أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جواد البشيتي - في التفسير الميثولوجي للتاريخ.. والسياسة!















المزيد.....



في التفسير الميثولوجي للتاريخ.. والسياسة!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2814 - 2009 / 10 / 29 - 15:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


هل "التاريخ" عِلْم؟

هل يمكن ضم "التاريخ"، أي تاريخ "المجتمع البشري" بحجومه وأنواعه المختلفة، إلى طائفة العلوم "المضبوطة" كالفيزياء والكيمياء، ولو من حيث المبدأ والأساس؟

في البدء، لا بدَّ من توضيح معنى أن نفهم "المجتمع البشري" فهماً تاريخياً، أو على أنَّه شيء موجود، ويجب أن يكون موجوداً، في (وليس في خارج) مجرى التاريخ.

المعنى هو، وفي اختصار، أنَّ "المجتمع البشري"، مهما كان حجمه أو نوعه، يجب أن يختلف في حاضره عن ماضيه، وفي مستقبله عن حاضره، فالتاريخ لا معنى له، ولا منطق؛ بل لا وجود له، إذا ما ظلَّ "المجتمع البشري"، في حاضره ومستقبله، هو نفسه في ماضيه، أو مُذْ نشأ.

شيئان في منتهى الأهمية لا بدَّ للمرء من أن يراهما في وضوح عندما ينظر إلى تاريخ المجتمع البشري بعينين لا يغشاهما وهم، هما "التغيُّر" و"التقدُّم"، فالمجتمع البشري يتغيَّر في استمرار، صاعداً سُلَّم التطوُّر (التقدُّم) درجة درجة، من غير أن يبلغ درجته العليا؛ لأنْ ليس له درجة لا تعلوها درجة.

هندسياً، "التاريخ" ليس بـ "دائرة"؛ وليس بـ "مستقيم"؛ إنَّه في منزلة بين منزلتين، فهو يأخذ من "الدائرة" انحناء الخط، ومن "المستقيم" الاتِّجاه، أي معنى الصعود والارتقاء (من أسفل إلى أعلى). وهذا "المركَّب الهندسي" يتأكَّد وجوداً في "الخطِّ الحلزوني (أو اللولبي)".

في جُمْلةٍ، قليلة الكلمات، كثيرة المعاني، أرسى هيغل حجر الأساس لعلم التاريخ، مُجْهِزاً بأسلحة البحث التاريخي على الأساطير والأوهام، وعلى الميتافيزيقيا التي عاثت (زمناً طويلاً) فساداً في فهم وتفسير أحداث التاريخ.

في جُمْلته المفتاحية تلك، قال هيغل: "كل الأحداث العظيمة، والشخصيات العظيمة، في التاريخ، تَظْهَر (إذا جاز القول) مرَّتين".

كل مَنْ ظلَّ على إيمانه بـ "دائرية التاريخ"، وبأنَّ التاريخ يعيد نفسه، وبأنْ لا جديد أبداً تحت الشمس، أمسكَ بكلمة "تَظْهَر"، ضارباً صفحاً عن عبارة "إذا جاز القول"، ومُظْهِراً، في الوقت نفسه، سوء فهم لهيغل، منطقاً، ومنهجاً، وطريقة في التفكير.

إنَّ تلك الجُمْلة الهيغلية الشهيرة، والتي بدأ بها علم التاريخ، على ما أرى، لا يمكن فهمها، والوقوف على معانيها الحقيقية، إذا لم ننطلق نحوها من "الثلاثية الهيغلية الشهيرة"، أو "قانون "نفي النفي"، وهو الذي أراه خير تسمية لها.

هيغل راى "التغيُّر" و"التقدُّم" في تاريخ المجتمع البشري بعينيِّ "ثلاثيته"، فأيُّ "وضع" ينشأ في حياة المجتمع البشري لا بدَّ له من أن يُنْفى ويُلْغى، فكل ما ينشأ جدير بالهلاك والزوال. وهذا "النفي الحتمي الضروري" إنَّما يعني فحسب أنْ يتحوَّل هذا "الوضع" إلى نقيضه، فزوال "الجهل"، مثلاً، هو نفسه نشوء "المعرفة"، التي بزوالها ينشأ "الجهل" مرَّة أخرى. لقد كُنَّا نجهل، على سبيل المثال، مكوِّنات الذرَّة، فزال هذا الجهل إذ عرفنا أو علمنا أنَّ الذرَّة تتألَّف من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات؛ على أنَّ هذه المعرفة ما لبثت أن نُفِيَت، أي تحوَّلت إلى جهلٍ آخر، فأسئلة وتساؤلات كثيرة جاءت بها تلك المعرفة، فعَجِزنا عن إجابتها، فـ "اكتسبنا" جهلاً جديداً.

