أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صالح الزبيدي - بين الشعر والعلم: الرومانسيون الانكليز















المزيد.....


بين الشعر والعلم: الرومانسيون الانكليز


عادل صالح الزبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2842 - 2009 / 11 / 28 - 23:43
المحور: الادب والفن
    



تعد الحركة الرومانسية عموماً ثورة على عقلانية الكلاسيكية الجديدة وعلى صورة نيوتن للكون الميكانيكي وعلى النزعة العلمية التي بدأت تهيمن إبان أواخر القرن الثامن عشر. فالشعراء الرومانسيون شعروا بحاجتهم الملحة لوحدة روحية في عالم ميكانيكي متداع من الداخل والخارج.والرومانسية في جوهرها نزعة بنيت في كثير من جوانبها ومنطلقاتها على الخيال والإلهام والحدس ، واعتمدت العاطفة والشعور والإحساس بدلا من العقل والحقائق والواقع الملموس، وهي بالتالي لابد أن تضع "الفن" على النقيض من "العلم" كمفهومين معرفيين، فتصبح الرومانسية وفق هذا الفهم، ظاهريا في الأقل، رديفا للفن ونقيضا للعلم وثورة على النزعة العلمية والنظرة الميكانيكية للكون والحياة والإنسان.
كان وليم بليك (1827 – 1757)، الشاعر الذي بدأت جل ملامح الحركة الرومانسية تظهر في شعره بشكل مبكر، أي قبل انطلاقتها رسميا على أيدي رائديها ومنظريها الرئيسين وليم وردزويرث وصموئيل تيلر كولرج— كان أول الثائرين: فهؤلاء العلماء، من وجهة نظر بليك، في اتباعهم طرق العقل ووسائل التحليل والتجريب، يصبحون على النقيض من الشعراء الذين يتبعون وسائل الرؤيا والخيال، فكأنهم بذلك يضعون المادة في مرتبة أعلى من الروح. ألا أن بليك، على الرغم من هجومه العنيف على ما تحمله نظريات نيوتن من مدلولات ومضامين، تأثر هو الآخر بنظرياته وأفكاره حول الضوء واللون فألهمته تلك الأفكار العديد من الصور والرؤى الشعرية.
كان الهجوم العنيف الذي شنه بليك على العلم موجهاً بالأساس إلى ما اسماه بـ"فلسفة الحواس الخمسة" والتي هي بالنسبة له تتمثل بطريقة فرانسيس بيكون العلمية التجريبية التي طورها فيما بعد الفيلسوف جون لوك من خلال رفضه الأفكار الفطرية وتأكيده على الخبرة والتجربة، وهي الطريقة التي بلغت ذروتها مع نيوتن. أن احتجاج بليك ضد النزعة العلمية التي تعلي شأن الحواس بوصفها الوسيلة المثلى لبلوغ الحقيقة المطلقة يظهر جلياً في قصيدته المعنونة ((أوربا)) 1794 ؛ يظهر في القصيدة ((لوس)) الذي يرمز إلى جوهر أو روح الشعر وهو يحاول التغلب على ((يوريزين)) الذي يرمز إلى العقل، بينما يحاول الأخير السيطرة على منطقة الروح بوساطة الفكر. يصف بليك كيف أن "روحاً جبارة وثبت من ارض انكلترا اسمها نيوتن" وان هذه الروح هي الروح المتمثلة بالنزعة العلمية المادية. وفي قصيدة أخرى له بعنوان ((كتاب لوس)) 1795 يتعالى صوت الشاعر وكأنه صوت إشعيا منذراً ومتوعدا بلد العلماء بالمصير المحتوم:
وهكذا فان سلالة لوس وأنيثارمون الرهيبة
سلمت القوانين والأديان إلى أبناء هار موثقة
ربطها أكثر فأكثر بالأرض، مغلقة ومقيدة إياها
حتى اكتملت فلسفة الحواس الخمسة
يوريزين بكى واستسلم لنيوتن ولوك. 1

