أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم هيبة - الأونطولوجيا الطبيعية















المزيد.....



الأونطولوجيا الطبيعية


ابراهيم هيبة

الحوار المتمدن-العدد: 2841 - 2009 / 11 / 27 - 03:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الأونطولوجيا الطبيعية
مطرقة نيتشه، خنزير أبيقور ومزمار شوبنهاور

لا وجود لكينونة خلاقة بدون تصور كوني واضح. فصيرورة الكائن تجري– كما نعلم– بين ثلاثة إحداثيات: الحق والخير والجمال. كل تأويل أو تحوير معين لأي من هذه الإحداثيات يغيّر من التموضع الوجودي للكائن ويؤثر في توازنه الأونطولوجي. لقد تعلمنا من درس التاريخ بأن الوجود الإنساني المزدهر هو حصيلة لتفاعل هذه الإحداثيات فيما بينها، كما أنه أيضا نتيجة للتراكمات والطفرات التي تتحقق في ميادين العلوم الطبيعية والفلسفة والفن والسياسة. وبما أننا نعيش في زمن عربي يشهد انحسارًا للعقل وهبوطا في قيم الإنسان، مع ما يرافق ذلك من صعود للأصولية الدينية بشعاراتها الضد–إنسية وقيمها الرجعية، يصبح من اللازم على كل مثقف جدير بهذا الاسم أن يعيد النظر– بحكم يقظته الفكرية و واجبه الحضاري – في كل المقولات الفيزيقية والميتافيزيقية التي تؤسس تصورنا الكوني وتُشكّل واقعنا اليومي. بدون إعادة نظر كهاته لا يمكن أن ننتظر من واقعنا هذا إلا المزيد من الضحالة والبؤس والخراب.
منذ فجر التاريخ ونحن نتخبط في أنساق ميتافيزيقية تتأسس على مشاعر الخوف والرهبة وتتغذى من الأسطورة والخرافة وتركب الخيال المجنح، ولم يكن يشكل استثناءا لهذه الأنساق إلا بعض الإرهاصات والحدوس التي نجدها هنا وهناك عند حفنة من الفلاسفة في العالم الهلليني. إن الصورة لم تبدأ تتوضح عمن نكون نحن ومن أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون إلا مع الانقلابات المعرفية التي قام بها أربعة رجال: كوبرنيكوس، داروين، نيتشه، و فرويد.
مع مجيء الرجل الأول انتهى تصورنا الأناني لمركزية الأرض في الكون؛ حيث أصبحت هذه الأخيرة أشبه ما تكون بحبة رمل حية تتواجد على هامش شاطئ كوني يتسم بالإمتداد المخيف و الصمت المطبق والوحدة القاتلة. كانت هذه إذن أول لطمة يوجهها العلم إلى وجه الإنسان، ولولاها ما كان ليستفيق أبدا من سباته الميتافيزيقي وما كان أيضا ليغادر أحلامه القروسطية. غير أن مجيء الرجل الثاني– داروين– وجّه هو الآخر ضربة إلى كبرياء الإنسان ونرجسيته أشد قسوة وإيلاما مما فعله سلفه كوبرنيكوس. مع صاحب {أصل الأنواع} اكتشفنا بأن الإنسان ليس سيد المخلوقات— و إنما هو مجرد حلقة في الترتيب التسلسلي لتطور الأنواع؛ فهذا الكائن الذي لطالما قدمته لنا الميتافيزيقا الدينية على أنه خُلق طبقا لصورة الله ليس في الحقيقة– وفي أحسن الأحوال– سوى حيوانا ناطقا.
بعد صدمة داروين جاء نيتشه بمنهجه الجينيالوجي الذي يشبه التفلسف بضربات مطرقة، فهدَّ كل بناءاتنا الأخلاقية والقيمية وقلب بذلك معايير الخير والشر رأسا على عقب؛ هكذا أصبح الخير ليس خيرا والشر ليس شرا و اتضح بأن مثلنا العليا التي نكيل لها كل التقديس والتبجيل ليست في حقيقتها إلا أمراضا نسينا بأنها أمراض. وأما تصوراتنا المطلقة فليست في العمق إلا رؤى جانبية للوجود تعكس نسبية الإدراك البشري وطريقته التشبيهية (anthropomorphic) في تناول الكينونية. كل هذه الانهيارات الأكسيولوجية والصدمات الأونطولوجية وضعها فيلسوفنا تحت عنوان واحد: موت الله.1
وإذا كانت اكتشافات المفكرين الثلاثة الأوائل قد قلبت تصوراتنا ومفاهيمنا حول عمل الطبيعة والحضارة، فإنه مع طبيب فيينا قد تغير مفهوم الإنسان نفسه. مع مجيء فرويد انهار مفهوم الإنسان ككائن عاقل، حر،و مريد؛ فأصبحنا نتعامل مع إنسان جديد لا يشكل منه العقل إلاّ ما تشكله جزيرة صغيرة في بحر مترامي الأطراف. إننا هنا إزاء إنسان ضد–أفلاطوني حيث العقل والإرادة والخير لديه أشبه ما تكون بقبسات طفيفة من النور تنبعث من ظلمات محيط يتشكل لجّه من الهوى والرغبة والفانتازيا. لَكَمْ كانت كشوفات فرويد صفعة قاسية لكبريائنا! فعوض أن نجد— من خلال بحثنا في الإنسان— شيئا كمثل أفلاطون أو كوجيطو ديكارت أو هندسة اسبينوزا، وجدنا كائنا أشبه ما يكون بالطفل أو المريض أو الوحش أو كل هذه الأشياء مجتمعة.
