أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد مضيه - محو التاريخ اوهام تبددها شواهد التاريخ الثقافية والاجتماعية















المزيد.....


محو التاريخ اوهام تبددها شواهد التاريخ الثقافية والاجتماعية


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2828 - 2009 / 11 / 13 - 20:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


محو التاريخ اوهام تبددها شواهد التاريخ الثقافية والاجتماعية
التطورات الدرامية الجارية على الساحة الفلسطينية، مذبحة غزة ومحاولات اقتحام باحة الأقصى ،والحفر تحت الأقصى من أجل " استعادة القدس"، ثم تقرير غولدستون بصدد المذبحة والضغوط الدولية لوأد تقرير غولدستون، وكذلك الهجمة الاستيطانية في القدس والضفة.. حبات مسبحة التظمها خيط تزوير التاريخ ومحو الزمن العربي في فلسطين، اختزلها الباحث الإسرائيلي أورن يفتاحئيل في: " ... استمرار للمشروع والسلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنى هدفاً متشدداً ووحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد". محو التاريخ يكمن خلف جميع الخطايا التي تقترفها كل يوم إسرائيل وحماتها عبرالعالم كله. استهل المشروع ذي الهدف الوحشي منذ قرون لشطب فلسطبن تاريخا ووجودا اجتماعيا وثقافيا من خارطة المنطقة وإلحاق المكان عضويا بالامبريالية العالمية بدعوى " استعادة القدس" إلى حظيرة المسيحية الأوروبية. وسوف يوضح علم الآثار في القرن العشرين أن التلمود ينطوي على خرافات مبتورة عن التاريخ الحقيقي للقدس وفلسطين؛ غير أن أعداء الشعب الفلسطيني وهم ينطلقون من نوازع الهيمنة والنهب اللصوصي لثروات الغير، لا يتورعون عن التلفيق كي يروجوا باطلهم. إنهم ليسوا مجرد متطرفين ومستوطنين، بل فاشيون جزارون مغتصبون، دأبهم الدم والحديد.
وخلال التصدي لمشروعهم الوحشي كان لابد لفلسطين أن تبرز فكرة بلورها النضال من أجل الحقيقة والعدالة ومناهضة العنصرية، وكان لا بد لثقافة مقاومة العنصرية المتوحشة أن تكتسب مضامين إنسانية ديمقراطية تحررية ومنفتحة على الحضارة . وبات على الفلسطينيين أن يلتزموا بالتفوق الأخلاقي على خصومهم ، وأن لا يجاروهم في عنصريتهم وفاشيتهم ووحشية أساليبهم؛ وفي ذلك خلاصهم واختراقهم لحائط الكراهية المشيد حولهم، واستعصاؤهم على الاندثار.

حمل فيروس الكراهية العرقية أول كتاب عن القدس صدر في العصر الحديث دونه رجل من الغرب دشن المشروع الوحشي. المؤلف هو الرحالة الإنجليزي هنري مانداو كتب عن رحلته " من حلب إلى القدس"عام 1697،أنكر فيه وجود مجتمع بشري في فلسطين؛ اكتفى بنصف صفحة فقط لعرض واقع القدس الاجتماعي متمثلا في الكنائس المسيحية " المقرفة"؛ ثم تناسلت التحريضات البهيمية تعلي جدار الكراهية حول الشعب الفلسطيني إلى أن استقر في الأدب الشعبي الإسرائيلي المعاصر بمفهوم " العربي القذر". حتى العربي الذي يخدم في جيشهم يغدو "العربي القذر " ما إن يخلع بزته العسكرية . فليس من الموضوعية ومطابقة الحال أن يطلق وصف " التطرف" على هؤلاء ؛ إنهم رواد كراهية عنصرية، تروج العنصرية والفاشية.

