نجده في ثقافة لا تزال تطرب للمديح. ولأبي العلاء مصطلح طريف يسمّي به من يظنون الخير بعلمه ودينه هو (الخائلون)، أما ديوانه (لزوم ما لا يلزم) فهو ديوان إشكاليّ حقّاً، باعث على الحيرة: كيف يمكن لشاعر أن يقيّد نفسه بمثل هذا الشكل من قوافٍ وأوزان ويظلّ حرّاً بل خالقاً لا يحدّه قيد ولا تستعصي عليه فكرة، وتظل أشعاره متوهجة بما فيها من مخيّلة وغرابة وأساطير عن حيوان ووقائع وبشرٍ؟
إنني لا أتفق مع من يقول إنّ أبا العلاء كان في (لزوم ما لا يلزم) مفكراً لا شاعراً. لقد استطاع في ديوانه هذا أن يحافظ على سلاسة الشعر ووضوحه رغم كلّ السلاسل التي قيّد بها شعره. وهذا بحدّ ذاته خرق للمألوف وإبداع في صميمه.

* تنم هذه الإفاضات الغنية، من طرفك، حول عوالم المعري و إسهامات منجزه الشعري عن دراية دقيقة بالموضوع، و لعل هذا هو الذي دفعك إلى كتابة مقالك المطول "البحث عن قاعدة للتمثال - المعري كما يراه الجواهري".
لقد دأبت في مقالك عن الجواهري على تشخيص ما اعتبرته تناقضات هذا الشاعر العربي الكبير في طريقة تعامله مع نص و رؤية المعري بالتحديد. و سجلت في ذات السياق أن ما يحضر في قصيدة "قف بالمعرة" مثلا هو ذات الجواهري و ليس رؤية المعري و عالمه. ما المانع، في نظرك، أن تحضر ذات الشاعر في شعره؟ أين يكمن التناقض في هذا الخيار إذن؟
** لم أسجّل في مقالي اعتراضاً على حضور ذات الشاعر في قصيدته ولا على فهمه الخاص للمعري وما سجلته هو خطأ هذا الفهم الذي يعادل غيابه، مما أدّى في مواضع كثيرة من القصيدة إلى غياب ذات الجواهري نفسها فلا تدري عمّ يتحدث الجواهري ؟ كيف يمكنني أن أتقبل هذا الفهم للمعري في هذه الأبيات مثلاً:
آمنت بالله والنور الذي رسمت به الشرائع غرّاً منهجاً لحبا
وصنتُ كلّ دعاة الحقّ عن زيغ والمصلحين الهداة العجم والعربا
وقد حمدت شفيعاً لي على رشدي أمّاً وجدت على الإسلام لي وأبا
من قبل ألفٍ لو أنا نبتغي عظةً وعظتنا أن نصون العلم والأدبا

أين نتلمس هذه الأم و هذا الأب في شعر المعري المليء بالقصائد والأبيات الهاجية للدين والإسلام والشرائع الأخرى؟ وهذا ما حدا بطه حسين إلى تتبع ضعف الأثر الديني واتخاذه لوناً ظاهريّا في مؤلفات المعري الأولى في شبيبته كسقط الزند و الدرعيات "حيث لا يكاد يوجد أو يحس " على حدّ تعبير طه حسين، بل أين نتلمسهما في شعر الجواهري نفسه. أما صيانة العلم والأدب فليست سوى نظم مناسبة لا دلالة لها في ما تشير إليه، إذ ليس هناك من سخر من أدباء عصره كأبي العلاء، مجسدين في شخص ابن القارح، بلغة مواربة فذة لها مستوياتها العديدة التي أفصحت عنها مجلدات عديدة، وربما ستستغرق آلاف الصفحات مستقبلاً كما فصلت ذلك في مقالي (البحث عن قاعدة للتمثال).

لم يكن ثمة حوار أو طباق، مثلما لم تكن لعبة هناك، أو كتابة أخرى للمعري بل ذات تتدفق للجواهري وقد تغيب مما يجعل قصيدته تجريداً لموضوعها و صوتاً واحداً يتلبسه صوت التقليد والمناسبة أحياناً.

ثمة غياب للموضوع الذي لا يحضر إلا عبر التماعات سرعان ما تنطفئ في ظلام رؤية الجواهري. كان المعري في قصيدة الجواهري موضوعاً شائعاً عاماً وبالتالي موضوعاً غائباً. وبعبارة أخرى لم يكن ثمة أثر لنصوص المعري في نص الجواهري ليغتني بها أو نتتبعه لنستدلّ لا على المعري وحده وإنما على الجواهري نفسه وليعيد آثاره التي سرعان ما تمحي . إنه شعر الصوت الواحد الذي لا ينقلني إلى تجربة وجودية عبر آثار ملموسة وإنما إلى تجربة واعية من التساؤلات حول النص وليس حول الوجود أي إلى تجربة هي عائق أكثر مما هي انفتاح على الشعر والوجود.

إنني بدلاً من أن أندمج بالتجربة وأعيد قراءتها لأصبح صوتاً ثالثاً في قراءتي لها أراني وكأنني أصطدم بحواجز لا حصر لها من التساؤلات الخارجية المعلقة : أهذا المعري حقّاً؟ أين أبو العلاء في هذا البيت؟ بل أين الجواهري فيه؟ وهكذا. أسئلة تعطل القراءة وتعاطفي مع القصيدة أكثر مما تدخلني في عالمها. أي أن تشابكات القصيدة ليس في عمقها الجوهريّ ، بل في سطحها؟ الذي لا يحيل إلى عمق بسبب غياب الموضوع وغياب الذات أحياناً.

إنها القصيدة التي تعيق نفسها وتربكها وبالتالي تعيق قارئها وتربكه لا بأسئلتها بل بأسئلته: لماذا؟ كيف؟ هل؟ إلى آخره.. لا أستطيع كشاعرٍ أن أحقّق ذاتي حقّاً إلاّ من خلال استيعابي لموضوعي وإلاّ سأصبح طافياً كموضوعي نفسه؟



هل الشاعر يحقق ذاته حين يكون مقياساً لكلّ شيء بغض النظر عن موضوعه؟ أ ليست هذه الذات المنتشرة المنفلتة التي لا يحدّها موضوع ما هي إلا ذات هلامية وجودها فارغ حّدّ العدم. خضوع الشاعر لموضوعه هو سيطرة عليه تماما مثلما يسيطر العالم على موضوعه في خضوعه له.

* قلت في نفس المقال عن أبيات الجواهري: "إن عدم استجابتي للأبيات التي ذكرتها لا ترجع لكونها ليست من جيد الشعر، و إنما لأنها لا تنتمي لأبي العلاء". على أساس هذا المعيار، ما الذي يجعلنا نقر بأن قصيدتك : "شواهد المعري" تنتمي إلى موضوعها؟ ثم ألا تعكس، بوجه من الوجوه، شواغل الشاعر عبد الكريم كاصد الذاتية و حيرته إزاء العالم؟
** أجل، لا أتحدّث هنا عن أحكام قيمة بل عن فهم أي أنني لست بصدد تقييم قصيدة الجواهري وقد أصبحت هي قيمة بحد ذاتها ومعلماً في مسيرة الجواهري الشعرية، وإنما حديثي يتعلق برؤية الشاعر لموضوعه، أمّا قصيدتي فهي بعيداً عن جودتها أو عدم جودتها تتعامل مع موضوع حاضر من خلال نصوصه. ثمة إشارة في المقطع الأول إلى بيت أبي العلاء:
ثعالة حاذر من أمير وســـــــوقةٍ
فمن لفظ صيدٍ جاء لفظ الصيادنِ (الثعالب)

وإشارة أخرى إلى قصيدته عن الديك التي يقول فيها:

هتفتَ فقال الناس أوس بن معيرٍ
أو ابن رباح بالمحلة قائم
وتاجك معقودٌ ، كأنك هرمزٌ
يباهي بها أملاكه ويوائم
وعينك سقط ما خبا عند قرّةٍ
كلمعة برقٍ مالها الدهر شائم
وما افتقرت يوماً إلى موقدٍ لها
إذا قرّبت للموقدين الهشائم

هذه الأبيات اتخذت لها لبوساً آخر في قصيدتي ناقلاً إياها من مدار هجائيّ للإنسان إلى مدارٍ أسطوريّ، وإن شئتَ كونيّ، يغدو فيه الكون مسرحاً للنجمة تصعد فيه كالنعامة وبريقاً لعيني الديك يتلألأ في السماء، وهو (أي الديك) وسط هذا الجلال الكونيّ هرمز الملك بثيابه السود والحمر، بينما تُشحذ المُدى وتشبّ المواقد، على مقربة منه، لخنق صيحته المنبئة بالفجر، وانبعاث الميت.
أقول في قصيدتي "الديـك":
صعدتْ نجمةٌ كالنعامةِ
عيناكَ برقٌ
وهذي الثيابُ الجميلةُ
سودٌ وحمرٌ
كأنّكَ هُرْمُزُ
أيّ المواقدِ شُبّتْ
وايّ المُدى قُرّبتْ
أيّها الديكُ
يا ملكَ المحصنات
ويا أوسُ
يا ابن رُباحٍ
ويا صيحتي
حين ينبعثُ الميْتُ في صيحتي

أهي مفارقة أُخرى إن صيحتنا التي ذهبت أدراج الرياح تزعم أنها قادرة على بعث الميت؟ أم هي مفارقة أن يصبح ديك أبي العلاء وهو الضرير صيحتي؟ وأين أبو العلاء من وحشه الشاعر الذي لا يجد خلاصهُ في انبعاثٍ أو آخرةٍ؟
في المقطع الرابع إشارة إلى رسالة الغفران حيث الحطيئة يقيم في أقصى الجنة وفي المقطع الخامس تناص عبر حادثة جرت لابن القارح حين رأى زقّ الخمر من باب المسجد فوجأه أي طعنه وشقّه.. وهكذا إنني أتعامل مع نصوص ملموسة وليس مع نصوص متخيلة أو وهم ولكن هذا لا يعني أنني أتعامل مع النصوص بحسيتها فقط، فقد أحيلها إلى وهم أيضاً ولكن بعد حضورها واقعاً ملموساً.. أي أنها تحضر لتغيب وليس غائبة تماماً.. وهذا لا يعني أنني كنت موفّقاً في القصيدة أو غير موفق. التقييم هو مسالة أخرى. إن نصوص المعري الحاضرة الغائبة وليست الغائبة كما في قصيدة الجواهري هي كالمرايا في قصيدتي لا أرى فيها ذاتي وحدها وإنما المعري أيضاً وهو يطلّ عليّ ويحدّق فيّ مثلما أطل عليه وأحدّق فيه. وعبر هذه المرايا قد تغيب وجوهنا أو تحضر أو تمتزج في لعبة شائكة معقدة لن يكون فيها القارئ في منأى عن تشابكها وتعقيدها ودخوله في لعبتها.
ثمّة تناص وأصداء لأصوات سرعان ما تستحيل إلى أصداء بدورها وفي هذا التردّد من الأصوات وأصدائها قد أعثر على صوتي. أي أن صوتي ليس حاضراً منجزاً وإلا لكنت كتبت قصيدة غنائية بلا إحالات ولا دلالات غير إحالتها ودلالاتها المحدّدة بموضوعها الخاص المنكفئ على نفسه غير أنني هنا إزاء عالم لا ينتهي من الأصداء والدلالات كعالم المعري الذي لا أستطيع أن أعيد كتابته إلا حين أكون صدى له ويكون صوتاً لي في عملية ترتدّ على ذاتها وتنقلب عليها، معبرة لا عن حيرتي وحدها بل حيرة المعري ثانية في حضورها المعاصر.