وبالرغم من الطابع التشاؤمي لهذه الكشوفات الكبرى والانكسارات التي أحدثتها في نفوسنا— نحن البشر—، فإنه مع ذلك يمكن أن نقول بأننا تجاوزنا مستوى الصدمة؛ فأصبحنا أكثر جاهزية لمواجهة وجودنا بالمزيد من الرشد و الواقعية، محاولين في نفس الوقت إيجاد أجوبة معقولة لكبريات الأسئلة الأونطولوجية: من نحن؟ من أين أتينا؟ كيف نتصرف؟ وإلى أين نحن ماضون؟
I. ما هي الأونطولوجيا الطبيعية؟
الطبيعة نص فيزيائي مكتوب بلغة الرياضيات. ومن يجهل مفاهيم المادة والطاقة والقوة والبنية ومعادلات التفاعل لن ينفذ أبدا إلى خبايا هذا النص الذي سيظل دائما محروما من لذة قراءته. منذ قرون ونحن نحاول فك رموز هذا النص، لكن معانيه لم تبدأ في التجلي إلا مع مجيء نيوتن؛ فكان أول وأجمل ما قرأناه هو أن الطبيعة شبكة من القوانين الفيزيائية الثابتة؛ وبهذا المعنى ودَّعنا وإلى الأبد تصورنا السحري لعمل الطبيعة، حيث استبدلنا مفاهيم الغضب واللعنة والنزوة والمعجزة بمفاهيم الشرط والحتمية والضرورة. اينشتاين لخّص هذه الخاصية الميكانيكية للطبيعة في جملة واحدة: "الله لا يلعب بالنرد."
في أحد الأيام أهدى الفلكي الفيزيائي لابلاس كتابه {الميكانيكا الفلكية} إلى نابليون؛ ولما فرغ هذا الأخير من قراءة الكتاب من الغلاف إلى الغلاف سأل مؤلفه قائلا: "لقد لاحظت بأنك لم تشر في كتابك ولو لمرة واحدة إلى الله !"، فأجابه لا بلاس قائلا:" لم أكن في حاجة إلى فرضية كتلك." وإذا كانت هناك من حكمة يجب أن نتعلمها من جواب لابلاس على استفسار نابليون فهو أن توصيفنا لميكانيكا الظواهر يجب دائما أن يرد إلى مسبباته الطبيعية؛ لا يجب الاستناد إلاّ إلى مفاهيم المادة وإقصاء كل مقاربة ميتافيزيقية تتكئ على مفاهيم متعالية كالروح أو القدر أو المشيئة الالهية. وهذا بالضبط هو جوهر الانطولوجيا الطبيعية. والحق أنه لا شيء أدعى إلى الوقوع في الخلط واللبس اكثر من التحدث بلغتين في الوقت نفسه أو محاولة التموضع في صعيدين مختلفين في الآن ذاته، أو إخضاع الكائن إلى طبيعتين ثنائيتين متناقضتين لا يستقيم وجود إحداهما إلا بغياب الأخرى.
الوجود الإنساني وجود شكل ووجود مضمون. عن طريق العلم الطبيعي نتمكن من فهم ميكانيكا هذا الوجود، وكل فيلسوف أو مثقف ينخرط ضمن التصور الأونطولوجي الطبيعي للوجود لا يمكنه اليوم أن يفكر في واقعه على نحو فعال أو يتمكن من القبض على حقائق فيزيولوجيا الجسد وتعقيدات النفس وآليات الإدراك بدون أن يكون ملما بعلوم الأعصاب والكيمياء الحيوية والبيولوجيا التطورية. إذن فالعلم الطبيعي بموضوعيته الصرفة وقوانينه الثابتة ومقارباته المحايثة للظواهر هو الأرضية الصلبة التي يجب أن ننطلق منها لأجل إيجاد المبادئ والقوانين التي تشكل وجودنا المادي والنفسي؛ لكن يجب أخد الحيطة والحذر، فالاكتفاء بالعلم الطبيعي وحده لا يخلق إلا كائنا أعرجا يفتقر إلى التنوع والجمال؛ ولنا في روسيا الستالينية خير مثال على ذلك. فهذه الأخيرة قامت بخطوات كبيرة على المستوى العلمي والتقني، لكنها على المستوى السوسيوسياسي لم تخلق إلا الضحالة والبشاعة: ديكتاتورية الحزب الواحد، أجهزة مخابراتية تخنق الأنفاس،رقابة فكرية قاتلة،وإخضاع الكائن لإنضباط عسكري صارم لا يترك مكانا للعفوية والتألق. وقد لاحظ هايدغر المخاطر التي ينطوي عليها توجه حضاري كهذا حينما قال بان "العلم لا يفكر." وهكذا وحتى لا ننجرَّ مرة أخرى إلى خلق تجربة ستالينية ثانية لابد من تطعيم بناءاتنا الحضارية بتصورات فلسفية تستند إلى مبادئ النشوة والحب والجمال. من منظور علمي صرف ليس للحياة أي معنى تسير نحوه أو مبدأ تخضع له 2. الحب مثلا، وفق هذا المنظور، ليس إلا نتاج تفاعلات كيميائية،الرغبة مجرد توضيب كمبيوتري من فعل الدماغ، ساقا امرأة جميلة ليسا إلا بنية من الأنسجة والألياف العضلية، أما ثدياها فهما ليس بأكثر من عضوان لإنتاج الحليب3.. كذلك الميتافيزيقية الدينية لا تقارب الحياة إلاّ من خلال مفاهيم العابر والوهمي والمزيف وما إلى ذلك من الصفات العدمية التي تنزع عن الحياة كل معنى وقيمة. والحق أن الحياة في بعدها الطبيعي لا تعدو أن تكون تركيبة خشنة من المادة والطاقة، ومن هنا لزمنا أن نهتم بالفلسفة والشعر. نحن في حاجة إلى الأولى حتى نوجه حياتنا نحو مسار واضح وسنكون أيضا في حاجة إلى الثاني حتى نضفي على حياتنا خصائص الجمال والجاذبية.
