أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - راندا شوقى الحمامصى - البهائية وقضايا إجتماعية- التطور الاخلاقي















المزيد.....


البهائية وقضايا إجتماعية- التطور الاخلاقي


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2830 - 2009 / 11 / 15 - 15:40
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


التطور الاخلاقي
الدين هو السبب الأعظم لاستقرار النظام في العالم ولإطمئنان من فيه.38
يرى البهائيون السبب الرئيسي لـ"انحراف الطبيعة الإنسانية وإنحطاط سلوكيات الانسان، وفساد وانحلال المؤسات الإنسانية، هو تدني تأثير الدين كقوة اجتماعية فاعلة"39، مما أدى إلى العديد من العلل والأخطار التي تواجه المجتمع اليوم، والممتدة من التصرفات المخالفة للأعراف الاجتماعية إلى الارهاب، ومن التعصب الديني والكراهية العنصرية إلى التزوير والإجرام. يعتقد البهائيون أن بعض الظواهر الاجتماعية المنظورة اليوم تُمثل شذوذاً لطبيعة الإنسان، سببها التشويه الحاصل في الجو الاجتماعي نظراً لفقدان القيم الروحانية، وأن هذه الأمور ستُحّل عندما يتحسن المحيط الاجتماعي ويعاد إيقاظ القيم الروحانية. لذلك يشدد البهائيون على أنّه من الأهمية بمكان استعادة القيم الروحانية التي ستحمي وتنمي ما هو في مصلحة الأفراد ومجتمعاتهم. وبنظرهم، من الضروري اكتساب دعم البشرية بشكل عام لمقاييس التصرف الإنساني المستمدة من تقدير عميق للمبادئ الروحانية وتطبيقها.
لا يقصد البهائيون بكلمة "روحاني" أفكاراً مبهمة وأمالاً تقيّةً أو عاطفية، والتي من المتوقع، إذا ما تم الالتزام بها، أن تقضي على جميع العلل. وإنما تشير الكلمة إلى مجموعة من الفضائل والقيم العملية المنبثقة من الرؤية والمفهوم تجاه إرادة الله للانسان، والتي تمثل القاعدة الأساسية لعلاقات بعضنا مع البعض على كل مستوى –شخصي،عائلي، اجتماعي، دولي أو عالمي. يمكن تعريف بعض من هذه الفضائل على أنها حتمية للغاية من أجل التمهيد لحسن مسار أية وحدة اجتماعية، أكانت العائلة أو العالم، ومنها: العدالة، الأمانة، الصدق، والأدب، الصبر، المحبة، نكران الذات، إلى ما هنالك. وجود هذه الفضائل –أو عدم وجودها- يشّكل أساساً لنظام القيم الذي نعمل به والذي بدوره يؤثر على مواقفنا ويحدد تصرفاتنا وممارساتنا. رغم أن البشر روحانيون في الجوهر إلا أن وجود أعضاء في مجتمع يسعون إلى خدمته ويساهمون في بنائه ويقدمون مصالح الآخرين على مصالحهم، يقتصر على تلك المجتمعات التي تعطي الأولوية لإنماء وتطوير أفرادها من الناحية الأخلاقية والأدبية والعاطفية والفكرية.
تؤول مسؤوليّة خلق محيط تسوده القيم الأخلاقية، والمحافظة عليه، إلى العائلات، والمجتمعات والحكومات. إن التعاليم البهائية تذكر ثلاثة أنواع من التربية: جسمانية – وهي لنشوء الجسم ونموه، إنسانية- وهي لدراسة الفنون والعلوم. وروحانية- وهي لتنمية الشخصية واكتساب القيم. يجب أن يركز تعليم وتربية الأطفال في البيت والمدرسة على هذه الأنواع الثلاثة، مع التأكيد على ضرورة تربية الأطفال على تقدير أهمية وحدة العالم الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى، على التحلي بالفضائل وتطبيقها. هذه التوجهات معاً توفر الرؤية، القيم، السلوكيات والمهارات التي تمّكن الشباب من مقاومة العادات المضرة مثل إساءة استعمال المخدرات، وترشدهم إلى رفض ممارسة العنصرية والتعصب، وتدفعهم للمساهمة في إقامة مجتمعات سليمة، صحية ومتحدة. وفي الوقت نفسه، تساعد التربية الأخلاقية الشباب على إدراك أنهم أعضاء في عائلة إنسانية واحدة حيث لديهم حقوق وعليهم مسؤوليات، ويُنتظر منهم أن يحترموا حقوق الآخرين. لدفع هذا المبدأ قُدُماً، طوّر البهائيون عبر السنوات صفوفاً لدروس الأخلاق يُرَحّب فيها بجميع الأطفال (من بهائيين وغيرهم).
لذلك، يؤمن البهائيون أن بناء مجتمعات مستدامة والوصول إلى الازدهار يتوقفان على تطبيق القيم الروحانية أو الأخلاقية، التي تعكس مبادئ و أولويات روحانية. بهذا الصدد، اختار حضرة عبدالبهاء، من بين جميع الفضائل التي على الناس أن يكتسبوها، فضيلة الأمانة وأكد:
...ان الأمانة عند الله أساس الدين الالهي وهي ركن جميع الفضائل والمناقب، لو حُرم أحد منها حُرم من جميع الشؤون، فما هو الثمر والاثر والنتيجة والفائدة لو كان ثمة تقصير في الأمانة؟ 40
فقدان الأمانة يشّوه العلاقات الإنسانية، يُنمي الشك ويؤدي إلى إفشال المعاملات البسيطة بين البشر. إن أسوأ مظاهر فقدان الأمانة – الفساد – الذي يؤدي إلى شلل قدرة القيادة ومنعها عن العمل بشكل سليم وعلى كل مستوى، ويُرَوّج الظلم. لذلك يمتدح البهائيون تنمية الأمانة في الفرد، في العائلات، وفي المجتمعات، وخصوصاً لدى اولئك الذين هم في مراكز السلطة والمسؤولية – الحكومة، موظفي الحكومة، وأصحاب الأعمال والقادة على جميع المستويات. وبالاضافة، تكمن القيادة الأخلاقية، بالنسبة للبهائيين، على جميع المستويات –إنطلاقاً من الوالدين في العائلة، وصولاً الى الحكومة المركزية – في خدمة الغير.

