أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نايف سلوم - المثقف الجديد















المزيد.....


المثقف الجديد


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 865 - 2004 / 6 / 15 - 08:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


بعد قراءة ملف "الإصلاح السوري- جدل الثقافي والسياسي" المنشور في مجلة الآداب العدد 3-4 آذار- نيسان 2001 وبعد أن لاحظنا أن ثلاثة من ستة من المشاركين في الملف يعملون في المركز العربي للدراسات الاستراتيجية واثنان ينتمون إلى المؤسسة الأكاديمية ومشارك واحد من جماعة حقوق الإنسان. وبعد تبرؤ الثقافي من السياسي كون الثقافي يعتبر السياسي مصلحة أي يعتبره مخفضاً إلى نقابي، بات الثقافي يعمل بدوره في سبيل مصلحة أيضاً، لكن هذه المرة هو يعمل لمصلحته الخاصة !! وهذه مفارقة الذين يدعون إلى فصل الثقافي عن السياسي كنجاتي طيارة الذي يكتب داعياً إلى استقلال الثقافي عن السياسي، ومعلناً التالي: "مع تطلع إلى حركة مثقفين تطل على الشأن العام، فتحتفظ للثقافي بتعلقه بالحقيقة، وتستقل عن السياسي المرتبط بقيود المصلحة وموازين القوى، تطور مشروع جمعية أصدقاء المجتمع المدني".[الآداب ص62 ]

عن طريق الثقافي الحامل للحقيقة المجردة والمنزهة عن المصلحة يتقدم "أصدقاء المجتمع المدني" في سبيل تخليص الثقافي من رجسه السياسي! غائباً عنهم أن الحق عيني، حسب هيغل، أي أن الحقيقة مهما بدت مجردة فهي بالنتيجة لصالح جماعة تاريخية بعينها ضد أخرى، هذا إذا أثبتت جدارتها كحقيقة أولاً. بمعنى آخر الحقيقة تاريخية دائماً أي أنها مشروطة بالزمان والمكان. هذا الثقافي المدعي للنزاهة والحقيقة المجردة في "بيان الألف" يخفي سياسياً آخر تحت صياغة ديباجة البيان، قائماً على شكل حنين رومانسي إلى فترة الخمسينات الليبرالية في سوريا والتي يصورها البيان على أنها غاية في الروعة:

" أنتج مجتمعنا خلالها ثقافة متجددة وصحافة حرة ونقابات وجمعيات وأحزاباً سياسية وشرعية دستورية وتداولاً سلمياً للسلطة، حتى غدا من أقل الأقطار العربية تأخرً إن لم يكن من أكثرها تقدماً. وكانت تلك السيرورة ترقى بمجتمعنا إلى الاندماج الوطني " [الآداب ص109]

تفهم هذه النزعة الثقافية الليبرالية السياسة (علم السياسة) على أنه الحزبية الضيقة، أو أنه الطوائف والشيع الحزبية. كما أنها تحيل إلى تعريف المثقف تعريفاً نقابياً، أي أنها تحصر تعريف المثقف بالمستوى النقابي وتصادر اندفاعه نحو تشكيل وعي سياسي مقارب للمصالح التاريخية - السياسية لطبقة تقدمية بالقوة كـ البروليتاريا بحكم موقعها في عملية الإنتاج الاقتصادي. يخفي هذا التخفيض للسياسي مصالحاً أنانية لشريحة اجتماعية محددة باشرت العمل لحسابها الخاص بعد أن انسحبت من حقل اليسار البروليتاري نتيجة أزمة المشروع السوفييتي ونتيجة لتدهور مشروعية النظم القطرية في أطراف النظام الرأسمالي. يدعم استنتاجنا هذا شكل الاقتباس الذي يأخذه الأستاذ نجاتي طيارة من المفكر العربي الفلسطيني الأمريكي الجنسية إدوارد سعيد. حيث جاء في ص 62 من "الآداب": "ضرورة الإسهام في ولادة جديدة للمثقف الجمعي، لا بحسب اصطلاح غر امشي فقط، بل بمعنى أن يكون للمثقف صوت يسمع رنيناً، لأنه يربط نفسه دون قيود، بطموحات الشعب، وبالسعي المشترك من أجل مثل أعلى ". تشير هذه الديماغوجيا إلى أمرين:

1- ربط المثقف نفسه مع قضايا شعبه دون قيود 2- السعي المشترك مع الشعب لتحقيق مثل أعلى غير معلن عنه هنا ..