خارج الامتدادات المعروفة للمادة يصبح كل اتصال مع الوجود الفعلي والوجود الممكن أمرا مستحيلا. كل خبراتنا الحسية والنفسية لا تتم إلا من خلال وسيط مادي يربط بيننا وبين ما هو كائن: الجسد. بدون هذا الأخير يكون كل حديث عن الوجود تناقضا ما بعده تناقض. والحق أنه مند أن بدأنا في مفهمة الوجود ونحن لا نتصور ولا نُنظِّر ولا نتفلسف إلا من خلال الجسد أو ضد الجسد، وكل بناءاتنا الميتافيزيقية من أفلاطونية ومسيحية وتصوف وأخلاق لم تكن إلا ردود فعل ضد الزخم الطاقي للجسد. لطالما سيطر على أذهاننا ذلك التصور الذي يفيد بأن الجسد ما هو إلا وعاء للروح أو أنه مجرد بنية غير عاقلة من النزوات والغرائز والاندفاعات البهيمية. ولولا الفحوص الطب– فلسفية التي قام بها نيتشه والأضواء التي ألقاها فرويد على مناطق الهو واللاشعور، ناهيك عن آخر الكشوفات التي شهدتها علوم الأعصاب والدماغ، لبقينا نبارح مكاننا حول التصورات المثالية والشبه– صوفية النابعة من ثقافة العصور الوسطى.
قبلة حارة، انتصاب للذكر، ارتفاع لمستويات الأدرينالين أو التستسترون في الدم تخلق بيننا وبين الوجود علاقات في منتهى العمق والشدة والفرادة؛ متجاوزة بذلك كل أشكال "التصعيد" و "الروحنة" المنبثقة من تجاربنا الدينية. لقد سيطرت على عقولنا لقورن طويلة تلك الفكرة التي تفيد بأن الفكر عملية روحية صرفة لا تتم إلا بعد أن ترتفع الذات المفكرة عن تناقضات العالم المادي فتلتحق بصفاء ونقاوة عالم المثل. لكن تصورا أفلاطونيا للفكر، كهذا، لم ينتج إلا انساقا ميتافيزيقية يعتورها الاستلاب والكبت والضحالة. أنتجت هذه الأنساق الإستلاب عندما فصلت الإنسان عن شرطه المادي وحاولت أن تسكنه عالما ماورائيا غير عالمه الحقيقي الذي هو الأرض. وتسببت هذه الأنساق أيضا في خلق أشكال قبيحة من الكبت والإخصاء عندما تصورت الإنسان المثالي كجوهر روحي صرف، فعملت بذلك جاهدة على طمس واستبعاد كل ميول حسية أو شهوانية يعبّر عنها هذا الكائن. ومحصّلة كل هذا الاستبعاد المجحف لمادية الإنسان هو انحرافات سلوكية و إنزلاقات أخلاقية تتمثل في تعصب ديني كاسر وخلاعة جنسية قذرة ونزعات شيطانية بشعة. والحق أن كل فلسفة أو تصور كوني ليس في أحد جوانبه سوى انعكاسا للحالة الفيزيولوجية لجسد صاحبه. الروح المريضة والمهووسة بالخطيئة والكبت والندم والصوم وكل الاستراتيجيات الزهدية المعروفة لا يمكن إلا أن تسكن جسدا مريضا.
الفرد الذي لا يحسن تصريف قوى وطاقات جسده لا يمكنه إلا أن يعيش في حالة من الاضطراب والتناقض وعدم الرضا؛ عدم تبنيه لاستراتيجية فعالة في تدبير إمكانيات جسده سيجعله دائما في تأرجح غير مريح بين الشعور بالتخمة أو الشعور بالحرمان. والحق أن هذين الشعورين لا يولِّدان إلا الإحساس بالامتعاض والإحباط والكراهية. ومن هنا جاء ازدراء الإنسان لشرطه الأونطولوجي المادي وتطلعه إلى عوالم غيبية تتعالى على عالمه الحقيقي. و حتى يمر الإنسان نحو تلك العوالم الغيبية لم يمنح إلا خيارا صعبا وغير عملي اسمه الدين أو الأخلاق.
من يطلع على مراجعنا الكبرى في الدين والأخلاق لا يمكن إلا أن يلاحظ بان هذه المراجع تستند في مقاربتها للوجود إلى ميتافيزيقا الإحتقار4 : العالم منظومة وهمية،عابرة، خداعة، زائلة.. إنه باختصار عالم غير حقيقي. كذلك الجسد : كتلة مادية خطاءة، نجسة، وبهيمية. ومن هنا نلاحظ بأن الميتافيزيقا الدينية لا تفكر ولا تُنظِّر إلا من خلال لغة السلب، أي أنها لا تؤكد وجودها إلا من خلال مهاجمة الطبيعة المادية للوجود ووصفها بأقدح الصفات والنعوت. وبهذا فالخطاب الميتافيزيقي الديني هو خطاب سلبي انفعالي، أي أنه لا يصنع فعله ووجوده من تلقاء ذاته، بل هو دائما يتمظهر كانعكاس أو رد فعل ضد التمدد الكاسح لقوة الطبيعة بشكل عام وقوة الجسد بشكل خاص. عدم قدرة هذا الخطاب على بلورة استراتيجية مُجدية للتعامل مع حيوية الجسد الفوارة و ديناميكيته المتقلبة جعلته يرتبك ارتباكا أونطولوجيا، مما دفعه إلى الرجوع خطوات إلى الوراء أمام التمدد الحيوي للحياة. و هكذا وعوضا من أن يقول نعم للذة والفرح والغريزة والبراءة البدائية، ارتد هذا الخطاب عن الحياة متبنيا، على نحو فيه الكثير من الانفعال والسلبية، لغة قوامها الإحساس بالخطيئة والشعور بالندم وازدراء كل ما يمت بصلة للجسد والحياة، ناهيك عن الميل نحو كل تقشف أونطولوجي ومحافظة أخلاقية. وباختصار شديد فإن الميتافيزيقا الدينية ببعديها العقدي والأخلاقي لم تعمل إلا على ترسيخ فلسفة متكاملة في نفي الحياة. وهذه الفلسفة ليست في أحد وجوهها سوى شكلا من أشكال الانتقام5 من الحياة أو ما يمكن أن نسميه على طريقة نـيتشه بأخلاق العبيد.