في هذا المثال البسيط، نقف على معاني "الثلاثية الهيغلية"، ونُحْسِن، بالتالي، فهم "جُمْلة هيغل".

"الجهل" في أمرٍ ما، هو ما يفضي، في آخر المطاف، إلى "معرفة" في هذا الأمر؛ ثمَّ تفضي هذه "المعرفة" إلى جهلٍ ثانٍ، أو جديد، فـ "يَظْهَر" الجهل، في هذا السياق، "مرَّتين"؛ ولكن شتَّان ما بينهما.

الجهل الأوَّل، أو الابتدائي، نُفي، إذ تحوَّل إلى معرفة ما، في الأمر الذي كان يسوده الجهل؛ ثمَّ نُفِيَت هذه المعرفة (أي نُفي النفي) إذ تحوَّلت إلى جهل جديد. وهذا الجهل الجديد (الرفيع) يَظْهَر على أنَّه عودة إلى الماضي؛ ولكنَّها عودة أقرب إلى الشكل منها إلى المحتوى، فالجهل الجديد يشتمل في محتواه على "الإيجابي" و"الجيِّد" و"الضروري" من "طور النفي"، وعلى عناصر وسمات جديدة كل الجدة، فهو اجتماع "النفي" و"الاستبقاء" و"الإضافة" في حُلَّةٍ هي من حيث الشكل، في المقام الأوَّل، عودة إلى الماضي، أو استعادة له.

هيغل فهم "الأحداث العظيمة"، و"الشخصيات العظيمة"، في التاريخ بما يُوافِق "ثلاثيته الشهيرة"، أو قانون "نفي النفي"، فقال بضرورة (وحتمية) أن تَظْهَر مرَّتين، ولكن من غير أن يضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ "المرَّة الثانية" تشبه "المرَّة الأولى" في "الشكل"، أو في ما هو أقرب إلى "الشكل" منه إلى "المحتوى (الواقعي الحقيقي)".

أمَّا ماركس فتوفَّر على إجابة سؤال آخر هو "كيف يُصْنَع التاريخ؟".

لقد فهم ماركس "التاريخ" على أنَّه شيء يُصْنَع صُنْعاً، ويُخْلَق خَلْقاً؛ ولكن ليس من "العدم (التاريخي)".

إنَّ البشر هم الذين يصنعون "تاريخهم"؛ وبـ "أيديهم" يصنعونه. أجل بـ "أيديهم"؛ ولكن ليس على (أو حسب) هواهم.

"التاريخ"، بحسب وجهة نظر ماركس، يُصْنَع صُنْعاً، فهو شيء "قَيْد الصُنْع"، وليس بالشيء "المصنوع من قبل"، بقوى غريبة عن البشر، وعن مسرح التاريخ، وكأنْ لا خيار لدى البشر إلاَّ أن يعملوا، ويفعلوا، ويتفاعلوا، بما يؤدِّي إلى "النتيجة"، أو الحادثة التاريخية، المقرَّرة من قبل، ومنذ الأزل، ومن خارجهم، وجوداً وإرادةً ووعياً.

و"الحتمية التاريخية"، بهذا المعنى، لا يَظْهَر فيها البشر، لجهة صلتهم بتاريخهم، إلاَّ كنهرٍ لا يملك تغييراً لمجراه. حتى "إرادتهم الحرَّة" لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاَّ على أنَّها، على ما قال نيتشه، جزء من "نظامٍ قَدَريٍّ" لا مهرب لهم منه، فالإنسان "يختار"؛ ولكن بما يقيم الدليل على أنَّ هذا الذي وقع عليه "اختياره" هو نفسه "المقرَّر له" من قبل.

ماركس قال بـ "الحتمية التاريخية"، فلا عِلْم تقوم له قائمة على نَبْذ "الحتمية"؛ ولكنَّه لم يَقُلْ بها إلاَّ بصفة كونها نَبْذاً لكل فهم للتاريخ على أنَّه شيء من صُنْع "حتمية ميتافيزيقية"، أو من صُنْع ما يشبه "الحتمية الفيزيائية".

إنَّ "الحتمية التاريخية"، التي قال بها ماركس، وأسَّس لفهم سليم لها، هي التي تَحْفَظ للتطوُّر التاريخي اتِّجاهيه المتضادين، فإنَّ "إمَّا.. وإمَّا.." هي جوهر معنى "الحتمية التاريخية" عند ماركس.

في قوله "إنَّ البشر يصنعون بأيديهم تاريخهم؛ ولكن ليس على هواهم.."، تخطَّى ماركس التناقض الميتافيزيقي بين "الموضوع" و"الذات" في "عملية صُنْع التاريخ"، فهو هَدَم "السور الصيني الميتافيزيقي" بين "الموضوع" و"الذات"، موضِحاً أنَّ التاريخ لا يمكن، ولا يجوز، فهمه إلاَّ على أنَّه ثمرة "التفاعل" بين "الموضوع" و"الذات".