كيف يمكن "للمثقف الجديد" ربط نفسه دون قيود بطموحات الشعب إن لم يكن سعيه موجهاً أصلاً للعمل على مصلحة فئته الخاصة [مصلحة شريحته أو عائلته أو شخصه] بعيداً عن تقييدات المشروع البروليتاري- الديمقراطي ومثله الأعلى. هكذا يرتد المثقف نحو أصنامه. وهكذا بعد أن كان المثقف يعمل لصالح فئات أو طبقات أخرى رابطاً نفسه بشعارات غيره بات الآن يعمل لحسابه الخاص متحللاً من التزاماته السابقة والتي باتت ترهق كاهله. خاصة بعد أن تبين له أن الطبقات السياسية القطرية العربية تعمل هي الأخرى لحسابها الخاص مخفضة السياسي العام إلى نقابي- أناني، إثر تفكك التجربة السوفييتية وزوال ورقة التين.

هكذا إذاً وعلى قاعــدة "ما حدا أحسن من حــــــدا" راح المجتمع المدنـــي/ الأهلي يطالب بحقه في العمل لحسابه الخاص بالتضاد مع الدولة المخفضة. وبات هذا المجتمع يتسمى "بالمجتمع المدني المقاوم"! مخفضاً نفسه مرة أخرى من مجتمع سياسي إلى مجتمع نقابي (أهلي) مضاد للدولة.

عبر هذا المنظور لم يعد "المثقف الجمعي" حزباً إيديولوجياً حسب عبارات غر امشي ، بل بات حزب نفسه يسمع رنين صوته؛ صوت مصلحته ؛ مصلحة عائلته، شريحته، أو شخصه، متحولاً من جماعة سياسية مفتوحة إلى جماعة نقابية أو عائلية مغلقة، يسعى مع الشعب نحو مثل أعلى قد يكون ليبرالياً أو إسلامياً عوضاً عن المثل الأعلى البروليتاري. وأنا أقول أن مثل هذا المثقف الجديد مثل ليبرالي. يقول شمس الدين الكيلاني: "ومما يسهل هذه الخطوة أن يدرك الراغبون في تشكيل الهيئات الجديدة[لجان المجتمع المدني] أنها ليست موجهة أساساً ضد الدولة بل هي عنصر مكمل لوظائفها أحياناً، ومراقب لأخطائها فور وقوعها. وفي المقابل على النخبة الحاكمة أن تشعر أن تلك الهيئات لا تضعف الدولة بل هي عنصر قوة لها، إذ ليس من وظائفها الأساسية مناكفة الدولة ". وأنت ترى معي أيها القارئ أن هذه النصيحة بجمل.

يتم التركيز على الجانب الليبرالي من الإصلاح عبر الدعوة لـ مجتمع أهلي كمدخل للديمقراطية، أي تنشيط النقابي (التجاري، والصناعي، والأهلي والشخصي ) غير الحكومي وكل ما هو ليبرالي كوسيلة للضغط على الدولة ومؤسساتها كي يصلح حالها. وهذا يشير إلى أن المثقف الجديد ذو دوافع ليبرالية أكثر منها ديمقراطية حقاً، حيث تسعى الدوافع الديمقراطية الحق للضغط في سبيل إلغاء "حزبية الدولة" وتخليص المؤسسات الهيمنية للدولة كالإعلام والتربية والتعليم والاقتصاد من احتكار حزب بعينه، وتحويلها إلى مؤسسات مفتوحة للمواطنين جميعاً بغض النظر عن حزبيتهم ووفقاً لكفاءتهم المهنية. أي تحويل الدولة من دولة حزب إلى دولة مواطن وإنسان.