II. أخلاق السادة .. أخلاق العبيد
ينقسم بنو البشر إلى مجموعتين لا ثالثة لهما : مجموعة تقول نعم للحياة ومجموعة تقول لا للحياة. المجموعة الأولى تقبل الحياة بكل تناقضاتها السلبية والإيجابية. إنها تستقبل بكل فرح وسعة صدر القسوة والنعومة، المرض والصحة، الألم واللذة، الوهم والواقعية، الجفاف والاخضرار، الموت والحياة، الحزن والسرور، التراجيديا والكوميديا. عندما يتعلق الأمر بالتحرك على الصعيد الديونيزوسي6 للحياة تتبنى هذه المجموعة استراتيجيات الغزو والإقبال والعشق والتوسع. وعندما يتعلق الأمر بالبعد التراجيدي للوجود تنهج هذه المجموعة سياسة المقاومة والجَلَد والثبات ورباطة الجأش. في كل الأحوال ما تقوم به هذه المجموعة في تعاملها مع مشكلات الكينونة هو الفعل والحركة والتأثير والسير إلى الأمام؛إنها لا تعرف الانفعال ولا السلبية ولا النكوص— من هنا فأخلاقها أخلاق أرستقراطية..أخلاق سادة7.
بالمقابل هناك مجموعة ثانية من البشر ترعبها تقلبات الوجود وتناقضاته؛ ولأن الأفراد المكونين لهذه المجموعة يفتقرون إلى القوة المعنوية والمادية لمواجهة زخم الحياة وألاعيب الكينونة فقد انطووا على أنفسهم في سلوك يشهد على كرههم لذواتهم وللآخرين وللعالم. و من ينظر في جدول قيمهم لن يجد إلا قيما سلبية تمجد الضعف أو الموت أو الهروب من العالم؛ لهذا تجدهم دائما يتغنون بالشفقة والتواضع والامتثال والطاعة والخضوع والشهادة والتضحية ونكران الذات. ومن يتأمل في هذه الحزمة من القيم لا يمكن إلاّ أن يلاحظ بأن هناك قاسما مشتركا يجمع فيما بينها ألا وهو الإحساس بالضعف. ولأن الضعفاء لا يكرهون شيئا آخر بقدر ما يكرهون التفرد والاستقلالية والاختلاف تجدهم، حتى يغطوا عن ضعفهم، ينظمون أنفسهم في جسم مادي لا يميزه إلا عمى الإرادة وكثرة العدد— هذا الجسم يطلق عليه نيتشه اسم القطيع8.
أكبر عملية سطو شهدها تاريخ الفكر حدثت عندما استولت الميتافيزيقا الدينية على مجال الأخلاق. هذا الاستيلاء دام لقرون طوال إلى درجة بتنا نعتقد معها أنه لا توجد أخلاق إلاّ وتكون متعالية؛ أي أنه لا معرفة حقيقية بما هو خير وشر إلا بربطه بكتاب مقدس أو كلام موحى به أو مبدأ غيبي. ولكن هذا الادعاء يفنده تاريخ الفكر، فالأخلاق ليست مطلقة بل نسبية؛ والنسبية هنا لا تعني بأن الخير يساوي الشر أو أن القبح يساوي الجمال، بل هي تعني فقط بأن كل شيء ينسب إلى شيء آخر؛ أي أن كل شيء مرتبط بكل شيء. فيما مضى كانت العبودية والمتاجرة بالرقيق الأبيض والعقاب البدني واستغلال الأطفال أمورا عادية لا تثير استهجان العامة ولا سخط الخاصة، أما اليوم فإن الواحد منا لا يمكن أن يدعو إلى العودة إلى هذه الأنماط من السلوك من دون أن يُتهم بالهمجية أو الشذوذ أو الرجعية. وهكذا، فمثلنا العليا وتصوراتنا لكل ما هو محمود أو مذموم هي نتاج التعقيدات الهيكلية لمجتمعاتنا والعلاقات الإنتاجية لاقتصاداتنا ومنهجيات الفكر والنظر في ثقافاتنا. إنها وبلغة نيتشه مرة أخرى، تأويل معين لواقعنا. والتأويل كما نعلم هو أمر نسبي— أي فاعلية تنسب إلى الذات القائمة بها.