ولكن، كيف يمكننا، وينبغي لنا، أن نفهم هذا التفاعل؟

نفهمه على خير وجه إنْ نحن أحْسنَّا فهم وتمثُّل المعاني التي ينطوي عليها المثال الآتي:

هذا مصنع يصنع أحذيةً. محتواه المادي: مواد أوَّلية وأدوات وآلات، وما شابه، لصناعة الأحذية. أمَّا عمَّاله فيملكون من الخبرة، والإعداد والتأهيل، ومن الثقافة الحرفية، ما يمكِّنهم من صنع أحذية.

هل يمكننا من خلال هذا المصنع أن نصنع خموراً؟

كلاَّ، لا يمكننا ذلك، ولو أرَدْناه، أو رغبنا فيه، أو قرَّرناه، أو صمَّمنا عليه وعزمنا، أو تمنيناه.
ولن يكون ذلك ممكناً ولو أحْلَلْنا محلَّ هؤلاء العمَّال عمَّالاً من مصنع للخمور، فكل "قوى الذات" تقف عاجزةً عن تحقيق هذا الأمر (صُنْعَ خمورٍ من خلال مصنع للأحذية".

البشر يخلقون تاريخهم بـ "أيديهم"؛ ولكنَّهم، وعلى ما يوضِّح لنا هذا المثال، لا يخلقونه من "العدم (التاريخي)"، فالمواد الأوَّلية والأدوات والآلات.. يجب أن تكون موجودة أوَّلاً، ومن قبل.

وهذه "المواد" و"الأدوات" و"الآلات" هي في بعضٍ من معناها، كناية عن "الظروف الموضوعية"، التي فيها، وضِمْنها، يعيش البشر، صانعو تاريخهم بـ "أيديهم".

هؤلاء البشر لا يصنعون تاريخهم في (ضِمْن) ظروف يختارونها بأنفسهم. لقد نُقِلَت إليهم مباشَرةً من الماضي، فأدمغة الأحياء (من البشر) محاصرةٌ دائماً بـ "تركة الأموات (الأجيال الغابرة)".
وهذه "التركة" هي كـ "المواد الأوَّلية" لجهة صلتها بصنع الأحياء لتاريخهم.

وهذا "الموروث" من الأجيال الغابرة هو "الظروف الموضوعية"، التي فيها يعيش الأحياء من البشر، ويتوَّفرون على صنع تاريخهم بـ "أيديهم"؛ وهي "موضوعية"؛ لأنَّها لم تَظْهَر إلى حيِّز الوجود لأنَّ الأحياء من البشر "اختاروا" وجودها، أو "أرادوه"، أو "رغبوا فيه"، أو "خطَّطوا له"، أو "عقدوا العزم عليه".

وليس من قول تقوله "الظروف الموضوعية" للبشر الذين يتوَّفرون على صنع تاريخهم بـ "أيديهم" إلاَّ ما يشبه قول "إذا أردتَ أنْ تُطاع فَسَلْ ما هو مستطاع".

البشر ينشغلون دائماً بـ "تحويل" أنفسهم، والأشياء المحيطة بهم. ومن هذا "الانشغال" للأفراد والجماعات تبدأ "عملية صنع التاريخ".

وإنَّها لعملية فيها من "الكيمياء" ما يجيز تسميتها "كيمياء التاريخ"، أو "التفاعل الكيميائي للتاريخ"؛ فأفعال الأفراد والجماعات مع نتائجها "المباشِرة" تتفاعل، مُنْتِجَةً "مركَّبات (كيميائية) تاريخية". إنَّها تُنْتِج أشياء وأحداث، صلتها بصانعيها، وبأفعالهم، وبالنتائج "المباشِرة" لأفعالهم، كصلة "مركَّب (جزيء) الماء" بعنصريه (مكوِّنيه) وهما الأوكسجين (ذرَّة واحدة) والهيدروجين (ذرَّتان اثنتان).

و"كيمياء التاريخ" هي ما يُفسِّر ظاهرة أنَّ عملية صنع التاريخ تتمخَّض، كثيراً، أو على وجه العموم، عن "نتائج" لم يرغب فيها "الصُنَّاع"، من أفراد وجماعات، ولم تكن على هيئة "أهداف" في خططهم ومساعيهم. وطالما رأيْنا تلك "النتائج"، أو بعضها، في تضادٍ مع ما رغب فيه البشر، في أثناء "تحويلهم" لأنفسهم، وللأشياء المحيطة بهم.

