أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحاب حسين الصائغ - الجزء الرابع من رواية (عادت منحرفة)















المزيد.....



الجزء الرابع من رواية (عادت منحرفة)


رحاب حسين الصائغ

الحوار المتمدن-العدد: 2818 - 2009 / 11 / 2 - 11:03
المحور: الادب والفن
    


(3)

"بيارق" فتاة في الخامسة عشر من عمرها. قتلها أخوها بحجة الدفاع عن شرفهِ، أما أمها فقد ادّعت في التحقيق، أنها أثناء ملئها المدفئة النفطية تعرضت للحرق. لم يستطيعوا إطفائها فماتت، كي تبرئ ساحة ابنها من التهمة الموجهة له بخلق قصة. انكشفت في التحقيق إذ قالت: إنها السبب في حرق ابنتها.
بعد الكشف عنها في الطب العدلِي، اتضح أنها قد خنقت قبل أن تحرق، وكانت يداها موثقتين، وأنها قد تعرضت لمحاولة اعتداء، وليس كما أدعت أمها. بعد التشديد على أخيها "يونس" في التحقيق، تبين أنهُ مَن إرتكبَ الجريمة. إحدى الجارات، وهي صديقة لـ"بيارق"، قدّمت إفادة قالت فيها: إن "يونس" حاول الاعتداء على "بيارق" أكثر من مرة، وتمنعه، وتكتم عن أمها الأمر خوفاً منها، لأنها تحب "يونس" كثيراً، هو أحد أبنائها الثلاثة؛ الكبير أعدمْ أمام عينيها لأنه هرب من الجيش، والأصغر مفقود لا تعلم عنه شيئاً، الباقي لها "يونس". هي تدافع عن كل تصرفاته السيئة والمستمرة من اعتداء على الجيران، السرقات التي يقوم بها، معاقرته للخمر، لا تطيق سماع كلمة واحدة عنه من أحد بسوء، علناً تشتم الدولة ومن كان السبب في حرمانها من أبنائها، تعمل ليل نهار من أجل أن تسدد حاجاته التي لا تنتهي من الملبس، والمأكل، والصرف على ملذاتهِ، يلبس أفخر الملابس، وجيبه عامر دائماً بالمبالغ التي تغدقها علية من تعبها. والده متطوع في الجيش، لا يتواجد دائماً، عندما يأتي في إجازة، لا يهمه من أمر البيت شيئاً، لأنه منشغل بعائلتهِ الثانية، لديه زوجة أخرى، عنده منها ثلاث أولاد، متزوج من زوجة شهيد، لديها ولدان من زوجها السابق. "بيارق" لا حيلة لها غير السكوت عن ما يصدر من أخيها "يونس"، لم تجد من تحكي له عن ما تعانيه إلاّ صديقتها "هدى". ذكرت "هدى" في إفادتها أن "يونس" هددَ "بيارق" بالقتل إن لم تطعه قبل يوم من الحادث. عند التحقيق معهُ في أمر الاعتداء، قال: هذا الكلام كذب. إنها كانت على علاقة برجل. أردت معرفته. رفضت أنْ تقول لنا من هو.
أمه تصر على أنها من قتل "بيارق"، مازال أمر التحقيق مستمراً في القضية. "بيارق" ضحية مجتمع كامل، فهي مادامت بنت، لا حق لها في شيء. مَنْ غرس مثل هذه الأفكار في عقول الناس؟ من أوحى إليهم أن البنت فقط هي من يأتي بالعار؟ لماذا لم يكن الخطأ دائماً نتيجة مجموعة أخطاء أساسها الجهل والتخلف؟ لولا إفادة "هدى" صديقة "بيارق"، لم يكشف أمر "يونس"، وادعاءات أمهِ التي أعمى قلبها حبها الشديد له، وحقيقة أخلاقة الفاسدة بسبب دلالها له، وتغطية جميع أفعاله المشينة، ودفاعها الدائم الدائم يجعلها تنزعج من كل مَن يسيء إليه حتى لو كانت أخته "بيارق". ليذهبَ دمها هدراً ويضيع حقها لأنه لا يهم "أم بيارق" أحداً غير "يونس"، وأخلاقه أحاطتها ظروف تجدها أمه قاسية، وكل ما يفعله صحيح في نظرها ما دام هو على قيد الحياة، ولا يهمها القانون، والقانون عليه بالأدلة والشهود. الحقيقة تحتاج إلى أكثر من ذلك. عندما قابلت أم بيارق وحاورتها، لم تقبل أن يذكر اسم "بيارق" أمامها. "بيارق" ليست مشكلتها، بل مشكلتها ابنها "يونس" الذي يجب أن لا يُتّهَمْ بشيء، لا يعيبه أي تصرف، هو رجل، تدافع عنه بجنون، أما "بيارق" فتتهرب من ذكرها، وتوجيه أي سؤال عنها، تجيب: لقد ماتت، أنا قتلتها.. وهذا يكفي، أعدموني؛ اشنقوني، أما "يونس" لا.. لا، إنه بريء.
عندما كنت أبحث في عمق القضية من الجانب الاجتماعي، "يونس" لم يذكره أحد بخير أو جيد. لم يكن حسن السمعة، بعكس "بيارق"؛ الجميع يذكر طيبتها ورقتها. تحيرني مثل هؤلاء الأمهات وتزمتهن. أجد المشكلة في الجهل المغروس في اعتقادهم المنشل والمخترق حتى العظام، الجهل يعم المجتمعات الفقيرة لعدم حصولهم على فرص التعليم، أغلبهم منهمك في إيجاد لقمة العيش، أو البحث عن مصادر لها.
كتبت ملاحظاتي في المفكرة. جمعت الأوراق لأرجعها إلى حقيبتي. رفعت رأسي أنظر الساعة؛ الوقت السادسة مساءً. خرجت من غرفتي إلى المطبخ. هيئتُ لي قدحاً من عصير البرتقال وضعت فيه قطعتان من الثلج، بعد أن أصبح بارداً شربته بهدوء كي أروي عطشي، أخفف من شعوري بالغبن، لأسكت تلك الهموم التي تضج برأسي من أخطاء المجتمع وما للجهل من دور. حان وقت العشاء. أعددت السفرة. جلسنا أنا وأمي و"ساجد" ووالدي، نتعشى سوية. "ساجد" كان فرحاً بما يقوم به من تلطيف الجو بنكاته وعباراته الودية مع أمي، أجدها تثير غيرة أبي. أمي عندما لا يكون أحد من إخوتي في البيت، تكتئب وتتلهى بسبحتها، بالتسبيح والدعاء أن تنتهي الحرب، ويعود كل الشباب إلى أهلهم سالمين غانمين، ووالدي لا يجد ما يخفف شعورها بالحزن على فراق الأولاد. بعد العشاء، دخل الجميع إلى غرفة الجلوس لمتابعة التلفاز. أكملت ترتيب المطبخ. أعددت الشاي. أدخلته معي الغرفة، ونحن نشرب الشاي قال ساجد:
- لو جئتكم بخبر طيب ماذا تفعلون؟ أو ماذا تعطوني؟
أمي دهشت. أبي فتح عينيه وفمه، وبدا عليه الاستغراب، لكن "ساجد" أخذ يضحك. قال والدي:
- تريد الزواج، أليس كذلك؟
أما أمي، فبقيت صاغية لما سيقوله "ساجد". لم تفتح فمها. أنا أيضاً فكرت ربما يريد الزواج. زاد من قهقهته. نفذ صبرنا. قلت له: صحيح ماذا عندك؟
أمي قالت: كل ما تطلبه ونقدر عليه هو لك.
وَجَّهَ كلامه لأمي وأبي: مَنْ فِي بالِكُمْ أكثر شيء؟
أمي وأبي على الفور، أجابوا: من غيركم. قال "ساجد" وهو يزم شفتيه، ويحدق بعينيه، وإمارات وجهه تدل على أن الخبر الذي عنده بالفعل جميل: صحيح.