قد تبدو رؤيا بليك هذه بعيدة كل البعد عن الواقع الأرضي ألا أنها تنبئ بقدوم وهيمنة الروح المادية الصناعية كما يصفها في صورته الشهيرة عن "الطواحين الشيطانية السوداء" التي يصور فيها مصانع لندن في قصيدته بعنوان ((ملتون)):
أوَ هل أشرق ذلك المحيا السماوي
على تلالنا التي تعلوها الغيوم ؟
وهل شيدت أورشليم هنا
بين هذه الطواحين الشيطانية السوداء ؟ ( الأبيات 5 – 8 )

خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر أصبح العلم جزء لا يتجزأ من ثقافة العصر. وكانت علاقة الشعراء الرومانسيين به علاقة وثيقة جداً، وأبدوا، شأنهم شأن علماء عصرهم، اهتماماً كبيراً بالعالم الطبيعي فراحوا يتأملونه بطرق متشابهة ويسعون سعياً مشتركاً من اجل ثقافة فكرية موحدة ومتناظرة في نظرتها إلى الطبيعة. يوجه الناقد جي. أي. في. تشابل الانتباه إلى الصلة الوثيقة بين الخيال الشعري عند الشاعر والناقد الرومانسي الرائد صاموئيل تيلر كولرج ( 1772 – 1834 ) كما يرد في تعريفه للخيال الشعري في مؤلفه الشهير ((السيرة الأدبية)) (1817 ) حيث يعرف الخيال بوصفه ملكة ذات قدرة على التوحيد والترميز، وبين الفكر العلمي متمثلا بمعاصره ذي المواهب الأدبية فضلا عن مواهبه العلمية عالم الكيمياء البارز همفري ديفي ( 1778 – 1829 ) الذي تعرف عليه كولرج هو ورفيق رحلته الأدبية الشاعر الرومانسي الكبير وليم وردزويرث وبدأ اهتمامها بالعلم من خلاله. يقول ديفي في (( المحاورة الخامسة)) من كتابه ((مواساة في السفر)) ( 1829 ) بأن خيال "الفيلسوف الكيميائي" ( أي العالم ) ينبغي أن يكون "فاعلاً ومتقدا في بحثه عن مقارنات، ومع ذلك أن يخضع لسيطرة العقل كلياً عند وضعها موضع التطبيق." 2 من الواضح انه يمكن لتوصيف دقيق كهذا أن يكون توصيفا يقدمه الشاعر الرومانسي عن الخيال القادر على توحيد المتناقضات واكتشاف المؤتلف فيما بين المختلف، وذلك من خلال ملكة العقل الذي هو، كما يصفه وردزويرث في قصيدته الطويلة ((المقدمة)) (1850):
مبتدع ومتلق معاً
لا يعمل ألا متحالفاً مع الأعمال
التي يشهدها. ((المقدمة: الكتاب الثاني)) ( الأبيات 273 – 275 )

لعل خير من يمثل الموقف المتذبذب من العلم الذي شهدته الحركة الرومانسية في بداياتها، بعد إن رسخ وأصبح واقعا، رائد تلك الحركة الشاعر وليم وردزويرث (1770 – 1850 ) في تذبذبه بين موقفين متناقضين يعبر أحدهما عن خيبة الأمل بالفلسفة العقلية المادية من جهة ويعبر الآخر عن تزايد الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا من جهة أخرى، ويشكل هذان المتناقضان معاً جزء مهماً من أعماله الشعرية. فقد كان وردزويرث يرى أن كلاً من العلوم والفنون لها وظائف تضطلع بها، وكان تفاعله مع علوم عصره على أتمه على الرغم من تبنيه موقفا مناهضاً للمنهج العلمي عموما وكان موقفه هذا نابعا من اعتقاده، خصوصاً في سنواته الأخيرة، بأن العلم لا يستطيع في نهاية المطاف إن يفسر لنا الظواهر الغامضة في الكون والحياة. 3
أن علاقة الشاعر الرومانسي بالعلم لابد من النظر إليها في ضوء مقولات وردزويرث المختلفة حول الموضوع . ففي الفقرة الشهيرة التي أضافها لمقدمة طبعة عام 1800 من كتاب ((قصائد غنائية)) ، أول مجموعة شعرية للحركة الرومانسية الانكليزية ، يقول:
رجل العلم يبحث عن الحقيقة ... الشـــاعر يبتهج في حضرة الحقيقة ...
الشعر هو نفـَس المعرفة كلها وروحها الأنقى ؛ انه التعبير المشـــــبوب
العاطـــــــفة الذي يقف في مواجهة العلم كله ... فلو قدر لجــهود أهـــل
العلم أن تخلق ثورة مادية... فالشــــــاعر ... سيكون مســـــتعداً لاقتفاء
خطـــى رجل العلم ... أن مكتشــــفات عالم الكيمياء وعالم الأحــــــياء
وعالم المعادن الأشد بعدا عن الفن ستكون مواضيع صـالحة للاستخدام
الفني عند الشاعر كصلاحية أية مواضــــــــيع أخرى إذا ما جاء زمان
تصبح فيه هذه الأشياء مألوفة لدينا.4