ولكن، مهما كانت "النتائج"، ومهما كانت درجة توافقها أو تعارضها مع ما توقَّعه البشر، وأرادوه، ورغبوا فيه، وسعوا إليه، فإنَّها لا يمكن أن تكون غير "الضرورة"، فعملية صنع التاريخ لن تأتي أبداً بنتائج لا يسمح بظهورها أو تحقُّقها الواقع الاجتماعي والتاريخي للبشر المتوَّفرين على صنع التاريخ، فإذا كان في مقدوركَ أنْ تَسْتَهْلِك من الطعام مثلاً أكثر ممَّا تُنْتِج فإنَّ في مقدور البشر، الذين يصنعون تاريخهم بـ "أيديهم"، أن يحقِّقوا من النتائج (التي أرادوها وتوقَّعوها، أو التي ذهبت بما توقَّعوا وأرادوا) ما يتخطَّى حدود "المسموح به" من وجهة نظر واقعهم الاجتماعي والتاريخي.

ما معنى أنْ "ننجح" أو أنْ "نفشل" في سعينا التاريخي؟

"النجاح" هو أنْ يأتي "فعلنا" بـ "نتائج" تتَّفِق (تماماً أو كثيراً) مع ما "توقَّعنا"؛ و"الفشل" هو أنْ يأتي "فعلنا" بـ "نتائج" تذهب بما "توقَّعْنا.

ثمَّة "نتيجة (عملية، واقعية، ملموسة)" دائماً لفعلنا وسعينا؛ وهذه "النتيجة" أكانت متَّفِقة مع توقُّعنا (معنى "النجاح") أم غير متَّفِقة (معنى "الفشل") هي دائماً "الضرورة بعينها"، فلو لم تجتمع أسبابها لما تحقَّقت. وهذا إنَّما يعني، على ما أوضح هيغل، أنَّ "الضرورة" تكمن دائماً في كل ما يتحقَّق من "نتائج"، وفي كل ما يقع من أحداث وتطوُّرات.

بهذا المعنى فحسب، يمكن فهم "الأحداث" عند وقوعها على أنَّها ظواهر لا تختلف من حيث المبدأ والجوهر عن "الظواهر الفيزيائية"، ولا تنتهك مبدأ "السببية"، فهي وقعت؛ لأنَّها استجمعت أسباب وعوامل وشروط وقوعها؛ وليس أدل على ذلك من أن نسعى في إجابة السؤال الآتي: هل كان بالأمر الممكن ألاَّ يقع هذا الحدث الذي وقع بعدما استجمع كل أسباب وعوامل وشروط وقوعه؟

كلاَّ، لم يكن بالأمر الممكن.

في التاريخ، وفي كثيرٍ من أحداثه ومنعطفاته وتطوُّراته الكبيرة والمهمَّة، نرى، عادةً، "الماضي" يَحْضُر في "الحاضر".. حتى "الموتى"، مع كثيرٍ من الأشياء التي ماتت، وشبعت موتاً، يُسْتَحْضَرون، وكأنَّ حُكْم الأموات للأحياء، الذين يتوَّفرون على صُنْع الحدث التاريخي، لَم ينتهِ بعد.

إنَّه "تناقُض" يُلازِم، عادةً، كل حدث تاريخيٍ عظيم، فالبشر المنشغلون بخلق شيء جديد كل الجدة.. بخلق شيء لم يكن له من وجود من قبل، يبدون ميلاً قوياً إلى "استحضار أرواح الماضي"، وكأنَّ الحدث التاريخي الجديد، بمحتواه الواقعي، يحتاج إلى "شكلٍ" يَسْتَمِدُّ جمالاً من "الماضي"، أي مِمَّا مضى واندثر وأصبح أثراً بعد عين؛ ولكنَّ "ظلاله"، من فكر، ولغة، وأزياء، وشعارات، لم تَفْقِد بعد نفوذها في عقول وأفئدة الأحياء، صُنَّاع الحدث التاريخي، الذي يكتسي جديده، وهو "المحتوى"، بجمال وجلال وهيبة ووقار وقدسية "القديم"، و"القِدَم".

وعندما يُعْرَف "السبب"، أي عندما يُفسَّر هذا التناقض، يبطل "العجب"، فالبشر لا يستحضرون الماضي، أو أرواح الماضي، إلاَّ خدمةً لمقاصِد وأهداف الحاضر، أي خدمةً لمقاصدهم وأهدافهم.

ومن أجل ذلك فحسب، نراهم يستعيرون من الماضي الأسماء، والشعارات القتالية، واللغة، والأزياء، فيبدأون العمل، أي عملهم التاريخي، وكأنَّهم يمثِّلون مسرحية على مسرح التاريخ، فهذا القائد الجديد نراه يرتدي رداء ذلك القائد القديم؛ وهذا الحدث الجديد نراه يلبس لبوس ذلك الحدث القديم، فيجتمع في العمل التاريخي الكبير "الخلق" و"التمثيل".

