أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - نقولا الزهر - حول التداخل بيت المقاومة والإرهاب















المزيد.....


حول التداخل بيت المقاومة والإرهاب


نقولا الزهر

الحوار المتمدن-العدد: 862 - 2004 / 6 / 12 - 07:21
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


من الناحية النظرية، مفهوم المقاومة ومفهوم الإرهاب مفهومان مختلفان ومتمايزان، فالمقاومة تنتمي إلى مفهوم الحق والإرهاب ينتمي إلى مفهوم الجريمة. ولكن مع ذلك هنالك خلط كبير في الوقت الراهن نظريا وعملياً ومن كل الأطراف بين المفهومين. ورغماً من كون العنف لا يشكل الوسيلة الوحيدة في المقاومة كما هو الحال في(النضال الإرهابي)؛ مع ذلك فهو يجعلهما موضوعياً متاخمان لبعضهما البعض. ولمقاربة إشكالية هذا التداخل، الذي يمكن أن يتسع ويضيق، بين تخوم المقاومة وتخوم الإرهاب، لابد من الرجوع إلى مجالي الفكر والسياسة اللذان يوجهان الصراع على ساحة محددة. وفي التجارب التاريخية تلعب ظروف وخصوصية البلد الذي تجري فيه المقاومة دوراً رئيساً في هذا التداخل وفي تحديد ما إذا كانت المعركة القائمة على الساحة، هي فعلاً مقاومة مرتبطة بأهداف سياسية مشروعة، أم نصف مقاومة/نصف إرهاب، أو إرهاب محض.
وهناك نقطة أخرى في منتهى الأهمية، تؤكد دور الفكر وتأثيره في الذين يمارسون النضال السياسي الإرهابي؛ وهي قناعتهم بأنهم على حق. وإلا ما كانوا ليذهبوا إلى الموت لو لم تكن لديهم هذه القناعة. لذلك في ساحة صراع محددة، يلعب الفكر السائد والمهيمن على الساحة(جزء من الخصوصية) في تحديد شكل النضال في أن يكون مقاومة أو إرهاباً. وهنالك تجربة يجب ألا نمر عليها مرور الكرام وهي تجربة الجماعة الإسلامية في مصر التي أقلعت عن (النضال السياسي الإرهابي) بعد حوار طويل في داخل السجون وخارجها وقناعتهم بعدم جدوى هذا الشكل من النضال.
-I-
المقاومة بشكل عام هي دفاع عن النفس ورد مظلومٍ على ظلمِ ظالم؛ وهي من الحقوق الطبيعية قبل أن تنتمي إلى الحقوق المدنية والسياسية. وبعضهم يعتبرها ردَ فعلٍ غريزي على اعتداء ما؛ وبالتالي لا يمكن تصور شعبٍ احتلت أرضه من قبل غازٍ أو غاصب أو محتل ولا يهب لمقاومته فهذا من طبيعة الأمور. ولكن المقاومة المشروعة تأخذ أشكالاً مختلفة تبعاً للظروف الداخلية والإقليمية والدولية، بدءاً من اللاعنف والتظاهرات والتعبيرات السلمية ومروراً بالعصيانات المدنية وانتهاءً بالعنف. وهنا لا بد من الانتباه أن مفهوم العنف غير مفهوم الإرهاب. فالإرهاب كله عنف، بينما العنف ليس كله إرهاباً، وهذا يقودنا إلى عنفٍ مشروع يحيل إلى الحق وعنف غير مشروع يحيل إلى الجريمة( خطف الطائرات والاغتيالات واستهداف أماكن تجمع المدنيين..).
وفي ساحة محددة قد تؤدي بعض خصوصياتها إلى تشكيل تخوم تختلط فيها المقاومة بالإرهاب وهذا ما كنا نراه أحياناً في الثورة الجزائرية وفي جنوب أفريقيا والمقاومة الفلسطينية (تجربة وديع حداد وآخرون)؛ وفي خصوصيات أخرى يمكن أن تتمظهر المقاومة بشكلٍ إرهابي محض.