* مع ذلك، ألمس في نبرة خطابك حبا و تقديرا خاصا للشاعر الجواهري، و أنت القائل: "إن الجواهري نسيج وحده غريب في حركة شعرية متسعة الحدود". ماذا تشكل "اللحظة الجواهرية" في تيار زمن الشعر العراقي خاصة و العربي المعاصر بصفة عامة؟
** منذ صغري وأنا أقرأ الجواهري ولا أزال أقرأه بالمتعة ذاتها. ولاسيما في قصائده الشهيرة (المقصورة)، (يا نديمي)، رثائه للرصافي، وغيرها من القصائد التي أسّس بها الجواهري، بين شعراء قلّة في تاريخنا الشعريّ، قيمته الشعرية، مستبقاً القراءة والنقد معاً. مشكّلاً ظاهرة تكاد تطغى على ما حولها من ظواهر أخرى سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، لأنها، أي الظاهرة الشعرية، هي نفسها تلك الظواهر وقد استحالت إلى قول فعليّ راسخ ليس له تقلّب الفعل السياسيّ والاجتماعيّ في الواقع.. ظاهرة تستمدّ قوتها ثانية من الناس أي أن سلطة الشاعر ليست مستمدة من اللغة وحدها، وإنما هي تستمد هذه القوة من الواقع أيضاً بعد أن استحالت اللغة إلى كائن حيّ هو الشاعر نفسه وقد تلبّس قرّاءه فأصبح لسانهم ينطقون به، مثلما تلبّسوه من قبل.
في مقالتي عن الجواهري قلت أيضاً إن شعراء كثيرين يتملقون الجمهور غير أن الجواهري ليس واحداً من هؤلاء .. فمفرداته ومعانيه خاصة به، غامضة ومفتوحة، تمليها مشيئة القول – الظاهرة، القول – الوحي الذي لا يلحقه نقد وإن لحقه فهو نقد طارئ، زائل، هامشيّ عرضيّ، إن لم نقل كافر بلغة الوحي، والذي يكفّره ليس السماء وإنما الأرض – سلطة الشاعر بين الناس.

من هنا نبعت أسطورة الجواهري والخرافات التي لم تنته بعد عن شخصه وشعره وثقافته بل وتناقضاته التي أصبحت بدورها ضرورة شعرية مثلما الضرورات الشعرية الأخرى إن لم نقل ضرورة تاريخية، لا تستدعي المغفرة وإنما الفهم ، وحتى هذا الفهم لا يعني شيئاً وقد أدركه الشاعر نفسه قبل ناقديه وكتب عنه أبياتاً وقصائد شتّى منذ مراحله الشعرية الأولى.

وإذا ما قارنا تناقضات الشاعر بتناقضات ما يحوطه من مؤسسات وأحزاب و أفراد لبدت تلك صغيرة ليست بذات شأن في مجتمع شهد من التناقضات ما يعجز أي فكر أو سلطة عن توحيدها ولم يوحّدها، ربّما، إلاّ الشعر، لا بتفّرده وتعاليه عنها، وإنما لاحتوائه إياها والنطق بها ومن ثمّ الانتساب إليها والتفرد عنها، وهذا ما لم يحققه أيّ شعر آخر.

إن من يريد أن يدرس الجواهري وهذا ما ينطبق على أحمد شوقي وبعض الشعراء ألاّ ييقى حبيس دائرة التقليد التي يضع فيها نفسه والشاعر معا ، بل يخرج منها ليتساءل كيف استطاع هؤلاء الشعراء أن يتجاوزوا هذه الدائرة الضيقة إلى لغة أكثر تعبيراً وواقعٍ أكثر حركة دون أن يفقدوا تأثيرهم حتى الآن؟

* الشاعر عبد الكريم كاصد، إن اطلاعي على مقالاتك النقدية المتعددة جعلتني أكتشف وجه الناقد الكامن وراء الشاعر. لو أستعير، بتصرف، عبارة كانت أثيرة لدى الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، يتحدث فيها عن صعوبة الجمع بين الأدب و السياسة قائلا: "لا يمكن للمرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة". و هي نفس المعادلة التي حاول تحقيقها في حياته. في سياقنا هذا هل يمكن للشخص أن يكون شاعرا و ناقدا في نفس الوقت؟
** قد يكون الأمر صحيحا في حالة الأدب و السياسة رغم وجود استثناءات قد يكون من بينها إميل حبيبي نفسه الذي مارس الأدب و السياسة معا. أما الجمع بين الأدب و خاصة الشعر و النقد، فهو أمر مختلف تماما. إن أعظم الشعراء الإنجليز هم أعظم النقاد أيضا: إليوت، درايدن، كوليرج، تيد هيوز كما يكشف ذلك كتابه الهام عن شكسبير. وفي أدبنا العربي لا نعدم مثل هذه النماذج كأدونيس وصلاح عبد الصبور وإن كان النقد عند صلاح يقرب أن يكون انطباعياً. أما بالنسبة إليّ فإنني لست بذلك الناقد المحترف وما كتبته ليس سوى مقالات معدودة عن ظواهر وشعراء أحببتهم ورأيت في شعرهم ما دفعني إلى الكتابة لتوضيح شيء غائم لم يتوقف عنده الآخرون.


* في قصيدة "شواهد" حوار مع التاريخ عبر تقنية استحضار كاشف لبعض وقائع التاريخ العربي و لشخصيات لعبت أدوارا رئيسية في الحياة السياسية و الفكرية و الأدبية في عصرها مثل أبا عبد الله الصغير، آخر ملوك الطوائف، و ابن خلدون و ابن هيثم و ابن حنبل و المعتمد بن عباد وغيرهم.
ما الذي تقدمه النماذج و الوقائع التاريخية للرؤية الشعرية للقصيدة؟ و أين تكمن الشاعرية في تجربتها سواء اتخذت شكل مأساة فردية (محنة ابن حنبل، خذلان ابن خلدون) أو لبوس سقوط جماعي (في حالة تجربة غرناطة و ضياع الأندلس)؟
** الشعر يكمن في كلّ شيء. ليس ثمة حدودٌ للشعر تاريخاً أم واقعاً حاضرا. وما نسميه تاريخاً ليس هو بالتاريخ المحض بقدر ما هو عالم من الأوهام والافتراضات ليس فيه الحقيقة إلا خيطاً في مكان ما غير مرئيّ ، لذا يجد الشاعر نفسه إزاء عالم رحب من الاختلاطات و التوهمات التي تختلط بتخيلاته وأوهامه هو لا من أجل أن يفرض حقيقته أو حقيقة التاريخ الغائبة في مكان ما، وإنما ليكشف روحه وحقيقته الأعمق لا في تجليها من خلال خطأ أو صواب وإنما من خلال عالمه الشعريّ الأكثر عمقاً وحقيقة من حقيقة التاريخ القابلة للشك. عندما أتحدث عن مغادرة ابن خلدون للأندلس فإنني لا أريد أن أثبت حقيقة ما: خيانة الأقربين لابن خلدون حسب، وإنما لأثير في القارئ أعمق ما فيه من شعور إزاء ما هو غائب مفتقد: قرى السقي التي توارثها الكثيرون أشراراً وطيبين، ملوكاً وسوقة و من بينهم ابن خلدون الراحل المكتهل وهو يودع منحنياً فوق أيامه الباقيات. ليس ثمة واقعة واقعية أو مفترضة في التاريخ وراء هذا النص، وإنما هو من ابتداع المخيلة مبعثه علاقة ابن خلدون الملتبسة بلسان الدين الخطيب ومغادرته الأندلس حرصاً على بقاء هذه العلاقة التي لم يقابلها ابن خلدون بالمثل، كما ذكر ذلك في كتابه (التعريف) الذي يسرد فيه سيرته ، حين حل الخطيب في المغرب. في تعدادي لمن ورثوا قرى السقي أردت ربما أن أبين هشاشة الأشياء وحضورها الزائل وعبورنا المؤسي الذي لا يترك خلفه غير الظلال ظلالنا نحن وقد تلاشت إلى الأبد.
الحكاية الثالثة:

على سفح غرناطةٍ
قريةٌ من قرى السقي
أورثها عاهلٌ لـ (ابن خلدون)
أورثها ليزيدَ بن مروان
أورثها للإمام الملقّب بالقرطبيّ
لمن جاء من بعده من ملوك الطوائف
أو من ملوك الفرنج
لمن مات مغترباً تحت أسوارها
للمرابين
والقادمين
يودّعهم بالدموع (ابن خلدون)
مكتهلاً،
ينحني فوق أيامه الباقيات
وقد خانه الأقربون

وقل مثل ذلك في الحكايات الأخرى التي هي وليدة مخيلتي وليس لها من التاريخ إلا خيط واه يصلنا بماضيه. مادام هذا التاريخ محض توهم وخيال لماذا لا يكون للشاعر توهمه وخياله أيضاً في ملء فراغات التاريخ وأحداثه، لا سيما إذا كان ذلك مبنياً لا على استقراء التاريخ وحده وإنما على موقف أعمق: هو عاطفة الشاعر وعالمه الذي يحتوي هذه العاطفة دون أن تحتويه؟