قلت: هل تسرحت من الجيش؟
قالت أمي: يا الله.. يا الله!
قل أبي: أيعقل هذا؟ ما أصَدّق!
قال "ساجد": لا تحلمون بهذا، احلموا بشيء معقول.
سكتنا لم نجد ما نقول نحن الثلاثة، بقينا ننتظر أن يتكلم هو ليقول ما الخبر الجيد الذي يحمله. تململ بحركة كأنه حكواتي، يدير جلسة السرد التي جعلت كل السامعين يريدون سماع ما بعد الذي يقال. اعتدلَ في جلسته، شيء من الحزم على وجههُ مع هزٍّ من رأسه، تصاحبها رزانة وثبات، قال لنا بعد أن أخرج من جيبه ظرفاً أبيض عليه طابع وختم أجنبي، ملوحاً به وهو رافع يده للأعلى: ما هذا؟
باللحظة نفسها وصوت واحد قلنا: رسالة.
قال: مِِنْ،، مَنْ؟
قلنا: لا نعلم.
قال: أحقاً؟! أنسيتم "سالم"، أم حسبتم، أنه نسانا؟!
تقاطرت دموع أمي على خديها، مع ذكر اسم "سالم". إحمرت وجنتا والدي، أما أنا كمن توقف قلبها عن الحركة. خيم شيء من الغبطة لحظات بين حزن وفرح غير مصدقين ما نسمع. فضَّ الرسالة. بدأ يقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم
أمي..
أبي..
إخوتي..
أختيّ..
سؤالي الأول قبل الجميع عن أمي وصحتها، سلامي لها يحمل شوقاً إليها لا حدود له، أرسله مع كل الحنين.
أبي أرجو أن تسامح طفلك الذي مازال صغيراً دونك، لن أكون رجلاً إلاَّ في ظلالك، يا والدي الحبيب.
إخوتي.. سامي، سعيد، ساجد، سامر، ما أجدكم إلاَّ أزهار قلبي، حديقة صباي، ما هي أحولكم؟ خفقات قلبي محملة بالدعاء لكم بالسلامة من نار الحرب، وهول مشاقها، وما تحملونه من صعاب ومسؤولية، أعانكم الله.
عزيزتي منال ونوال.. كيف هي الأيام معكم، إن شاء الله في أحسن الأحوال.
ابنكم.. وأخوكم.. سالم المحب، الذي لم ينساكم لحظة واحدة، منذ مغادرته البيت، أرجو المغفرة لما سببته للجميع.
انتظاري الرد، مثل انتظار يعقوب لابنه يوسف عليه السلام.
التوقيع: ابنكم/ سالم
انتهى "ساجد" من قراءة الرسالة. لحظات من الصمت خيمت على غرفة الجلوس، ثم رفع يده بصور أخرجها من المظروف: هذه صور "سالم" وزوجته "جانيت"، العفو، "مريم"، قد أسلمت عندما تزوجت من "سالم".
والدتي كطفل أُغري بقطعة حلوى. بسرعة نهضت تريد خطف الصور، وهي تجفف دموعها لتستطيع رؤية "سالم" وزوجته "مريم" بوضوح. عادت للجلوس قرب والدي، تحدثه مبتسمة: إنها جميلة، تشبه "نوال"، يبدو "سالم" منسجماً معها، أنظر إنه يحضنها. أخذت تقبل الصورة التي فيها "سالم" يقف لوحدهِ قرب سيارة، ودموعها مثل مطر صيف، تنهمر وتهدأ، التفت نحو "ساجد" تقول: أكتب له، قل إننا راضين عنه، الله يسعده، يوفقه مع زوجته، إننا ندعو له بالخير، قلبي راض عنه، وبينما تُحّدِث "ساجد"، وضعت الصور في حضنِ أبي وهي تتابعه بنظراتها متفحصة ملامحه، رجعت برأسها إلى الوراء قليلاً، كأنها تعرفه لأول مرة، سألته: هل أنت راض عنه؟ هل سامحته؟ قل.. قل، حتى يرتاح قلبي. أبي يهزُّ رأسه معلناً رضاه، طأطأ رأسه وأجهشَ بالبكاء، احتضنا بعضيهما وبكيا معاً، بكيتُ، أنا و"ساجد" شاركناهما الدموع، تنبهت أمي لنا بينما تمسح دموعها، سألت "ساجد": من أين أتيت بالرسالة؟
أجابها قائلاً: "سالم" أرسلها لصديقه "عيسى قرياقوس"، يعرفه "سالم" من أيام الدراسة المتوسطة، (وَلَد) يقصد صديق "سالم"، جداً رائع، اتفقا على تبادل الرسائل بينهم، عندما قرر السفر طالباً منه متابعة كل أخبارنا وإرسالها له، يسكن شارع (6) في الجهة المقابلة لنا، بيتهم قرب المولد الكهربائية التي نصبت منذ أسبوع؛ أخذ يشير بيده إلى الناحية الشرقية، ما أن علم أنني موجود، اتصل بي وأعلمني بالرسالة. لم أصدق أن الرسالة تخصنا، لأن الرسائل بينهم مستمرة، هذه أول رسالة مخصصة لنا، إلى أن استلمتها، وقرأتها، غير مصدق.
أعلنت ساعة الاستقبال بدقاتها، الحادية عشر ليلاً، استأذنتهم كي أدخل غرفتي، قالت أمي بعد وقت: غداً أنت مجازة، فابقي معنا. بقينا إلى ساعة متأخرة من الليل، كل حديثنا يدور حول "سالم" وزوجته "مريم". كم تمنت أمي لو تم زواجه بيننا، فهو قرة عينها، ثم تعود تقول: لا يهم مادام مرتاحاً وبخير. أصرّت أمي على أن يكتب "ساجد" رسالة لـ"سالم"، وفعلاً كتب رسالة حملتها سلامها ودعاءها، أملت على "ساجد" كل كلام فيها. ما أن تأكدت من مضمونها، حتى طلبت من "ساجد" أول شيء يفعله غداً في الصباح هو إرسالها فوراً.
اليوم الأحد لم نستيقظ باكراً. أنا نهضت الساعة التاسعة. أرسلت سائق والدي ليشتري قيمراً وصموناً. أعددت الشاي والعسل. أيقظت الجميع لنأكل سوية. بعد الفطور (الريوق)، ذهب "ساجد" إلى البريد. أبي وأمي دخلا غرفة الجلوس لمتابعة التلفاز والحديث حول "سالم" وعروسه "مريم". عدت إلى ترتيب المطبخ، نظفت المائدة، بدأت بإعداد طعام الغداء، حسب رغبة "ساجد" باميا وتمن (أرز) على لحم الغنم، والدهن الحر. أنهيت الغداء. أعددت السلطة. في تمام الساعة الثانية كنا جميعاً على المائدة سوية، يشاركنا "سامي" وزوجته "غادة"، قد دعتهم أمي إلى الغداء، لأنهم حالياً يسكنون في بيت مستقل. سألت أمي "ساجد": هل أرسلت الرسالة؟ أجابها: نعم.