خدمة الإنسانية هي خدمة الله. 41
ستجد القيادة الأخلاقية، قيادة المستقبل، أسمى تعبيراً لها في خدمة الغير والمجتمع بالكامل، وستدعم أسلوب اتخاذ القرارات بالمساهمة الجماعيّة وتؤازر العمل الجماعي، وستتحرك بدافع الالتزام بالعدالة، بما فيها المساواة بين النساء والرجال، وازدهار الإنسانية. وستعبّر القيادة الاخلاقية عن نفسها بالتقيّد بمقياس أخلاقي واحد في الحياة الاجتماعية والخاصة، يعمل به القادة والمواطنون على السواء.42
هذا التوجه له علاقة وثيقة بموقف البهائيين تجاه العمل، "إن العمل بروح الخدمة هو أسمى تعبير للعبادة" 43 من دواعي سعادة البهائيين على النطاق العالمي، مشاريع الأمم المتحدة التي تعترف بوجود بُعد روحانيٍّ لبني البشر، وما لذلك من أهمية بالنسبة لخير الإنسانية. فعلى سبيل المثال، صّرح إعلان كوبنهاغن الصادر عن قمة 1995 في موضوع التنمية الاجتماعية أنه "يجب على مجتمعاتنا أن تستجيب بفعّاليّة أكبر لحاجات الفرد المادية والروحانية وحاجات عائلاتهم والمجتمعات التي يعيشون فيها...ليس هذا من باب الضرورة الملحّة فحسب، ولكن كإلتزام مستدام لا يتزعزع خلال السنوات القادمة".44 كما في مقدمة البيان الصادر بعد القمة الثانية للمستوطنات الانسانية Human Settlement والمعروف بأجندة الإسكانAgenda Habitat، أن حكومات العالم أخذت على عاتقها العمل على "تحقيق عالم أكثر استقراراً وسلاماً، مبنياً على رؤية أخلاقية وروحانية"45. إن تصريحات كهذه تشكل تقدماً بارزاً في التفكير العالمي، وينتظر البهائيون السياسات والأعمال التي ستحول هذه الأماني إلى نتائج عملية.
إن التقدم في جميع المجالات المذكورة أعلاه يعتمد، بالنسبة للبهائيين، على المعرفة، الإرادة، والعمل. بدون المعرفة، تكون الجهود الموجهة لتغيير الناس والمجتمعات موجهة توجيهاً خاطئاً، وفي أحسن الأحوال تكون غير مؤثرة، وفي أسوإها تكون مُضرة. وبدون تضافر إرادة الفرد والمجتمع والقرار السياسي، لا تكون هذه المفاهيم سوى تصورات مثالية ومواضيع مشوقة للبحث. ولكن بدون العمل الجدي للانتقال من الأقوال إلى الأعمال، لا تؤدي النوايا الحسنة إلا إلى مخططات تُكّدس على رفوف الاهمال. إن قيم الافراد، مواقفهم، سلوكياتهم وممارساتهم وثيقة الارتباط بتجليها في المجتمع على جميع المستويات. يعتمد استحداث أي تغيير إيجابي وبنّاء في المجتمع، بنظر البهائيين، على تفعيل القيم والأولويات الروحانيّة.
نحن بحاجة إلى تغير في القلوب، وإعادة صياغة جميع مفاهيمنا، وتوجيه نشاطاتنا توجيها جديداً. يجب إعادة تشكيل حياة الإنسان الداخلية ومحيطه الخارجي إذا كان لخلاص البشرية أن يتحقق.46