وهؤلاء الصُنَّاع للتاريخ يشبهون المبتدئ في تعلُّم لغة جديدة (لغة أجنبية) فهو يقوم بترجمة هذه اللغة، أو مفرداتها، عبر ذهنه، بلغته الأصلية؛ وغنيٌ عن البيان أنَّه لن يغدو متضلِّعاً من اللغة الجديدة إلاَّ عندما يكفُّ عن هذه الترجمة الذهنية، أي عندما يغدو قادراً على التفكير بواسطة "الكلمات الأجنبية" نفسها.

كَسْو "محتوى" الحدث التاريخي الجديد، أو الذي قَيْد الصُنْع، بجمال وجلال وهيبة ووقار وقدسية "القديم" هو عملٌ، لا يخلو، على أهميته وضرورته الواقعيتين، من الوهم والخداع، فالباحث، في جدٍّ وموضوعية وعلمية، في التاريخ، بأحداثه المهمَّة، وشخوصه الشهيرة، سيقف على أنماط من التفسير والتعليل والفهم غريبة كل الغرابة عن التاريخ، منطقاً وواقعاً؛ وهذا ما يؤكِّد أنَّ لكل عصرٍ حقائقه وأوهامه. وإنَّها أنماط لا بدَّ من شرحها من خلال بعضٍ من الأمثلة الحيَّة.

الضرورات تَلِد القيادات

إذا نظرنا إلى البشر، جميعا، في كل زمان ومكان، على أنهم "تلاميذ أبديون" فإن "الحاجات" و"الضرورات" هي "المُعلِّم الأبدي الأوحد" لهم، مع أنَّ غالبيتهم العظمى لا تعي، دائما، هذه الحقيقة البسيطة الثابتة، ومع أنَّ قلَّة قليلة منهم، هم "القادة العظام" بفضل السلطة والتسلط، ينكرون فضل هذا المُعلِّم عليهم، مرغمين العامة من الناس على أن ترى فيهم صفات خرافية لا وجود لها في البشر "الواقعيين"، فإذا ما هاجر شعب بكامله من موطنه الأصلي إلى مكان آخر، عن اضطرار معيشي، فإنَّ قائده الأعلى الأعظم يُدوِّن في "كتاب التاريخ" أنَّ ذلك حدث لأنه أراد حدوثه ورغب فيه وقرَّره؛ أمَّا إذا ما اضطرت "الحاجات" و"الضرورات" التاريخية مجتمعا ليصلح حاله عبر "قيادة" تُنجبها و"تنتخبها" تلك الحاجات والضرورات فإنَّ "كتبة التاريخ" من حاشية وبطانة "الرجل الأول" في هذه القيادة يكتبون أن هذا الإصلاح التاريخي الثوري ما كان له أن يتحقَّق لو لم تلد تلك "المرأة العظيمة" هذا القائد الفذ، الذي أنعم الله به على الأمة العاجزة القاصرة، في ذاتها، وخصَّه من دون سواه بأفق يسع كل شيء ولا يسعه شيء؛ ثم يُسمَّى كل شيء جميل وعظيم باسمه.. حتى "التاريخ" يُصبح، على طوله، مؤلفا من مرحلتين اثنتين: مرحلة ما قبل "العظيم"، الذي ليس قبله قبل، ومرحلة ما بعده، وهو الذي ليس بعده بعد!

إنَّنا، ونحن مشدودين إلى مشاهدة فصول هذه "المسرحية التاريخية"، التي ليست بالأولى ولن تكون بالأخيرة، ننسى أو نتناسى حقيقة بسيطة، هي أن "القيادة" لا تعدو أن تكون "اختراعا" تلده "الحاجة" كما تلد سائر الاختراعات، فالبشر، وفي كل مجالات حياتهم، لم يخترعوا، قط، ولن يخترعوا، أبدا، شيئا لم تشتد حاجتهم إليه من قبل، فالحاجة تظل تضغط، وتفعل فعلها في عقول الناس وقلوبهم حتى تلد على أياديهم "الاختراع"، الذي بفضله يتمكنون من تلبيتها وإشباعها.

وزن القادة من وزن الحاجات والضرورات التي ولدتهم، ومن وزن دولهم ومجتمعاتهم، فالتاريخ لم يَعْرِف قادة عِظام لم يأتوا من أحشاء الحاجات والضرورات التاريخية لمجتمعاتهم، وإنْ عَرَف مجتمعات عَرَفَت من الحاجات والضرورات التاريخية ما يَحْمِلها على ولادة قادة عِظام؛ ولكنَّها لم تَلِد. قد تتأخَّر، أو تتأخَّر كثيراً، في ولادتهم؛ ولكنَّ تلك الحاجات والضرورات (والتي منها يُسْتَمَدُّ بعضٌ من معاني "المشكلة") تظل تضغط حتى يتمخَّض المجتمع عن قادة جُدُد، عَظَمَتُهم مسْتَمَدَّة من وزن الحاجات والضرورات والمشكلات التي أنْتَجتهم، ومُلوَّنة بألوانها. إنَّهم (هؤلاء القادة) مع أهميتهم يشبهون الحاجات والضرورات والمشكلات التاريخية التي جاءت بهم إلى الوجود كما يشبه "الجَمَل" بيئته الصحراوية.