بعد الغداء دخلوا جميعاً إلى غرفة الجلوس. أعدت الشاي "غادة" زوجة "سامي". قبل صلاة العصر لم يبق أحد في البيت غير أمي وأنا، حينها قررتُ دخول الحمام لأستحم. الوقت جداً قصير كي أتهيأ لزيارة "رضوان". لبست الفستان البيج، وضعت مكياجاً خفيفاً على وجهي. تعطرت. في زاوية من الحديقة الجهة المطلة على نهر الخوصر، أحضرت كرسيين ومنضدة صغيرة. الساعة تزحف مثل سلحفاة تعمل على سرقة آمالي المتراكمة في رأسي، في لحظات انتظار "رضوان". ها قد أتى، فيما أتمشى معه إلى المكان المعد لجلوسنا في الحديقة، غارقة بخيالات تحوم حولي مثل فراشات أدركها موسم آخر، وهي تبحث عن استقرار يقيها من الاندثار. قال رضوان: "منال".. تعلمين أنكِ أصبحتِ هرم أحلامي، وسكنتِ في ذاكرتي.. أنت تشبهين الموصل التي هي شموس نفسي الثابتة في أبعادها. صمت.. أثناء جلوسنا، استرسلت أعاكس بنظري سطوع ملامحه التي تسكنها صراحة تشبه كسل الطين في سكونه، توحده العميق منساب في صدرهِ العطش، محمل بالرغبة لقطف ثمار النشوى المتدلية على هذا التواجد الأول بيننا. عاد للحديث: "منال".. لا تعلمين شيئاً عني غير ما طرح في زيارة يوم الجمعة من قبل أهلي، لذا طلبت من والدك أن يجمعنا لقاء مثل هذا، تؤوب لحظاته بحفنة من قناعات كي نشق خاصرة الزمن، ونسجل أحداث حياتنا بفاعلية تاقت لها نفسي، بعد رجوعي من الأسر، حتماً لا تدركين مدى قسوة تلك الأيام، نعت سنينها تلك التي سرقت من عمرهِ، لا تعلمين أيضاً ما أكنه لهذه المدينة من حب كبير، هي مصب طفولتي وذكرياتها، أبراج صباي والسنونوة المتوغلة في عمق أنفاسي، هي كل ما يشع على دروب أيامي في الأسر، أعطر فؤادي بأنس لياليها، كالعاشق الولهان أستيقظ ظمآن لصباحاتها، أضفر الحكايات المزدانة على شواطئ دجلتها، لمن معي من الشباب في الأسر، كلنا؛ يحز انكسارنا، ما يجمعنا من ذكريات نسقي بها الوقت المهدور من أعمارنا، وحديثنا يعمه الحنين للمدن التي تفرعنا من جذر وجودها، كلنا عراقيون مهانون يحط علينا ركام تلك الحرب بكل ثقله، لا فرق بين معاناتنا، أياً كنا من طوائف وقوميات وأديان مختلفة؛ مسلم ومسيحي ويزيدي، مصلاوي وبغدادي وبصراوي وزاخولي وميساني وكركوكي، أُميّون وذوو شهادات جامعية لا فرق بيننا، مقاماتنا واحدة، نقضى في الأسر الوقت تحت سقف الانتظار والأمل في الخلاص، نتقاسم وحدات الملل بالقوة نفسها، نعيد صياغة قلوبنا بالحماس نفسه، نتذكر الأهل بالألم نفسه، يمزقنا ترياق الغربة المفروضة علينا بعنف الصبر المنقوعة به جلودنا، تخترقنا كآبة المجهول المنتظر، لفك قيودنا، بطهر النساك حين يغربلون دعواتهم من أجل أن تصل مداها المرغوب في ذواتهم الممزوجة بالإرتواء من الحب الإنساني، سحقت الفوارق، بتوحدهم العائد من السقوط تحت ظل خالق واحد، نحن المتشبعون من ظلم الطغاة، تجمعنا أسمال لها الهيئة نفسها، ما ننعت به من أرقام هو ما يفصل حبات مسبحة الأسر، تضمنا نعومة داكنة في عصمة براري القيود، أعواد أيامنا غافية فوق نار الفراق، مازال دخانها متشعب في جيوب الرئة، في مسامات جلدنا نحن العائدين إلى الديار، أثقلتنا اللحظات التعيسة، خلقت شيئاً من عدم الثقة بكل ما يحيط هذا العالم... تنهد وأكمل: لو تعلمين كم قلقي كبير في هذين اليومين، عادلَ سنين الأسر التسع، في هذين اليومين اللذين حددهما والدك للرد علينا، يوم تقدمنا لطلب يدك، سبب قلقي كان لأنني أسير، تصورت أنك سترفضيني، الآن بعد أن نلت شرف الموافقة، أشعر أن العالم بسط جناحيه من جديد على قلبي. صمت لحظات ناظراً نحوي بعينين تألقهما طفولي. قاطعته بقولي: اسمح لي بلحظة من الوقت. بحركة من عينيه ترافقها بسمة خفيفة من فمه، حملت علامة الموافقة، أذابت جبال الثلج القابع في سكون الخوف يصاحبة الخجل، باندحاره تدفقت حرارة العاطفة في ضلوع صدري، مثل تدفق مياه محبوسة خلف أحد السدود، أُعطيتْ له فرصة الانسياب نحو دروب متعرجة في أراض فسيحة، قد أشقاها الجفاف، بينما سرتُ متجه نحو المطبخ، كدت أتعثر في خطواتي، كي أجلب العصير وقالب الكعك. غبت لدقائق وعدت حاملة صينية فيها العصير وقطع الكعك. نهض واستقبلني وأخذ مني الصينية، قائلاً: لماذا تتعبين نفسكِ. عدنا لجلستنا، قدمت له طبق الكعك وقدح العصير، ثم وضعت أمامي الطبق الأخر مع قدح العصير. بادرني بالسؤال، قائلاً: حدثيني عن نفسك؟
- في أي شيء؟
- ما تحبين قوله.
لم تسعفني ذاكرتي بأي كلام، تخيلتها مسحت. كي يتدارك ما أحسست به من خجل، قال: ماذا تعرفين عن هذا النهر؟
نظرت إلى النهر.. مازالت فيه خيوط من الماء تعمل بجد على الجريان، كأنها تريد أن تثبت للرائي أنها تحمل بقية من الحياة. بحركة من رأسي ويدي، حمل جوابي صفة النفي، أخذ يحدثني عن نهر الخوصر، فصّل لي تاريخه، وأنا بين مندهشة لما أسمع، غارقة بكلامه السلس، صوته الذي يحمل نغمة عذبة سمعت شدوها في أيام الحلم المكفن بالمجهول، اليوم انطلق سراح الحلم، وعلت سمائي جلجلة الحياة مع ظهور "رضوان"، ها أنا أمسك شراع الانسياب مع دفعات الرياح الآخذة في سيرها تجاه التوافق الروحي، ككل الفتيات اللواتي فتحت الحياة لهنَّ ذراعيها، واحتضنهم الأمل، في تلمس وجه العذوبة. بعد أن سكت، قلت:
- وجودك في حياتي هو قمة سعادتي، حياتي مثل فروض كتاب مقدس معروفة لدى الجميع، أما طقوسه، شرائع مفهومة لا يحيد عنها مؤمن، حركتي محفورة في قلب من حولي، من يريد أن يقرأني يحتاج الخشوع.
- هذا ما لمسته فيك من أول يوم رأيتك، عندما سألت عنك في مكان عملك، توسدتِ في عمق قلبي ببراءتك.
- متعجبة كيف؟!
- عقل المرأة عندما يكون نقياً من الداخل، يكون قلبها كبير، عامر بالحنان، وأحاسيسها مدركة للحياة.
ثم تابع قوله:
- سأعمل على إتمام أمر زواجنا في أسرع وقت. اكتبي لي في ورقة كل ما تحبين لبيتنا الجديد. غداً نعقد في المحكمة. اتفقت مع والدك على كل شيء. الآن عليَّ الذهاب لزيارة صديق لي قد عاد من الأسر، قبل يومين.
سرنا إلى باب الدار. حمَّلني سلاماً لأبي وأمي و"ساجد". بيني وبين نفسي تمنيت أن يبقى أكثر، ربما ليس كل الأماني تتحقق.
صباح يوم الإثنين، في المحكمة أمام القاضي، يقف والدي و"رضوان". حين قال القاضي لوالدي: ردد ما أقوله. قال والدي:إن شاء الله. والدي يردد: رضيت تزويج ابنتي "منال أحمد علي" على "رضوان حامد توفيق"، بمهر مقدم مليون دينار مقبوض، ومؤخر (40) مثقال ذهب مقبوض، على بركة الله.
"رضوان" يردد: قبلت بالزواج من "منال أحمد علي"، على سنة الله ورسوله.
شهد الشهود على عقد زواجنا الذي تم هذه الساعة. علت زغاريد من "أم رضوان" دخلت رناتها مساماتي. سرت بفرح في شرايين جسدي. بدا الخجل واضحاً على وجهي. أمسك بيدي "رضوان" مهنئاً كلينا. حين لمست يداي يديه شعرت أن الشمس تبارك زواجنا على السراء والضراء.