* الحديث عن علاقة الشعر بالتاريخ يفضي بنا إلى مساءلة ثنائية النظم و السرد. فقد أثارت الناقدة الفرنسية، سوزان برنار، في كتابها المرجعي المثير للجدل، (قصيدة النثر)، مسألة القصيدة/الحكاية و ذلك في مقطع جدير بالذكر تقول فيه: " فمهما بلغت القصيدة من درجة التعقيد، و رغم حريتها الظاهرية، إلا أنها لا بد أن تشكل كلا وعالما مغلقا خشية فقدان صفتها كقصيدة. و إذا ما أضفت أن القصيدة هي تنظيم جمالي متميز، و أنها ليست بقصة قصيرة و لا رواية، و لا بدراسة (رغم ما قد يتمتع به هؤلاء من "شاعرية"، فسأبدو كأنني أقول شيئا بديهيا، وأقتحم بابا مفتوحا. و الواقع أن من الصعب تماما- هنا – رسم حدود. فقد يحدث- على سبيل المثال – أن تحمل قصيدة عنوان "حكاية" أو العكس. و مع ذلك، فعلينا أن نقبل بأن القصيدة لا تفترض لنفسها أية غاية خارج نفسها، و لا سردية و لا برهانية. وإذا ما أمكنها استخدام عناصر روائية و وصفية، فذلك بشرط أن تتسامى بها، و توظفها في كل واحد، لأهداف شعرية خالصة". (ص36)
كيف تعامل الشاعر عبد الكريم كاصد مع مسألة النص و المرجع؛ الشعر و السرد، خصوصا وأنك استثمرت البنية الحكائية في قصائد "حكايات من الحمراء" التي تستهل بها ديوان (قفا نبك)؟
** أتفق مع هذا الرأي القائل بإمكانية استخدام العناصر روائية ووصفية شرط توظيفها في القصيدة لأهداف شعرية خالصة .
في سؤالي الموجّه إلى أبي عبد الله في الحكاية الأولى من (حكايات من الحمراء): "ما الذي قادني إليك؟ "ما يشير إلى تيهي الخاص وسط عالم لا أدري أين؟ أفي السماء أم في الأرض؟ أفي الحلم أم في الواقع ؟ عبر سرد أم إنشاء ؟ عبر حكاية أم توهّم؟ سماء تجلس باكية وقمران حولها يسهران، وفي آخر الحكاية ثمة ملكان؟ (أهما القمران؟) وبينهما طفل متشح بالسواد (أهو أبو عبد الله نفسه؟) وامرأتان أطرقتا في البعيد (من هما؟ أهما أمه وزوجته؟)، أهما من عالم آخر بينما أتقدم أنا من هذا المشهد ببرنسي المغربيّ وكأني صورة أبي عبد الله. ما الذي حدث لي وليس لأبي عبد الله لكي أكون هناك ؟ مقطع يمتزج فيه النثر بالشعر والسرد بالمجاز والاستعارة في أقصى تجلياتهما:

استهلال:

يا أبا عبد الله
الطريق الذي قادني إليك
قادك إلى السفح
حيثُ السماءُ تجلس باكيةً
والقمران
حولها يسهران
يا أبا عبد الله
أيها الصغيرُ الذي لم تحمْهِ الأدعيهْ
ما الذي قادني إليك ؟
فتقدمتُ في برنسي المغربيّ
وقد هالني ما أرى :
السماء جالسةٌ
الملكان
بينهما الطفلُ متشحاً بالسواد
وامرأتان
(أطرقتا في البعيد ...)

أين نمضي بهذه التركة يا أبا عبد الله؟

مجرّد استهلال هو الخاتمة ربّما.. وربّما هو شيء آخر.. لا أدري.أين السرد وأين الشعر؟ أين النص وأين المرجع؟ أين العناصر وأين الأهداف؟ الحكاية الثانية وقد اقتربت أبراج الحمراء من الميت الذي توجهت إليه براحلتي وقرأت عليه صلاة الميت، وأشعلت الشمعة التي كانت مخبوءة في صندوق وصيته ؟ لم رجعت حين أضاء لي الكنز وأنا أفقر خلق الله؟

أثمة سرد هنا أم شعر أم الاثنان معا؟

الحكاية الثالثة أهي واقعة أم سخرية من واقع؟ أهي لحظة أم أبد؟ سأتجاوز الحكاية الثالثة لأنني سبق أن تحدثت عنها في جواب سابق. أما الحكايتان الأخيرتان فهما وقد نقلتا السرد والشعر إلى منطقة الأحلام استحالتا إلى حلم أيضاً.. حلم عصيّ على التفسير لدلالاته العديدة التي لا تستنفد. ما من واقعة خلف هذه الحكايات أو تاريخ مشخص بل إيهام بتاريخ وإشارات لا تقول الطريق بل احتمالاته التي تجعل من بنية الحكاية ابتناء يسهم فيه الشاعر والقارئ معاً

* في تقديري أن اقتران السرد بالشعر ليس أمرا طارئا و إنما هو جزء من الفعالية الشعرية في حد ذاتها، و لا أدل على ذلك من القصائد الملحمية الطويلة (مثال ملحمة جلجامش والاليادة والأوديسة و الماهابهاراتا) التي خرجت من رحمها الرواية كشكل سردي/نثري أكثر مرونة وطواعية لاحتضان التجربة التاريخية و الإنسانية بأرحب معانيها و تعقيدها كما حدث مع والتر سكوت وبلزاك و نجيب محفوظ و تولستوي و عبد الرحمان منيف في (مدن الملح) و في رائعته (أرض السواد).
** صحيح. إنّ اقتران السرد بالشعر هو جزء من العملية الشعرية في القصائد الملحمية الطويلة، مثلما هو جزء أيضاً في كثير من الأعمال الروائية التي ذكرتها، إذا ما أدركنا أنه ليس هناك سرد محض خالٍ من الدلالة والتخيل إلاّ في الأعمال الهابطة.
يرى تودوروف في إحدى مقالاته أن السرد هو حركة بين توازنين . في هذه الحركة بالذات يكمن الشعر بكلّ ما فيه من عجائبية وخيال وخرق للمألوف، أي أن الشعر يكمن في السرد ذاته إذا ما طورنا فكرة تودوروف إلى أقصى دلالاتها. في أشدّ الأعمال واقعية كأعمال بلزاك، تعقيباً على إشارتك إليه ، ثمة خيال خارق. أتذكر مشهداً في رواية الأب غوريو لم يغادر مخيلتي رغم قراءتي لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً هو مشهد العربة وهي تحمل جثمان الأب غوريو وقد استحالت هي والمقبرة خيالاً محضاً ومشهداً عجائبياً.

ليس السرد بعيداً عن الشعر العربي منذ نشأته السرد بمفهوم تودوروف. ألا يمتلئ شعرنا الجاهليّ بالأقاصيص الموضوعة الكثيرة: مقتل حجر بن الحارث والد امرئ القيس مثلاً وما نسجت حوله من أساطير وقصص وأشعار.

* في حديث لك عن الفارق بين الشعر و النثر في مجموعتك القصصية "المجانين لا يتعبون"(2004 ) قلت: " لم يعد هذا الفارق بالنسبة إلي مهما. فأنا أرى أن قصة "مقهى" مثلا في المجموعة هي قصيدة كتبتها و أنا في حالة شبيهة بتلك الحالات التي أكتب فيها قصائدي. وقل مثل ذلك عن قصص مثل "الأشباح" و "الأم" و غيرها". هلا عرجت بنا، نحن القراء، إلى أتون تلك"الحالة الشعرية" التي أشرت إليها، بوصفها اللحظة الأكثر صفاء و حميمية في العملية الإبداعية.
** كتبت معظم مجموعتي القصصية في بداية الثمانينات في دمشق ولم أعد إليها إلاّ منذ سنوات قريبة لأضيف إليها بضع قصصٍ كتبتها في أوائل التسعينات من بينها (مقهىً) وهو بالفعل مقهى في كامدن كنت أقضي فيه بعض الوقت، بين فترة وأخرى ، يُسمى مقهى بياف. والقصة تتحدث عن أغنية تتردّد في المقهى كلماتها هي:
تقول الأغنية : أنا المرأة والحلم
تقول المرأة : أنا الأغنية والحلم
يقول الحلم : أنا الريح
تقول الريح : أنا المرأة والأغنية والحلم

وحين ينفتح باب المقهى تخفت الأغنية وتدخل امرأة الأغنية خفيفة تحملها الريح كأنها طائر، وتجلس إلى طاولة الرجل. وإذ يقفر المقهى لا يبقى سوى الرجل والمرأة وأغنية خافتة كأنها من عالم آخر ، وحوار ملتبس. يحاول الرجل أن يتحسس يدي المرأة فلا يلمس شيئاً كأن يده تمرّ في فراغ. ثمّ يميل كرسيّه حتّى يوشك على الوقوع فتلامس كفه أعشاباً طرية ويمتدّ أمام ناظريه حقل من القمح يتوسطه قبر. تسأله المرأة: "هل ترى ذلك القبر؟" وتجيبه: "إنه قبري" ثمّ يُستأنف الحوار الملتبس ويستعيدان مشهداً يمثلانه. تلامس كفه العشب ثانية حين يميل كرسيّه ويدفع عنه أعواد القمح التي تهتزّ في الريح. بعدها تنهض المرأة خفيفة وترحل وتعود الأغنية من جديد.

شيء يشبه الشعر تجتمع فيه أجناس شتّى من شعر وقصة ومشهد مسرحيّ حيث الاستعادات غامضة والأجواء مغلقة ومفتوحة على الفراغ، غير أن هذا ليس هو الجوّ السائد في جميع القصص. ثمة قصص أقرب إلى الواقع والسرد الاعتياديّ، وغرابتها تكمن، ربّما ، في شئ آخر.. غرابة الحادثة ، واللقطة المفاجأة ، والأجواء المألوفة التي تفقد ألفتها بغتة وقد اكتست بالغموض.

تجربة لم أعد إليها ثانية وقد أعود إليها مستقبلاً.. لا أدري..