المسألة الأخرى التي تثيرها عبارة شمس الدين الكيلاني هي ظاهرة المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، ولا أقصد هنا المؤسسات الأهلية والخيرية الموجودة في العالم الإسلامي. هذه الظاهرة غربية بامتياز لأن الصراع على سلطة الدولة مؤجل خاصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث باتت الطبقات الاجتماعية الهامشية (غير السائدة) تخوض "حرب مواقع" [حرب ضمن المؤسسات المدنية للدولة]ضمن الدولة الواحدة (البورجوازية الاحتكارية) هذا من جهة، ومن جهة أخرى دفع توسع مهمات الدولة البورجوازية في الغرب إلى ظهور مؤسسات ومنظمات حكومية وشبه حكومية لمؤازرة الدولة في مهامها العابرة للحدود. مثال ذلك نشاط الرؤساء السابقين للولايات المتحدة وأطباء بلا حدود ومؤسسات الرفق بالحيوان ومنظمات حقوق الإنسان الليبرالي أي حقوق رجال الأعمال.

سوف نركز قراءتنا قليلاً على مقالة رضوان جودة زيادة المعنونة: "المثقفون السوريون ورهانات المجتمع المدني" . وهذه القراءة لن تقطع تداعياتنا بخصوص الهاجس الليبرالي للمثقفين الجدد، واختلاط مفهوم الليبرالية مع مفهوم الديمقراطية السياسية والاجتماعية. يكتب رضوان زيادة: "ستأتي دراسة آدم فرجسون "مقال في تاريخ المجتمع المدني" لتطرح أسئلة حول تمركز السلطة السياسية، ولتعتبر أن الحركة الجمعياتية (الأهلية وغير الحكومية) هي النسق الأحسن للحؤول دون مخاطر الاستبداد ". يفهم من هذا القول مباشرة أن الضمانة الكبرى في مواجهة الاستبداد السياسي هي في وجود مجتمع أهلي نقابي- أناني إلى جانب مجتمع سياسي – مدني* . يضيف زيادة: "لم يشهد سؤال الدولة المركزية حضوراً متعالياً إلا مع هيغل فيما بعد" [الآداب ص98 ] وأضيف أنا أيضاً: ومع غر امشي. ذلك لأن إيطاليا وألمانيا بلدان أنجزا تصنيعاً متأخراً وسوقاً قومية موحدة بشكل متأخر.ونظراً لأن الوحدتين الألمانية والإيطالية قد تمت المباشرة بهما في فترة انحطاط الديمقراطية البورجوازية (بعد ثورة 1848 الديمقراطية في فرنسا)، وبعد ميل البورجوازية الليبرالية لإجراء المساومات مع الطبقات البائدة تحت ضغط تقدم البروليتاريا كطبقة صاعدة، فقد راحت الدولة كتحالف بيروقراطي في كل من إيطاليا وألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تلعب دوراً وظيفيا تدخلياً إضافة لدورها الإكراهي السياسي كممثلة لطبقة مسيطرة ومهيمنة. لقد أنجزت هذه الدولة البيروقراطية المستبدة وحدة السوق القومية في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان. وهكذا لعبت الدولة الممركزة الدور الأساسي في تأسيس المجتمع السياسي- المدني عبر بناء السوق القوميـة الموحـدة، الدولة- الأمة ومفهوم المواطن. هذه الإنجازات التي سوف تحمل لاحقاً كل النشاطات النقابية التجارية والصناعية والأهلية. إن ادعاءنا بخصوص ميل المثقف الجديد نحو الليبرالية لا نحو الديمقراطية تؤكده عبارة رضوان زيادة التي تقول: "ذلك أن الإطار النظري لهذا المفهوم (المجتمع المدني) أصبح محكوماً الآن بمجموعة من السمات الرئيسية أهمها ضرورة الفصل بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، وتأكيد المواطنة ككيان قائم بذاته وترسيخ الفصل بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد، وتحقيق حيز متسع للقيام بأنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية لمختلف الشرائح الاجتماعية بعيداً عن تدخل الدولة وممارسة سلطتها " [الآداب ص99].