رجعنا من المحكمة إلى بيت "رضوان" لتناول الغداء عندهم. "أم رضوان" تغمرها السعادة، وهي تتحدث لأمي عن الجهاز وما يحتاج الطابق الثاني من تأثيث، والذي سيكون عش المستقبل، وسألني "رضوان" إن كنت قد جهزت الورقة التي طلبها مني، قلت: نعم، لكنها في البيت.
تبادلنا الحوار حول بعض الأشياء. جلب "رضوان" ألبوم صوره. أطلعني على صور حياته منذ الطفولة، وأيام كان في فريق الكشافة، يبدو في الصورة أنيقاً جداً ومرتباً أكثر من زملائه الذين حوله. قلت وإصبعِ يشير إلى الصورة:
- ألم تشارك جماعتك الفعاليات؟
- كيف؟
- تبدو في الصورة أنك غير مشارك.
- لماذا؟
- قيافتك توحي بذلك.
- منذ طفولتي أنا مهتم جداً بمظهري والاعتناء بملابسي وقيافتي، تعلمت ذلك من أبي الله يرحمهُ.
تابعنا جميع الصور التي في الألبوم، بالفعل صور كلها جميلة، منسقة حسب السنوات، لكل سنة ألبوم، أما سنوات الأسر، اعتبرها "رضوان" سنوات مُسحت من حياتهِ، لذا أعد ألبوماً واحداً لكنه فارغ. التفت إليَّ قائلاً: في العمر بقية، سأعوض كل ما ضاع من سنوات دون مبرر، أو لنقل، ليس من أجل شيء يستحق الذكر.
قبل صلاة العصر، عدنا إلى البيت. أبي في طريق عودتنا عرج على الجامع، و"ساجد" استقل حافلة نقل متوجهاً إلى الدواسة، لمقابلة أصدقائه وقضاء وقت معهم. ما أن وصلنا البيت، حتى هاتفت أمي أختي "نوال" تدعوها لحضور الخطوبة والزواج، وأعلمتها أنه سيتم كل شيء في غضون أسبوع على الأكثر.


(4)

اعتمدت حفلة الخطوبة الجو العائلي البسيط. دعوت صديقتي "بشرى" التي حضرت مع ابنها الصغير "غدير". علت لحظات الحفلة حيوية رائعة، لا إسراف ولا مبالغة. أهل "رضوان"، وخالاته، وأولادهم الصغار. لبست فستان الخطوبة الوردي اللون الذي جلبته هدية لي "نوال" من بغداد بهذه المناسبة. "رضوان" جالس بقربي. صوت المسجل يصدح ببعض الأغاني الحديثة. لم تعجب "أم رضوان" تلك الأغاني. قامت تغني أغاني مصلاوية قديمة، مثل [يردلي، يا سماق، دنضغ نضغ، يا قضيب البان]، أضافت للجلسة روحاً وطعماً خاصاً بتلك الأغاني الشعبية الجميلة التي من تراث الموصل. كم أسعدت "رضوان" تلك الأغاني. همسَ لي أنه يود جمعها في كتاب. الجميع اندمج مع ما غنته "أم رضوان" يرددون معها ويزغردون. أتت "أم رضوان" بعلبة مغلفة بقماش مخملي وفتحتها قائلة لـ"رضوان": ألبس العروس (النيشان)، وهي بين كل كلمتين تطلق زغرودة. أخذ (الحلقة) خاتم الزواج، أمسك بيدي، ألبسني أياها، أمه تزغرد، ثم (المنتشي) قلادة من الذهب، أمه تزغرد، (مفردات) الأساور، أمه تزغرد، (المراود) الأقراط، أمه تزغرد، أخيراً بعد أن انتهى، أتت "نوال" تدعونا والجميع إلى مائدة الطعام المعدة بشكل رائع وجذاب، لما تحويه من أنواع الحلويات والمرطبات والفاكهة، تضيف أطباق والدتي الثمينة وتحفها النادرة، تحتفظ بها والدتي لمثل هذه المناسبات؛ الشوكات والملاعق والسكاكين الفضية وأقداح الكرستال، كلها شاركت اليوم بتزيين مائدة الخطوبة. تقدمت "نوال" آخذة بيد "رضوان". هو يمسك يدي، وقادتنا إلى قالب الكعك المصمم على شكل هرم، أعطته سكيناً مربوطاً في عنقها باقة ورد جميلة وطبق كي يقطع منها قطعة ثم يطعمني، وبعد ذلك يشاركنا الضيوف. والدته تزغرد والكل معها يغني ويصفق، قد هيأ "رضوان" كاميرات تصور هذه اللحظات السعيدة. بعد أن قطع لنا قطعة، رجعنا للجلوس مكاننا. دارت حوارات بين الحضور. هم منشغلون بالتذوق وابداء الرأي بينهم في كل ما يخص الحفلة. طلب "رضوان" من أمي أن يكون يوم الإثنين موعد الزفاف. رفضت قائلة: غير مستحب يوم الإثنين للزفاف. قال "رضوان" مندهشاً: لماذا؟ أخذت أمي تشرح الأسباب. نظر "رضوان" إلي! إنها خرافات لا وجود لها، أيدت والدة "رضوان" كلام أمي، أما هو فقال: إذاً الخميس. أعلن أمام الجميع أن يوم الخميس هو يوم الزفاف، لا يوجد يوم (الأربعة)، يوم يحتفل بهِ أهل العروسين، ويقدم فيه للعروس الهدايا. مع تقادم أيام الحرب تلاشى ذلك اليوم من مناسبات الزواج لما يحتاجهُ من إعداد وتهيؤ. علم كل الحضور بموعد يوم الزفاف، هو اليوم الذي مّسته يد الحرب بخنجرها. يوم الزفاف الوحيد الذي بقي على قائمة طقوس الزواج، لا يوجد فيه أكل ولا شرب، السيارات فقط، تأتي من بيت العريس مع كل الحضور، لتأخذ العروس من بيت والدها مع كل الحضور، وسيارة العروس، يفضل أن يكون لونها أبيض آخر موديل، وتكون مزينة بأشرطة وورود لها أبهى الألوان. الزفاف له قدسية خاصة مهما اختلفت الظروف، ورغم كل المعاناة التي مرت بها المدينة، لم تتغير طريقة الزفاف في الموصل، خصوصاً وجود السيارات التي تقوم بجولة في المدينة بعد أن تأخذ العروس من بيت والدها. أمها لا تشارك في الزفاف، وإخوانها الذكور يختفون من البيت ذلك اليوم. الزفاف لم تمسه يد كوارث الحرب والحصار. التقليد سائد، أما باقي الفقرات أكثرها أُلغي، فسابقاً عندما يقرر أهل الشاب الإقدام على زواج ابنهم، حتى لو كانت العروس من الأقارب، أولاً تذهب أم الشاب عند أهل البنت لتجس نبضهم بالقبول، أو الرفض، ثم يذهب من وجهاء أهل الشاب إلى بيت والدها، بعد ذلك تحصل موافقة، يذهب أهل الشاب من النساء إلى بيت البنت ليتحققوا من أن العروس مناسبة حسب نظرتهم، ما أن يقتنعوا بها كلياً، يتم إعلان الموافقة العلنية بين الطرفين، وتتم باقي الخطوات، (النيشان ) و(الحنة) و(الزفاف) و(الأربعة أيام)، ويكون عقد القران في البيت لا يوجد فيه احتفال، يذهب والد العريس إلى المحكمة ويأتي بالقاضي إلى بيت العروس ويحضر وكيلها أمام القاضي، والعروس من وراء حجاب يسألها القاضي: هل أنت راضية وموافقة على إتمام هذا الزواج؟ تجيب هي بكلمة: نعم. ما أن يسمعها القاضي حتى يستمر بإكمال باقي الموافقات وأخذ شهادة الشهود.