الجامعة البهائية العالمية
إن العمل على تحقيق المبادئ المذكورة أعلاه وتأييدها هو من مسؤولية أفراد البهائيين، المجتمعات المحلية، والمحافل الروحانية على النطاق المحلي والمركزي. على النطاق الدولي، تقوم الجامعة البهائية العالمية (BIC) Bahai International Community بهذه المسؤولية بالنيابة عن المجتمع البهائي حول العالم. أسس حضرة شوقي أفندي الجامعة البهائية العالمية سنة 1948 كمنظمة عالمية غير حكومية مسجلة لدى مكتب الأمم المتحدة للمعلومات العامة. وقد أصبحت اليوم هي المنظمة التي يتواصل عبرها بيت العدل الأعظم مع كل المؤسسات العالمية.

نادى الدين البهائي منذ البداية بوجوب تطوير مؤسسات دولية، وأقام علاقات معها عند تأسيسها. وقد طالب حضرة بهاءالله بنفسه قادة العالم أن يعقدوا قمّة عالمية للتباحث في تأسيس السلام العالمي وإبرام المعاهدات للمحافظة عليه 47، بينما وضع حضرة عبدالبهاء جدول أعمال لمثل هذه القِمم وحثَّ على تشكيل مؤسسة عالمية دائمية لتحافظ على السلام وتضع إطاراً لتطبيق القانون على النطاق العالمي.
أشاد حضرة عبدالبهاء بعصبة الأمم عندما تأسست، ولفت النظر إلى نقاط الضعف فيها. وفي سنة 1926 تأسس مكتب بهائي عالمي في جنيف Geneva، مركز عصبة الأمم، بُغية تنمية العلاقات معها وتوفير مكان لاجتماع البهائيين المشاركين في جلساتها. وقد شارك البهائيون بشكل خاص في مداولات عصبة الأمم حول نزع السلاح.
عندما تأسست الأمم المتحدة، شجع حضرة شوقي أفندي البهائيين حول العالم على تأييدها ودعم نشاطها، وقد قام الكثير منهم بذلك حيث شكلوا أو شاركوا في جمعيات تابعة للأمم المتحدة ومجتمعاتها. وعندما صيغ دستور الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو سنة 1945، أرسل المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة وكندا مراقبين رسميين لحضور المناسبة، وبعد ذلك سجل المحفل المركزي نفسه رسميا كعضو مراقب. وفي سنة 1947 استفسرت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين من حضرة شوقي أفندي عن وجهة النظر البهائية بالنسبة لمستقبل فلسطين. في إجابته، عبّر حضرة شوقي افندي عن رغبة الجامعة البهائية بإرساء السلام العالمي والعدالة، والمصالحة بين اليهود والمسلمين، ولكنه شدد أيضاً على الموقف غير السياسي للدين البهائي.
باشرت الجامعة البهائية العالمية دفاعها عن حقوق الانسان سنة 1947 بتقديم بيان إلى الأمم المتحدة عن واجبات وحقوق الإنسان، وصادقت فيما بعد على معاهدة منع الإبادة البشرية.وقد استمرت الجامعة البهائية العالمية عبر السنين بعرض الموقف البهائي تجاه حقوق الانسان من خلال مداولاتها وبياناتها الرسمية. عندما هُدِّدَت حقوق الإنسان للبهائيين في إيران (1955) ومراكش (1962) اتخذت الجامعة البهائية العالمية خطوات للفت نظر الأمم المتحدة إلى هذه التطورات. فيما بعد، أبرزت الجامعة البهائية العالمية ما آلت إليه إوضاع البهائيين في إيران الذين، ومنذ سنة 1979، يعانون الاضطهاد من حكومتهم.
طرحت الجامعة البهائية العالمية سنة 1955 اقتراحها لتعديل دستور الأمم المتحدة، والذي أعيدت كتابته سنة 1995 بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لتأسيسها،48 وفي سنة 1969 أسست الجامعة البهائية العالمية مكتباً دائماً لها في نيويورك، ومُنحت سنة 1970 صفة استشارية (فئة2) مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (ECOSOC’s)، United Nations Economic and Social Council، مما مكّن الجامعة البهائية العالمية من تقديم وجهات نظرها في الجلسات الرسمية التي تعقدها الوكالات التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي سنة 1976 مَنح الصندوق العالمي للطفولة United Nations Children’s Fund صفة استشارية للجامعة البهائية العالمية. وفي سنة 1989 أنشئت علاقة عمل مع المنظمة العالمية للصحة (World Health Organization – WHO)
منذ سنة 1970 والجامعة البهائيّة العالمية تقدم إلى جلسات الأمم المتحدة ووكالاتها وجهة نظر الدين البهائي تجاه عدد كبير من القضايا والمواضيع التي وردت في التعاليم البهائية. وقد ركزت بشكل خاص على النواحي الأربعة الأساسية لحقوق الإنسان، منزلة المرأة، ازدهار البشرية، والتطور الأخلاقي، وعلى مواضيع ذات العلاقة مثل التنمية الاجتماعية، العائلة، الشباب والأطفال، المعاقين، المسنين، السكان، المراكز السكانية، البيئة، منابع الطاقة الممكن تجديدها، الزراعة، العلوم والتكنولوجيا، قانون البحار، منع الجريمة، المخدرات، نزع السلاح واستعمال الفضاء الخارجي لأغراض سلميّة.
منذ تأسيسها والجامعة البهائية العالمية من أكثر المنظمات الإستشارية غير الحكومية نشاطاً داخل هيكلية الأمم المتحدة، وهي محترمة للغاية من قبل حكومات ومنظمات غير حكومية أخرى على السواء. وهي اليوم مُمَثلة ليس فقط على المستوى المحلي، بل الاقليمي أيضاً ولها مكاتب في جنيف وباريس، ومكاتب متخصصة في نيويورك مكرسة للبيئة وتقدم المرأة مما يضمن توجهاً مُركّزا على هاتين القضيتين.