وإذا أردنا تناول فالخصوصية العراقية على سبيل المثال، فهذه الخصوصية ناشئة من ثلاثة عقود من الاستبداد والسجون والمقابر الجماعية والحصار، ومن سحقٍ كامل للقوى السياسية الديموقراطية والعلمانية، ولذلك فهي أفرزت مقاومة للمحتل الأمريكي بينها وبين الإرهاب تداخل كبير، ومع ذلك لا يمكن أن نجردها من سمة المقاومة. طبعاً يمكننا أن نقول عنها مقاومة لا تملك مشروعاً سياسيا، ويمكن أن نطلق عليها كثيراً من التوصيفات التي لا تسر الخاطر، وهي يمكن أن تؤدي بأساليبها إلى أفق مسدود وتعطي الذرائع للإرهاب الأمريكي، ويمكن أن ينفض عنها الشعب العراقي بسبب طغيان الإرهاب على وسائلها؟ كل هذه الأمور لا تجردها من كونها مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي؛ ولكن الذي يسحب البساط من تحتها كمقاومة نصف مشروعة/نصف إرهابية هو نموذج آخر من مقاومة المحتل أكثر مشروعية.
هذا الشكل الآخر من المقاومة يقع على عاتق كل القوى الديموقراطية الوطنية العراقية الشيوعية والقومية والناصرية والإسلامية والليبرالية. طبعاً لا يمكن أن نصفق لقتل المدنيين وذبح رؤوس الأسرى واستهداف المؤسسات الإنسانية والدولية ومؤسسات البنية التحتية العراقية. ولكن لا يمكننا أن نتجاهل دور هذه المقاومة (على علاتها) في إيصال الولايات المتحدة إلى المأزق الذي هي فيه الآن. إذن المسألة لا تقف عند حدود الإدانة والاكتفاء بالتوصيف النظري لأصول المقاومة. فالاحتلال الأمريكي في العراق والاحتلال الصهيوني في فلسطين لا يخرجان من الأرض دون مقاومة ودون استراتيجية سياسية موحدة وعبر أشكال بعيدة كل البعد عن تخوم الإرهاب لسحب البساط من تحت المقاومة الإرهابية التي تعطي الذرائع دائماً لإرهاب أكبر وأوسع من العدو. وفي كثير من الأحيان يقوم النضال المقاوم الإرهابي بدور التغطية على جرائم هذا العدو وهذا ما رأيناه بأم أعيننا حينما تم قطع رأس الأسير الأمريكي وسط طقوسٍ مقززة ومنفرة، بعد نشر صور تعذيب المواطنين العراقيين في سجن أبو غريب.
-II-
الإرهاب قديم قِدَمَ المجتمعات الإنسانية، و في الحقبة المعاصرة لم يعد محدوداً ومستوطناً في هذه البؤرة أو تلك كما كان في الماضي؛ بل اتسعت ساحته ويكاد أن يستغرقَ العالم كله. ويملك الآن إمكانياتٍ ووسائل هائلة؛ وهي تتناسب مع العصر و العولمة والليبرالية الجديدة والطموحات الاستعمارية الجنونية التي يسعى إليها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة وحلفاؤهم العضويون في تل أبيب المخلصون لتعاليم الزعيم الصهيوني الراحل جابوتنسكي (بيغن وشامير وشارون و لانداو، وألمرت، وموفاز......).
أما بالنسبة إلى الحرب الأمريكية الصهيونية العالمية ضد الإرهاب التي تتوالى فصولها الآن، فهي لا تسهم في تراجعِه وانحساره، بل على العكس، تُضْرِمُ نارَه وتجعلها أكثر أواراً ولهيباً. وبقولٍ آخر، الإرهاب في عهد بوش/ وبفضلِ الهيمنة الأمريكية على العالم، انتقل من كونه مستوطناً في بؤرٍ صغيرة، إلى كونه طاعوناً لا يعرفُ حدوداً.