دأب رسل الاستعمار من أقطار اوروبا كافة يجمدون تاريخ فلسطين ويمحون معالمها الحضارية ويتنافسون فيما بينهم للاستحواذ على بالمكان طوال فترة امتدت أكثر من ثلاثة قرون قبل أن تبرز الصهيونية على مسرح الأحداث. نُشرت كتب رحلات تحكي عن مدينة القدس بلا سكان؛ ورسمت خرائط والتقطت صور لمعالم المدينة بلا بشر. أولى الخرائط رسمها كاتروود عام 1838 واستبدل الأقصى وقبة الصخرة ب" جبل الهيكل"، مستوحيا في ذلك خرافات التلمود. في عام 1838تأسس تحت رعاية ملكة بريطانيا صندوق اكتشاف فلسطين، كي تكون له القوة والسلطة المعنوية. وجاء في وثيقة أهداف الصندوق إنه "جمعية تستهدف الدراسة الدقيقة والمنهجية لآثار فلسطين وطبوغرافيتها وجيولوجيتها وجغرافيتها العينية وطبائع وعادات الأرض المقدسة بغرض تصوير الكتاب المقدس، أي (تحقيقه على الواقع). وبدون انتظار معطيات الاستكشاف شرعوا إلباس شوارع القدس والهضاب أسماء منزوعة من خرافات التلمود كذلك. بدأ التنقيب في مدينة القدس تحت الأقصى عام 1867. شرعت الأبحاث الأثرية تنقب عما أسمته " مدينة الملك العظيم" و"الهيكل"، بقصد فرض الحلم والصورة التوراتيين.
في ذلك الحين أثمرت الجهود المتواصلة التي بادر بها القس وليم هتشلر، ممثل الكنيسة الأنجليكانية البريطانية في فيينا، وحامل لواء " لاهوت ما قبل الألفية" لجمع هيرتزل مع لورد بلفور، الذي سيتسلم حقيبة الخارجية البريطانية، توطئة لإصدار وعد بيلفور سيئ الصيت. ولاهوت ما قبل الألفية حركة أصولية مسيحية تحمل نظرات تحريفية انفردت بها الكنيسة الأنغليكانية تطرح التاريخ وعدا ربانيا لا شان للبشر به، ينتهي بألفية حكم المسيح الذي يشترط نزوله بعودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل وبناء الهيكل الثالث. ويلقي الضوء على العلاقة الآثمة التي قامت بين الأصولية المسيحية والأصولية اليهودية ما ورد في خطاب بلفور في وقت لاحق (عام 1919) في لندن والذي قال فيه: "إن نظرية ما قبل الألفية تتجذر في تقاليد عديدة وفي حاجات الزمن الراهن وآمال المستقبل. وهي أهم بكثير من سبعمائة ألف عربي يعيشون على هذه الأرض العتيقة". أما "حاجات الزمن الراهن وآمال المستقبل " التي لم يشأ بلفور الإفصاح عنها فتجسدت عمليا في امتلاك الشرق موقعا استرتيجيا وثروات ، وإقامة دولة إسرائيل قلعة أمامية للغرب .
مع نشوء الحركة الصهيونية مضت بخطوات واسعة الاكتشافات الأثرية الموجهة لإثبات صحة التوراة. التقت السياسة البريطانية التهويدية في فلسطين مع التوجهات الأمريكية لدراسة آثار فلسطين بل وشكلت الأساس القانوني والمادي لها. كانت البداية نشاطات "المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية" التي تكونت من أبرز دعاة علم الآثار التوراتي ، وخاصة عالم الآثار الأمريكي"وليام فوكسويل اولبرايت" William Albrightالذي ترأس في القدس من عام 1919 حتى العام 1936بعثة الآثار التابعة لهذه المدرسة. وبرز أيضا جون برايت يدمج تركيبة من البحث الأثري والخرافات التلمودية يثبت من خلالها "أن حق إسرائيل في الأرض يعتمد بشكل أساسي على حقها في الغزو"؛ إذ "لا يوجد أى سبب للشك فى أن هذا الغزو كان كما هو موصوف في سفر يشوع ،عملية وحشية دموية ،لقد كانت هذه هي حرب يهوه المقدسة التي سوف يعطى فيها شعبة أرض الميعاد". بهذا النمط من التلفيق استطاعوا تضليل الملايين في بلدان الغرب ب" مشروعية" برنامجهم الاغتصابي والتطهير العرقي في فلسطين . عبر عقود من التضليل والتزوير وضع علم الآثار في خدمة الأهداف اللصوصية للامبريالية .