في هذه الفقرة التي هي واحدة من أكثر المقولات تفصيلاً لشاعر انكليزي حول الموضوع، يشخص وردزويرث بعضا من أهم القضايا وأكثرها حيوية بشأن العلاقة بين العلم والفن: فهو أولا يحاول اكتشاف سبل التعاون والمشاركة بين العلم والشعر؛ وثانيا يشدد على أهمية الشعر في عصر العلم؛ وثالثا يؤكد على أحقية العلم في أن يدخل في الاستعمال الشعري؛ ورابعا يشير إلى تطور العلم والى ظهور علوم جديدة؛ وأخيرا وليس آخرا ، انه يتنبأ بقدوم عصر التكنولوجيا التي ستغير إيقاع الحياة البشرية ونوعها وتغير كذلك الفكر والمشاعر والعواطف فضلا عن شكل الحضارة وروحها.
في قصيدته الكبرى ((المقدمة))، وهي قصيدة يتأمل فيها الشاعر مسيرته الشعرية والحياتية، يعبر وردزويرث فيها عن إعجابه بالعلم من خلال تصويره شخصية نيوتن وهو يشاهده "مبحراً في بحار غريبة" للفكر (الكتاب الثالث ، البيت 163 ). وفيها أيضا يتذكر الشاعر دراساته المبكرة في علوم الرياضيات مثنياً على رمزيتها التجريدية وعلى "المتعة التي تتأتى من مبادئ / علم الهندسة الرياضية" ( الكتاب السادس ، الأبيات 116 – 117 ).
على الرغم من أن وردزويرث كان معجباً بالعلم كوسيلة لاستكشاف أسرار الكون، ألا انه كان يستهجن الآثار الاجتماعية التي تحدثها حركة التصنيع المتزايدة في انكلترا، وكان يرى منابع الخيال والأسطورة وقد غشيتها عجلة المصانع الرتيبة في المدن التي يغطيها الدخان، ويشعر بالأسى لضياع معالم الطبيعة وتشوهها في الريف الانكليزي، وانتشار خطوط السكك الحديد في منطقة البحيرات، فضلاً عن التحولات التكنولوجية الأخرى كما يذكرها في الكتابين الأخيرين من قصيدته ((النزهة ))( 1814 ) التي تتناول التوسع والتحول الصناعي الذي حصل في عصره وما تبعه من آثار. على الرغم من انه يتحدث بنبرة فرح بيكونية ( نسبة إلى العالم بيكون ) في الكتاب الثامن من القصيدة، عن قدرة الإنسان على السيطرة من خلال العلم على قوى الطبيعة وعناصرها العمياء، وهو يحدوه الأمل بإمكانية أن تؤدي هذه السيطرة إلى تحقيق متطلبات القانون الأخلاقي العليا، الا انه في سنواته الأخيرة ، ولربما بسبب زيادة تشدده الديني، أصبح يتحدث عن الدين بوصفه نقيضاً للعلم.
في سلسلة السونيتات المعنونة ((كهف ستافا)) ( 1833 ) يتحدث وردزويرث عن "اليد الإلهية" لـ" الرب المعمار" وعن "القوانين الميكانيكية" التي تعزى إلى "القدرة الإلهية". وفي قصيدة أخرى بعنوان ((إلى القمر)) ( 1835 )، يحاول التوفيق بين "عقل العلم الباحث" وبين هذه القدرة الإلهية. صحيح أن وردزويرث كان "متعاطفاً مع العلم ولكن معادياً للتكنولوجيا؛ كان مع الرياضيات ، ولكن ضد المصنع والمحرك،" بعبارة الناقد ايفور ايفانز،5 إلا انه تجدر الإشارة إلى حقيقة أن وردزويرث كان شديد المعارضة للآثار التكنولوجية التي رافقت الثورة الصناعية والتي كان لها اثر بالغ القسوة والوحشية في حياة الناس وشديد المعارضة كذلك لهيمنة النزعة التجارية الاستغلالية الجشعة.
يعد موقف وردزويرث بهذا الخصوص موقفاً ذا دلالات مهمة لأية دراسة تتناول العلاقة بين الشعر والعلم وتطور هذه العلاقة، وخصوصاً فيما يتعلق بالموقفين المختلفين الذين سوف يتبناهما الشعراء فيما بعد في تحديد علاقتهم بالعلم والتكنولوجيا وكذلك دور الشاعر الحديث في سياق هذه العلاقة. فمن جهة كان وردزويرث يستطيع أن يستشعر التهديد الذي كانت ستشكله الآلة مستقبلاً، وهو ما سيصبح موضوعاً أثيرا ومهيمناً على شعر القرنين التاسع عشر والعشرين. ومن جهة أخرى، حاول وردزويرث أن يوجد توافقا بين التقدم العلمي وما يقدمه للإنسان من منجزات وبين الإحساس الشعري، مؤكدا على أمكانية تمثل الشعر لمعطيات العلم وتوظيفها في صالح الفن الشعري، كما فعل في سونيتته المعنونة "زوارق تجارية وجسور وسكك حديد" (1833 ):
آلات ووسائط ، على الأرض وفي البحر
في حالة حرب مع الإحساس الشعري القديم، ليس من اجل هذا
سيتم الحكم عليك، حتى من الشعراء، بشكل خاطئ
ولكن يقف حضورك، مهما شوه من جمال الطبيعة
عائقاً أمام اكتساب العقل ذلك الإحساس التنبؤي
بتغيير المستقبل. ( الأبيات 1- 7 )