تم زفافنا بتسع سيارات، منطلقة من بيت "رضوان" إلى بيتنا. خصص "رضوان" سيارة تحمل آلة تصوير لتوثق موكب العرس. شمل الفرح بقعة من مدينة فؤادها بحجم قرص القمر، محرراً نقاء عنصر تجزأت ذراته بصدر فستاني الأبيض، ناثراً الألفة على سيارات الزفاف، كخيول متسابقة باتجاه فراشات ملساء، معبرة ببراعة عن تناسل المحبة، مسجلة عنف الود المتزايد. اشترك الأهل والأصدقاء في رمي سهام الغبطة بعبارات تحمل معاني الفوز. مع ساعات النهار الأخيرة، انسحب المهنئون، آخرهم أختي "نوال" وبنتها "شيماء". بعد ذهاب الجميع، رحّب درج الطابق الثاني بصعودنا المتمثل بالكمال، على لحن أسطوانة تعطي ثمار أجمل الأنغام، تحيي خطواتنا بانحناء صوتها الرخيم، أثناء توجهنا إلى المكان الذي سيحوي أول أسرار حياتنا، يد "رضوان" تحيط خصري برفق السحاب المحمل بمطر غزير يريد الهطول، سرى شعاع في جسدي أيقظ خيال ريشة فنان سكنت داخلي لمساتها الفضفاضة ترسم ساعات البياض من آراء الليلة، برزت منسجمة من حكايات الشظايا المتكسرة على سفح جبل شاهق تركها "رضوان" غافية على وجه الحنان معمماً بابتسامة مباركة من شفتيه لسنين هي أمنيات. بينما أتفجر شوقاً للتحليق والتحرر من لغز الصراع لقدر طازج يهيل تراكمات من قشور ماكرة كانت تنوء على أصابع مدثرة بوهم لابد منه. سألني رضوان: هل تعرفين شيئاً عن الموسلين؟ كأنه يريد أن يعيدني للطيران حوله هو فقط. بتأنق صادق يصاحبه الخجل، قلت: لا! قال: الموسلين قماش من القطن، برع أهل الموصل في صناعته في زمن ما لدرجة أن أصبحت جودته تضاهي الحرير، أعتقد في عهد الرشيد، لذا اشتهرت الموصل باسم مدينة الموسلين.
فيما هو يحدثني وصلنا باب الغرفة في الطابق الثاني. دخلناها سوية. سبقني بخطوتين. بقيت واقفة مكاني. رشقني بنظرة تأمل، ثم تقدم نحوي مبتسماً. رفع عن وجهي الطرحة (الادواخ). قبّلني. ضمّني إلى صدره. طوّقني بذراعيه هامساً في أذني: الآن أريد أن أتشبع من لحظاتنا الجميلة، أنت الموصل التي حرمت منها سنين، أنا عاشق ملتاع لفراق حبيبته. "رضوان" لا يترك فرصة لذهني دون أن يشحنها بعبير الذكريات. أجده يربط بدقة عجيبة كل دقيقة لا يفصلها عن سواها بيني وبين الموصل، حتى أكاد أشعر بالغيرة، بطبع المرأة وحبها لامتلاك الحبيب. أسأل نفسي: من منا لا ينساها، ويحبها أكثر؟ هي أم أنا؟!
لم تمر ثوان على ضمه لي حتى بادرني بسؤال آخر: هل تعلمين كم اسم أطلق على مدينة الموصل؟ أكثر من تسعة أسماء، منذ زمن تأسيسها الأول قرب تل قليعات بعد سقوط نينوى سنة (612 ق. م.)، حتى ظننت أنه سيقضي الليل بطوله، يحيرني بحديث قد أجده مزعجاً بعض الشيء، ثم تابع: لا تتعجلي معرفة كل شيء، دعي ما حولك وقبليني. أخذ يسقيني هجمات نزواته، يروي طرف رغبتي الوحشية، يفتنها بقلائد مؤثثة بحشمة تصهر حيائي، تنسيني بلاط العذرية، تفك نشاط الليل الدؤوب، بأسلوب ذي تأثير فعّال يحمل لزوجة شهواته الجياشة، تارة يستعين كالغزاة بتأجيج نار غرائز اللحظات على طاولة الاعتبار الناضج، الليل يتسرب بين الاشتياق والنشوى، تطالعني الهواجس لمفاتحته في أمور أجهل مضامينها، يسبقني "رضوان" كيفما تلتزم الحكمة بتسليمي مفاتيح السعادة، دليل عاقل، يفهم ضرورة تطوير اللحظة، مستهلاً أي محاولة مني ليدخلها بجدية النقاش، كصوفي ابتكر طرقه، مأخوذ بتأمل مفرط، ليشكل مفاهيم جديدة، تعود بي إلى تشذيب لهفة وجودنا سوية، بتفوق يفهم موازين الجسد والروح، أتقبل ببساطة الوقوع في شباك غرامه ليعلو بصيص الهمس ببراعة، تُجَذّر أنين خفقات القلب، طالباً مني ركوب قوارب أكثر بهجة ومرح، لتحقيق أعلى لذّات واقعية كي نتوصل إلى قناعاتنا بأمان، تشدو بنا دون تعصب، يزيد من عمق رؤيتنا، حتى لا نقع في مصيدة خواتيمها التناقض، لنجد الفجر يستحم ببهاء مع سطوع ساعات النهار الاولى، "رضوان" يصقل جسور المودة بيننا، جاعلاً أول أسرار العمر تلائم مهد أيامنا بالسعادة في ولادة الليلة الأولى استنشقنا أجواءها سوية بين جدران غرفتنا، مستجمعاً حبال الوهم داخلي، رامياً بها في بحار لا يعرف لججها حتى القراصنة، تسربت خيوط الشمس عبر ستائر الغرفة، تعلن يوماً جديداً مزاياه تقع في فؤادينا، شهدنا هروب تلك الليلة التي ذابت مع تموجات الأثير بصمت من أجل أن لا تزعج هناءنا.
مع أول شهقات الصباح، انسحب "رضوان" من السرير بهدوء، أخذ معه منشفة بيضاء اللون، وهو خارج من الغرفة رمقني بنظرة حنون قائلاً: خذي راحتك، واسمحي لي بلحظات أغيب عنك ثم أعود.
خرج من الغرفة. تركني أتأمل محتوياتها. أتابع بنظري كل شيء موجود فيها؛ الستائر لونها أبيض، تتخللها رسومات شفافة باللون الأزرق الفاتح، قرب النافذة كرسيّان يغطيهما قماش مخملي أزرق غامق تطفح نقوش فضية خفيفة بتناسق رائع بالكاد تسطع تحت انعكاس الضياء عليها تشبه نجوماً متلألئة، ثم السرير (التخت الملوكي) كل ما عليه من أغطية بيضاء اللون، على جانبي السرير (كومدينو) من خشب الصاج حفرت عليها نقوش بدقة ومهارة، تبدو أنها طراز قديم لكنها محافظة على جمالها. نزلت من على السرير، أخذت أتجول في الغرفة، فتحت ستاراً من قماش التول المخرم بياضه الناصع يثير الدهشة، يمسكه من الجانبين والأعلى إطار خشبي مقوس تقدمت منه، فتحته، شيء رائع؛ مكتبة، كتب، منضدة للمطالعة، كم رائع وجود المكتبة في هذه الجهة من الغرفة، أدركني احساس لذيذ للجلوس والمطالعة، ما تحمل هذه الكتب من أفكار معبأ في رأس "رضوان"، لأنه ما أن نكون سوية حتى يبادرني بسؤال، أو أكثر، في لحظات أبحر مع ألف ليلة وليلة، لأكمل تفقد ما في الغرفة، وجدت باباً إلى جانب المكتبة دفعته، دخلت، أنا بين الواقع والخيال، جدتي وحكاياتها تحط معالمها هنا، كل ما بهذه الغرفة يعلن ذلك ما دفعني للبحث عنها بين تلك المحتويات، لا أريد أن أُعْلّق بالماضي، لذا عدت إلى الوراء تاركة الغرفة، متذكرة زيارة "رضوان" لنا وجلوسي معه أول مرة في حديقة منزلنا. حين جلسنا قرب السياج المطل على نهر الخوصر، انساق بالحديث عنه بعد أن سألني ماذا تعرفين عن هذا النهر الرضيع، قلت: لا شيء. حينها حدثني بكل تفاصيل النهر وأسباب وجوده منذ ايام الملوك الآشورية: هذا النهر أحد القنوات التي للري في عهد الملك سنحاريب، من ملوك الدولة الآشورية، لسقي البساتين والمزارع والقرى على جانبيه، يصل منبع نهر الكومل في (كلي خنس) ليمتد إلى نهر دجلة في مدينة نينوى التي تحوي القصر الملكي، المحتوي على مكتبة الملك آشور بانيبال، قد ضمت عشرين ألف رقم طيني، فيها كل ما يتعلق بسجلات ووثائق ومعلومات تخص الدولة الآشورية آن ذاك، (كلي خنس) مكان اصطياف ملوك آشور. قبل بناء السدود والقنوات الإروائية، مرت سنوات جفاف ما دعاهم لبناءها، منها قنوات مرئية عليها قناطر، ومنها غير مرئية على شكل أنفاق، لابد أنك شاهدت النوران! الماء يبدو أنه يأتي من تحت الأرض، في الحقيقة هو قناة مائية، غير مرئي، يجري تحت الأرض في بعض الأماكن، ماراً بالقرى التي على جانبيه، يوجد سد ما زال موجوداً، يعرف حالياً بالشلالات.