هذه النزعة الليبرالية في الاقتصاد والمجتمع والثقافة ذات الدعوة الجمعياتية (من الجمعية) في سبيل إفساح المجال للمجتمع الأهلي كي يقوم بدور مواز للدولة ومؤسساتها والتي تقتبس من فرجسون تنسى أن هذا الأخير قد كتب في عصر صعود البورجوازية وليس في عصر الإمبريالية الأميركية المتدخلة في جميع مناحي الشأن العالمي وبشكل سافر وعنيف عبر الحصار الاقتصادي والضغط السياسي وحتى الضربات العسكرية الجوية. وفرجسون ذاك تحدث عن مجتمعات تنمو بشكل حثيث وليس عن مجتمعات متخلفة تعيد إنتاج تخلفها تحت وقع العقبة الخارجية الإمبريالية وبحكم الطبيعة الاجتماعية للنظم القطرية المسيطرة . والدعوة الليبرالية هذه تتم في مجتمعات مفككة ومخلعة الاقتصاد بالرغم من الدور التدخلي للدولة الرأسمالية الطرفية في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وأنا أسأل هل الدعوة لكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد تشمل الدولة الطرفية والدولة الأميركية أم محصورة بالدولة الرأسمالية الطرفية ؟ وهل يعتبر المثقفون الجدد تدخل القضاء الأميركي والدولة الأميركية في شأن شركة مكر وسوفت عملاً ليبرالياً؟!

إن الدعوة لتنشيط المجتمع الأهلي كمجتمع مدني مقاوم، أي بالتضاد مع المجتمع السياسي- المدني(الدولة) في مجتمع كالمجتمع السوري هي دعوة للصراع على سلطة الدولة مرة أخرى. وهذه المرة تحت راية شعارات ليبرالية بائدة. بقول آخر توجيه المجتمع الأهلي ضد السياسي- المدني؛ إنها دعوة لنقابة ضد الدولة. هذه الدعوة تقود في بلد متخلف ونظام عالمي تسيطر عليه الإمبريالية الأميركية إلى مآلين:

1- تفكك الدولة والمجتمع المخلع أصلاُ . 2- انقلاب النقابة إلى دولة ليبرالية جديدة تحت الرعاية الأميركية (بولونيا).

إن مفهوم المجتمع المدني المقاوم يأتي من بولونيا حين ظهرت نقابة تضامن باسم مصالح العمال لتظهر حقيقة أنها حزب سياسي ليبرالي مدعوم أمريكياً.

لنلاحظ مع رضوان زيادة كيف يتحول مفهوم المثقف في مجتمع النقابة ضد الدولة أو في المجتمع الأهلي المواجه للمجتمع السياسي (الدولة). يقول زيادة: "يبدو أن مفهوم غر امشي للمثقف العضوي يصبح أكثر تفسيرية إذا قرنا وظيفة المثقف ضمن المجتمع المدني المقاوم وذلك بعد إحلال مفهوم "الفئة أو الشريحة الاجتماعية" محل الطبقة المسيطرة، عند ذلك يصبح المثقف معبراً عن ذاته وعن رهانه الشخصي بقدر ما يجسد طموح الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها سواء أكانت مهنية أم اجتماعية أم عائلية [الآداب ص /101/].