العلم والدين
أحد التعاليم الأساسية لحضرة بهاءالله والذي يشكل أساساً للتفكير البهائي في قضايا المجتمع والتطور هو أن العلم والدين هما وجهان مختلفان لحقيقة واحدة. اعتاد الناس في العالم الحديث أن ينظروا إلى الدين والعلم على أنهما وجهان متعارضان. نشأ هذا التوجه منذ أن اضطهدت الكنيسة غاليليو Galileo وعارضت نظرية داروين عن التطور. بالنظر لنجاح العلم في وصف الحقائق، وفي ايجاد تقنيات حوّلت العالم، اتجه الناس نحو اهمال الدين كأداة لوضع سياسة اجتماعية والتفاعل مع العالم، وافترضوا أن العلم سيقدم جميع الأجوبة للمشاكل الانسانية.
ولكن، مع دخول الانسانية في القرن العشرين، اتضح أمران: الأول هو أن العلم بنفسه ليس على ذلك القدر من الدقة التي قد ظُن بها في البداية. انطلاقاً من مبدأ هايزنبرغ للشك Heisenberg Uncertainty Priciple الذي زاد وضوحاً مع نظرية كودل Godel’s Theorem ونظرية الفوضى Chaos theory، تبين أن مشروع القرن الثامن عشر والتاسع عسر الأصلي الذي افترض أن بالامكان تطوير العلم إلى درجة أنه يتوصل إلى تفسير كل شئ، ما هو إلا مشروع مستحيل الإنجاز. لقد استطاع العلم أن يتوصل إلى معرفة دقيقة للغاية ولكن عن جانب محدد من الحقيقة، لا عن الحقيقة بأكملها إذاً، العلم متمّم للدين، الذي يقوم بالدور المقابل. يتوصل الدين إلى معرفة الحقيقة بكاملها، ولكنها معرفة غير دقيقة. تُشكل تعاليم مؤسسي الأديان السماوية، حسب تعاليم حضرة بهاءالله، وصفاً كاملا للحقيقة، ولكنه وصف مجازي للغاية، غير متسلسل في عرضه49. الأمر الثاني الذي أصبح واضحاً والناتج عن الأول، هو أنه عند انتقال الفرد من التدقيق في العلوم المادية "القاسية" إلى العلوم الإنسانية "الليّنة"، يجد ان قدرة العلم على الشرح والتنبؤ تتضاءل. في علوم الفيزياء، مثلا، تشرح المعادلات العلمية مضمونها، وهي دقيقة للغاية في ما تتنبأ به. وأما في علم النفس وعلم الاجتماع، رغم العمل فيهما لأكثر من قرن، لا يقدم العلم الا شرحاً ضعيفا، ونبوءاته بعيدة كل البعد عن الدقة. هذا مماثل للقول إنه خلال انتقالنا من العالم المادي باتجاه العالم الانساني (والذي يتكون، حسب التعاليم البهائية عن طبيعة الانسان، من جزء روحاني وجزء مادي) تتضاءل قوى العلم على الشرح والتنبؤ. يؤمن البهائيون أنه مع انتقالنا إلى هذا الحقل من العالم الانساني، تتزايد قدرة الدين على الشرح والتنبؤ. هنا يستطيع الدين أن يعطينا وصفاً دقيقاً عن الحقيقة، ولكنه ليس وصفاً حسابياً متسلسلاً. بإمكانه التنبؤ عن احتمال الوصول إلى نتائج مفيدة عند القيام بأعمال في اتجاه معين، والوصول إلى نتائج مضرة نتيجة العمل باتجاه معاكس.