تداوليات قصيدة النثر و سؤال الحداثة
* أخي عبد الكريم، لربما كنت محظوظا أن أطالع كتاب "سوزان برنار" (قصيدة النثر: من بودلير حتى الوقت الراهن) في نفس النسخة التي بحوزتك. و كنت للحقيقة أقرأ بتمعن لا نص برنار وحده و إنما أيضا نصك الموازي له في شكل ملاحظة أو تعليق أو تعقيب بقلمك الرصاص. و كنت في مواقع عدة تسجل اعتراضات تكون أحيانا قوية النبرة، على تحليلات و تأويلات الكاتبة بخصوص شعراء أمثال بودلير و رامبو و مالارمي على وجه التحديد.حبذا لو نشرك القارئ معنا في هذا النقاش ونتعرف منك على أهم الاعتراضات التي تسجلها على بعض استنتاجات سوزان برنار سواء في المضمون أو المنهج.
** ثمة مآخذ عديدة على الكتاب ففيه فراغات متعبة ونقص في المعرفة وترديد لكلمة ميتافيزيقيا بمناسبة وبلا مناسبة، فمن إطلاقاتها أنّ لوتريامون ورامبو شأنهما شأن الآخرين اعتمدا فكرة الغموض في الشعر أو أنهما أرادا إعادة الشعر إلى قيمته الميتافيزيقية..إلخ وهي تبدو غير دقيقة حين تستشهد بـ (ج. ميشو) الذي يطرح منطق هيغل طرحاً مبتسراً وإن كان صحيحاً ، ولكنها تستنتج منه استنتاجاً خاطئاً بأنّ (عالم الوجود/ المادة، وعالم المطلق/ العدم) دون أن تدرك أن الوجود الخالي من التعيين لدى هيغل هو لا وجود أيضاً وحين يصبح لا وجوداً يستحيل صيرورة أي حركة عندئذٍ تدخله التعيينات الأخرى، أي إنها لا تدرك أن الوجود نفسه هو العدم حين يكون خالياً من التعيين في صورته المجردة. أما بالنسبة لمالارميه ففي رأيها أنه يحقق (الانتقالة الإلهية) التي تتجه من الواقع إلى المثال وهذا بالضبط عكس ما يتضمنه منطق هيغل.. ثمة تخبيص حقيقيّ وإدخال الشعر في مطب لا تدركه هي موغلة في استنتاجاتها الأشدّ تجريداً ومستشهدة بأقوال أشدّ من أقوالها تناقضاً وتهافتاً كهذا القول لـ ( ج .أوستين): "شاعر أكثر من هيغل، وفيلسوفاً أكثر من الشعراء السابقين استخلص مالارميه نتيجة شعرية من المقدمات المجردة للمثالية الهيجيلية" كلام لا معنى له. ما أبعد هؤلاء الفرنسيين المتحذلقين عن ما كتبه برشت العظيم بمرحه المعهود عن منطق هيغل في كتابه (حوارات المنفييين) بترجمة الصديق يحيى علوان عن الألمانية: "قرأت كتابه (المنطق الكبير) عندما أصبت بالروماتيزم فلم يعد بإمكاني الحركة. إنه من أكثر الأعمال فكاهية في العالم. إذ يعالج فيه حياة المفاهيم وعالمها. في وجودها المتحرك، غير المستقر والمتقلب، تماما مثلما يتشاجر اثنان و يهدّد احدهما الآخر بالسكين. بعدها يجلسان سوية ويتناولان العشاء سوية، وكأنّ شيئاً لم يكن. إنها (أي المفاهيم) تظهر بصورة ثنائية، وكأن الشيء متزوج نقيضه، يقيمان الصفقات سوية، ويوقعان العقود بشكل ثنائيّ، ويقيمان المحاكمات ثنائياً، وينظمان عمليات السطو والغارات سوية، يكتبان الكتب ثنائياً، ويدليان بالتصريحات بنفس الطريقة أيضاً، وكأنهما كلّ ممزّق ، وفي كلّ قضيّة تراهما زوجاً غير موحّد! فكل ما يقوله النظام تنفيه وتناقضه الفوضى في نفس اللحظة، باعتبارها شريكته التي لا فكاك منها. إذن تراهما لا يستطيعان العيش بدون الآخر ولا مع الآخر).
إنّ برنار تتناول مالارميه بمعزل عما يحيط به من حياةٍ و تأثيرات وكأنه كائن مجرد يقف وحيداً أمام الكون وليس ذلك الإنسان الذي خلف ديواناً كاملاً ربما لم تطلع عليه برنار في رثاء ابنه الذي فقده وهو في السن الثامنة من عمره، والذي كتب المراثي العديدة لمن أحبهم من الشعراء، والذي فقد أمّا عندما كان في السن الخامسة وأختاً وافتها المنية في السن الخامسة عشرة وعانى طفولة معذبة حين هجره والده مع زوجة أخرى، أما الفترة التي أحاطت بمالارميه والتي هي من أشدّ فترات تاريخ فرنسا احتداماً فلا موضع لها في قاموس برنار، وكأنّ العدم والغياب والصمت الذي يملأ مراثيه وأشعاره محض لغة وليس عدماً حقيقياً، وحتى حين تتحدث عن لغة مالارميه فإنها تؤكد جانباً واحداً هو ما تسميه "إحداث التفكيك في اللغة الشعرية "دون أن تأخذ بعين الاعتبار سونيتاته وقصائده العظيمة (قديسة)، (نخب جنائزي)، (هبة القصيدة)، المصنوعة بمهارة شاعر يملك كل مهارات الشاعر الكلاسيكي الذي يتقن صنعته، أو حين تقول: "لكن نظرياته الأدبية- شأنها شأن الطريقة الطبيعية لذهنه – كانت ستقوده أكثر فأكثر، إلى رفض أيّ تنازل للغة الدارجة".. وغيرها من التعميمات في فصل واحد هو الفصل الخاص بمالارميه.

يضاف إلى هذا الإرباك، إرباك الترجمة في كثير من المواضع، مع تقديرنا للجهد الكبير المبذول، إذ تصبح لفظة مجد في الصفحة 336 بمعنى انتظار، والبحيرة التي تأسر البجعة ص357 في سوناتته الشهيرة (سوناتة البجعة) التي مطلعها (هذا اليوم البكر القويّ الجميل) مرآة عندئذ تصبح القصيدة بلا معنى حقّاً وهي القصيدة التي يعتبرها النقد الفرنسيّ التقليدي نموذجاً للشعر الرمزيّ بقوافيها المصوّتة الصّارة النادرة حتى في الشعر الفرنسيّ. بل أن هناك أخطاء مبعثها ربما الطباعة أو السهو في ما هو أبسط إذ يرد في العبارة التالية: "لا يبعد عن نظره المثال الذي اقترحه لنفسه منذ كان عمره خمسة وعشرين عاماً، والذي سيظل يجتذب أبحاثه الشعرية وهو في سن الخامسة والستين" والأصح هو "وهو في سن السادسة والخمسين.

* يقول رفعت سلام في مقدمة ترجمة راوية صادق للكتاب أنه كاد يكون المرجع الوحيد الذي اعتمدته جماعة مجلة (شعر) في اقتراحها و تنظيرها لمصطلح "قصيدة النثر" و تمييزها عن "النثر الشعري"، و ذلك منذ ربيع 1960، تاريخ صدور العدد 14 من المجلة البيروتية حيث دشن الشاعر أدونيس هذا النقاش الذي طال أكثر من أربعة عقود دون أن يستقر على حال. هل ما يزال هذا النقاش يمتلك شرعية خصوصا في ظل كل التطور الذي عرفه الإنتاج الشعري العربي منذئذ و انفتاح القصيدة على مدارات مختلفة؟
** حقّاً إن القصيدة العربية انفتحت على مدارات مختلفة وشهدت تطوراً ملحوظا في تعدد اتجاهاتها ولا يضير القصيدة العربية بكلّ أشكالها هذه التحديدات المتعسفة التي تطالعنا بين فترة وأخرى وسيبقى المصطلح، أيّ مصطلح، موضوع نقاش ما بقي الشعر ولعل الشيء الوحيد الذي سيتغير ربما هو ما رافق هذا النقاش من احتدام وحماس زائدين.
لا أرى في استخدام مصطلح (قصيدة النثر) ضيراً حتى لو كان خاطئاً في التعبير عن تلك القصائد التي لا تعتمد التفعيلة والقافية وقد تستخدم القافية أحياناً دون أن يجعلها ذلك قصائد تنتسب إلى الشعر الحر، مثلما لن تصبح القصيدة الحرّة قصيدة نثر باستخدامها النثر كما هو حاصل في الكثير من القصائد التي نقرأها لرواد وغير رواد، أقول ذلك لأنني لم أجد مصطلحاً كمصطلح (النثر الشعري) شائعاً في الصحافة أو الدراسات النقدية إلى جانب مصطلح (قصيدة النثر) كما هو في اللغات الأخرى كالانجليزية والفرنسية مثلاً. أي أن ما يتنازع جوّنا الأدبي هما مصطلحان: الشعر الحر، وقصيدة النثر والمصطلح الأول في رأيي هو أدق من المصطلح الإنجليزي رغم أنه ترجمة له لأن المصطلح الإنجليزي غائم و لا يعني شيئاً و لأنه يحتوي الشعر الموزون وغير الموزون المقفى وغير المقفى كما بين ذلك إليوت في مقالته الشهيرة (الشعر الحر). في هذه المقالة نفسها يرى إليوت أن المصطلح الإنجليزي للشعر الحر يختلف اختلافاً كليا عن المصطلح الفرنسي، فلماذا لا نختلف نحن عن الاثنين حتى لو كانت الترجمة خطأ وقد يكون الخطأ في النقل أكثر فائدة من الصواب أحياناً وهذا ما بينه إليوت أيضاً في مقالة له أخرى بصدد الحديث عن ترجمة إدغار آلن بو إلى الفرنسية، ويبدو أن ابن جني أكثر تحرراً وانفتاحاً من هؤلاء المحدثين القادمين باستعلاء زائف لأن نازك الملائكة أو غيرها ترجم المصطلح بشكل خاطئ فهو يفضل ما هو متعارف عليه على خطئه على ما هو صحيح وليس مستعملاً كما جاء ذلك في كتاب الخصائص. ليس ثمة حماقة كترجمة قصيدة النثر بـ (قصيدة في النثر) أو (قصيدة بالنثر) التي تذكرني بتسميات بعض الأكلات البغدادية . ولماذا الخطأ والترجمة العربية شبيهة بما هو وارد في الترجمة الإنجليزية؟