أدهشني ما يملكه من معرفة راسخة في قلبه عن المدينة، سألت نفسي: كيف عرف حكاية النهر؟ أنا التي لم تبتعد عن الموصل، لا أعرف حتى أسماء شوارعها، علمت الآن سر نهر الخوصر. الله كم جميل أن يكون الإنسان مشحوناً ببسمة وجدانية. من يسمعه يتحدث بلغة رومانسية يطغى عليها العقل والواقع المحصن بالمعرفة. لـ"رضوان" روح وشخصية مميزة، يعرف سبب إبحارهِ العميق. واضح ذلك في تناسق ديكور الغرفة، وألوانها، كل ما فيها يدل على ذوق رفيع، وثمرة جهد لم يأت من العبث، نبهني طرق خفيف على الباب.
عاد "رضوان" والبهاء بادٍ على وجهه، كنجمة الصباح حين تصب رقّ حسنها على الليالي الغافية بعد أن دهمها ضياء الفجر. لا غيوم في سماء أيامنا الاولى. الفرح متعاضد مع السمش، والسطوع واضح بيننا، يحملنا حلم حاكته براري عواطفنا وهي باحثة عن ما أؤتلف من عبير الكلام في قنوات الفكر، كأوراق ناصعة البياض.
مرت سبع ليالي، حلّقنا فيها تاركين عصر أفقها في ضحى يوم آخر، تغرز اهتماماتنا جهود مشعة بأمان، قمحاً من سنابله الطرية. لم نخرج من البيت. لم نستقبل أحداً، وقت الطعام نكون إلى المائدة مع جده وأمهِ، كأننا ملائكة ننزل عليهم من السماء، يحفوننا بود رائع، ثمك نعود إلى غرفتنا، أما في اليوم السابع عند الساعة الحادية عشر، علم عبر الهاتف من بعض أصدقائه، بحضورهم لأمر مهم. بينما أستعد للذهاب لزيارة أهلي، هذه الزيارة ضمن تقاليد الزواج التي لم تسقط فروضها، اصطحبني "رضوان" إلى بيت أهلي، بعد الغداء اضطر لتركي عندهم، من أجل استقبال أصدقائه. في المساء أتى لأخذي. في طريق عودتنا إلى البيت، المسافة ليس ببعيدة، أخذ رضوان يتحدث قائلاً:
- اشتقت لك كثيراً.
- أنا أكثر، لم تغب عن بالي لحظة واحدة طوال اليوم.
ثم استمر في الحديث:
- أجهل كيفية التغلب على مساحيق تأتي من عبير الطين، حين تشهد نفسي مهاوي التردي التي نمر بها منذ سنين، عركتنا ظروف ممزوجة بشغف يمتد إلى أعماقنا، مات من مات منا، فقد البعض الآخر، لم يبق غير المعوق، والمشكوك في جديته الصريحة للحياة، سافر من يملك ذرة من الوعي، عملية القمع التي مورست برمتها علينا، لكم كانوا خبراء في صناعة الأقنعة، أما من حاصره القدر، كتموج حلقات الماء حين يرمى فيها حجر، شقت خط عالمه، أصبح لا يستطيع الولوج في المستقبل، أخذته قنوات الزيف للسير مرغماً.
- أتحسّسكَ كدولاب تحركه قوة مليون حصان، تريد مسك ما سكن في ضلوعك من ألم.
- "منال".. خبرتي بدت لا تعرف الصعود إلى فوق، فقط أريد استعادة عافية فكري وصحتي في أسرع وقت.
- تسحرني قوة إيمانك، شجاعتك، لكن ما يسكنك من عذابات لا يدركها سيل، ماذا نفعل إزاء الذي حصل؟ ومازال مستمراً بصور أخرى. انتهت الحرب، هذا في الظاهر، أما ما يحصل الآن من خراب تركته تلك السنوات، جعلنا عاجزين عن دفعه، مس حتى الطير في السماء، شمل أعقاب أدق الأمور اليومية، مخلفة جروحاً عميقة لا تندمل بسهولة. كم من النساء ترملت، وأطفال تيتموا، لا يعرفون عمهم من جدهم من خالهم، إلاّ بعد سنين من أعمارهم يكتشفون أن من يرعاهم، هو أحد الأقارب، أو زوج أمهم.
- نحن الرجال أصبحنا نعيش فراغاً في معاني وجودنا.
- أنا لم أعش مشكلة أو أتعرض لمواقف صعبة، لوجود أهلي وتحفظهم وعدم اخطلاطهم بالمجتمع، لكن من ناحية عملي، تعايشت مع ما صادفني من معاناة تمر بها النساء، وما أصابها من ضرر كبير في صميم دواخلها، أتألم لألمهم، أسعى بكل طاقتي لمساعدتهم، الشَّق كبير، نحتاج الكثير كي نسيطر على الوضع.
- أنا سعيد بوجودي معك، تسحبني الحيرة لاستطلاع قلبي كي أمنح مسرح حياتنا الزوجية فضاء أوسع.
أخذ "رضوان" يدي كعصفور شعر بالبرد، دسها تحت إبطه، باليد الأخرى عالج الباب. جده وأمه ينتظرانا على العشاء. أثناء شربنا الشاي، أخذ يحدثنا عن أصدقائه، كأنه في محراب يتعبد، يضم صوته خفوتاً خارجاً من سنين الأسر، غاصاً في عمق موجز، قال:
- لم تجف نفوسهم، ما زالت تعمل على غسل الأتربة العالقة بالعمر المر، بالتعاون في خشوع تحمله عقولهم الناضجة، مع اختلاف المعتقد، كل واحد منهم مؤمن بجذورهِ، وسماء بلدهِ، كنا معاً في الأسر، لم نفترق لمدة تزيد عن السنتين، "خالد الشيخ" من سنجار، "على ناسو" من سنونو، "عباس حمدون" من تل عفر، تفاجأوا بخبر زواجنا، لذا طلبوا مني زيارتهم، ليقوموا بالواجب، كم سعدت بلقائهم، تجمعنا المعاني الإنسانية نفسها، يختفي بيننا أي شعور خارج حدود الألفة والمحبة، يقود جمعنا التوحد الروحي، أفكارنا تطوف في محور ما عانيناه، وما يدور حالياً من أمور، حدثني "خالد" عن أخيه المفقود، عن أطفاله وزوجته التي تعيش معهم في البيت نفسه، لم تتركهم ينامون في غرفة واحدة، يأكلون سوية لا فرق بين جد وحفيد، كما تعرف يا أخي والدي فلاح، ليس لديه غير أرضه التي يزرع في جزء منها التبغ، على قدر صحته الآخذة بالنزول، وبيت الطين هذا لا نملك غيره، تساعده أمي وزوجة أخي "أم وليد"، والتي تربّي الدجاج والأوز، خمسة أطفال في المدارس يحتاجون مصاريف كثيرة، مدارس اليوم غير مدارس أمس، أيام الحرب كانت أفضل، المعلمون يطالبون الأولاد بأشياء كثيرة، إذا لم يقدم الطالب ما يريدونه، لا يهتمون به،، بل قد يكون تحت رحمتهم، تصور أمس ذهبت إلى مدرسة "وليد" أكبر أولاد أخي، بناء على طلب من معلِّمه، ما أن قابلني، وعلم أنني أملك دكان كماليات، حتى انهال علي بطلبات لا أعلم كيف أوفيها! اليوم اشتريت بعضاً منها، من هنا، من الموصل، بدون حياء أو خوف، قال لي:
- إذا كنت تريد أن ينجح "وليد".