ولكن العلم المنزه عن الغرض لا بد وأن ينبري للزيف والتلفيق ، ويثبت موجوديته على الساحة. أثبت العلم الموضوعي والمنزه عن الغرض أن الخريطة التوراتية لفلسطين تضاريس وتاريخا هي مجرد صناعة لاهوتية تخدم أغراض سياسة استعمار فلسطين لا أغراض العلم. وتقدم الأبحاث التاريخية الموضوعية التاريخ الاجتماعي والثقافي للقدس، تطورت عبره خميرة النهضة التنويرية في موسمها التاريخي ، أي أواخر القرن التاسع عشر. فقد كتب عن القدس الرحالة الإشبيلي( أبو بكر ابن عربي ) في القرن الحادي عشر قبيل بداية الحروب الصليبية . كانت الأوضاع السياسية جد مضطربة ، أما الأوضاع الثقافية فكانت مزدهرة. تحدث الإشبيلي عن وجود العديد من المدارس بالمدينة ووجود مكتبات وحوارات بين الفرق والطوائف الدينية . وكان الرحالة يفدون إلى القدس للمشاركة في الحوارات. وازدهرت الحياة الثقافية بالمدينة في العهدين الأيوبي والمملوكي، حيث كثرت المكتبات المزودة بالمخطوطات وافتتحت الأسر والعائلات مكتباتها الخاصة . كان مقتنو المخطوطات يسجلون عليها الأحداث والوقائع التي تمر بهم ويوثقون المواليد ومناسبات الزواج والوفيات. واهتمت بعض العوائل بإنشاء وتطوير مكتباتها الخاصة؛ لكن فساد الأوقاف في العهد العثماني أضاع المكتبات والمخطوطات ، والكثير منها أتلف بسبب الإهمال. ووصل العصر الحديث مكتبة الوقف الإسلامي ومكتبة الحرم الأقصى والمكتبة الخالدية والمكتبة البديرية . وتضم المكتبة الخالدية كتبا تحتاج إلى جهود الباحثين لمراجعتها وتحقيقها وتدقيقها وإخراجها إلى جمهور القراء. وقد حقق المستشرق الفرنسي ماسينيون سجلات أوقاف الخليل والقدس بالفرنسية ، وهي موجودة في بعض مدن الجزائر ويمكن إعادة ترجمتها للعربية.

كما تطورت المدارس داخل الحرم الأقصى تدرس علوم اللغة والفقه. وتوثقت الصلات مع المراكز الخارجية كالأزهر والآستانة وبيروت. كما تطورت الفنون مثل الموسيقى الصوفية والكنسية وتفاعلت مع بعضها البعض، وتطورت الرسوم التشكيلية والتطريز المتأثر بمناخ فلسطين وشمسها ونباتاتها . ومن ذلك تطور أيضا المطبخ الفلسطيني . التاريخ الحقيقي للقدس وفلسطين ـ التاريخ العربي ـ موجود ويمكن الاستدلال عليه وتجميعه بالكامل، ولكن التاريخ الصهيوني خرافات لا أساس لها في الواقع.