عكس ذلك ستكون ثمة فوضى في المصطلحات. ماذا يعني أنّ شعر الماغوط من الشعر الحر وقصيدة السياب ليست من الشعر الحر بل من شعر التفعيلة وقصائد سليم بركات من النثر الشعريّ والقصيدة المدورة قصيدة كتلة وبالتالي فهي قصيدة نثر.. إلخ ولعل منظمي مهرجان قصيدة النثر كانوا أقرب إلى الحس السليم عندما وضعوا صورة الماغوط شعاراً للمؤتمر على العكس من المشاركين بمداخلاتهم الشغوفين بالمصطلحات والفرق بين الشعر الحر وشعر التفعيلة وهلمّ جرّا، رغم أن ظاهرة المهرجان لشكل من أشكال الشعر تبدو غريبة ولا مبرر لها فالمهرجان الحقيقي ليس لشكل ما بل ينبغي أن يكون للشعر. وأن تحديد أي شكل شعريّ بمقاييس تقييمية إنما هو تعسف وغريب، فالشعر الحر مثلاً – وهنا أتكلم عن المصطلح كما هو معروف في لغتنا– لا يتحدد بمعايير قيمة بل بشكل معين يستخدم التفعيلة مع خروج على النظام الخليليّ المتعارف عليه، مثلما هو خروج على القافية وقد يستخدم النثر في تضاعيفه دون أن يصبح قصيدة نثر وهذا ما نراه حتى في شعر الرواد، أما قصيدة النثر فهي التي لا تلتزم هذه المقاييس، دون الدخول في تقييمات مثل الكثافة والمجانية والوحدة العضوية.. إلخ لأن هذه شروط ينبغي أن تتوفر في القصيدة الجيدة بكل أشكالها وليست حكرا على شكل معين وفي التطبيق العملي نرى أن ما هو سائد في قصيدة النثر في نماذجها الجيدة كقصائد الماغوط ما هو نقيض ذلك. وقديماً تكلم نقاد عرب عن الوحدة العضوية كابن طباطبا، وعن الوزن الذي لا يراه الجرجاني "من الفصاحة والبلاغة بشيء"، لذا أعود إلى ما طرحه إليوت أن المقياس الوحيد هو : هل ما نقرأه قصيدة جيدة أم لا ومعرفة هذا ليست لغزاً بل قد تكون بداهة مثلما طرح ذلك شعراء عديدون منذ إليوت، وحتى الشاعر الإنجليزي ديفيد كونستانتن في آخر مقالة قرأتها له عن الشعر. أما الرغبة لدى من يريدون أن يحيلوا العملية الشعرية إلى لغز وسر فلن تكون بالادعاء واجتراح المصطلحات واتخاذ هذا الشكل أو ذاك بل بشيء آخر .. بالقصيدة ذاتها "التي ينبغي عليها ألاّ تضع نصب عينها شيئاً سوى ذاتها" على حد تعبير بودلير الذي يطالبنا بعض من دبجوا الدراسات للمؤتمر أن نكتب القصيدة كما كتبها بودلير وهو الذي أنكر عليه النقاد الفرنسيون أن تكون قصائده في سآمة باريس قصائد نثر ماعدا قصيدة أو بضع قصائد. وهذا ما تذكره سوزان برنار نفسها في كتابها عن قصيدة النثر. ليس لدى الثقافات الأخرى مشكلة اسمها قصيدة النثر لكي يقام لها المهرجانات وليس لقصيدة النثر شكل محدد كما يُقترح . إنها النمط المفتوح على كل التجارب وما القول بالمواصفات التي سبق أن ذكرناها إلا تقليد أعمى و إحساسٌ بنقص مريع في داخلنا لا يذكر إلا ببرامج الأحزاب السياسية المستعارة من الخارج لتطبيقها في واقعنا. ان الحديث بالمواصفات والتشطير والتقطيع و الكتلة ليس بحديث الشاعر الحقيقي المعني بالشعر وليس بأشكاله أيّاً كانت هذه الأشكال. هؤلاء المقلدون العميان (خواجات الثقافة) لا يدركون أن في الثقافات الأخرى كل شيء خاضع للتقييم من جديد، وإن "المبدع ليس من يبتكر شكلاً، ولكنه ذلك الذي يعرف كيف يحييه وكيف يستخلص منه دلالة" على تعبير جان روسي الذي يستشهد به جمال الدين بن الشيخ في كتابه (الشعرية العربية).

سأورد مقطعاً للشاعر غييفك مستلاً من كتاب ترجمته عن الفرنسية، أنا والصديق المغربي محمد مختار، منذ سنوات، بعنوان (العيش شعراً) يبدو لا علاقة له بالموضوع ولكنه ذو علاقة أيضاً، لكي أبين كم نحمل من أوهام هي ليست بالمسلمات في الثقافات التي استعرنا منها هذه الأوهام: "في البداية، رّبما عن صواب أو خطأ ، لكن بلا ريب ليس عن خطأ تماماً كنت دائماً أرى أن السريالية ظاهرة باريسية أو بشكل أدق ظاهرة مدنية إذ امتدت السوريالية إلى مدن أخرى غير باريس .أنا لم أحب أبدا كتابات بريتون النثرية ولا إرهابه، لكن على مستوى أكثر جدية فإنني لا أؤمن أبداً بالكتابة الآلية ولا بالأهمية التي تعطى للأحلام. كانت أحلامي عدوّاً لي فقد عذّبتني دائماً . إن نصيبي من الكوابيس أكبر بكثير من الأحلام الجميلة عندما قرأت في ما بعد ناديا، الأوعية المتصلة.. إلخ لم أقتنع. لا أعتقد، وأكرّر هذا الرأي، إن علينا أن ندع أنفسنا نستسلم إلى آلية لا أعرف ما هي. يجب أن نستفيد من كلّ مواهبنا، من ثقافتنا - إذا كانت لدينا ثقافة ومواهب – من روحنا النقدية حتى نستطيع أن نقوم بشيء يحرّر الكاتب ويثير اهتمام القارئ ... لكن بعد سنتين أو ثلاث من التجربة تخلى سوبول وبريتون عن الكتابة الآلية. في كلّ الحالات فإن القصائد المسماة "سوريالية" بقيت بالنسبة إليّ طافية على السطح. أظنّ بعمق أن الحركة الهامة في الربع الأول من هذا القرن هي الدادائية. إن الدادائية حركة- أعود إلى استعمال الكلمة التي استخدمتها في حديثي عن "بيان السوريالية" عندما كنت طالباً- غير مدرسية على الإطلاق، بل هي حالة عقلية نجدها في بلدان مختلفة، أما السوريالية فهي النبتة التي تجذّرت في فرنسا ونمت في بلدان أخرى. ولدت الدادائية من الحرب، من تمرد عميق ضدّ الحرب، ضدّ سوء استعمال اللغة، ضدّ الأكاذيب. لقد بقي أراغون دادائياً.. بيير–ألبير بيرو، وميشو، وبريفير دادائيين. كانت السوريالية حدثاً عارضاً. ما احترمته لدى السورياليين ليست تقاليدهم الأدبية ولا تقييماتهم الجمالية، بل أخلاقيتهم في التمرد وفي الحب.. هذا التمرد هو الذي قاد بعضهم إلى الثورة فكان لمعان إيليوار.

ويضيف غييفك: يمكن أن نلاحظ إنه في جيل الشعراء الذي تلا السوريالية لا يوجد شعراء كثيرون قد تأثروا بها لا بونغ ولا فولان ولا فرينو ولا أوديبرتي ولا تارديو ولا سيغرز و لا أرمين لوبان.. كان شار استثناءً، أما مانديارغ فكان سورياليا بعد الحرب. خلال موجة السوريالية لكن بعيداً عنها كان هناك شعراء مهمون أخص بالذكر منهم كلوديل وليون بول فارغ وسوبرفييل، و ريفيردي، وفاليري طبعاً. في الخارج كان هناك ريلكة وأنغرتي مثلاً. كذلك يجب أن أشير إلى ميلوز الذي أحببته كثيراً وجان بوشير وماكس جاكوب. إنهم ريفيردي، سوبرفييل، ميلوز الذين كان لهم الأثر الأكبر عليّ. أحببت كذلك القليل مما كنت أعرفه عن سان جون بيرس. أحببت من شعره (مدائح) خاصةً. كان هؤلاء الشعراء قريبين إلى قلبي أكثر من السورياليين."

أود أن أنهي إجابتي عن سؤالك هذا بالإشارة إلى كتاب صدر في أواخر التسعينات هو عبارة عن مختارات من قصائد نثر معاصرة جمعها روبرت لويدل وديفيد ميلر وفي ما كتباه عن المجموعة يعبران عن عدم اتفاقهما حول تسمية بعض القصائد بقصائد نثر ، مثلما لم يتقيدا بكون القصيدة كتلة أو مكتوبة بالسطر أو ما شابه ذلك من مصطلحات تسود اليوم في صحافتنا.

* في تقديرك كشاعر واكب مسار القصيدة العربية زهاء أربعة عقود، ما هي مسوغات نقل جدل قصيدة النثر من مجاله الفرنسي إلى مجالنا التداولي العربي؟ ثم هل طرح سؤال قصيدة النثر بالطريقة الصحيحة منذ منطلقه؟ هذا علما أن تحديث القصيدة الفرنسية جاء نتيجة دأب نقدي متواصل للبحث عن لغة جديدة. كما توافرت شروط متعددة ضمن سيرورة تطور عامة في المجتمع المديني و العقلية الحديثة و ضعف الشعر العروضي و تأثيرات الترجمة و غيرها مما ساهم في التمهيد لقدوم هذا النوع الأدبي التي تصفه سوزان برنار بأنه "الأكثر حرية و الأكثر مرونة و الأكثر حداثة".
** الغريب في الثقافة الفرنسية أن قصيدة النثر وجدت قبل الشعر الحر ، وهذا ما تذكره سوزان برنار في كتابها ، ولعل الأغرب أيضاً إننا لو تأملنا تاريخنا الشعري الحديث بواقعية أكثر وبدون هذا الصراع المحموم الذي يخوضه بعض الذين يكتبون قصيدة النثر لاكتشفنا أن كثيراً من المحاولات الشعرية التي كتبت نثراً هي سابقة للشعر الحر الذي شهدت ولادته أواخر الأربعينات. ما نغفله في أحاديثنا عن قصيدة النثر والشعر الحر هو أن المصطلح ليس وليد الرغبات الشخصية وحدها ولا التأمل الفردي في دقة المصطلح، وإنما هو يتكون عبر مخاض عسير وحركة أعمّ من توجه فلان أو فلان . إن للمصطلح تاريخه الذي لا يمكن إلغاؤه على الإطلاق برغبة ذاتية حتى لو كان هذا المصطلح خطأ أو وليد مصادفة. المصطلح مجرد وعاء نملأه بما نريد من معانٍ، وأحياناً تتكون المعاني خارج رغباتنا وبالرغم من إرادتنا الواعية في التغيير. لا يزال النقاد يتناقشون حتى الآن حول قصائد بودلير و رامبو و مالارميه هل هي قصائد نثر أم لا وشمل هذا النقاش حتى الشعر الحر كما ذكرت عبر الاستشهاد بمقالة إليوت (الشعر الحر) الذي قاد إليوت إلى إنكار المصطلح لغموضه والتباسه والوصول إلى ما هو أبسط وأكثر بداهة: شعر جيد أم غير جيد. أما قول سوزان برنار أن هذا النوع الأدبي هو "الأكثر حرية والأكثر مرونة والأكثر حداثة" فهو قول ليس له معنى ولا يدل على معرفة عميقة بالشعر.