- لكنه كفؤ، ثم هو يدرس جيداً، أنا اتابعه.
- هذا شيء خارج عن الموضوع، وفّر لي كل هذه الأشياء، حاجتي لها ضرورية.
- سوف أشتكي للجهات المختصة.
- لكن راتبي لا يكفي.
- لا داعي للدروس الخوصوصية، اهتم به قليلاً في المدرسة، سوف أشتكي للجهات المختصة.
- اذهب أينما يعجبك، لا يهمني، سيفصلونني أليس كذلك؟ أفضل لي.
في طرق عودتنا، قال وليد:
- عمي.. كل المدرسين هكذا، يقولون إن رواتبهم لا تكفي شراء طبقة بيض، من أين نعيش؟ أما الدروس الخصوصية، أصبحت أسلوباً لابتزازنا، مستقبلنا بيدهم.
- عزيزي "رضوان".. أبناؤنا مهدّدون بهذه المفاهيم المغلوطة من قبل المدرسين، عوائل كثيرة لا تستطيع دفع تكاليف الدراسة، لولا أن والدي ادّخر راتبي في سنوات الأسر، كيف كنت أفتح هذه المحل، هو بالكاد يسد نفقات مدارس أولاد أخي، هم أمانة في رقبتي، أمي تلح في زواجي، أعلم جيداً ليس هناك امرأة ترضى برجل ذي عاهة، عيني التي فقدتها في الأسر، من يعيدها لي؟!
بتنهدٍ سحب نفساً من صدره الموجوع، الفتاة التي كنت أحبها ماتت وهي تلد، بعد أن زوّجها والدها من رجل عجوز، لأنه ميسور الحال، أعلم أنها ماتت حزناً وكمداً لفراقي، بنتها الآن عمرها سبع سنوات، تشبه أمها لدرجة يصعب على من يشاهدها أن يصدق، "هدية" ماتت، زوج "هدية" يأتي بابنته إلى السوق لا يقدر على فراقها لحظة، بنت عمي ترملت ولديها طفلان، تقول أمي إنها موافقة على الزواج مني، لكني لم أشعر ناحيتها بأي عاطفة، أو حتى مجرّد قبول.
قاطعه عباس بقوله:
- مادامت تقبل بك، ولا يوجد فيها ما يعيبها، هي جميلة كما ذكرت، وصغيرة، فوق كل هذا هي راضية بك، والداك لن يبقيا لك طول العمر، أفضل مما تبقى بلا زواج، على الأقل عندما تعود إلى البيت تجد من يرعاك.
شاركه علي بقوله:
- نحن "معك" يا عباس، صعب أن يرتبط رجل بامرأة لا يحس ناحيتها بأي عاطفة، يكفي ما ضاع من أعمارنا في الأسر وسنين الحرب، الإنسان لا يعيش مرتين، فلماذا يحاصر، ما يفرض علينا جميعاً مضطرون عليه، مثل الحصار الذي يسحقنا كالحادلة بثقله، أما أن نضع سلاسل بأيدينا حول رقابنا، ونحن قادرون على تجاوزها، هذا هو الخطأ بعينه، في رأيي يتريث عله يصادف من تكون أكثر قبولاً في نفسهِ.
والتفت "علي" نحو "رضوان" مستنجداً بتأييد منه على كلامه، قال "رضوان":
- أنا مع رأيك يا "علي"، الزواج عشرة عمر، ليس حالة صداقة مزمنة، الزواج هو علاقة بين إنسانين، تكون ناجحة في حالة التكافؤ، ثم إنها أجمل علاقة إنسانية في الوجود.
بعد لحظة صمت سادت، عاد "رضوان" لسؤال "عباس" عن أخبارهِ. هدوء "عباس" يحمل الحزم والود. أخرج من جيبه علبة سجائر وولاعة (مقدحة)، عرض علبته على أصدقائه، رفضوا التدخين، أشعل لنفسهِ سيجارة، نفث بدخانها، ثم قال:
- نزلنا إلى الموصل، نريد شراء سيارة، ليشتغل عليها أحد أصدقائنا، هو مشروع صغير ومتعب، لكنه يخدم صديقنا "صقر"، الرجل معوق، لديه أربعة أطفال، سيارته التي استلمها من الدولة ثمن ساقه التي بترت أيام الحرب، اضطر لبيعها، صرف ثمنها على مرض زوجته، زرناه قبل مدة، حاله يفطر قلب الحجر، لذا فكرنا بهذا الموضوع، قد نفيده بعملنا هذا، لجأنا لك لنأخذ رأيك، لأن ما تملكه من خبرة قد يساعدنا، لأنك أيضاً أكثر منا معرفة بسواقة السيارات، وأنواعها، ربما عندك صديق في المعارض.
هزّ "رضوان" رأسه، كأنه يجيب على كلام "عباس" وحسن اختيارهم له، ابتسم قائلاً:
- فكرة جيدة، بل رائعة، ما علمتنا الحياة من قسوة، أعطتنا الشجاعة في تبادل المودة بصدق، كما أنكم في هذه العملية تخدمون الرجل، وأنفسكم. كل إنسان لا يعرف ما مقدّر عليه في وقت ما. من جانبي، أنا مستعد للمشاركة بكل ما أقدر، الحال ميسور والحمد لله.
"علي": إذاً على بركة الله، كل ما نطلبه هو إيجاد من يساعدنا في اقتناء سيارة نظيفة، وبسعر مناسب.
"خالد": ندفع له مبلغاً كمقدمة، إذا بقي مبلغ، ندفعه على أقساط.
"رضوان": لا توجد مشكلة، لدية صديق، رجل مسيحي، "أبو لينا" انسان طيب وصادق في تعامله، لديه معرض للسيارات في الصناعة، نقدر أن نعتمد عليه، متى تحبون أن نذهب اليه؟ لا مانع عندي، لكي نختصر الوقت سأكلمه بالهاتف حالاً، ونعرف منه التفاصيل.
طلب رضوان صديقه صاحب المعرض:
- ألو، مرحباً، "أبو لينا"، أنا "رضوان".
- أهلاًً.. أهلاً "رضوان"، ما أخبارك؟
- الحمد لله بخير.. وأنت يا "أبو لينا"؟
- أنا بخير، لم أرك من زمان، سمعت أنك تزوجت.
- نعم.
- ألف مبروك، أنت تستحق كل خير.
- أشكرك، لي عندك طلب.
- تفضل، طلباتك أوامر.
- لا يأمرك ظالم.
- تفضل عزيزي "رضوان"، بماذا تأمرني؟
شرح "رضوان" لـ"أبو لينا" القضية.
- غالي والطلب رخيص، مروا علينا في المعرض، ولن أتأخر في إرضائكم.
- غداً في العاشرة صباحاً، جيد؟
- نعم، أنا في انتظاركم.
- مع السلامة، الله يحفظك.
- مع السلامة، أخي.
قفل الخط "رضوان" قائلاً لأصدقائه: غداً في الساعة العاشرة صباحاً نكون عنده في الصناعة، سيكون "أبو لينا" في انتظارنا، اليوم أنتم ضيوفي، تبقون عندي في البيت.