توصلت كاثلين كاينون ، التي عملت في أريحا خلال الفترة 1952ـ 1958 ثم 1960ـ 1961 إلى استنتاجات جريئة لقيت معارضة في البداية نقضت الفرضيات القائمة على المعطيات التوراتية، وأثبتت تناقضها مع العلم. وجدت أن سور أريحا يعود إلى العصر البرونزي القديم ، وهو سابق لحملة يوشع في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حين لم يكن يحيط بأريحا أي أسوار.
وظهر في علم الآثار كيث وايتلام ؛ وهو يعمل أستاذا للدراسات الدينية في جامعة "ستيرلينغ" في سكوتلاندا . أصدر كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني" سنة 1996. ويركز وايتلام على البعد السياسي من وراء محاولات الطمس والتفسير المغلوط للتاريخ ، حيث يذكر "أن تاريخ إسرائيل المخترع في حقل الدراسات التوراتية كان وما زال صياغة لغوية وأيديولوجية لما كان ينبغي أن تكون الممالك اليهودية عليه، وليس ما كانت عليه في الواقع".
وتوصل البروفيسور زئيف هيرتسوغ وهو مدرس في قسم آثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب إلى أن " إنّ الحفريات الأثرية المكثفة في أرض إسرائيل خلال القرن العشرين , قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة , كل شيء مُختلق , ونحن لم نعثر على شيء يتفق و الرواية التوراتية؛ إن قصص الآباء في سفر التكوين إبراهيم - يعقوب- اسحق هي مجرد أساطير"، والأصح خرافات .
و ازدهر على إيقاع التزييف والفبركات أدب يتغنى بالقدس من متخيل التلمود وليس انطلاقا من واقع تاريخي متعين. قبل قيام دولة إسرائيل نهض الأدب العبري بمهمة تزوير واقع القدس وإلباسها ثوبا غير ثوبها المطرز بنبات فلسطين وشمسها والمكتسب بشرة ملونة بوهج الشمس وعرق الحقول.. ألبسها صفرة الموت اليباب ، جمد تاريخها ، فبقيت مع غياب اليهود عنها، "مصدر الطهارة، نقطة التواصل مع الرب، مركز الروحانيات ، المدينة الأزلية". هي تعابير منتزعة من التلمود، أقحمت قي أشعار حاييم نحمان بيالك ونثْر يوسيف عجنون وغيرهما من الكتاب والشعراء الموالين للصهيونية. أفرط الصهاينة في أدب التغني بالقدس، محاولة ل " امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني. وبالتالي يبرر نهب الأوطان ببلاغة التعبير... "، وفق التعبير الدقيق لشاعرنا محمود درويش. يرفض الشاعر الفلسطيني أن تمنح الجدارة الأدبية الشرعية للسلاح؛ ويستنكر بالمقابل محاولات الإسرائيليين "ً تجريد الشعب الفلسطيني من قدراته الإبداعية لكي يقولوا إنهم جاؤوا إلى أرضٍ شعبها غير متحضر وغير متمدن، وإنهم يحملون رسالة تحضير وتحديث أي رسالة كولونيالية".
إن الدراسات الأدبية المقارنة تبرز في شعر محمود درويش الواقعية المستندة إلى معطيات ملموسة ؛الأمر الذي تخلو منه أشعار بيالك، شاعر إسرائيل القومي. ومحمود درويش بنى على ثروة الثقافة الوطنية الفلسطينية، وريثة ثقافة التنوير والممتدة في تاريخ فلسطين الاجتماعي عبر القرون. فلسطين لم تكن عقيما ، ولا قاحلة، كما تصورها الأدبيات الصهيونية. واصلت العمران عبر القرون، زرعت الأرض وأقامت حياة اجتماعية وشيدت الصروح. نضجت في مدينة القدس العوامل الذاتية للمضي في موكب النهضة التنويرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
نهضت حركة التنوير الثقافية استجابة للتحدي الوافد مع الهجرة الاستيطانية . ومع القدس عانقت ثقافة التنوير مدن أخرى في فلسطين؛ وتفاعلت مع المراكز الحضارية في المشرق العربي ومع المغرب العربي كما سنبين لاحقا. على مشارف القرن العشرين تجسدت فلسطين العدالة ورفض العنصرية . فما إن انهار نظام الاستبداد في تركيا حتى صدرت تباعا عشرات الصحف والمجلات وأنشئت المدارس وتكونت النخب المثقفة تنشر أنوار المعرفة والعلم وتحرك المياه الآسنة. صدرت الصحف والمجلات السياسية والأدبية وانتعشت حركة ثقافية وبرز رموز للثقافة ومنتدى ثقافي جامع في مدينة القدس عكست كلها إشعاع الثقافة التنويرية على الوسط المحيط.
بدأت الإرهاصات الأولى للثقافة الفلسطينية في التصدي للمشروع الصهيوني. ونظرا لإدراكها المبكر العزم اليهودي المحرك للمشروع الاستيطاني ـ دون ان تعي بطبيعة الحال العزم المضاعف جراء التحامه بالنظام الكولنيالي وغاياته في العالم العربي ـ فقد انحصر دورها في الكشف عن مقاصد الهجرة اليهودية ورصد الفقر المريع للفلاح الفلسطيني بتأثير نهج الإفقار والنهب الممارس بصورة منهجية من قبل الإدارة العثمانية. نبهت من مخاطر بيع الأراضي، وفضحت ما سمي باليسار الصهيوني. أحيت التراث الثقافي أملا في بعث عوامل قوة وطورت إبداعا أدبيا ذا وظيفة اجتماعية في تنمية المعرفة وترقية الأخلاق وتهذيب الأذواق. أقلعت أعمالها الأدبية والفنية عن الاتكاء على الخوارق والخرافة، وطرحت بدلها العلاقات السببية للأحداث والظواهر. قدّمت البطل إنسانا عادياً يتحرك بحوافز الطموح البشري يسكنه الوعي الاستثنائي بقضايا المجتمع ، وتحركه نوازع إنسانية. دفع المناخ الثقيل الملبد بالتزمت والركود أدباء النهضة إلى الخروج عليه، واكتفى الأدباء بإدارة الظهر للقديم البالي، وانطلقوا إلى الفضاءات الرحبة للإبداع الأدبي والفكري الذي يحاكي الواقع، ويكرس العلاقة السببية بين الظواهر. وأخيرا تلقفت نزعات التحرر الإنساني فكرة صراع الأفكار وقوى المجتمع، أظهرت الحياة تاريخا يتميز بالصراع والتطور، وقدمت العلماء باحثين في قضايا الطبيعة والمجتمع، يحدوهم الطموح لتخفيف معاناة البشر، ويبدعون ما ينمّي الثروة الوطنية.