* على ذكر الترجمة، تعتبر نفس الناقدة أن المترجمين هم أول من ألح على ضرورة تحرير اللغة الشعرية و مدها بمزيد من التنوع و التصوير. أعلم أنك بدورك دارس للغتين الفرنسية والإنجليزية و حائز على ماجستير في علم الترجمة من جامعة ويستمنستر بلندن سنة 1997. لكن يبدو أن اهتمامك بالترجمة كان سابقا على ذلك حيث قمت بتعريب العديد من الدواوين الشعرية: (كلمات) جاك بريفير 1981، و(قصاصات) يانيس ريتسوس 1987 و (أناباز) سان جون بيرس 1987 ثم أخيرا قصائد الهايكو للشاعر الياباني سانتيوكا تانيدا(2005). ما الذي دفعك إلى مجال الترجمة الشعرية؟ و إلى أي حد يمكن لتجربة الشاعر أن تغتني بتجارب شعرية تنتمي لثقافات مغايرة لثقافته؟
** ثمة دوافع عديدة لترجمة الشعر أهمها، بالنسبة إليّ، تصوري أن ما أترجمه من شعر قادر على تحقيق ما تسميه سوزان برنار "التنوع والتصوير". لقد ترجمت عدداً كبيراً من القصائد لجورج شحادة، وإيليوار، وأراغون، وغيليفك، آر.اس.توماس، وجلال الدين الرومي، وهولوب، وزبغنييف وأخرين كثيرين من بولونيا ويوغسلافا واليابان وبلدان أخرى. ولديّ مجموعات عديدة مهيأة للطبع .
أول كتاب شعريّ مترجم صدر لي هو (كلمات) لجاك بريفير لأهميته في الشعر الفرنسي وفي شعرنا العربي أيضاً، ثم أعقبته بكتاب (أناباز) لسان جون بيرس لما رأيته من قصور في الترجمات الأخرى، وبعداً عن روح الأصل وعدم فهمه أحياناً، ثمّ (قصاصات) ليانيس ريتسوس الذي ترجم عنوانه إلى الفرنسية عن اليونانية بعنوان (أوراق)، وحين التقى الصديق سمير سعد آنذاك بريتسوس وكان الكتاب مهيئاً للطبع عن دار الفارابي سنة 1981 قال له ريتسوس أن ترجمة العنوان بأوراق خطأ والصحيح (قصاصات). لقد أدركت خطأ المترجم الفرنسي من خلال فهمي لروح الديوان لا كلماته. أما (نكهة الجبل)، فهو لأهم شاعر ياباني لم تؤثر شهرته على نمط حياته الاعتيادية ومهنته التي هي التسوّل وقراءة السوترا أمام الأبواب للحصول على كفاف يومه الذي يقتسمه مع أصدقائه لتغطية نفقات عيشهم.

أود أن أضيف أن الترجمة ليست تنوعاً وتصويراً حسب بل حركة كامنة في النص قد تخفى على قرائه الأصليين وتجد تعبيرها في الترجمة، لأنها تتقدم صوب قارئ أشدّ وعياً، وقد يحدث العكس حين تكون مهمة المترجم إضفاء حركة على نص ساكن وهذا ما يشيع مع الأسف في حركة ترجمتنا إلى اللغات الأخرى ولاسيما الأوربية بسبب الشلل والاخوانيات وتبادل المصالح التي يشترك فيها أوربيون أيضاً ومؤسسات لها منافعها الخاصة من وراء هذه الحركة.

* يمثل سان جون بيرس حالة متفردة في سياق هذا النقاش حول قصيدة النثر. هناك من النقاد من اعتبر قصيدته قصيدة نثر، فيما أنكر عليه البعض الآخر ذلك. يقول الشاعر و المترجم كاظم جهاد في مقال له بعنوان "فلسفة قصيدة النثر": "تبقى الحالة الشديدة الخصوصية، حالة سان جون بيرس. لقد توهم من عرفوه عبر ترجمته العربية أنه شاعر قصيدة نثر. و الحق أنه بعيد عن هذا الجنس الأدبي. هو نفسه كان يسمي قصيدته قصيدة غير موزونة أو قصيدة اللانظم أو اللابيت (Poeme non versifié). فقصائده أناشيد طويلة يسودها نبر احتفالي و إعداد غنائي لعناصر العالم و أحداثه، فلا تجد فيها السمات الفنية الغالبة على قصيدة النثر".
بوصفك أحد مترجمي سان جون بيرس إلى العربية، ما رأيك في هذا الطرح؟ و على أساس أي معيار نقدي يمكن إدراج منجزه الشعري داخل مسمى قصيدة النثر أم خارجها؟
** يعجبني في الصديق الشاعر كاظم جهاد دقته التي تلمستها في كتاباته العديدة ولاسيما في كتابه (الكتابة والاختلاف). أما رأيه الذي ورد في سؤالك فهو صحيح إلى حدّ ما، ولعلّ هذا النبر الاحتفالي في شعر سان جون بيرس هو الذي أدى بالشاعرة كاتلين رين في كتابها (دفاعاً عن الينابيع القديمة) إلى اعتباره أبعد ما يكون عن شعر المحدثين من الشعراء كإليوت وعزرا باوند وإلى القول إن جيلها لم يستطع أن يفهم قصيدة ( أناباز) إلاّ فيما بعد ، فموضوعها الذي يصور حملة يقودها أمير بدويّ عبر الصحراء لا يقربها من أيّ تجربة حديثة لشاعر حديث لكن كاتلين رين أدركت فيما بعد أن القصيدة التي بدت غريبة عن الحدث المعاصر هي صورة لأوربا الضاربة في التيه وما الرحلة وأميرها إلا مواطنوها، غزاة أو منفيين. إنه كالشاعر والت ويتمان في استخدامه للجمل ذات الطابع التوراتي وهذا ما يفسر الإعجاب الذي لقيه في أمريكا من تلامذة ويتمان.
يرى نقاد آخرون أنه أقرب إلى جماليات القرن التاسع عشر وألصق بشعر كلوديل الذي ينسج على منواله ، بينما يرى جيفري بريرتن في كتابه (الشعر الفرنسي) أن شعره يمكن أن يطلق عليه (نثر شعريّ)، وهذا الرأي ليس دقيقاً مثله مثل إطلاق ( قصيدة نثر) على شعره، إذ يحتوي شعره بالإضافة إلى النثر على أوزان عديدة يوردها الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه في كتابه عن سان جون بيرس الذي اعتمدت عليه في كتابة المقدمة التي وضعتها لأناباز، ومن بين هذه الأوزان التي يعتمدها البحر الأسكندري ويورد الان بوسكه المقاطع العديدة تطبيقا لرأيه هذا. ولعل الرأي الذي اعتبره أقرب إلى الصواب هو رأي إليوت في مقدمته للطبعة الأولى لقصيدة أناباز والتي يرى فيها أن الشعر ليس بالضرورة أن يكتب نظما إذ بين النظم والنثر ثمة مسافة واسعة يمكن أن يتحرك فيها الشعر وهذه المسافة هي التي يكتب فيها سان جون بيرس قصيدته.

لا تستوقف النقد الأوروبي التصنيفات التي تستوقفنا نحن وما يهمهم هو عالم سان جون بيرس: كيفية التعامل معه ، طرائقه في التناول، ترجمته أما الأوزان فلا تشغلهم كثيراً . أضرب مثلا على ذلك هو مناقشة كاتلين رين ترجمة إيليوت فهي على الرغم من إعجابها بالترجمة تأخذ على إليوت عدم إدراكه لبساطة صور سان جون بيرس الواضحة، واستخدامه الألفاظ المشحونة بمعانٍ إضافية لاستدعاء الماضي في كل لفظة وصورة في قصيدة تنتسب صورها إلى طبيعة بلا ماض ولا تاريخ حيث المتحجر والعابر شيء واحد في حضوره الآن.





* و ماذا عن قصائد الهايكو؟ ما الذي جذبك إلى هذا الشكل الشعري التقليدي؟ و كيف تفاعلت مع الشاعر الياباني الذي كانت له تجربة في الحياة فريدة من نوعها؟
** نعم تقليدية ولكنها أشكال خالدة تتجدّد باستمرار حتّى أن لفظة تقليدي لا يمكن الانطباق عليها. إنها الأشكال القديمة الجديدة التي تتسع لأرهف الأحاسيس وأعقدها ، ورغم كثرة من يكتبون بهذا الشكل من شعراء العالم مشاهير وعاديين، فلا يبرز من بينهم إلاّ القليلون، لأنّ الهايكو بمعزل عن شروطه العروضية التي لا يتقيد بها البعض، يحتاج إلى زاوية حادة – إذا صح التعبير – في النظر إلى الأشياء. ولعلّ آخر ما طالعته وجذبني من كتابات ناجحة في الهايكو هو مجموعة (كتاب الهايكو) للشاعر جاك كيرواك صاحب رواية (على الطريق) المعروفة.
أما بالنسبة للشاعر الياباني سانتيوكا فإنّ أهميته تكمن في تناول ما هو عاديّ جدّاً في الحياة مع تغيير بسيط في وضع الأشياء ومجاورة بعضها بعضاً، ويكاد الديوان أن يكون سيرة حياة.. سيرة لرحلاته اليومية عبر العالم والطبيعة.. سيرة لا غرابة فيها، وغرابتها الوحيدة هي في زاوية نظرها إلى الأشياء ومنحها بعداً جديداً آخر إن لم يكن روحياً فهو العلامة التي تشير إلى ما هو روح. ليس ثمة تصوير باذخ، ولا تنوع شديد غير أنهما حاضران في قصائد سانتيوكا وكأن الشاعر يروي سيرة لا شعراً ولكن أية سيرة وأيّ شعر! إنها البساطة المذهلة في أقصى تجلياتها! وهذا ما يفتقر له شعرنا العربيّ المولع بالتراكيب المعقدة التي لن تجدها و يا للغرابة لا في شعر العالم المعروف، ولا في شعرنا العربي المعروف بصفائه و دقته.