إنَّها "مصادفة" أن يكون اسم هذا القائد العظيم زيد أو عمرو؛ أو أن يُوْلَد حيث وُلِد؛ ولكنَّها "ضرورة" أن يكون، لجهة عمله ومهمته، مشابهاً لزيد أو عمرو في المحتوى والخواص الاجتماعية والتاريخية.

والقائد وزنه من وزن بلده ومجتمعه وأُمَّته، فالرئيس باراك أوباما يَفْقِد معظم وزنه وأهميته إذا ما "استعارته"، مثلاً، "جمهورية أرض الصومال" ليتولَّى رئاستها.

قانون "الحاجات والضرورات" لا يخصُّ القادة فحسب، وإنَّما النُظُم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..

انظروا، مثلا، إلى "الرأسمالية" (مع أسمائها الحسنى كافة كمثل "المبادرة الفردية" و"نظام السوق الحرة"..). أين كانت قبل أن تغدو "حقيقة تاريخية واقعة"؟

كانت تسكن حاجات البشر في عصر الإقطاع؛ وكانت هذه الحاجات تنمو وتقوى في استمرار مؤكِّدةً عجز، وتزايد عجز، "النظام الإقطاعي" عن تلبيتها، على الرغم من أنها تكونت في رحمه.

كانت كمثل "بنت" لا يمكنها أن ترى النور إلا إذا قتلت أمها. واشتد ضغط هذه الحاجات الإنسانية التاريخية حتى خلقت للرأسمالية، التي لم تُخلق بعد، أنبياءها وقادتها من مفكرين وفلاسفة وأدباء وفنانين..

وانظروا، أيضا، إلى "العقائد"، إذ سطع نجمها وإذ أفل من ثمَّ. كانت تنتصر وتسود وتغلب سواها، ويُقْبِل الناس عليها إقبالا منقطع النظير؛ لأنها تكونت ونمت في رحم حاجاتهم الإنسانية التاريخية؛ ثم وُلِدت لتلبِّي وتُشبع، على خير وجه، هذه الحاجات. وإذ تبدلت هذه الحاجات (التي لا تنشأ، أصلا، إلا لتزول، ولينشأ من زوالها حاجات جديدة) دخلت العقائد ذاتها (وبسبب نمطها السكوني) في نزاع متزايد مع أجنَّة الحاجات الجديدة، فأخذت تلقى صدَّاً لها في عقول البشر وأفئدتهم ومشاعرهم ووجدانهم، فاقدة، بالتالي، رصيدها الشعبي ومبرر وجودها.

وكثيرا ما حار الناس في تفسير هذا التناقض في التطور التاريخي للعقائد (مدها فجزرها) فوقعوا في فخ التفسيرات المجافية لمنطق التطور التاريخي للظواهر والأشياء؛ وكان في مقدورهم، لو حرروا عقولهم من تأثير "المصالح" الكامنة في أساس تلك التفسيرات، أن يروا "الهلاك الحتمي" في كل ما تأتي به الحياة، فسرُّ موت الدوحة يكمن، دائما، في السبب ذاته الذي يجعلها تعيش وتنمو وتكبر!

ثنائية العقل والإيمان

البابا بينيديكتوس السادس عشر افتتح الألفية الثالثة بما تيسَّر له من وَهْم "ثنائية الإيمان والعقل". هذا البابا، وعلى ما حاول إظهاره وتأكيده لنا، يؤمِن بأن للبشر جميعا الحق في حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم ووجهات نظرهم ومعتقداتهم.. ومواقفهم، فـ "العقل" عنده يعلو ولا يُعْلى عليه، ولا إيمان لا يقره العقل. وهنا، بحسب رأيه، يكمن الفرق الجوهري بين المسيحية والإسلام، فالمسيحية "تقوم على المنطق والعقل" بينما الإسلام يقوم على أساس أنَّ إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل والمنطق.