إذا كان للانسان، كما تُبين التعاليم البهائية، طبيعتان مادية وروحانية، لابد من الاستنتاج المنطقي أن كل بحث، أكان من وجهة نظر الطب، علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد، التخطيط المدني أو أية وجهة نظر اخرى، يقتصر على نواحي الإنسان المادية، هو بحث ينظر الى جانب واحد من الصورة، ولن يكون مفيداً كالتحليل الذي يأخذ الجانب الروحاني ايضاً في الحسبان.
الدين والعلم جناحان يحلق بهما ذكاء الانسان إلى الأعلى، وبهما تتمكن الروح من السير قدماً. لا يمكن الطيران بجناح واحد فقط. إذا حاول الانسان الطيران بجناح الدين وحده، سرعان ما يقع في مستنقع الخرافات، وبالمقابل، لن يتقدم على جناح العلم وحده بل يقع يائساً في أوحال المادية . وقعت أديان يومنا هذا كافة في ممارسات خُرافية، لا تنسجم لا مع المبادئ الحقيقية للتعاليم التي تمثلها ولا مع الاكتشافات العلمية المعاصرة.. وقد تولّد من هذه المتعارضات والمتناقضات، التي هي من صنع الانسان، الكثير من نزاعات العالم ما ادى الى عدم اتحاده. لو كان الدين منسجماً مع العلم، وسارا معاً، لكان الكثير من البغض والمرارة، المسببين لتعاسة الجنس البشري، في حكم الزوال.50
إذاً، وبشكل عام، ترى التعاليم البهائية أن الدين والعلم مكملان بعضهما لبعض. كل منهما ينظر إلى جانب من جوانب الحقيقة ليتوصل إلى مفهوم معمق لها، وعلى البشر أن ينهلوا من كليهما معا. كلاهما مصدر صحيح لمعرفة جانب من الحقيقة. العلم يعطي نوعاً واحداً من المعرفة، المعرفة الدقيقة المحددة والواضحة عن وحدات يمكن مراقبتها. تتدرج هذه المعرفة من المحدد إلى العام والشامل، دون إمكانية الاحاطة بها احاطة كاملة أبدا. ويعطي الدين معرفة عن مبادئ مجازية لا تتسلسل في خط واحد، وهي معرفة تخلق رؤية متكاملة عن الحقيقة، ولكنها لا تبين بالتفصيل كيفية تطبيقها.
التعاليم البهائية تذهب أبعد من التأكيد فقط على أن العلم والدين مكملان لبعضهما لبعض، إذ تشدد ايضاً على ان العلم والدين بحاجة لبعضهما البعض. الدين بحاجة للعلم إذا أراد أن يتجنب الانغماس في الخرافات. والعلم بحاجة لهداية الدين كي لا يصبح مصدر شّر في العالم، عوضاً عن مصدر للخير. تُصّور الآثار البهائية العلم والدين على أنهما جناحان، يحلق بهما طير الانسانية صعوداً نحو الازدهار. ولكن لن يصل هذا الطير إلى هدفه إلا إذا كانت قوة الجناحين متوازنة وعملا معاً بتناسق وانسجام.