في القدس صدرت " الأصمعي"، أول جريدة فلسطينية عام1908، وكانت نصف شهرية. سماها صاحبها حنا عبالله العيسة بهذا الاسم نظرا لولعه بالأصمعي. حاولت إرواء التعطش للمعرفة فعالجت صفحاتها موضوعات سياسية واجتماعية وتربوية وأدبية. كانت تطبع بمطبعة جريدة "القدس" لصاحبها جورجي حبيب حنانيا. أما مكاتب إدارتها فكانت في يافا. صدر منها أحد عشر عددا وتوقفت بوفاة صاحبها يوم 12/9/ 1909. شارك في الكتابة فيها خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبين وهما من مواليد القدس..
وفرت الصحافة منابر لنقاشات الأدباء والحوار حول وظيفة الأدب والثقافة والنقد الأدبي، واشتبكت الاتجاهات الأدبية في حوارات تراوحت في حدتها، وتميز اتجاهان رئيسان في الأدب، أحدهما يصر على جزالة التعبير واللفظ وبلاغة التراكيب اللغوية يمثله محمد إسعاف النشاشيبي، وآخر يفضل سلامة اللفظ وسهولة التعبير وصولاً إلى جذب القراء وتوسيع المعرفة. إنه أسلوب الصحافة بالدرجة الأولى ومثّله الأديب خليل السّكاكيني.
قدم الأديب المعاصر لأبناء وطنه صوراً بهيجة وجميلة، وأفكارا صائبة مستنيرة تمنح القراء أبدية حب الوطن والتكافل الاجتماعي وتقديم القيم الاجتماعية السامية والملهمة. إن قيمة المنتج الأدبي ترقى بقدر ما يطرحه من قيم معرفية للواقع الاجتماعي وللنفسية الإنسانية تعين على فهم مغاليقها. ولا بدّ من أن يستهدف الجمال والخير والحقّ في كتاباته، فالثقافة قيم معرفية وأخرى خلقية وثالثة جمالية.
نهضت الصحافة الأدبية بعبء نقل الإبداع الأجنبي، و ترافق تعرُّف المثقفين على الروايات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية بمعارف جديدة في الأدب منها التعرف على الأدب العالمي، وقد عرف المثقفون شيئاً عن المسرح كنوع جديد من أنواع الأدب بالنسبة لهم. وقد حفزت جدته على الاهتمام به وممارسته. ويشهد على هذا السبيل سبقاً للمربيين خليل السّكاكيني وجميل الخالدي عندما بدءا به في مدرستهما في القدس أوائل القرن العشرين، وانتقلا به إلى مدارس أخرى أخذ طلابها فيما بعد يقومون بتقديم التمثيليات المسرحية المدرسية أيضاً. وللسكاكيني نظرات في التعليم سبقت عصرها . فقد نادى في بدايات القرن الماضي بتعليم يقوم على احترام شخصية الطفل، ويقرن الممارسة بالنظرية. حمل السكاكيني في بداية القرن العشرين رسالة التربية من اجل الحرية، بينما اشتهر على نطاق عالمي باولو فريري حين حمل نفس الرسالة في نهايات القرن العشرين. وعقدت ندوة حول تراث السكاكيني في مدينة الطيبة جمعت موادها في كتاب " السكاكيني بين الوفاء والذكرى" حوت ما قدمه السكاكيني من دراسات حول الفكر التربوي. وذكر عن المربي دعوته: " إفهموا التلميذ، إنه من الهيئة الاجتماعية وإنه شيء له قيمته ومكانته. أيها المدرس احترم التلميذ ناده يا سيد، إياك أن تجعله يقف أمامك وقفة الخاضع الضعيف، أشعر التلميذ بأنك عادل، وانفخ فيه من روح الرجولة ما يجعله عاملا في المستقبل، ليست وظيفتك أيها المعلم أن تخرج للأمة دراويش مطأطئي الرؤوس! إياك أن تكون شديد المراقبة على التلميذ، أشعر بأنك تثق به وبشرفه. غض الطرف إن ظهر منه أي شيء! لا تقل له أنت كاذب، صدقه ولو كان كاذبا"
اتصل الناقد روحي الخالدي بآفاق الأدب الفرنسي المتمثلة في فيكتور هوغو، وبما أحاطه بهذه الآداب من ظروف اجتماعية. أبرز الخالدي ضرورة المثاقفة، كعامل إغناء للإبداع الأدبي؛ فمن غير الممكن الاستغناء عن الآداب الأجنبية. إن الاطلاع على مجمل التاريخ الأدبي، وترجمة عيون الأدب العالمي يشكّل إحدى ضرورات النهوض القومي وتوسيع المدارك وتطوير أساليب التعبير. قدم الخالدي نماذج فنية للمبدعين العرب تحثّهم على الانفتاح على الآداب الأجنبية والتعرف على الاتجاهات الأدبية لإغناء مضامين إبداعاتهم الأدبية، والعزوف عن التقليد والتكلف. وكذلك فعل الكاتب خليل بيدس في مجلته "النفائس" التي طلع بها على الناس، والتي جعلها مدرسة قائمة بذاتها، تطل على حياة الأمم الأخرى، وتنتفع بما أنتجه الفكر العالمي من آثار أدبية وغيرها، وجعلها منبراً لروايات أكبر الكتاب العالميين، وفتح نوافذها على الآفاق الروسية وغيرها في الأدب القصصي، وعني بالروايات لما لها على اختلاف مواضيعها من التأثير الخطير في القلوب والعقول، حتى اعتبرت من أعظم أركان المدنية، بالنظر إلى ما تستنبطه من الحكمة في تثقيف الأخلاق، وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ في تنوير الأذهان.

