أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - وداع في صباح باهت بعيد














المزيد.....

وداع في صباح باهت بعيد


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2852 - 2009 / 12 / 8 - 00:19
المحور: الادب والفن
    




غادر الرصيف، ومشى ببطء بين الورش ومكاتب المفتشين ذات الطابع الاستعماري القديم، ثم انحدر شرق مساكن عمال السكة الحديد الحمراء الكابية، رويداً رويداً زاد من سرعته، واندفع بُعيد مطاحن الغلال، مخترقاً حقول الرز المغمورة بالمياه وجسر الحديد المقام على نهر صالحين، وما إن توغل داخل عشب السهل الاصفر الحائل ذي الفجوات الحجرية الواسعة، حتى اجهش بالبكاء بين وجوه المسافرين الساهمة وراء الاجمة المتناثرة من اشجار السنط، حيث تشرئب منذ قديم الازل سلسلة جبال العاديات، ملقية في نفس الرائي بذرة الشعور بالضآلة او الفناء، وقد بدا لصمتها الثقيل الموحش على رغم زلزلة القطار الهادر وكأنها لا تزال تصغي لاحلام المهدي بغزو العالم في زمان لن يعود، البتة.
كانت الشوارع الجانبية المُتربة خالية أو تكاد، كان يتقدمه شقيقه الذي يصغره بنحو عامين، دافعاً الدراجة عبر التراب الكثيف الموحل، "هذا ما يدعونه فراق الوطن"، قال في نفسه، ثم واصل السير، مختزناً في ذاكرته ما تبقى من الأماكن الاليفة الآخذة في التراجع عكس ايقاع خطواته، وبينما كان يتأمل اهتزاز شنطته "الهاند باك" المربوطة الى سرج الدراجة الخلفي بحب وعناية كبيرين، ادرك بكثير من الأسى ان سنواتهما القليلة التي عاشاها معاً كشقيقين قد ضاع معظمها في خضم النزاعات اليومية الصغيرة.
آنئذ، هرع اليه، ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك" لكنه كان قد وضع الدراجة بعد مشقة على طرف الشارع الرئيسي المسفلت، واعتلى سرجها الامامي، مشيراً اليه وهو يأخذ وضع الانطلاق، بالركوب. يكاد الآن يحس بصفير انفاسه اللاهثة وراء اذنيه، وهو يردفه امامه صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.
كانت تشير الساعة الى السادسة وخمس وعشرين دقيقة وثوان، عندما اطلق صافرته الحزينة الممطوطة، وغادر الرصيف، مُفتتحاً فصول رحلة لا يعلم إلا الله متى وكيف تنتهي؟.
في قادم الايام... الشهور... او السنوات، سيفكر في ذات الاماكن الاليفة، سيحكي عنها، وسيزورها اثناء النوم، يتردد اليها، يتلمسها بحنو يكلم في داخلها الوجوه التي احب، يستمع الى رنين ضحكته المفقودة، ثم يركض... ويركض... ويركض كعهد طفولته في الشارع ذي التراب الكثيف الموحل الذي يشهد خطواته الاخيرة الآن، قبل ان يصحو من نومه متوحداً أو فزعاً او ظامئاً او مجهداً بين جدران غرفة السطح المؤجرة في بناية قديمة تطل على احد شوارع القاهرة في كآبة، سيلازمه هذا الحلم كظله، وسيتكرر حتى خلال نومه النهاري القصير المتباعد الى أن يشرع أمام سيل الخيبات الذي لا يرحم في التأكد داخل الحلم نفسه ان ما يراه ليس حلماً، بل الحقيقة.

هناك، أمام باب الحوش، قبل دقائق قليلة، ودع والده "وداع رجل لرجل". السائل المائي الحارق، أخذ يتصاعد الى عينيه فور ان انفلت من حضن امه، وكثيرة هي الدموع التي ذرفنها شقيقاته في اعقابه، كذلك بدأ السير، مقتفياً آثار شقيقه الى الشارع الرئيسي المُسفلت حيث انطلقا بالدراجة صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.

لقد كن ذات الشقيقات، اللائي سيغرقنه في سنوات غربته الاولى بالرسائل، راسمات على حوافها الزهور الذابلة والقلوب التي حطمها البعد، ذاكرات من سطر لآخر ان بهن من الاشواق اليه ما يكفي لهدم جبال العاديات وتجفيف نهر صالحين وحرق غابات السنط النضيرة، وقتها كان ولا يزال منغمساً في سعيه الحثيث خلف طموح ظل مطموراً في اعماقه السحيقة، فكشف عنه الرحيل مثلما يكشف عن نفسه على حين غرة البركان الخامد أو الزلزال المدمر.

يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟.
عند منحنى الشارع ذي التراب الكثيف الموحل، توقف دفعة واحدة واستدار، بالكاد رفع يده اليمنى، لوح مودعاً، كان المشهد العائلي قد بدأ بالفعل في التشتت مرة وإلى الابد.

آنذاك، رأى والده، ومسبحته الحجازية، ناظراً الى وجه الارض في شرود، والشقيقات الثلاث، اللائي سينقطعن تباعاً عن كتابة الرسائل من طرف واحد ظل يبث طويلاً لواعجه الاخوية بلا جدوى، مازلن ملتفات حول ابتسامة امه، يلوحن له بأيديهن الست، وقد بدون كأغصان شجرة.. هزتها رياح ذلك الصباح التي بدأت تنشط شيئاً فشيئاً... والتي ستمحو بعد قليل آثار اقدامه على ظهر الشارع المترب، لا محالة.



#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملف داخل كومبيوتر محمول
- لغة
- نصّان
- زاوية لرجل وحيد في بناية


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - وداع في صباح باهت بعيد