ورُغم أن الإرهابَ من حيث المبدأ لا يقتصر على مكانٍ ما، ولا على شعبٍ أو جماعةٍ أو دينٍ أو مذهبٍ أو حزب، لكنه في الوقت الراهن يشكل مساحةً واسعة ومحوراً رئيساً وحجماً كبيراً في العالمين العربي والإسلامي.
وانتقاله من حالاتِه البؤرية إلى حالتِه الوبائية في الوقت الراهن لم يأتِ صدفة، ولم ينشأ بسبب الإسلام ونصوصه الدينية كما يعتبر البعض، فالنصوص الإسلامية قديمة وعمرها أكثر من ألف وأربعمائة عام. ولقد مرَّت على العالم العربي الإسلامي مئات السنين وعشرات الحقب ولم يكن فيها مثل هذا الإرهاب الذي نراه الآن. فربط الإرهاب بالإسلام هو تجني ظالم عدا عن كونه فضيحة تاريخية ومعرفية. ففي التاريخ القديم والمعاصر كان هنالك إرهاب مسيحي وإرهاب يهودي وإرهاب هندوسي وإرهاب يساري وإرهاب يميني...إلخ.، وإرهاب فكري وإرهاب علمي (حرق كوبرنيك وتهديد غاليله بالمحرقة) وإرهاب كاثوليكي للأورثوكس وإرهاب كاثوليكي للبروتستانت ومن ثم إرهاب بروتستانتي للكاثوليك ....إلخ
ويجب أن نعترف بأن الأنظمة في البلدان العربية والإسلامية وكذلك المثقفون الموالون والمعارضون يتحملون جزءاً كبيراً من قضية ربط الإرهاب بالعرب والإسلام سياسياً وفكرياً واقتصاديا ؛ فهم قدموا خدمات عظيمة لمروجي مقولة الربط هذه في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. ففي الواقع لم يضع المثقفون والسياسيون العرب والمسلمون حدوداً للإرهاب وحدوداً للمقاومة؛ وسمحوا بذلك لكثير من الخلط والضباب الكثيف بينهما.
-III -
لا يوجد لدينا أي شك في أن الإرهاب الحالي تقوده إيديولوجية متطرفة تستقى بشكلٍ انتقائي من نصوص دينية مقدسة، لكن ما يجب أن نلحظه وندقق فيه أن هذه الإيديولوجية المتطرفة الراعية للإرهاب هي إيديولوجيا راهنة وحاضرة؛ وقد نشأت في ظل ظروف راهنة وحاضرة، وراهنيتها هذه هي التي تميزها عن الأصولية كمفهوم. وبالفعل فهنالك فروق كبيرة بين أصول الدين، وبين الإيديولوجية المانوية المثنوية المتطرفة(إيديولوجيا الأبيض والأسود، إيديولوجيا الخير والشر، الإيديولوجية الطاردة للتوسط)، التي تشرِع وتفتي للإرهاب الآن. ولم يعد الأمر سراً أو اكتشافاً في أن النسخة المطابقة لهذه الإيديولوجية يبشر بها في الولايات المتحدة التيار المسيحي اليميني المتطرف الذي ينتمي إليه بوش؛ وهي أيضاً مستقاة بشكل انتقائي تماماً من (حزقيال) ومن رؤيا يوحنا(معركة هرمجدون). والسؤال الرئيس الذي يجب أن يسأل: لماذا الآن هذا الطاعون الإرهابي وليس قبل خمسين عاماً ؟
إذن لا بدَّ وأن يكون هنالك ظروف وعوامل اجتماعية وسياسية متضافرة ومتكاتفة وراء هذه الإيديولوجية المتطرفة الراهنة التي ترعى الإرهاب.