إن التجربة الثقافية الغنية لمدينة القدس وعموم فلسطين خلال حقبة قصيرة تثبت كمون عوامل النمو والتطور الذاتية في حياتها الاجتماعية، ونضج براعم ثقافتها الإنسانية للتفتح والانطلاق تتحدى افتراءات الثقافة الاستعمارية ـ الصهيونية وتدحضها .
تطورت في فلسطين إبان حقبة التنوير وبعدها في ثقافة التحرر الوطني قيم ونظرات غنية بعثت طاقة المقاومة للغزو الأجنبي. فقد ولدت الثقافة الفلسطينية في أتون مقاومة الغزو الاستيطاني، وداخله تعمدت وصلب عودها. تََخَبُّط السياسة أبقاها ثقافة مقاومة، إذ الثقافة لا فكاك لها من التباسات السياسة وملابسات الواقع. وبجرائر السياسيين وسياساتهم لم ترتق الثقافة في فلسطين بعد إلى مستوى ثقافة تحرير؛ فدون ذلك اكتساب القدرة والمهارة على الرؤية الموضوعية للواقع ولقطبي الصراع ، إلى جانب القدرة على اكتساب وعي الجمهور وتحريكه لاجتراح عملية التغيير الاجتماعي،خاصة تحرير الجماهير من التخلف والاستكانة للاستلاب والقهر والهدر. اجل، اجتازت الثقافة الفلسطينية مع عدد كبير من المثقفين أمثال إميل حبيبي وإميل توما ومحمود درويش والدكتور إدوارد سعيد والدكتور هشام شرابي رحلة أهلتها لاستشراف رؤية إنسانية مطلة على الحضارة البشرية؛ لكنها بقيت جزءا عضويا من الثقافة العربية، تتفاعل مع عناصرها وتصاب بعدوى أعطابها وتجرّحها مخالب السياسة وأنيابها الافتراسية.
قوضت النكبة الأولى الواقع الفلسطيني؛ وتحت ركامه طمرت معالم ثرية للثقافة الفلسطينية، وبداياتها التنويرية، فبقيت مجهولة لدى أجيال ما بعد النكبة. وحكاية إسرائيل مع الأرض والثقافة محملة بالتباسات التدمير والطمس والنهب المغلفة بالقوانين العنصرية .