في قراءة هذه الفقرة نقول: إذا كان غرا مشي يربط تصورات المثقف بشكل موسط بمصالح طبقة عبر انتقال وعيه من الوعي النقابي الأناني إلى الوعي السياسي الذي لا يرى مصلحة شريحة المثقف أو عائلته أو شخصه بل يرى المصالح العامة لطبقة تقدمية تاريخياً التي يعم خيرها على الكثير من الطبقات أو الشرائح، بالتالي تحفز الوعي الأناني النقابي لينبسط ويتحول إلى وعي سياسي وليغدو المثقف معبراً عضوياً عن مصلحة الطبقة التقدمية ومن ثم الأمة. إذا كان غرا مشي قد أقام هذا الربط فما هو مصير هذا الوعي السياسي الشقي حين يكتشف أن "الطبقة التقدمية" ليست تقدمية ولا تعمل لمصلحة الأمة بل هي أنانية تستغل الشعار السياسي التقدمي لمصلحتها النقابية الأنانية. بمعنى آخر لقد فجع المثقف العضوي في أوربا الشرقية وبلدان الديمقراطيات الشعبية إثر اكتشافه أن الشعار السياسي التقدمي لم يكن لصالح الأمة بمقدار ما كان تكريساً لمصالح فئات اجتماعية وسياسية ضيقة وأنانية. كيف تتوقع أيها القارئ ردة فعل هذا المثقف المخدوع؟ في الجواب أقول: سوف يرد بمطالبته بمجتمع أهلي أي مجتمع مدني مقاوم مواز لمجتمع الدولة (سياسي- مدني) وسوف يطالب بالعمل من أجل مصلحته الشخصية أو العائلية أو المهنية. أي أنه يريد أن يقول: لقد تم تخفيض السياسي إلى نقابي بفعل النظم القائمة وأنا أطالب بحصتي وحصة عائلتي أو شريحتي. لن أعمل لحساب أحد بعد الآن حتى لو كانت الطبقة التقدمية طالما أن الجميع يعمل لحسابه الخاص بمن فيهم الطبقة السياسية الحاكمة في الأقطار الرأسمالية الطرفية.

إذاً بعد أن فقد المثقف العضوي المتحدر من شرائح وطبقات مختلفة ثقته بمشروع البروليتاريا وشعاراتها التحررية التي استخدمها التيار اليساري "القومي" راح المثقف يعمل لحسابه الخاص مخفضاً الثقافة من ثقافة عضوية لطبقة تقدمية إلى مجرد تمثيل لشريحة أو فئة أو شخص. بالتالي راح يرى في الليبرالية الاقتصادية و الاجتماعية لعصر الإمبريالية خلاصه بالمعنى النقابي – الأناني (المصلحة القريبة). يقول رضوان زيادة: "ويبدو أن المثقفين قد أعادوا توظيف مفهوم المجتمع المدني المقاوم بالمعنى الذي حددناه مسبقاً (المجتمع الأهلي ضد الدولة) إذ رأوا أنه يتطابق تاريخياً مع رهانا تهم المستقبلية " [الآداب ص102]

هذا فريق واحد من المثقفين راحوا يتراجعون عن موقعهم العضوي إلى موقع نقابي أناني شخصي أو عائلي أو فئوي أما الفريق الآخر فهو يقدم طرحاً من زاوية أخرى. يقول د.تيزيني حسب اقتباس زيادة: " الدولة في الوطن ا لعربي ما زالت مشروعاً أولياً يبحث عن إمكانات تبلوره وتحوله إلى موقع السيادة الدستورية والقانونية في المجتمع". [الآداب ص /103/] ويعقب زيادة على هذه العبارة بالقول: "يبدو واضحاً أن التيزيني يستنسخ حرفياً المفهوم الهيغلي للمجتمع المدني، عندما يعتبر أن تشكيل المجتمع المدني يتم بعد بناء الدولة، غير أنه لا يستوفي التحقق من الشرط التاريخي، وهو أن الدولة البروسية التي شخصها هيغل في زمنه ليست هي الدولة السورية كما نعيشها في الزمن الراهن. [الآداب ص 103].