هذه القصيدة تعبير عن حلم من أحلام وردزويرث بمستقبل يكون بمستطاع الشاعر فيه أن "يعير روحه السماوية لدعم" العلم وانجازاته"، كما كان وردزويرث قد عبر عن ذلك بشكل واضح في مقدمته لـ ((قصائد غنائية)) بقوله:
إذا ما حل زمان يكون فيه ما يسمى الآن بالعلم، بعد أن يكون قد
أصبح مألوفاً لدى الناس، جاهزاً لأن يرتدي شـــكلاً ذا لحم ودم،
إن صح التعبير، فان الشــــاعر سيعير روحه الســــماوية لدعم
هذا التحول وســوف يرحب بالكائن الناتج بهذه الطريقة بوصـفه
نزيلاً عزيزاً وأصيلا في منزل الإنسان. 6

من بين رومانسيي الجيل الثاني الأصغر سناً، لابد أن نفرد بيرسي بيش شلي ( 1792 – 1822 ) بوصفه أكثر الرومانسيين قاطبة اهتماماً بالعلم. كان شلي متحمساً جداً للعلم منذ وقت مبكر من حياته وبقى كذلك حتى النهاية وقد ترك تحمسه ذلك بصمات واضحة على شعره بدء من أولى قصائده ((الملكة ماب)) ( 1813 ) حتى آخر أعماله. يقول عنه الفريد نورث وايتهيد في كتابه ((العلم والعالم الحديث)) ما يلي: "لو كان شلي قد ولد بعد أوانه بمئة عام لشهد القرن العشرون نيوتناً آخر بين علماء الكيمياء،"7 وأسبغ عليه الناقد كارل غرابو لقب "نيوتن الشعراء" بعد أربع دراسات كتبها عن شعره دارساً فيها بالتفصيل الأثر الذي أحدثته في شعر شلي معارفه العلمية وقراءاته المستفيضة في مؤلفات العلماء والفلاسفة الطبيعيين الذين يرد ذكرهم في رسائله وملاحظاته، علماء من أمثال لابلاس وبويل وكابانيس وبيلي وهرشل ونيوتن فضلاً عن بريستلي ومؤلفاته حول الكهربائية وايراسموس دارون مؤلف ((الحديقة النباتية.)) 8
كان شلي متفائلاً بالعلم وبما يمكن أن يقدم من انجازات ويعتبره مهماً لكل من الحياة البشرية ولفنه هو على حد سواء إلى الحد الذي جعله يقبل بجميع اكتشافاته على قدر استيعابه وتمثله إياها في شعره. فقد أدهشته واستحوذت على خياله الشعري عجائب النجوم والمجهر والمقراب وعلوم الكيمياء والحياة والنبات والكهرباء. ويمكن أن نجد اهتمامه بالعلم متمثلا بالإحالات العديدة التي يستخدمها في شعره. فالمفهوم الفلكي عن سعة الكون الهائلة وكذلك الأجرام السابحة في فضاء لامتناه نجدها مثلا في قصيدة ((الملكة ماب)) في قوله "وحول درب العربة الطائرة / دارت أنظمة لا عد لها." وفي النشيد الثاني من القصيدة يصل (إيانثي) الى قصر الملكة ماب ويرى الكون يدور وفق قانون نيوتن:
الأنظمة الدائرة شكلت
فضاء واسعاً متناغماً
كل يتابع طريقه العجيب
نحو هدف لا يحيد
وبصمت بليغ في عمق الكون . الأبيات ( 78 – 82 )