يعتقد سبينوزا بأن نظام الأفكار هو نفسه نظام الأشياء9 ،وأنه بنفس الطريقة التي نستنبط بها قوانين الفيزياء يمكن أن نستنبط بها قوانين الأخلاق. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أنه لا وجود لأخلاق مجردة— أي أنه لا فهم حقيقي لمقولتي الخير والشر بمعزل عن خبراتنا الأونطولوجية و الإبستيمولوجية. ولذلك فإنه إذا ما رغبنا في ابتكار منظومة أخلاقية تتسم بالمرونة والفاعلية والعملانية لزم علينا أن نستند في ذلك إلى أسس متينة تضرب بجذورها عميقا في علوم الفيزياء والنفس والبيولوجيا والأونطولوجيا. وهذا بالضبط ما أعنيه بأخلاق تنبع من رحم الأونطولوجيا الطبيعية – أي أخلاق تنطلق من الطبيعة المادية للوجود لتعود إليها مجددا. والحق أنه إذا ما أردنا خلق كينونة تتسم بالغنى والتعدد والاختلاف والازدهار فإنه لا مناص من أن تكون قراءتنا الأخلاقية للعالم قراءة أفقية10— أي قراءة ملامسة لواقعية العالم وقوانينه؛ والابتعاد في نفس الوقت عن أي تأويل عمودي للخير والشر يُغرِّب (من الاغتراب) الفرد عن عالمه الحقيقي ويجعله رهينة لدى عالم ماورائي ما. إن هذه القراءة الأخلاقية العمودية للوجود هي التي سيطرت على عقولنا منذ الوصايا العشر لموسى، مرورا بمثل أفلاطون، وانتهاءً بالمسيحية و باقي الأنساق اللاهوتية الصاعدة من الشرق الأوسط. ولأن تقييمها للأشياء يستند دائما إلى مفاهيم الخطيئة الأصلية أو المرأة الملعونة أوالجسد الدرن، ناهيك عن تعلقها بالمثال الزهدي11، فقد جاءت هذه الأخلاق في شكل حزمة من الأوامر والنواهي بالإضافة إلى ألوان أخرى من الترغيب والترهيب. الطابع العمودي لهذه الميتافيزيقا الأخلاقية جعلها على مر العصور بمنأى عن كل نقد وتفكيك ومساءلة. والنتيجة الطبيعية لكل نسق ميتافيزيقي يقدس نفسه ويتعالى عن كل فحص فكري و مراجعة نقدية هي التحجر و الجمود.ولذلك لايندهشنَّ أحد منا لما يراه في واقعنا الأونطولوجي وما يتسم به من ركاكة و ضجر ورتابة وهزال؛ فالأخلاق المتحجرة لا يمكنها إلاّ أن تخلق كائنا قاصرا تسيطر عليه مشاعر الغبن وتكبله قيود الإحساس بالذنب والمعصية.
والحق أنه قد حان الوقت لكي نقطع نهائيا مع هذه الأخلاق الجامدة ذات الجذور اليهودية–المسيحية ونعمل على إبداع أخلاق متحركة تتسم بالمرونة والانفتاح والتنوع والمردودية.
الإنسان كائن نفعي. كل حركاته ومواقفه ومبادراته تستند إلى الرغبة والمتعة والحاجة. وسواء تعلق الأمر بالإنهمام بالفلسفة أو حب العمل أو الانخراط في شؤون السياسة أو الجري وراء الرياسة، فإن الإنسان لا يحب هذه الأشياء لذاتها وإنما لما يجنيه منها من القيم الرمزية والمادية ككسب المزيد من الذكاء والمال و النفوذ والاحترام والسلطة. وحتى عندما يتبنى هذا الإنسان أخلاقا غيرية كالتعاطف مع الضعفاء أو مساعدة الفقراء والمحتاجين فإنه لا يفعل ذلك بالضرورة طاعة لنص مقدس أو أمر إلهي وإنما فقط لقدرته النفسية والتخيلية على التماهي مع ذوات الغير ومع شروطهم الأونطولوجية. ومن هنا، ومن هذا المنظور، فإن كل مقاربة أخلاقية للوجود يجب ألاَّ تستند إلى مفهوم الإنسان ككائن مذنب خطّاء يحتاج إلى الترويض والتخليص؛ وإنما يجب أن تستند إلى مفهوم جديد للإنسان ككائن راغب يبحث عن المزيد من الانتعاش والقوة والفرح والسعادة. وإذا كانت الأخلاق التقليدية تجعل من الفضيلة غاية لها، فإن الأخلاق المابعد– دينية التي ندعو إليها، ها هنا، تجعل من الفضيلة مجرد وسيلة للوصول إلى هدف أرقى وأسمى ألا وهو سعادة الكائن. وإذا كانت الأخلاق التقليدية ترتكز على مفاهيم الحرام والواجب والإمساك والامتثال، فإن أخلاقنا– المابعد دينية تستند إلى قاعدة معيارية تتمثل في أن كل ما يُمتع حواسنا ومشاعرنا فهو جيد وصحي؛ ومن هنا يصبح حديثنا عما هو خيِّر وفاضل هو نفسه حديثنا عما هو بهيج وممتع وجميل. و لابد أن القارئ الكريم قد لاحظ بأن الأخلاق التي نعرضها، ها هنا، ذات طبيعة مزدوجة؛ فهي على المستوى السياسي مجموعة من القيم التي تمجد القوة والفعل والتأثير والتحدي والاستقلالية.. إذن فهي أخلاق سادة؛ أما على المستوى الوجودي فهي حزمة من الرؤى والتوجهات التي تصبو إلى انتعاش الكائن بكل أبعاده البيولوجية والنفسية والفلسفية والذوقية.. إذن فهي أخلاق هيدونية.