ونحن نرى أن أهم العوامل التي لعبت دوراً بارزاً في اكتمال حلقة طاعون الإرهاب المعاصر هي:
1- السياسات الداخلية التي سلكتها السلطات الحاكمة في جميع البلدان العربية دون استثناء؛ حينما ذهبت بعيداً جداً في تفضيل مصالحها الشخصية كطبقة حاكمة على مصالح شعوبها؛ وبطبيعة الحال لم يكن أمامها لحماية هذه المصالح وتأمين ديمومتها، سوى الذهاب إلى حدودٍ أبعد، في تكريس سياسة الاستبداد بشعوبها وإرهابها، وكان كل همها خلال العقود الأربعة الماضية تهميشها وإبعادها عن المشاركة السياسية. ولقد حظيت هذه السياسة الاستبدادية، لأسباب سياسية تتعلق بالمصالح، بدعم وتأييد حكومات المعسكرين في الشرق والغرب عبر التجاهل وغض النظر عما يحدث من قمعٍ في هذه البلدان.
2- ومن ثم فقد لعب انهيار توازن القوى الدولي دوراً كبيراً في انتقال التحالف الأمريكي الصهيوني التقليدي والتاريخي إلى شكلٍ أكثر عضوية وأكثر شراسة وعداءً للعرب وانحيازاً لإسرائيل، ومنح هذا الانهيار الفرصة السانحة التاريخية لهذا التحالف المقدس لكي يطبِّق أكبر سياسةِ إذلالٍ منهجية للعرب في فلسطين والعراق، والتي وصلت إلى أوجها في عهد جورج بوش الابن. وكذلك لعبت إيديولوجيا(صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والحرب مع الياجوج والماجوج، ومعركة هرمجدون، وصليبية جديدة) دوراً كبيراً في نشوء ردود أفعال إيديولوجية في العالمين العربي والإسلامي أكثر تطرفاً.
3- لقد أدى تضافر تأثير السياسات الداخلية للأنظمة إزاء شعوبها، والسياسات الخارجية للولايات المتحدة المعادية للعرب، إلى إنضاج وتهيئة بيئة خصبة مثالية لنبذ الفكر النهضوي والديموقراطي والعلماني في العالمين العربي والإسلامي، وأيضاً كبح أية محاولة لإصلاح الفكر الديني. وهذا ما رأيناه في العقود الثلاثة الماضية التي كانت الفترة الذهبية لهيمنة إيديولوجيا التطرف الديني في هذا الشرق الكبير.
ويبدو أنه كان هنالك التقاء مصالح بشكل غير مباشر ودون اتفاق بين ثلاث جهات: الأنظمة الإقليمية، وأنصار الفكر الديني السلفي، والتحالف اليميني الأمريكي الصهيوني. فالسلطات الحاكمة كانت تستثمر نشاطات المتطرفين لتسويغ سياساتها القمعية المنهجية من أجل بقائها، والمتطرفون في المقابل كانوا المستفيدين الأوائل من قمع الفكر الديني الإصلاحي، والطرف الثالث كان هذا الصراع يؤمن له احتواءاً مزدوجاً للطرفين وبالتالي هيمنة على المنطقة؛ وفي كثير من الأحيان كانت الولايات المتحدة تلعب على تأجيج هذا الصراع بين الأنظمة والمتطرفين لتحجيم الأوربيين والروس ؛ وهذا ما لمسناه بقوة في أفغانستان والجزائر.
4- ولكي تؤكد الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي تقربها من الدين كردٍ وقائي على المتطرفين، راحت تفسح في المجال أكثر لنشر الفكر الديني السلفي وتضيِّق أكثر على الفكر الديني الإصلاحي والفكر الديموقراطي والعلماني وهذا ما رأيناه في العقود الثلاثة الماضية في معارض الكتب والمنابر الإعلامية والفضائيات والمؤسسات التعليمية العربية.ولقد تجلت هذه السياسة الرسمية العربية في قضية المفكر الإسلامي الإصلاحي نصر حامد أبو زيد، في الوقت الذي لم تتجلَ مثل هذه السياسة في ظل الملكية، في العشرينات من القرن الماضي في قضية كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين وقضية الشيخ(علي عبد الرازق) وكتابه "الإسلام وأصول الحكم".