وهذا الفرق يراه البابا جزءا من كل، فالعقيدتان تختلفان، بحسب رأيه، في "صورة الذات الإلهية"، فالله ـ يقول البابا ـ في العقيدة الإسلامية "مطلق السمو، ومشيئته تعلو على عقل الإنسان، ولا تخضع له". عند البابا، ليس من إيمان ديني لا يقره العقل، أو يكون منافيا له، فالمنافي للعقل لا يمكنه إلا أن يكون منافيا لطبيعة الله. ويفهم البابا "نشر الدين بالعنف" على أنه منافٍ للعقل، ومنافٍ، بالتالي، لطبيعة الله، مع أن الإنجيل في أصحاح متى نسب إلى المسيح القول الآتي: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا". هذا هو الأساس الفلسفي "الصلب" للتفكير المسيحي لدى البابا.

"الإيمان الديني" أعرفه؛ أما "العقل" الذي يقدِّسه البابا، ويريد له أن يحكم العالم، فهو الأحجية بعينها. إنه يحدِّثنا عن كائن خرافي، لم يوجد قط، ولن يوجد أبدا، هو العقل الإنساني "العام"، الذي هو ذاته مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ومهما اختلفت مصالح البشر وحاجاتهم، ومهما اختلف البشر أنفسهم في الخواص التاريخية والاجتماعية. هل كان البابا يظن أن أسلافه من المؤمنين بأن الأرض مسطحة وليست كروية، وبأنها لا تدور حول نفسها، وبأن الشمس هي التي تدور حولها، كانوا قوما يؤمنون بما هو منافٍ للعقل في زمانهم؟!

المعرفة، في أي زمان ومكان، ليست كلها "حقائق"، فبعضها، الذي تتسع نسبته أو تتقلص، كان "أوهاما"؛ والعصور لا تختلف بحقائقها فحسب، وإنما بأوهامها، فلكل عصر حقائقه وأوهامه.

والعقل، في كل عصر، ينظر إلى أوهامه على أنَّها حقائق. والأوهام التي ينظر إليها البابا بينيديكتوس السادس عشر، اليوم، على أنها حقائق، وحقائق مطلقة، يقرها العقل، ستَظْهَر، غدا، ولبشر الغد، على أنها أفكار ومعتقدات منافية للعقل، ومنافية، بالتالي، لطبيعة الله.

لقد ألَّه البابا العقل الإنساني "العام"، ضاربا صفحا عن حقيقة أن التاريخ لا معنى له، ولا معنى لحركته، إذا لم يتحوَّل "الموافِق للعقل"، فيه، وبه، إلى "منافٍ للعقل".

البابا يستطيع اليوم أن يأتينا بمئات الأفكار والمعتقدات التي قال بها أسلافه في القرون الوسطى والتي هي الآن، في رأيه، وفي رأي كثيرين من المؤمنين وغير المؤمنين، منافية تماما للعقل. ولكن هل كان أسلافه أولئك، وبما يملكون من موازين العقل والمنطق والصواب والخطأ، يرونها منافية للعقل؟!

الملحد،مثلا، لا يرى في إلحاده ما ينافي العقل، أي عقله، فهل نستنتج من ذلك أن إلحاده لا يخالف طبيعة الله؟!

لو كان البابا يفهم، أو في مقدوره أن يفهم، أو لديه من المصالح ما يغريه بأن يفهم، "عقلانية" العقل الإنساني فهما نسبيا وتاريخيا لما قام بتأليهه هذا التأليه، ولأدرك الأهم من كل ذلك وهو أنَّ ميزان المصالح الواقعية للبشر، وليس ميزان الصواب والخطأ، هو الميزان الأهم في التاريخ، فالبشر لا يتورعون عن إلغاء كل بديهية هندسية إذا ما وجدوها منافية لمصالحهم.

حتى "العنف"، أو "السيف"، لا يُفْهَم كما فهمه البابا، وكما أراد لنا فهمه، فما هو موقف البابا من العنف "المنافي لطبيعة الله" إذا ما استخدمه أناس في مواجهة من يحاول فرض معتقده عليهم بالعنف، أو السيف؟!

هل، عندئذٍ، يصبح العنف الآخر، أو المضاد، موافقا لطبيعة الذات الإلهية؟!

بحسب هذا العقل الذي يقدسه البابا، لو سألتموه "هل المطر مفيد أم ضار؟" لأجابكم على البديهة قائلا: "إنه مفيد وليس بضار"، أو "إنه ضار وليس بمفيد"!

والمسيح ذاته، لا أحسب أنه يقف ضد السلام، إذا ما قال "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا"، فالسيف في يد الفلسطيني الذي يقاتل إسرائيل محمود؛ ولكنه مذموم في يد من يقتل الفلسطينيين والعراقيين..

البابا حرٌّ في قوله بأن الإيمان الديني يقوم على إخضاع المشيئة الإلهية لمحاكمة العقل والمنطق؛ ولكنه ليس حراً في أن يدعونا إلى وهم "العقل الإنساني المطلق الذي لا يخضع بأحكامه وعقلانيته ومفاهيمه لمحاكمة التاريخ"، الذي يفهمه البابا على أنه شيء بينه وبين الإنسان وعقله برزخ، فلا يبغيان!