تطور الإنسانية على النطاق الاجتماعي
يرى البهائيون أن التعاليم التي جاء بها حضرة بهاءالله تمثل ذروة تاريخ البشرية الديني والاجتماعي. لقد تطور البشر اجتماعياً من خلال مراحل تزايد فيها مستوى اتحادهم، مراحل تكوين القبيلة، وبعدها إقامة المدينة – الدولة city – state، وصولاً إلى تأسيس الدولة. والذين وجهوا هذا التطور وحققوه هم مؤسسو الأديان العالمية الذين تعاقبوا على العالم. لذلك، ينظر إلى هؤلاء المؤسسين على أنهم مرشدو الإنسانية في تطورها. إن التعاليم التي جاء بها كل منهم كانت مناسبة لوضع الإنسانية في تطورها. إن التعاليم التي جاء بها كل منهم كانت مناسبة لوضع الانسانية في حينه. وكل منهم بنى على تعاليم من سبقه، كما يبني المعلمون المتعاقبون الذين يقابلهم التلميذ في المدرسة على ما علمه المعلم السابق. السبب الرئيسي لوجود أديان متعددة، لكل منها مؤسسها، في تاريخ الانسانية، هو حقيقة أن حاجات البشر تتبدل. دعوة حضرة بهاءالله هي أنه هو آخر هؤلاء المعلمين الإلهيين وأنه جاء بتعاليم مناسبة لمرحلة تطور الإنسانية في الوقت الحاضر. لقد تطورت الانسانية خلال مراحلها البدائية المشتركة، الطفولة، والمراهقة وصولاً، كما يصرّح حضرة بهاءالله الى مرحلة النضوج. السّمة المميزة لهذا النضوج الذي تكاد تصل إليه الانسانية الآن، هي ادراك وحدة العالم الانساني، ونشوء الوعي بالشمولية العالمية، والتوصل إلى تقدير الترابط فيما بين كل نواحي الحياة، والوعي لجوانب الحقيقة المادية والروحانية. ان التعاليم التي جاء بها حضرة بهاءالله تهدف كلها إلى اعطاء هذه الوحدة الروحانية، والتي كانت دائماً موجودة، شكلاً مادياً مكوناً من مؤسسات إنسانية تعكس مساواة ووحدة البشر، وفي الوقت نفسه، تعمل هذه التعاليم على ايجاد رابط في ما بين جوانب الحقيقة المادية والروحانية.