5- ثم جاءت تفجيرات 11 أيلول في واشنطن ونيويورك لتلعب دور الصاعق في نقل الإرهاب إلى حالة وبائية شاملة، ولتضع إسفينا في نسيج التحالفات التاريخية بين الولايات المتحدة والكثير من الأنظمة العربية الصديقة، وهذا ما كان ملموساً بقوة إزاء المملكة العربية السعودية وبعض الدول العربية الأخرى، وربما شعرت الولايات المتحدة أن السحر قد انقلب على الساحر.

- IV-
وفي جردةِ تاريخية للأعمال الإرهابية التي قام بها الأفراد والجماعات، نرى أنها لم يكن لها من دور سوى توفير الذريعة للدولة، لكي تبدأ في إرهابها الشامل ضد الشعب كله بما تمتلكه من سلاح وأدوات قمع ووسائل إعلامية، وهذا ما جرى بالضبط في أكثر البلدان العربية التي تعرضت للإرهاب(سورياومصر والجزائر) وما يجري الآن في المملكة العربية السعودية؛ إذ في الوقت الذي تتعرض لحملة إرهابية شرسة راحت تعتقل النشطاء السياسيين الإصلاحيين الذين يطالبون بالتغيير الدستوري والديموقراطي السلمي. ودائماً كان إرهاب الدولة المضاد، لا ينال فقط من منفذي العمليات الإرهابية، بل يطال كل القوى السياسية الديموقراطية في المجتمع، ومعظم فئات الشعب. وبالتالي يرزح الوطن لسنوات وعقود في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية وممارسة أعتى وسائل القهر والاستبداد.
ولما كان الإرهاب يساهم موضوعياً في أغلب الأحيان في إسباغ الشرعية على إرهاب الدولة الشامل سواءً على المستويين المحلي والإقليمي أوعلى المستوى العالمي كما هو الحال الآن، فهذا يتطلب من كل القوى السياسية التقدمية والديموقراطية أن يكون لها موقفاً سياسياً واضحاً ومبدأياً منه، وفي اعتقادي أن الموقف من الإرهاب يجب ألا يدخل في متاهة التكتيكات والمراهنات السياسية والبراغماتية. فالموقف السياسي من الإرهاب لابد وأن يكون منطلقاً من بعدين رئيسين: أخلاقي واستراتيجي، والأخلاقي هنا له علاقة عميقة بالاستراتيجي، وفي اعتقادي علينا ألا نقلل من تأثير الأخلاقي على السياسي، ولننظر الآن إلى الارتكابات الغير أخلاقية التي ارتكبها الأمريكيون في سجن (أبي غريب) وتأثيرها على مصداقية الأمريكيين. وأي خطأ في الموقف من الإرهاب يصبَّ في معظم الأحيان في طاحونة الإرهابيين والإرهاب المضاد الذي يقوم به النظام. وفي طاحونة الإرهاب الأكبر والأوسع منهما، إرهاب الولايات المتحدة والصهيونية الذي يمثل الجانب الوحشي من العولمة.
-V-
من الصعب استئصال الإرهاب باستخدام العنف المضاد وأحكام الإعدام وقصف الطائرات وتجميد الأرصدة والمواعظ الأخلاقية؛ نحن نرى أن العامل الأساس في تجفيف مستنقعات الإرهاب مرهون بوضع حدٍ للفقر وتفاقم التهميش الذي يلتهم الطبقات الوسطى على قدم وساق في معظم بلدان العالم الثالث، وبوضع حد لعسف الحكومات الاستبدادية والديكتاتورية في هذه البلدان، وبناء أنظمة ديموقراطية تتيح لشعوبها الدخول في المجال السياسي. لأن محاصرة السياسة وردم قنواتها، يفتح قنوات التزمت والتعصب والتطرف والإرهاب.