وفي قصيدة ((الغيمة)) يوظف شلي معرفته حول تحولات الماء كأساس للتحول اللامتناهي والأبدي والمحير للأشياء في الطبيعة:
أنا ابنة الأرض والماء
وطفلة السماء
اخترق مسام المحيط والسواحل
أتغير لكنني لا اقدر أن أموت . الأبيات ( 73 – 76 )

لقد أسهم العلم في تطوير قدرة شلي على خلق الأسطورة وإلى ابتداع واكتشاف أساطير جديدة يمكن أن تستوعب نظرته إلى الكون ومكانة الإنسان فيه. هذا ما قام به شلي على نطاق واسع في أعظم أعماله الشعرية ((بروميثيوس طليقاً)) ( 1820 ). تعتمد هذه الدراما الشعرية على العلم في الكثير من صورها الشعرية ورموزها حتى كأن ما يعبر عنه الشاعر فيها من أفكار ورؤى مشحونة بالكهربائية. في الفصل الأخير من المسرحية، وهو فصل غنائي كلياً يصف العصر الألفي السعيد لحكم المسيح، نجد سماء جديدة وأرضا جديدة، ونجد القمر، "العشيق البلوري" للأرض، وهو يخاطب الأرض وفق نظرية نيوتن في الجاذبية قائلاً لها أن "عناقها الدافيء"— أي قوة الجاذبية –- يمنعه من الانفلات في الفضاء، ويمضي مخاطبا إياها بلغة العشاق قائلا:
أنت مطوية ، أنت ممددة
في ضوء بهجتك
الذي لا يموت، وفي ابتسامة السماء الإلهية؛
كل الشموس والكواكب
تنثر عليك ضوء وحياة وقوة
تكسو مجالك، وأنت تسكبينها عليّ
تسكبينها عليّ. (الفصل الرابع، الأبيات 431 – 443)