III. ما الأخلاق الهيدونية؟
الوجود محض تآلفات ذرية12؛ كذلك كل إنسان— فهو أيضا نتاج تصادفات ذرية ذات جذور فيزيائية وفيزيولوجية وجينية. مما يعني في نهاية المطاف بأن الوجود بشكل عام، والوجود الانساني، بشكل خاص هما حصيلة قوانين الحظ والصدفة والنسبية والاحتمال؛ إذن ففعل الوجود في حد ذاته فرصة لا تعوض وإمكان أونطولوجي لا يتكرر. في كل مرة يحدث فيها أن أدخل إلى مقبرة ما حيث القبور المنتشرة، أو أن أزور أحدهم في مستشفى حيث يكابد المرضى أوجاعهم وآلامهم، أو أن أمرَّ بمكان عام حيث لا ترى إلاَّ جموعا من الكسالى والعطالى وكائنات آدمية أخرى ضالة— أقول عندما أرى كل هذا، تترسخ لدي القناعة التامة بأن الحياة ضرب من الجمال الهش الذي يمكن أن ينهار في أية لحظة.. إن الحياة معجزة ولكننا نجهل أنها كذلك. ولا يمكن أن نعزو هذا الجهل إلاّ إلى بلادة الاعتياد أو الروتين أو التنشئة الدينية التي صورت لنا الحياة كمجرد ممرّ نحو عالم ما ورائي أو مثالي ما. إن ما نشهده في معيشنا اليومي من ألوان البؤس والعدمية والانتحار والكراهية والعنف لا يمكن رده إلاّ إلى منظومتنا الأخلاقية المتهرئة التي لم تعمل إلاّ على تكريس أطروحات الفاتيكان والمجاميع الفقهية بما فيها من تمجيد للسماء وتبخيس للأرض، وتشجيع لنزعات الشهادة أو الموت في مقابل تتفيه إرادة القوة والحياة. كل هؤلاء الذين يكرهون الحياة أو ينتقصون من قيمتها أو يتصرفون إزاءها بلا اهتمام أو لا مبالاة لا يكشفون إلا عن جهلهم بالكشوفات النيرة لصاحب {أصل الأنواع}، والتي تتمثل في أن كل أشكال الحياة هي حصيلة لملايين السنين من الانتخاب الطبيعي والتطور والارتقاء وصراع البقاء ضد أعداء النوع وضد الأوبئة و الكوارث وكل أشكال الموت والهلاك.
كان من الممكن ألاَّ أكون هنا في هذا العالم؛ ذلك أن وجودي ليس ضرورة أونطولوجية، بل هو إمكان أو فرصة بالمعنى الدارويني للكلمة. ولقد كان من الممكن لهذه الفرصة أن تُسحب مني في أي وقت ومع أول نزلة برد تصيبني أو خطأ بيولوجي يقع في موضع ما من نسيجي الخلوي. أنا موجود، إذن يجب أن أفكر. يرى باسكال بأن الإنسان قبس أونطولوجي ضئيل يقع بين مطلقين: الوجود المطلق والعدم المطلق13. وإذا كان هذا التصور قد ولَّد الفزع والخشية لدى هذا الفيلسوف المسيحي، الذي لم يكن يرى في الوجود الإنساني شيئا أمام الوجود اللانهائي لله، فإن هذا التصور بالذات هو ما يدفعنا إلى التشبث بالوجود الإنساني— محدودية هذا الأخير مع ما يرافقها من خصائص الهشاشة و العابرية والانقضاء هي ما يصنع قيمته وجاذبيته وجماله. كل ميتافيزيقا تؤطر وجودا يتصف بهذه الأشكال من المحدودية لا يمكن إلا أن تتوسل، وحتى تكون فعالة، بالحكمة والبراغماتية والواقعية. ثلاث إحداثيات تحد الوجود الإنساني: الزمن والفكر والمادة. ولأن الزمن الوجودي للمرء محدود فليس من الحكمة في شيء أن يصرفه على نحو لا وجود فيه للتدبير الحسن والاستغلال الرشيد. ولأن الفكر فعالية تهدف إلى ترتيب الوجود إلى ما هو مقعول وغير معقول، أو إلى ما هو حقيقي وما هو وهمي، فإنه ليس من العقلانية في شيء أن يخلط المرء الأوراق والمفاهيم ويهدر طاقاته الفكرية والنظرية في الخوض في أشباه القضايا أو في محاولة عقلنة اللامعقول أو محاولة إيجاد اللاموجود. وما ينطبق على الوجود الزمني والوجود الفكري ينطبق على الوجود المادي، الذي هو الآخر يتطلب التناول الواقعي والطرح العملي. من هنا، ومن هذه التصورات الآنفة الذكر، تنبثق الحاجة إلى صياغة منظومة أخلاقية تدبِّر الزمن أحسن تدبير وتشغل الفكر أحسن تشغيل وتستغل المادة أحسن استغلال.
أحب تاريخ ميلادي إلى نفسي هو العام 1789؛ هذا العام يؤرّخ لحدث ذي إبعاد سياسية وفلسفية مازالت تأثيراته قائمة إلى يومنا هذا. ما قامت به حشود من الفلاحين والعمال والمضطهدين والمهمشين تقودهم طلائع المثقفين والثوار والمتنورين والمتمردين شكَّل قطيعة جذرية مع ميتافيزيقا العصور الوسطى بأنظمتها الفيودالية اللاّإنسانية ومؤسساتها الإكليركية الفاسدة بنماذجها الأخلاقية المتزمتة. الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية، حرية–ايخاء–مساواة، يمكن تلخيص تداعياته الفلسفية والأونطولوجية في كلمة واحدة: رفض التعالي14. نحن أحرار بالطبيعة ولا سلطة لأحد علينا سوى تلك السلطة التي تتماشى مع ما نكون ومع ما نريد— أي سلطة العقل وسلطة قوانين المادة. كل سلطة أخرى، سواء سميت حقا إلهيا أو صكوك غفران أو ولاية فقيهية، هي طمس لإنسانية الإنسان، بما هو كائن حر ومريد، وتجريده من أهم ما يصنع فرادته— أي باعتباره ذاتا عارفة ومسؤولة. نحن أيضا إخوة ومتساوون. لا تمايز بعد اليوم. لا أحد يملك الحق في أن يقسمنا إلى كفار ومؤمنين، أو إلى سكان أصليين ومهاجرين، أو إلى بيض وملونين، أو إلى أمم وشعوب وأعراق؛ كل واحد منا يستمد قيمته الأونطولوجية مما يعرف ويحسن وليس مما هو أو من يكون. فالطبيعة لا تتفاعل مع الأسماء والألقاب والأنساب والألوان والعقائد، بل مع الفعل والحركة والشغل والتأثير والقوة. لن نقسم بعد اليوم إلى سادة وعبيد، أو أمراء ومأمورين، أو مسلمين وذميين، أو رجال ونساء؛ بل نريد أن نُقَيَّمَ على أساس قدر مساهمة كل واحد منا في الدفع بعجلة العالم إلى الأمام— أي وفق مفاهيم الخلق والإبداع والعطاء والطاقة والمردودية.