وهنا يحق لنا أن نسأل: كيف فهم زيادة المفهوم الهيغلي للمجتمع المدني، يقول زيادة رداً على سؤالنا الافتراضي: "مثّل المجتمع المدني لدى هيغل الحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة ". [الآداب ص 98] هذا التشوش في فهم هيغل للمجتمع المدني يرد حجة زيادة ضد التيزيني خائبة، ذلك أن هيغل يقدم فهماً مركباً للمجتمع المدني من وجهة نظرنا حيث يقارب المجتمع المدني من جهتين، أولاً من جهة ظهوره التاريخي أي من جهة السير التقدمي (العمودي) للتاريخ كتطور سلمي للعائلة إلى مجتمع مدني (مجتمع سياسي) يكتب هيغل في أصول فلسفة الحق الصفحات /428-429/ : "الانتقال من الأسرة إلى المجتمع المدني... امتداد الأسرة بانتقالها إلى مبدأ جديد هو في بعض الأحيان امتدادها السلمي في العالم الخارجي حتى تصير شعباً، أعني أمة". وأقول أنا وأحياناً امتدادها غير السلمي (العنيف) كما حصل عندنا نحن العرب مع الاختراق الاستعماري الأوربي للمنطقة العربية محولاً العائلة إلى طبقة ونقابة ومصلحة أفراد لا تربطهم قرابة دم. وثانياً، مقاربة بنيوية حيث يعتبر هيغل المجتمع المدني هو المسافة الاجتماعية- الاقتصادية والأخلاقية بين الفرد وسلطة الدولة. يكتب جان هيبوليت: "النقابة تحل محل الأسرة التي لم تعد تستطيع أن تلعب دورها في هذا المجتمع المدني. والنقابة تصبح الوسيط الحقيقي بين الفرد والدولة ". [ "جان هيبوليت: مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيغل" ص 129]

هذا القول لا يمنع الحجة التي تقول أن سلطة سياسية تخفض السياسي إلى نقابي وتسخر الدولة لصالح منافعها الأنانية غير قادرة على إنجاز شيء سواء كان سياسياً أم مدنياً ولا حتى نقابياً بالمعنى المعزز للدولة.

صحيح أن التيزيني يرى أن التحديث الذي أنجز بعد الحرب العالمية الثانية قد قادته الدولة في أغلب البلدان المتخلفة ومنها البلدان العربية إلا أنه تبين لاحقاً أن الدولة الراعية التي قادت التحديث السالف الذكر راحت تتأزم على أرضية الأســـــباب التالية: 1- أن التحديث كان شعاراً لخدمة مصالح أنانية ضيقة، 2- أن حزبية الدولة أفسدت المواطنين وأفسدت الحياة الحزبية 3- همش غياب الديمقراطية السياسية الطبقات الشعبية حاملة التحديث بالفعل، بالتالي أبعدت هذه الطبقات عن مجال عملها الحقيقي وهو النشاط السياسي والمشاركة في صنع مصيرها.

إن نظرة د.تيزيني لا ترى هذه الخلفية الاجتماعية للسلطة السياسية في الأقطار العربية بالتالي لا ترى دورها الرعوي في إدارة الصراع الاجتماعي على أساس توازن القوى الاجتماعية لمصلحة فئة سياسية ضيقة وهذا يعني بالمحصلة أن الشعب راح يفقد شيئاً فشيئاً ثقته بممثليه ولا يعود ينظر إليهم كممثلين عموميين بل كمنافسين نقابيين يعملون لحسابهم الخاص مدعمين بالسلطة السياسية. ما من شك أن الدور الراعي للدولة الرأسمالية الطرفية يأتي من جهتين، أولاً التخلع الاجتماعي وضعف الطبقات الاجتماعية نتيجة الظروف التاريخية لتشكلها، وثانياً عدم وجود طبقة قادرة على فرض هيمنتها على الطبقات الأخرى بحيث تكون قادرة على إنجاز تحديث مستقل يقود إلى تشكيل الأمة- الدولة.