صور شلي الرمزية عن الأرض والقمر هنا تنتظم وتتشكل في بنية محكمة يحكم شد خيوطها الفكر العلمي. فالأرض والقمر هنا، كما يشير وايتهيد، "يتناقشان بلغة علمية دقيقة. وتجارب الفيزياء هي التي توجه صور"9 الشاعر، والأرض الجديدة تشع ويشع عليها ميتافيزيقيا في كل من "ضوء بهجة" الأرض الذي "لا يموت". كذلك في "ابتسامة السماء الإلهية." استطاع شلي أن يمزج أسطورة بروميثيوس ورؤاه المفعمة بالأمل والتفاؤل عن هذه الأسطورة مع ما يقدمه العلم من تفسيرات لما يكمن في الإنسان وفي الطبيعة من طاقات وقوى وإمكانات، ويمزج كذلك بين شخوص رمزية قديمة مثل اورنيموس الشاعر وعازف العود، وديدالوس المخترع الأثيني، مع معاصريه من العلماء مثل وليم هرشل الذي اكتشف وصنف مئات من السدم والنجوم.
للشاعر شلي في الواقع أهميته في موضوع علاقة الشاعر بالعلم وتطور هذه العلاقة. يشير الناقد بونامي روبريه في معرض حديثه عن مراحل تمثل العلم في الشعر—والتي أشرنا إليها في مكان آخر من هذه الدراسة— إلى أن أهمية شلي بهذا السياق لا تكمن في مجرد اهتمامه بمعطيات العلم والحقائق العلمية، وإنما تكمن في محاولته الذهاب بهذه المعطيات إلى ما هو "أبعد من المرحلة التعليمية أو الوصفية باتجاه الرمزية، باتجاه ما يتحول تحولا إبداعيا." 11 كتب شلي إلى بيكوك ما يأتي: "تعلم بأنني دائم البحث عما أراه متمظهراً فيما هو ابعد من الشيء الحاضر والمحسوس." 12 فما كان يراه، أي الحدس ، يأتي أولا ثم بعد ذلك يمسك بالفكرة أو المقولة العلمية لكي تدعم هذا الحدس وتذهب به إلى ابعد من ذلك. إن كان ذلك هو حقيقة ما كان شلي يقوم به في شعره ، فانه يمكننا القول بأنه كان ملتزماً بمقولته التي طرحها في مقاله الرائد ((دفاع عن الشعر)) من أن "العلم كله ينبغي أن يحال إلى الشعر،" وبان الشعر هو "مركز المعرفة ومحيطها، وانه مستوعب العلم كله."
______________________________
الهوامش:
1 William Blake, Poems of William Blake, ed. W. B. Yeats (London: Routledge and Kegan Paul, 1969).
2 Quoted in J. A. V. Chapple Science and Literature in the Nineteenth Century (London: Macmillan: 1986), p. 28.
3 See Douglas Bush, Science and English Poetry, p. 96; see also, A. N. Whitehead, Science and the Modern World (Cambridge: Cambridge University Press, 1926), p. 103.
4 W. Wordsworth and S. T. Coleridge, Lyrical Ballads (1798), ed. W. J. B. Owen (Oxford: Oxford University Press, 2nd ed. 1969), p. 168.
5 Ifor Evans, Literature and Science (London: George Allen & Unwin Ltd., 1954), p. 51.
6 Lyrical Ballads, p. 168.
7 Whitehead, Science and the Modern World, p, 105.
8 Carl Grabo, A Newton Among Poets, 1930; The Meaning of the Witch of Atlas, 1935; Prometheus Unbound, an interpretation, 1935; and The Magic Plant, 1936.
9 Whitehead, Science and the Modern World, p. 105.
10 Dobrée, The Broken Cistern, pp. 84-85.
11 Quoted by Dobrée, ibid., p. 85. For an interesting account of Shelley’s enthusiasm for science, see Desmond King-Hele, Shelley: His Thought and Work (London: Macmillan, 1971), pp. 155-168.



#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ريتشارد ولبر – الكاتبة
- دونالد هول - اقرار
- لوسيل كليفتن - أحزان
- بين الشعر والعلم(القسم الثالث)
- أسئلة الامتحان الوزاري للغة الانكليزية تضعها لجنة تجهل أساسي ...
- جيمي سانتياغو باكا - قصيدتان
- تجليات العشق، تجليات اللغة: قراءة في نص ((معك أشعر بأنني معي ...
- مارك ستراند - دليل الشعر الجديد
- رسل أيدسن- قصائد نثر
- شل سلفرستاين – ثلاث قصائد
- بين الشعر والعلم: نظرة تاريخية (القسم الثاني)
- مارك ستراند – أكل الشعر
- هل انتهى دور الشاعر؟
- كارولين فورتشه – العقيد
- بين الشعر والعلم: نظرة تاريخية (القسم الأول)
- جيني جوزيف – إنذار
- مساعد الباحث في الجامعات العراقية: طاقة مستقبلية معطلة
- ماثيو آرنولد-شاطيء دوفر
- تشارلز بوكوفسكي- شريحة انتل 8088 ست-عشرية
- بيلي كولينز - سونيتة


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صالح الزبيدي - بين الشعر والعلم: الرومانسيون الانكليز