وطبعاً يرتبط القضاء على الإرهاب بعاملٍ إصلاحيٍ فكري وهذا هام جداً. فلقد افتقدت البنية الفكرية في البلدان العربية والإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، في عهد الانقلابات العسكرية والأنظمة الشمولية، معظم علاقاتها بالفكر النهضوي الذي أسسه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين رجال متنورون من أمثال (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، وطه حسين ...)؛ فقد شكَّلت مصادرة الأنظمة العربية للحقوق السياسية وسيطرتها القسرية على مؤسسات المجتمع المدني الدورَ الرئيس في ترعرع الفكر التمامي التكفيري المثنوي في هذه البلدان. فلقد قطع هذا الفكر تماماً مع مفهوم الوسط في الإسلام (بين الخير والشر هنالك مسافات شاسعة)، وراح يكفر كل من له صلة بالفلسفة أو الإصلاح الإسلامي، ولقد قام هذا التيار بقطع حتى مع أفكار {حسن البنا} المعتدلة نسبياً والميالة إلى الاعتراف بالآخر. و قصَرَ هذا التيار علاقته مع الحضارة العالمية فقط على المنجزات التكنولوجية، وفي المقابل فقد أقام قطيعة كاملة مع العام الديموقراطي العالمي ومع العلوم الإنسانية، مع الفلسفة وعلم النفس وعلم الجمال والسياسة والديموقراطية وحقوق الإنسان.
والإيديولوجية المسيطرة إلى حدٍ كبير على معظم حركات الإسلام السياسي الجهادي الآن، تحتكر الخير والفضيلة والنور الإلهي لنفسها وأنصارها، ولا ترى في الآخر إلا شيطاناً يجب استئصاله.
وهنالك عامل لا يقل أهمية عن العوامل الأخرى التي ساعدت في هيمنة الإيديولوجية النكوصية على البنية الفكرية العربية والإسلامية، وهو فشل النخب القومية واليسارية في بناء أنظمة سياسية ديموقراطية، وفشلها في إنجاز شيء ذي أهمية على مستوى التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ وهذا الفشل لعب دوراً رئيساً في جعل الخطابين العربي والإسلامي يتمحوران حول مقولة (إما.. وإما)، فسلطنت الثنائيات على الفكر، الخير والشر، الشرق والغرب، المؤمن والكافر، الوطني والخائن، معنا أو علينا، مع ايران أو مع العراق، مع صدام حسين أو مع أميركا، مع السلطة أو مع الأخوان المسلمين، مع بن لادن أو مع الصليبيين. في هذا الفكر لا جدل ولا حوار ولا لقاء ولا تصالح ولا حلول وسط. يتمحور هذا الفكر حول تكاون سرمدي (صراع بين الفسطاطين)، وأفضل من أخرج شكل هذا الفكر للعيان الدكتور فيصل القاسم في {اتجاهه المعاكس}. في الفكر الثنائي أي خط ثالث أو رابع أو خامس... مرفوع عليه الحد ، يعبد هذا الفكر لخطوط المستقيمة والخطوط المتوازية. إذا لم يتطابق الآخر معه فلا لقاء ولا تفاهم، تماماً كما كان الحال في حرب البسوس، وداحس والغبراء، وملاحم الهوتو والتوتسي}، وهذا الفكر ينبذ لخطوط المنحنية والمتعرجة والمتقاطعة والمتشابكة (فلا حوار بين الثقافات بل صراع دائم بينها). وهذا الفكر يشن الآن هجوماً انفعالياً على حوار الأديان (الاتجاه المعاكس: مفتي البوسنة كان من أنصار الحوار والشيخ أحمد عبد الله يعتبر الحوار مؤامرة ومظاهرات أوربا ضد الحرب الأمريكية على العراق مسرحية). إيديولوجيا طهرانية، نرجسية، لكنها لا تملك تصوراً معرفياً عن موضوعية الشر ووجوده الدائم إلى جانب الخير في المجتمع ، أي مجتمع. العلاقة بين موضوعية الشر وموضوعية الخير مسألة نسب وتحسين وإنقاص الشر لا يحتاج إلى حرب، والتقدم في هذا الموضوع هو تخفيف الشر. وهذه الإيديولوجية لا تتصور الغرب إلا غرباً واحداً وشراً كاملاً. في هذه الإيديولوجية هنالك قطع بين العام والخاص وكل تفكيرها يتمحور حول الخاص. وهنالك مفارقة في هذه الإيديولوجية، فهي تعترف بالعلاقة بين العام والخاص في الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا وعلم الحيوان وعلم النبات وتنكرها في مجال العلوم الإنسانية على مستوى الفلسفة واللغة والأديان والسياسة...