إن التطور من العائلة إلى المجتمع السياسي المدني في البلدان العربية لم يكن سلمياً بل حصل تحت ضغط الاختراق الكولونيا لي الغربي وهذا الانتقال كان مشوهاً وناقصاً بالتالي خلق بنى اجتماعية خليطاً من عناصر قديمة (عائلية) وعناصر حديثة (نقابية وسياسية- مدنية).

إن الأزمة الراهنة التي تمر بها الدولة القطرية العربية ناجمة في الأصل عن عدم قدرة الطبقات السياسية الحاكمة على التخلي عن تجيير السياسي لخدمة النقابي بالتالي عدم قدرتها على منح الشعب صك الانخراط في السياسة والعودة إلى الاهتمام بالشأن العام عبر تشريع الديمقراطية السياسية وقوننتها. لذلك يبقى أمام هذه الدولة خياران أحدهما الميل نحو الليبرالية الاحتكارية عبر المزيد من الاندماج مع النظام الرأسمالي العالمي خاصة بعد أن فقدت الفكرة الانقلابية هيمنتها ومعها إيديولوجيا المواجهة مع الاستعمار بالرغم من بقاء الجرح الفلسطيني مفتوحاً، الخيار الآخر إلغاء حزبية الدولة عبر تأكيد حق المواطنة والمشاركة العامة بغض النظر عن الانتماء الحزبي وهذا ما أشار إليه خطاب القسم الرئاسي في سوريا.

إن فتح مؤسسات الدولة الهيمنية (الإعلام والتربية والتعليم والاقتصاد) أمام المواطنين جميعاً دون النظر إلى انتمائهم الحزبي يفتح الباب أمام إصلاح حقيقي لمؤسسات الدولة في سوريا ويشكل مخرجاً منصفاً للجميع.

أخيراً نقول: إن المثقف الذي أحبطه المجتمع الأهلي ذو الشحنات الليبرالية حسب رضوان زيادة الذي يقول(هذا الأخير): "يبقى إدراك الشحنات الليبرالية في المفهوم جزءاً من صياغته النظرية ومشروعه العملي [الآداب ص 105]. هذا المثقف المحبط حسب زيادة يطرح العلمانية بديلاً عن هذا المجتمع ويمنع أي آخر غير علماني من الدخول فيه وكي نؤكد على الشحنة الليبرالية لمفهوم المجتمع المدني نذكّر بقول الدكتور محمد شحرور في "مشروع ميثاق العمل الإسلامي" الذي يؤكد أن " المجتمع الإسلامي هو المجتمع المدني" ص 23. ونقول مع زيادة: "علينا أن ندرك بداية أن المجتمع المدني ليس غاية في ذاته، إنما يمثل الشرط التاريخي لتحقيق التحول نحو الديمقراطية (المقصود الليبرالية) ص 105، ويبدو أن الالتباس الأكبر الذي خلقه المفهوم ناجم أصلاً عن اختلاط مفهوم الليبرالية بمفهوم الديمقراطية السياسية أو التعاطي معهما وكأنهما أمر واحد. فالمدقق في تاريخ الرأسمالية يرى بداية انفصال الليبرالية عن الديمقراطية اعتباراً من 1850 ذلك أن التشكل القومي للسوق الإيطالية والألمانية حدث بإرادة بيروقراطية أي بإرادة من فوق، من جهة أخرى فقد خلق التحول الإمبريالي للرأسمالية أي التحول من المنافسة إلى الاحتكار موجة مستمرة من الرجعية في الإيديولوجيا والسياسة مبتعدة بالبورجوازية الليبرالية عن الديمقراطية والتحرر وواضعة إياها في عداء مباشر مع شعوب البلدان الرأسمالية الطرفية المتخلفة ..