إن الأونطولوجيا الطبيعية، والتي أُعرِّفها مرة أخرى على أنها تصور كوني مادي صرف، لا يمكن إلا أن تكرس مناخا ميتافيزيقيا قوامه الضرورة و الحرية. يكمن عنصر الضرورة، في مناخ كهذا، في تجاوب الإنسان مع قوانين الفيزياء فقط، أما عنصر الحرية فيكمن في تحرر الكائن من الخرافة والجهل والسحر وكل أشكال الماورائيات. وهكذا أجدني أتصور كل إنسان يتبنى فلسفة أونطو–طبيعية، كهاته، لا يمكن أن يقارب الوجود إلاّ من خلال مفاهيم المادي والمحسوس والملموس وكل ما هو قابل للتحقق التجريبي. الجسد بالنسبة له مادة.و ماذا عن الروح أو العقل؟ مادة أيضا. الميول، المشاعر، والأحاسيس؟ هي أيضا تمظهرات للمادة. الحياة، الطاقة، الرغبة؟ مادة، مادة، مادة. إنها أمور تقع في مستوى يبدأ في مكان ما من دواخل الجسد وينتهي عند سطح البشرة. وفي إجابة على السؤال: كيف السبيل إلى السعادة؟ يجيب هذا الإنسان: عبر فهم ميكانيكا الطبيعة وتحصيل أسباب القوة والتحرر من أوامر الآلهة والسادة والإكليروس.والأخلاق؟ إنه لا يتبنى إلا الأخلاق التي تستهدف المتعة والطمأنينة والانسجام مع الذات ومع الآخرين. مثال؟ هذا الإنسان المتحرر لا يتبنى إلا فلسفة جنسية ترى في الجنس هدفا في حد ذاته— مما يعني أنه يمارس هذا الميل الطبيعي بعيدا عن كل غاية إجتماعية أو أخلاقوية؛ إنه كائن لا يبحث إلا عن المتعة والإمتاع. العيش بالنسبة له بحث عن فرص للانتعاش والسرور؛ إذن فهو باختصار إرادة متعة 15. وكل هذه التصورات لا علاقة لها لا بالخير ولا بالشر، بل بما وراء كل خير وكل شر— أي أنها مرتبطة بعمل الطبيعة كما هي، لا كما نريدها أن تكون؛ وهي مرتبطة أيضا بمقاربة الإنسان ككائن طبيعي لا كما تصوره لنا التوجهات الطوباوية بنمطيها اللائكي والإكليريكي.
لم تقارب هذه التوجهات أبدا مشكلة الإنسان على نحو واقعي؛ كل معالجاتها طغت عليها النزعات المثالية والطهرانية، فكان الإنسان في نظرها إمّا ملاكا بريئا أو كائنا ساقطا؛ لهذا لم تتوصل هذه التوجهات أبدا إلى نموذج حضاري يسعد الكائن ويطمئنه؛ ذلك أن السعادة وفق ميتافيزيقا هذه التوجهات هي دائما إما موجودة فيما قبل السقوط من جنة عدن— أي في الماضي البعيد— أو بعد الثورة— أي في مستقبل خارج متناولنا. و الحق أن السعادة لا توجد لا في الحنين إلى ماض بائد ولا في التطلع إلى مستقبل موعود— إنها توجد في التدبير الذكي لما نحن عليه الآن ولما نمتلكه هنا في هذا العالم.
الكون تركيبة من المادة اللانهائية والزمن المطلق؛ الإنسان شحنة من الطاقة المنقضية تدور في زمن نسبي ومحدود؛ إذن لا مجال لتضييع الوقت. فالمرء كما يقول أبيقور، لا يولد مرتين، بل مرة واحدة فقط16. وعليه، ليس من الحكمة في شيء أن تؤجل سعادة اليوم إلى الغد؛ فالغد قد يأتي وقد لا يأتي. ولهذا ينصحنا نيتشه دائما بأن نبقى أوفياء للأرض17 وألا نصدق باعة الأوهام الذين يعدوننا بعوالهم الماورائية. فهذه الأخيرة ما أُخترعت إلا كأطروحة مضادة للحياة؛ أما بقية المفاهيم من روح وعقل وخطيئة فإنها ما صيغت إلا لتبخيس قيمة الجسد وكبح جماح الغرائز وإضعاف إرادة القوة 18. وليس من الغريب في شيء أن تُتهم كتابات نيتشه وأبيقور بالإلحاد والمادية. فالأولى نُعتت بالإلحاد لرفضها كل أشكال التعالي والروحنة والمثالية. أما الثانية فأُلصقت بها صورة الخنزير لنزعتها المادية الحسية. والحق أن إلصاق وصف الخنزير بالأبيقورية، وكل الفلسفات المادية الأخرى، من لدن أعدائها هو وصف دقيق وإن كان قدحيا في ظاهره. فالخنزير هو حيوان المحايثة بامتياز19، فتركيبته المورفولوجية تمنعه من النظر إلى السماء– عالم المثل ومقام كل الآلهة– كما ترغمه على الالتصاق بالتراب مما يمنحه إحساسا مكثفا برائحة الأرض.