* من الواضح أن سؤال قصيدة النثر في مجالنا التداولي جاء ضمن منظور شامل للحداثة. ما مفهومك للحداثة بشكل عام، و التحديث في مجال التعبير اللغوي و الشعري؟
** يتم تناول الحداثة إما كحقبة تاريخية أو كموقف مما هو راهن وقبض على ما هو جوهريّ فيه وليس على ما هو زائل حدثيّ ولهاث وراء ما هو شكليّ تستهلكه التقليعات العابرة. وهذا ما طرحه ميشيل فوكو في مقاله الشهير (ما هي الأنوار؟).
أما في الشعر، فالحداثة هي ما يتحقق من تحول نوعي في الشعر ضمن مرحلة معينة وتجلياتها المختلفة عند هذا الشاعر أو ذاك، وهذا ما تحقق بالفعل على يد شعراء الحداثة الرواد: السياب، البياتي، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي، أدونيس و ما تلاهم من شعراء الأجيال الأخرى كسعدي يوسف و أمل دنقل و فاضل العزاوي و سركون بولص و مبدعين آخرين. ولم يزل هذا التيار هو السائد، أمّا الحديث عن ما بعد الحداثة فهو حديث أقرب إلى المزحة في مجتمع يعيش ما قبل الحداثة. وفي رأيي أن تجليات هذا التحول النوعي لم تستنفد بعد إذ لا تزال هناك أشكال عديدة في الشعر العربي لم تترسخ حتى الآن كالتيار الذي يمثله شعراء عديدون ولاسيما في الشعر العراقي وهو تيار يتعامل مع الواقع اليومي بتفصيلاته موظفاً هذه التفصيلات من أجل التعبير عمّا هو أعمق في هذا الواقع، وما يختفي في هذه التفصيلات من حركة مجتمع يبدو راكداً لا يلمحها غير الشاعر في نفاذه إلى جوهر الأشياء، وهو في نفاذه هذا يحقق حريته إزاء الواقع وبالتالي خلق ذاته على حدّ تعبير بودلير.

ما زال شعرنا لم يرسخ هذا الاتجاه ويستعيض عنه بحركته هو وبصخبه ولغته المفارقة التي يتصورها انعكاساً لحركة واقع أو تمثيلاً لأهم اتجاهات شعر الحداثة أو انزياحاً ، بينما هو في حقيقته ليس إلاّ نظماً خارج الشعرية الحالية التي يشكو الكثيرون مفارقتها لواقعها وعدم قدرتها على تمثله إلاّ في أصوات شعرية قليلة وقصائد نادرة حتى أصبح العثور على الشعر كالعثور على مدن الخيال المستحيلة بينما يفترض في الشعر أن يكون خبز الجميع كما حلم به رامبو ولوتريامون.

و لأنّ حركة شعرنا لم تعد تعبيراً عن حركة الواقع، نرى تلك الهوة التي تفصل بين الاثنين والتي نستعيض عنها بالألفاظ وليس باللغة ، حين تستحيل الألفاظ مجرد أصوات لا دلالة لها ولا تشير إلا إلى نفسها، ولعلّ هذا ما يفسّر فقدان شعرنا القدرة على اقتناص وهج اللحظة الحاضرة واكتشاف ما فيها من تأثير على ما سيأتي.

* لديك رأي معروف عن القصيدة العربية تقول فيه: "أرى أن ما أضر بقصيدتنا العربية هو شعريتها، أي بلاغتها في الاندياح و تراكم الصور و الأفكار دون مركز ثابت". ماذا تعني بالمركز الثابت الذي تجعله معيارا لجودة القصيدة الحديثة؟ و هل هناك من نماذج معينة يمكن أن ينطبق عليها قولك هذا؟
**الاندياح وتراكم الصور والتداعيات التي لا يضبطها مركزٌ ما هي من أبرز مساوئ شعرنا. البعض من الجهلة يتصورون الحداثة وتقليد شعرائها هو بتراكم الصور وضجيجها وألوانها الفاقعة وتداعيات أفكارها التي هي ليست في حقيقتها أفكاراً وإنما انفعالات شائهة. وقد بلغ الهوس ببعضهم إلى ممارسة النقد بعصبية منفلتة لا تتوفر حتى في أحط عضو في ميليشيات الأحزاب السياسية التي تتوالد بسرعة في واقعنا، دون أن يدرك هؤلاء أن ثمة بناء محكما في شعر الشعراء ذوي التجربة الكبيرة ابتداء ببودلير ورامبو ومالارميه وانتهاء بشعرائنا المميزين، مروراً بالشعر الإنجليزي المصمم بإحكام كما لدى إليوت وهوبكنز وأودن. ومبعث هوس هولاء هو جهلهم بالشعر وباللغات الأخرى. إن الاندياح وتداعيات الأفكار لا تخلق شعراً على الإطلاق والتحرر من الأوزان لا يعوضه غير تنظيم الشعر الجمالي المتميز على حد تعبير سوزان برنار. أما نماذجه فهي متوفرة لدى العديد من الشعراء: كفافي، ريتسوس، ميوش، زبغنييف، جاك بريفير. أما في شعرنا العربي فهي تتوفر في قصائد وليست منحىً لدى هذا الشاعر أو ذاك.

* هناك من اعتبر أن استثمارك لأشكال تعبير الفولكلور الشعبي العراقي في ديوان (زهيريات) كان محكوما، أو لنقل على الأقل، حقق خروجا على عروض الخليل أحمد الفراهيدي. كيف أفدت من إيقاعات الشعر الشعبي العراقي؟ و أنا شخصيا لا أعرف منه سوى ديوان وحيد للشاعر عزيز سماوي. ثم هل يمكن قياس حداثة قصيدة ما بمدى ابتعادها عن الإطار المرجعي الذي أسسه الفراهيدي؟
**ليست أهمية الزهيريات في خروجي على عروض الخليل كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات التي تناولته حسب وإنما في ما منحت هذا الشكل التقليديّ العزيز على قلوب العراقيين من محتوىً جديد وطرقاً مستحدثة في التناول:
أطلقتُ في الحلم يوماً كلّ أفراسـي
تعدو وتعدو وتعدو وسط أعراسي
حتّى انتـــــهيتُ إلى بابٍ وحراسِ
صحتُ الطـــريق فردّوا : ما وراء البابْ
غيرُ الظلام وغيرُ الريح ، صحتُ : البابْ
يرتجُّ في الريح، صــــاحوا ثمّ غاب البابْ
في ظلمةٍ لم تزل ترتجّ في راسي


هل كان الحلم موضوعاً في الزهيريّ القديم الدائم الشكوى من جور الدهر؟ لا.. لكنني استخدمته دون أن أتعسف لا بقافية ولا بعروض ولا بأخيلةٍ. وقل ذلك في الزهيريات الأخرى التي أخفت وراء شكلها التقليديّ أشكالاً خفية أخرى ووراء قيدها عالماً من الاتساع ما يصعب تحديده، وخلف صوتها الواحد أصواتاً وأصداءً أخرى تجعل الانتساب إلى شكل الزهيريّ القديم أو الحديث عن العروض وحده ابتعاداً عن النص.


* يحدوني فضول للتعرف على رأيك في ما يعرف بالقصيدة الطويلة التي تتطلب نفسا و رؤية شعرية شاسعة. تحضرني الآن تجربة محمود درويش في (مديح الظل العالي) و(الجدارية).
**ليس بالضرورة أن تحتوي القصيدة الطويلة نفساً ورؤية شعرية شاسعة. قد تكون نظماً صرفاً ومهارات ليس لها من الرؤية غير شكلها. ولعلّ في عبارة النفري الشهيرة ما ينجدنا في مثل هذه المواقف. لقد اشتهر شعراء كثيرون بقصائدهم القصيرة ذات الرؤية الشعرية الشاسعة: بليك، مثلاً، في قصائده العظيمة (النمر)، ( لندن)، (قصائد التجربة وقصائد البراءة)، بينما نرى أنه افتقد هذه الرؤية الشاسعة في قصائده الطويلة التي كتبها فيما بعد.
يحضرني هنا أيضاً أميلي ديكنسون التي كتبت أجمل الشعر في قصائد قصيرة ضمنتها رؤيتها الشعرية النادرة لذلك لا أظن أن قيمة القصيدة تأتي من كونها طويلة أو قصيرة، وإنما لما فيها من صفات من بينها النفس الذي تحدثت عنه والرؤية الشاسعة.

أمّا الإشارة إلى محمود درويش فإن أهميتها تأتي من كونها إشارة إلى تجربتين مختلفتين: عامة وخاصة. ولعل براعة محمود هي في قدرته تحويل ما هو ذات إلى موضوع كما في قصيدته (جدارية)، وما هو موضوع إلى ذات كما في قصيدته (مديح الظل العالي) عبر التفصيلات الحميمة: بيروت في أوقاتها الواقفة الساعات.. بيروت نهاراً/بيروت ليلاً.. إلخ، أو عبر حضور الآخرين في ذات الشاعر واقعاً أو أحلاماً أو تخيّلاً.. الأب العائد من الحج، الأطفال المغاربة، أبو العلاء المعري (جدارية). ولعلّ حديث محمود عن سماء المطلق البيضاء و اللاعدم ما يذكرنا بذلك المطلق الذي تحدّثنا عنه مراراً لدى هيغل الذي يحتوي الوجود و اللاوجود معاً، مكرّرا إياه في أبيات عديدة (أستل من عدمي وجودي) بالغاً حدّه الأقصى في نهاية القصيدة (أنا لست لي. أنا لست لي).

إنهما تجربتان تستحقان الوقوف عندهما طويلاً و عند ما يتعلق بهما من خاص وعام لدى الشاعر بعيداً عن التصورات المسبقة المليئة بأوهام الناقد وأيديولوجيته لا أوهام الشاعر وأيديولوجيته.