اعتذر "خالد" و"عباس" و"علي": نشكرك جداً، لكننا قد حجزنا في الفندق، لمرة أخرى إن شاء الله. ثم إنك عريس، ولا يجب أن نثقل عليك ببقائنا، موعدنا في العاشرة صباحاً، نمر عليك، لتأتي معنا، مبارك زواجك، لا تنس أن تأتي مع عروسك في الأسبوع المقبل إلى سنجار لنؤدي الواجب.
ودّع "رضوان" أصدقاءه بحفاوة، وهو يفكر في أن الناس ما زالت تحمل القلب الصافي، وتعمل بمحبة، مع أن "علي" يزيدي من سنونو، و"عباس" تركماني من تل عفر، و"خالد" يزيدي من سنجار، صديقهم "بدوي الهباش" مسلم من ربيعة، إلاَّ أن مثل هذه الأمور لا تفرق بين حبهم لبعضهم، وشعور الواحد منهم تجاه إنسانيتهم: فعلاً يجب مساعدتهم، من جانبي، لن أقصر.
نهض "رضوان"، أخذ الهاتف، وطلب "أبو لينا" مرة أخرى ليوضح له أكثر:
- ألو، "أبو لينا".
- "رضوان"، كيف حالك؟
- بخير، أردت أن أوضح لك الموقف، كما أرجو أن تساعدنا، أقصد جماعتي، في انتقاء أفضل ما لديك، لأن المبلغ الذي عندهم، أعتقد غير كافٍ، لا تتوانَ، سيطلبون منك أن تقسطه عليهم، أنا سأتكفل بالباقي، كما أرجو أن تعلمهم أن المبلغ الباقي قليل، بعني باختصار، تتعاون معهم.
- أخي "رضوان"، ماذا تقول، أنت صديق عزيز، سيكون أفضل ما لدي تحت نظرهم، ليس كلها لهذه الدنيا، أنا بانتظاركم غداً، أبشر بخير، اطمئن.
- شكرا لك يا أخي، مع السلامة.
- مع السلامة.
بعد أن وضع سماعة الهاتف، جلس على الكرسي، ونظره باتجاهنا؛ وجهه يدل على الارتياح إزاء شعورهِ تجاه أصدقائه.
في الوقت المحدد من صباح اليوم التالي، "رضوان" يستعد للذهاب مع أصدقائه إلى المعرض، لم يتأخر أصدقاؤه، ذهبوا جميعاً، استقبلهم "أبو لينا" في مكتبه، بدأ "رضوان" الحديث معرّفاً أصدقاءه إلى "أبو لينا". قال "أبو لينا":
- عندي في المعرض أنواع مخلفة من السيارات، هيا لتشاهدوها، اختاروا ما يروقكم.
قاموا بجولة في المعرض، "أبو لينا" يحدثهم عن السيارات الموجودة:
هذه سيارة أمريكية، جيدة، لكن لا تخدمكم، مكلفة، تحتاج عناية خاصة، لسبب ليس بالقوة الكافية، أما هذه ألمانية، سعرها مناسب، لكنها أيضاً لا تتحمل تعباً خصوصاً في أجوائنا، الروسية، استهلاكية وعَطلها كثير، الفرنسية مجرد مظهر ولا تتحمل جهد، أما اليابانية، متينة، قوية، مهما أتعبتها تتحمل، لا تصرف وقوداً كثيراً، محركها يتحمل تعباً، أدواتها الاحطياطية متوفرة، كل غالٍ رخيص، سعرها ليس خسارة، صحيح باهظ بعض الشيء، أعتقد هي طلبكم، "رضوان" صديقي وأحب أن أخدمه.
أخذ "خالد" و"علي" و"عباس" يتفحصون السيارة، يعاينوها، تفاهموا بينهم على ثمنها، قال "علي": سعرها...؟
أجابه أبو لينا: المهم أن تكون حسب طلبكم، السعر لا نختلف عليه.
قال قاسم: اتفقنا، إذاً هي طلبنا، ما رأيك أخي "رضوان"؟
بعد أن ألقى عليها نظرة، قال رضوان: أجدها جيدة، على بركة الله.
توجهوا إلى غرفة المكتب لكتابة عقد شراء السيارة، بأسماء ثلاثتهم، أما المبلغ الباقي فتكفل "رضوان" به. كانوا فرحين مقتنعين، شكروا "رضوان" لتعاونه معهم، سلموا عليه، كي يسافروا لأن الوقت أدركهم، والأهل في انتظارهم. دعا لهم بالتوفيق. ركبوا السيارة متجهين إلى طريق سنجار.
وصل "رضوان" البيت مملوءاً بالفرحة راضٍ عن نفسه، لم يترك لنا البدء بالسؤال عمّا حدث، سحبنا معه إلى أجواء سعادته، قائلاً:
- الإنسان مفطور على شيئين؛ ذاته ومطامعها، عقله وإدراكه. كي نتعامل مع ذاتنا، علينا العودة إلى الطفولة حتى نفهم طبائعنا البريئة، خارج حدود التلوث بالظروف، عندها نسعد بما نقوم به. أصدقائي اليوم، ما أن حصلوا على مبتغاهم، حتى أحسست بأني طفل، أكمل أجمل أوقاته مع رفاقه، بما يقدر على تقديمه لهم، في تقرير خطة يملكون تنفيذها.
نسمع له بإصغاء تام، كمن يشاهد حلقة تلفازية، لا نقدر حيالها غير منح الثقة لأبطال المسلسل، مع عدم منع أنفسنا من تدفق الألم بصبر كثيف لمواصلة حالة الانسياب تحت ضغط المشهد، هكذا تمر الأيام علينا. إنَّ فهم معنى التصالح مع الآخر يتطلب أبعاد الخوف الذي يخلق الأنانية:
- لذا يا جدي، سأعمل على تنفيذ خطتي الجديدة، مع صديق آخر لي، من اليوم، قد أبتعد عنكم بعض الشيء.
تناولني الفضول، أردت أن أسأل "رضوان" في لحظتها، تريثت، لشعوري كأني ورقة بيضاء لفها ثغر المفاجئة، أو ربما طير، ينظر عبر قضبان قفصه، لكني منذ الصغر تعلمت غلق فمي، وانتظار النتائج. ملامح وجه جدّه السمح يشعرك حين التطلع إليه بالاطمئنان والغوص في فضاءٍ قطني لا يضاهيه بياض. لحظة جلوسي في حضرته، يتبخر الخوف وأصاب بالخشوع، لما تحمله سماته من رأفة، قال جد "رضوان":
- خير الأمور تعجب أصحابها، لك ما تريد، تمتع بوقتك، ليبارك الله.
قال "رضوان":
- عن إذنك يا جدي، سوف نذهب الآن لزيارة صديق لي.



#رحاب_حسين_الصائغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزء الثالث من رواية ( عادت منحرفة)
- الجزء الثاني من رواية( عادت منحرفة)
- الجزء الاول من رواية ( عادت منحرفة)
- الجزء الرابع من كتاب الشعر( رحلة في قعر الشيء)
- الجزء الثالث من كتاب ( رحلة في قعر الشيء)
- الجزء الثاني من قصائد كتاب الشعر ( رحلة في قعر الشيء)
- قصائد من كتاب الشعر ( رحلة في قعر الشيء)
- جهد الفكر ورقي وسائل الاعلام
- زمان المحدثات ونوافل الحلم
- المالك الحزين
- تهنئة الى احبائي اينما كانوا وحلوا
- حفلة اعتبارية
- العلاقات المنطقية وتنازعات الانتماء
- المطرقة والانحناء
- المرأة ومواسم استباق لحظات التيه
- لاهوتية اللغة والشكل الانثوي
- المرأة ومسارات شاردة في العراء
- تفتح النص الأزلي في جوهر الفكر
- الحقائق واقفال الاسئلة
- فوارق الحب المتيقض


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحاب حسين الصائغ - الجزء الرابع من رواية (عادت منحرفة)