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنهم فاشيون إرهابيون وليسوا مجرد متطرفين
- اليسار حركة وتغيير وليس مجرد تسجيل مواقف
- الاحتلال والتهجير والجرائم الملازمة هي عناوين الحالة الفلسطي ...
- هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه 3
- هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه-2
- هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه
- إسرائيل إذ تمثل دور الضحية
- زوبعة أبو اللطف
- تخبط وارتجال ي مواجهة المنهجية المتماسكة والمثابرة
- من اجل فلسطين نظيفة من دنس الاحتلال وجداره ومستوطناته
- لقدس مجال تدافع ثقافي
- أوباما : بشير تحولات أم قناع تمويه؟
- خطة استراتيجية للتحرر الوطني الفلسطيني
- الجدار نقتلعه أم يقتلعنا(3من3)
- الجدار ..نقتلعه أم يقتلعنا(2من3)
- الجدار ..نقتلعه أم يقتلعنا
- المجد لكم يا حراس الأرض
- الدفاع عن الأرض دفاع عن الوطن
- علم النفس الإيجابي وبناء الاقتدار بوجه الهدر
- استحالة التقدم في ظل الاستبداد


المزيد.....




- رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما ...
- زلة لسان جديدة.. بايدن يشيد بدعم دولة لأوكرانيا رغم تفككها م ...
- كيف تتوقع أمريكا حجم رد إسرائيل على الهجوم الإيراني؟.. مصدرا ...
- أمطار غزيرة في دبي تغرق شوارعها وتعطل حركة المرور (فيديو)
- شاهد: انقلاب قارب في الهند يتسبب بمقتل 9 أشخاص
- بوليتيكو: المستشار الألماني شولتس وبخ بوريل لانتقاده إسرائيل ...
- بريجيت ماكرون تلجأ للقضاء لملاحقة مروجي شائعات ولادتها ذكرا ...
- مليار دولار وأكثر... تكلفة صد إسرائيل للهجوم الإيراني
- ألمانيا تسعى لتشديد العقوبات الأوروبية على طهران
- اكتشاف أضخم ثقب أسود في مجرة درب التبانة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد مضيه - محو التاريخ اوهام تبددها شواهد التاريخ الثقافية والاجتماعية