هذا العالم نسيج من القوى المتناقضة. إنه إرادة قوة كما إرادة ضعف، نزعة نحو التمدد كما نزعة نحو الانكماش، قوة خلاقة كما هو أيضا قوة تدميرية. ولهذا، وحتى يحافظ المرء على توازنه الأونطولوجي والنفسي لا بد له من أن يتحلى بقدر كبير من رباطة الجأش والحس الساخر؛ سنحتاج للأولى حتى نواجه قسوة الطبيعة بزلازلها وبراكينها وأوبئتها، وسنحتاج إلى الثاني حتى لا يهزمنا أعداؤنا الاجتماعيون من طغاة وأباطرة ومن لف لفهم من الوصوليين والانتهازيين والمنافقين وغيرهم. الفن أيضا يمكن أن يلعب دورا مهما في هذا السياق— فلأن الاتصال العملي والمباشر بالعالم لابد من أن ينهكنا أو يصيبنا بالرتابة والضجر، يصبح من اللازم أن ننسحب، بين الفينة والأخرى، من هذا الوجود. وهذا الانسحاب لن يكون أبدا على الطريقة الميتافيزيقية بربط الإنسان بعالم غيبي مثالي، بل يكون فقط بالكف عن الانخراط في شؤون العالم والاكتفاء بتأمله عن بعد. هذا التأمل عن بعد لا يمنحه إلا الفن بشكل عام والموسيقى بشكل خاص. أجمل ما في هذه الأخيرة هو قدرتها على تمثّل الوجود في أشد أشكاله خفة وتجريدية؛ إنها، وبعبارات أخرى، تسقط عن الكائن كل عوارضه الفينومينولوجية فلا يبقى منه إلا ما هو كوني ومعبر عن روح و جوهر الكينونة20. لهذا ليس من الصدفة في شيء أن يلجأ فلاسفة كبار كشوبنهاور ونيتشه وسيوران، بعدما تنهكهم متاعب البحث و التأليف، إلى العزف على البيانو أو المزمار. قال صاحب {أفول الأصنام} لولا الموسيقى لأصبحت الحياة خطأ21. وأنا أضيف، بدون الموسيقى لن يكون هذا العالم إلا نسقا مغلقا من الطاقة المتأججة والكتلة الصماء، فالفضل يعود إلى هذا الفن وحده،و وحده فقط، فيما نراه من حولنا من معنى ورونق وجمال.
ابراهيم هيبة (مراكش/ المغرب)
[email protected]
مراجع وهوامش:
1. أعني بموت الله نهاية الميتافيزيقا بشقيها الديني و الفلسفي.أي أن السماء،أو أي عالم مثالي آخر،لم تعد، بعد الآن، المصدر المطلق للحق و الخير والجمال.
2. Albert Einstein: The human Side, Helen Dukas and Banesh Hoffman, eds., Princeton University Press, 1979, pp.69-70.
3. Michel Onfray: le Désir d’être un volcan, Éditions Grasset & Fasquelle, 1996, p.431.
4. Michel Onfray : l’Archipel des comètes, Édition Grasset & Fasquelle, 2001, pp.320-321.
5. جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،2001، ص.48.
6. ديونيزوس أو باخوس هو إله الخمرة وملهم طقوس الإبتهاج والنشوة عند الإغريق.
7. Friedrich Nietzsche : Généalogie de la morale, première dissertation, §10, Trad. H.Albert (1990).
8. Magazine littéraire, Nietzsche, Hors- série n°3-2001, p.57.
9. فؤاد زكرياء: اسبينوزا، سلسلة الفكر المعاصر، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2008، ص.39.
10. Michel Onfray : Traité d’athéologie, Édition Grasset & Fasquelle, 2005, p.84.
11. أعني بالمثال الزهدي سلوك منزعٍ تقشفي رهباني إزاء الوجود؛أي الإحجام عن الإنغماس في شؤون العالم. لا يتحقق هذا الإحجام إلاّ بكره الذات والجسد والبعد المادي للوجود بشكل عام.
12. Jean-François Balaudé : Le vacabulaire d’Épicure, Ellipses, 2002, pp.22-24.
13. Blaise Pascal : Pensées, Le livre de poche, Librairie Générale Française, 2000, pp.163-164.
14. أعني برفض التعالي التخلي عن كل تناول ميتافيزيقي للكينونة. أي أن الإنسان لن يكون ملزما، بعد اليوم، بتلقي قيمه عن مصدر فوقي يتجاوز عالمه الأرضي، بل هو مطالب بأن يصبح راشدا فيصنع قيمه وحقائقه الخاصة به هنا في هذا العالم التحتاني و الآن.
15. Le désir d’être un volcan, opt.cit. p.55.
16. Magazine Littéraire, n°425 Novemebre, 2003, p.24
17. Friedrich Nietzsche : Ainsi parlait zarathoustra, Prologue, §3-4, Trad. L.Weiscopf et G. Art, (1898).
18. Friedrich Nietzsche : Ecce homo, Pourquoi je suis un destin, §8.
19. Magazine littéraire, n°425 Novembre, 2003, p.27.
20. Schopenhauer : Le monde comme volonté et comme représentation, livre III, §52, Trad. A. Burdeau (1909-1913).
21. Friedrich Nietzsche : Crépuscule des idoles, Maximes et pointes, §33.



#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم هيبة - الأونطولوجيا الطبيعية