في سياق حديث رضوان زيادة عن المثقفين المتحدرين من اليسار البروليتاري والذين انخرطوا في الدعوة إلى المجتمع المدني من ثم صاروا هم أنفسهم جزءاً من مشروع الدولة نقتطف من زيادة قوله: "هكذا بدأ المثقفون دعوتهم إلى استقلال المجتمع المدني عن الدولة فانتهوا إلى أن صاروا هم أنفسهم جزءاً من مشروع الدولة التي يرفضونها ويدعون إليها في الوقت نفسه. إن ذلك يتعلق بالأهواء اليسارية التي انطلق منها غالبية المثقفين السوريين بحيث حكمتهم الأيديولوجية ورهنتهم في مشروعها، في حين أن المجتمع المدني لا يمكن أن ينمو ويتبلور إلا في ضوء النظام الليبرالي الديمقراطي الذي تمثل الفلسفة الليبرالية الحاضنة المعرفية له والمولدة لسياقاته التاريخية والعملية". [الآداب ص 105]. هذه العبارة لا تخلو من خطأ واضح، ذلك أن المثقفين المنحدرين من اليسار والذين دعوا إلى الديمقراطية السياسية تحت اسم المجتمع المدني كانوا يعانون من التباس بين الديمقراطية والليبرالية. وقد اكتشفوا معرفياً أو حدسياً (من الحَدْس) أن الشعب (العمال والفلاحين) ما يزال بقواه الأساسية في كنف الدولة. هذا وقد أوقع زيادة نفسه في التباس مماثل حين اعتقد أن المجتمع المدني مجتمع دولة الحق والقانون والديمقراطية السياسية لا ينمو إلا في ضوء النظام الليبرالي والفلسفة الليبرالية وهذا ناجم أصلاً عن عدم وعي انفصال الديمقراطية عن الليبرالية في العصر الإمبريالي الأمريكي. وأن المشروع اليساري الحق (البروليتاري) هو الوريث الشرعي لكل المنجزات الديمقراطية للبورجوازية الصاعدة في أوربا اعتباراً من 1500 وحتى 1850. وأخيراً نريد أن نؤكد أن المشكلة ليست في علمانية الدولة بل هي في حزبيتها أي احتكار حزب بعينه لمؤسسات الهيمنة في الدولة.



--------------------------------------------------------------------------------

* تشتمل الدولة البورجوازية الحديثة على "مجتمع سياسي" هو سلطة الدولة ، والذي يشمل البرلمان والحكومة والقضاء. و"مجتمع مدني" هو المؤسسات المدنية للدولة كالإعلام والتعليم والتربية والاقتصاد. كما أن لدى الدولة أجهزة إكراه كالجيش والبوليس وأجهزة هيمنة وهي المؤسسات المدنية السابقة الذكر.



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قضايا في مقاربة الإمبريالية الجديدة وما يترتب من مهام
- في انفصال المهام الديمقراطية(# )عن الليبرا لية
- الأزمة مستمرة – نقد وجود الحزب -1
- قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي
- العلاقة العربية الكردية تعدّد مستويات المقاربة
- القول النظري والقول السياسي حدّ العلم والقول السياسي
- خمر تمور العراق يُسكر الأكراد السوريين
- في الفهم المادي للتاريخ- مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ -مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- الق ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- الق ...
- اللينينية- قراءة نقدية في كتاب مارسيل ليبمان اللينينية في ظل ...
- قراءة نقدية في مشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي ال ...
- ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية في الفكر الماركسي
- الحلقة المسحورة
- حول المركزية الديمقراطية
- ملاحظات نقدية حول النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر التاسع لل ...
- الدولة و السياسة - قراءة في فكر غرامشي
- المجتمع المدني - عودة المفهوم
- في الإديولوجيا والثقافة


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نايف سلوم - المثقف الجديد