حينما تسيطر إيديولوجية مثل هذه في قمة البؤس على بنية مأزومة سياسياً واقتصادياً، فلا بد وأن تتوفر حينئذ أفضل بنية لإنتاج الإرهاب. فالإرهابي يعيش خارج واقعه وخارج زمانه، ولا يأخذ أي اعتبارٍ لميزان القوى. و يمتاز ليس فقط بقصر نظره بل بنفسه القصير أيضاً، وهو دائماً في عجلةٍ من أمره، فيلجأ إلى سلوك الطريق المستقيم الذي هو أقصر الطرق للوصول إلى الهدف وليس لديه الصبر على اجتياز المنعطفات، لذلك لا يجد أمامه سوى الإرهاب، أما النضالات السلمية والديموقراطية بالنسبة له، ففيها الكثير من التعرجات والتضاريس والانتظارات والتراجعات والمساومات وهذا ما لا يطيقه أبداً.
وفي النهاية نعتقد جازمين أن وباء الإرهاب المعاصر لن ينحسر بإرهاب مضاد، إنما بالسعي الحثيث والنضال المتواصل من أجل تغيير الظروف السياسية والاقتصادية والفكرية التي أنجبته. ومفتاح كل هذه التغيرات هو تغيير السياسة الداخلية في العالمين العربي والإسلامي ولكن تغييرها يتطلب نضال سياسي ديموقراطي سلمي متواصل وصبور.

دمشق في 31/5/2004



#نقولا_الزهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جودت الهاشمي
- الشعوب العربية من نير الإقطاع السلطاني إلى نير الإقطاع الشمو ...
- خيوط القمة العربية أوهى من الكلام على الإصلاح
- قصيدة :دموع ليست من ماء
- مقاربة حول الديموقراطية في العالم العربي
- الأعمدة الزانية
- قصائد صغيرة
- رسالة إلى المهندس المعماري الفنان رفعت الجادرجي
- همسة في واد
- دوافع أوربا والولايات المتحدة من الإصلاح في العالم العربي
- عرس المطر
- الطوفان الرمادي
- طبق القش
- شجرةٌ من جبالِ قَلْمونْ
- حارس الطريق الجنوبي - قصة قصيرة جداً
- مصباح جديد
- سرابٌ في حلمٍ نيساني - قصة قصيرة جداَ
- حكاية كلمة صغيرة
- مداخلة في موضوعات المؤتمر السادس - الحزب الشيوعي السوري /الم ...
- دستور العراق المؤقت.... يقسِّم أكثر مما يجْمع


المزيد.....




- في ظل الحرب.. النفايات مصدر طاقة لطهي الطعام بغزة
- احتجاجات طلابية بجامعة أسترالية ضد حرب غزة وحماس تتهم واشنطن ...
- -تعدد المهام-.. مهارة ضرورية أم مجرد خدعة ضارة؟
- لماذا يسعى اللوبي الإسرائيلي لإسقاط رئيس الشرطة البريطانية؟ ...
- بايدن بعد توقيع مساعدات أوكرانيا وإسرائيل: القرار يحفظ أمن أ ...
- حراك طلابي أميركي دعما لغزة.. ما تداعياته؟ ولماذا يثير قلق ن ...
- المتحدث العسكري باسم أنصار الله: نفذنا عملية هجومية بالمسيرا ...
- برسالة لنتنياهو.. حماس تنشر مقطعا مصورا لرهينة في غزة
- عملية رفح.. -كتائب حماس- رهان إسرائيل في المعركة
- بطريقة سرية.. أميركا منحت أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - نقولا الزهر - حول التداخل بيت المقاومة والإرهاب