* ذكرت في معرض جوابك عن سؤال سابق الشاعر العربي أدونيس. أود لو نسائل عمله الملحمي الأخير(الكتاب) الذي يعتبره بمثابة "سفر في التاريخ العربي، عبر المتنبي- حياة وذاكرة" سعى من خلاله تجديد الشعر العربي عن طريق "خلق فضاء آخر للتصور و الفهم والمتعة الجمالية" على حد تعبيره. كيف كان تلقيكم لهذا العمل الشعري الإشكالي الطموح؟
** أدونيس ظاهرة شعرية وفكرية كبيرة، اختلفنا أو اتفقنا معه، أثارت وتثير أسئلة عديدة قد نختلف على أجوبتها، ولكنها ستظل قائمة ما دام هناك سجال في الشعر والفكر. يؤسفني أن أقول إنني لم أقرأ المجلد الأول من الكتاب إلاّ بصعوبة وحين أعدت قراءته واجهتني الصعوبة ذاتها.. وقائع لا رابط لها، لا تضيء متنا ولا تستضيء بهامش، ويثقلها تعليق نثريّ يستحيل شعراً أحياناً دون أن يفقد طابع النثر العاديّ.
ليس في هذا الشكل أيّ جدوى. إنه شبيه بعمل النحاة والمصنفين وجهد بلا طائل لشاعرٍ كبير أحبه. و لعلّ الغائب الوحيد في هذا النص هو المتنبي الذي يبدو -إن حضر- معجزة منذ ولادته (بعضهم قال: هذا ملاك) بل أن بيته نفسه بيان (كل أحجاره بيان). لم يكشف لي النص جانباً خفيّا في شخصية المتنبي أو يجسّد لي جانباً معروفاً فيه، في مشهدٍ شعريّ يستعيده حيّا. و بدا لي الكتاب الثاني أكثر طراوة وتنوعاً ولعل استخدامه النثر في فصوله التي عنون كلّ واحد منها بـ(الذكرى) ما خفّف من رتابة الوزن والإيقاع المملين وما منح المخيلة أفقاً أوسع. أما الثالث فلم أطلع عليه.

* نص أدونيس متطلب و يستدعي ذائقة خاصة و نفس طويل في القراءة لاستيعاب نص بهذا التشعب و الرحابة. ألا ترى أنه يقصي شريحة هامة من قراء الشعر الذين هم قلة تتضاءل يوما عن يوم؟ أعتقد أن سؤال المقروئية يطرح نفسه بإلحاح في واقعنا العربي.
** ربّما.. ولكن الأهم في رأيي هو تقييم النص ذاته بعيداً عن أية علائق خارجية أخرى.. الإقصاء تسهم فيه عوامل شتّى، وليس صعوبة النص وحدها. ما يبدو صعباً لقارئ قد لا يبدو صعباً لقارئ آخر، أو في زمن آخر. قد تكون الصعوبة في النص الواضح ذاته، حين يكون الوضوح مضلّلا في الشعر.
سؤالك هذا يقود إلى موقف آخر هو الموقف من القصيدة ذاتها.. من علائقها الداخلية والخارجية: هل خلفية القصيدة أو هوامشها هي علائق داخلية أم لا؟ هل هي إثقال للقصيدة أم أجنحة لها في فضاء القراءة، إن صحّ التعبير؟ إنه يطرح ما هو أبعد من علاقة القصيدة بقارئها.. إنه يطرح علاقة القصيدة بذاتها.

* يعكس كتابك الشعري (أحوال و مقامات) نفسا شعريا طويلا و أسلوبا مميزا في إنشاء معمارية مركبة لكنه يظل نصا خلاسيا يزاوج الشعر بالنثر، و السرد بالرؤيا، لكنه لا يدخل تحت مسمى القصيدة الطويلة. متى سنقرأ قصيدة عبد الكريم كاصد الطويلة؟
** لا تشغلني التسمية كثيراً. أما القصيدة الطويلة فهي ليست بالضرورة ذات شكل واحد محدّد. قد تكون فصولاً تحتوي قصائد ومشاهد عديدة وقد يتخللها السرد والتعليق والإشارات الأخرى، وقد تكون لهذه القصائد التي تحتويها القصيدة الطويلة أشكالها المختلفة ما يهب العمل حركته وقدرته على التحول لاستيعاب واقعه الغني المتعدّد، والأمثلة على ذلك كثيرة: حالة حصار لدرويش، الكتاب لأدونيس. لذلك يمكن اعتبار ديواني القادم عن زوجتي الراحلة قصيدة طويلة مكونة من قصائد عديدة تختلف في أشكالها اختلافاً كبيراً.
* عودا إلى ديوان (قفا بنك)، نلاحظ في قصائد "حذاء الملك"، و "في بلاد العجائب"، و"أحلام"، و "شيء من السحر"، أنك تحاور و تستثمر فيها عوالم الحلم و السحر و الأدب العجائبي. ما سر هذه الغواية؟
** في هذا العصر الذي يتخذ فيه الدين والعلم مسارين منفصلين والأيديولوجيات مساراً ثالثاً يتحول فيه الدين إلى علم والعلم إلى دين ويصبح الخلاص أمراً صعباً، أيجد الشاعر تُرى عزاء في الاقتراب من السحر لما له من علاقة وثيقة بالشعر في كلّ عهوده؟
في السحر قد يستعيد الشعر دور الدين في تفسير الأشياء ولا أقول الوجود لئلا يبدو في قولي تجريداً محضاً وإضفاء شيء من السر على عاديتها لتصبح ذات امتدادات لم تملكها من قبل أو تملكها ولكن بشكل آخر.. نقيضٍ ربما. خذ مثلاً الشجرة. إنها ذات مدلولات رمزية شتى في الدين والشعر: شجرة الحياة ، شجرة الخلود، شجرة آدم، شجرة الحكمة.. إلى آخره.

في قصيدتي (روح) تستحيل شيئاً آخر حاضراً وغائباً في آن واحد، واقعياً ومتخيلاً، شجرةً وكوناً، صوتاً صائحاً:

هبطت غابة
كانت خضراء
حاملاً تعاويذ لتحرسني
وطلاسم لأعلقها فوق الأشجار
لكن لم أرَ أثراً
لشجرة أو طائر
لحيوان أو عشب
لقمر أو شمس
غير روح تتبعني
وتصيح :
" اخرج !
اخرج !
من مملكتي أيها الضال "

أليس في هذه القصيدة والقصائد الأخرى التي أشرت إليها في سؤالك ثمة تذكير بما أجبت عنه سابقاً من أن ألف ليلة وليلة تثوي في شجرة قصائدي مثلما تثوي الأفعى في شجرة إنانا التي يعلوها طائر الزو الأسطوريّ. أهي جنة أخرى يطرد منها الشاعر؟

في دراسة لفانون في (معذبو الأرض) يتكلم عن السحر وتأثيره البالغ في الإنسان لما يثيره من خوف وما يمنحه من قوة ومركز وهوية في آن واحد وما يتخلله من علاقة متشابكة بالموروث والتاريخ ، فإن كان للسحر مثل هذا التأثير فلم لا يستخدمه الشاعر المشغول بحاضره والمسكون بماضيه لا سيما وأن كليهما، السحر والشعر، لصيق بالآخر.

* عبد الكريم كاصد، أرى من خلال تنوع أشكال الكتابة لديك أنك تمعن في الإصرار على توسيع مفهومك للنص الشعري المفتوح الذي يتغذى من مصادر متعددة دون أن يفقد المركز الثابت في العملية الإبداعية. فمرة تكتب نصا قصصيا بنكهة الشعر و مرة أخرى تشتغل على المتخيل الرحلي. تارة تميل إلى نصوص بنفس صوفي كما في (أحوال و مقامات)، و تارة أخرى تمتح من مناخ الشعر الشعبي. بل طرقت حتى المسرح الشعري في (حكاية جندي)، و كأن في دأبك هذا بحث عن "لغة أخرى".
** ربّما.. و أقول لك صادقاً إنني لم أتعمد ذلك، ولم يكن دافعي البحث عن لغة أخرى وكثيراً ما يفاجئني الشكل الذي تتخذه قصيدتي. فأنا مثلاً عندما قمت بترجمة (حكاية جنديّ) لم يكن في ذهني الشكل الذي تتخذه المسرحية المكتوبة شعراً في الأصل الفرنسيّ، وحين ترجمتها وجدت النص العربي يتشكل ويتخذ أبعاداً لم أفكر بها من قبل: مقطوعات غنائية وحوارات تقترب من اللغة العادية، دون أن تغادر ألفتها حتّى وهي تتسم بالغرابة أو تفارق إيقاعها، لذا لم أتقيد بشكل واحد في الكتابة بل استخدمت كلّ الأشكال الشعرية الممكنة والنثر أيضاً. و لعلّ ما ساعدني أكثر في تنوع تجربتي هذه الحرية المطلقة التي منحني إيّاها المخرج في التغيير والإضافة والتأليف في داخل المسرحية. وهذا ما فعلته محافظاً على جوهر المسرحية ومسارها المألوف، بينما تقيدت المترجمة الإنجليزية بالدوبيت طوال المسرحية، وهذا ما جلب لها النقد من المخرج ذاته ولم يمنح الممثلين الإنجليز تلك الطواعية التي تميز بها الممثلون العراقيون.

إنني لست الشخص ذاته في كلّ تجربة. كل تجربة خلق لي واكتشاف لم أفكّر به من قبل، وإلاّ ما فائدة عمل لا يبعث المتعة والفرح بالولادة الجديدة.



#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر خارج النص: الفصل الثالث
- الشاعر خارج النص: الفصل الثاني
- الشاعر خارج النص: المقدمة والفصل الأوّل
- غابات الماء أم غابات الأخطاء؟
- الأيديولوجيا لا تأسرني - حوار: عدنان البابليي
- ترجمات إليوت إلى اللغة العربية
- ما أوسع المقبرة.. ما أضيق الجبل!
- نوافذ
- مرثية
- أربعون فدّاناً- ديريك والكوت
- هنالك في مالمو
- شهادة أم شهادتان: القسم الثاني
- شهادة أم شهادتان: القسم الأول
- قصائد قصيرة
- شجرة الرمّان..شجرة طفولتي
- الضحك
- الرحلة الأخيرة إلى المربد
- البناؤون
- حوار حول حكاية جنديّ
- الطريق إلى عدن


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - الشاعر خارج النص: الفصل الرابع