هوامش -قضايا اجتماعية-التطور الأخلاقي


38 بهاءالله، Baha’u’llah,cited in Shoghi Effendi,1991.p.186، (معرب بتصرف)
39 شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991,p.187، (معرب بتصرف)
40 عبدالبهاء، الحياة البهائيةن ص 41 (معرب بتصرف)
41 Abdu’lBaha,1982,p.8 (معرب بتصرف)
42 الجامعة البهائية العالمية، (Baha’I International Community,198)(معرب بتصرف)
43 عبدالبهاء، (Abdu’lBaha,in Compilation,1991,vol.1,p.313)، (معرب بتصرف)
44 إعلان كوبنهاغن، 1995 (معرب بتصرف)
45Habitat Agends,1996 (معرب بتصرف)
46 شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1932 ( معرب بتصرف)
47 بهاءالله، Baha’u’llah, 1988a.pp.30-1( معرب بتصرف)
48 الجامعة البهائية العالمية، Baha’I International Community,1995b
49 راجع هاتشر، Hatcher,2002,pp.9 -12
50 عبدالبهاء، Abdu’l-Baha,1967,pp.143-4



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البهائية وقضايا إجتماعية -ازدهار العالم الانساني
- البهائية وقضايا إجتماعية -حقوق الانسان-المرأة والسلام
- البهائية وقضايا إجتماعية-التعصُّب نار تحرق العالم
- الدين العالمي
- الدين البهائي يقف على رؤية إنسانية موحّدة وأسلوب للحياة ليست ...
- المدنية الإلهية و النظم الإداري البهائي-النظم الإدراي و مرجع ...
- المدنية الإلهية و النظم الإداري البهائي- ولي أمر الله شوقي أ ...
- المدنية الإلهية و النظم الإداري البهائي -مقدمة عن النظم الاد ...
- المدنية الإلهية و النظم الإداري البهائي
- رؤية الدّين البهائي لعالم مُتّحد-(3/3)
- رؤية الدّين البهائي لعالم مُتّحد-(2/3)
- الرؤية لعالم مُتّحد-1/3
- هاتوا برهانكم -(3/3)
- هاتوا برهانكم -كمال الخطّة الإلهية الأصلية- (2/3)
- هاتوا برهانكم - (1/3)
- تطوّر أشكال الحكومة بالعالم – الديمقراطيّة ثم ماذا بعد ؟-(3) ...
- تطوّر أشكال الحكومة بالعالم – الديمقراطيّة ثم ماذا بعد ؟-(2)
- تطوّر أشكال الحكومة بالعالم – الديمقراطيّة ثم ماذا بعد ؟ -(1 ...
- عدة الطريق إلى السلام
- مشكلة الأرهاب وعلاجها


المزيد.....




- السعودية.. ظهور معتمر -عملاق- في الحرم المكي يشعل تفاعلا
- على الخريطة.. دول ستصوم 30 يوما في رمضان وأخرى 29 قبل عيد ال ...
- -آخر نكتة-.. علاء مبارك يعلق على تبني وقف إطلاق النار بغزة ف ...
- مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين بقصف إسرائيلي على ريف حلب شمال غ ...
- ما هي الآثار الجانبية للموز؟
- عارض مفاجئ قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف
- ما الذي يمكن أن تفعله درجة واحدة من الاحترار؟
- باحث سياسي يوضح موقف موسكو من الحوار مع الولايات المتحدة بشأ ...
- محتجون يقاطعون بايدن: -يداك ملطختان بالدماء- (فيديو)
- الجيش البريطاني يطلق لحى عسكرييه بعد قرن من حظرها


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - راندا شوقى الحمامصى - البهائية وقضايا إجتماعية- التطور الاخلاقي