في "روما القديمة، ما كان للمسيحية أن تنتشر وتسود وتغدو ديانة عالمية لو لم يعتنقها "الإمبراطور الروماني"، الذي بفضل عصاه الغليظة جعلها ديانة رعايا إمبراطوريته العالمية. على يديِّ ذاك الإمبراطور فحسب تمكَّنت فكرة "تهويد الرب" من أن تغزو عقول وقلوب رعايا إمبراطوريته.

وإنَّ أحدا من المؤرخين لا يستطيع أن يأتي ولو بدليل واحد على أنَّ ذاك الإمبراطور، الذي شحن سلطته السياسية الزمنية بسلطة روحية إنجيلية، قد نشر عقيدته الجديدة بين رعاياه بـ "الحوار العقلاني"، فـ "الإيمان عبر العقل" ما كان هو الأسلوب الذي اتُّبِع في نشر العقيدة الجديدة. لقد آمن الإمبراطور فآمنت الرعية بما آمن. ومذ آمن الإمبراطور بدأ استخدام الدين الجديد في الحروب، وزُجَّ بالسماء في حروب الأرض.

وفي "روما الجديدة"، اشتد الميل الإيديولوجي إلى الإمعان في تهويد المسيحية التي أرادها المحافظون الجدد مسيحية متصالحة في الجوهر مع أوهام العهد القديم. وقد اقتُرِفت الجريمة الأولى والكبرى سنة 1965 حيث برأ المجمع المسكوني الثاني اليهود من جريمة صلب المسيح، فبيع مرتين بثلاثين من الفضة.

إنَّ أسوأ تفسير لتاريخ الأديان والعقائد هو هذا الذي جاء به، أو تبناه، البابا الألماني إذ صوَّر انتشار الإسلام على أنه ثمرة العنف وحدِّ السيف، وكأن العقائد، في انتشارها، تشذ عن القوانين الموضوعية للتاريخ التي بحسبها يستحيل أن ينتشر فكر ويستمر إذا لم يلقَ سندا قويا له في حاجات ومصالح البشر.

إننا لا ننكر الأهمية التاريخية للسيف في نشر الإسلام؛ ولكن من الحماقة بمكان إنكار الأهم من السيف وهو أن الإسلام كان كامنا في حاجات إنسانية أساسية قبل أن يصبح حقيقة تاريخية واقعة.

إمبراطور روما القديمة لم يحتج إلى إرسال الجيوش لنشر المسيحية التي اعتنقها، فإمبراطوريته كانت عالمية، وكان يكفي أن يدين بالديانة الجديدة حتى تدين بها رعيته من شتى المنابت والأصول. أما الرعيل الأول من المسلمين فما كان في مقدورهم نشر الإسلام عالميا بغير "الفتوحات"، التي لم تُتَّخذ وسيلة لإكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام، فـ "الجزية" فحسب هي الثمن الذي كان يدفعه كل من لم يقتنع بالإسلام.

الآن، يملك البشر من الوسائل ما يسمح لهم بنشر معتقداتهم عالميا من غير حروب. أما عند ظهور الإسلام فلم يملك الرعيل الأول من المسلمين من وسيلة للوصول إلى عقول وقلوب سائر البشر غير "الفتوحات"، التي لم يتخذها المنتصر المسلم وسيلة لإكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام.

وفي المقارنة الموضوعية بين اليهودية والإسلام، نرى في العقيدة الأولى عنصرية نبذتها العقيدة الثانية، فاليهودية قامت على تفضيل اليهود على العالمين، ورفضت دخول غير اليهود فيها. أما الإسلام فلم يُقِم وزنا للاختلاف في اللون والعرق والجنس، مُظْهِرا الانتماء إليه على أنه حق لأي إنسان.

كان على "الحبر الأعظم" أن يشرح لنا أوجه العلاقة بين الاستعمار الأوروبي القديم ونشر المسيحية بين الشعوب والأمم غير الأوروبية. لقد جاءوا بجيوشهم أولا؛ ثم جاء "المبشِّرون"، لينشروا المسيحية، بوسائل عديدة منها "الحوار العقلاني"، حيث سيطرت جيوشهم. ويا ليتهم اكتفوا بما يشبه "الجزية".. لقد مارسوا من النهب والسرقة ما لم يعرفه التاريخ من قبل.

البابا يرفض كل قتال أو حرب باسم الدين، فَلِمَ لم يعتذر إلى البشرية جمعاء عن كل الحروب الداخلية والخارجية التي خاضها الأوروبيون باسم الدين؟!

ولِمَ لم يستنكر كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة باسم "ديانتها الرابعة"، أي باسم الديمقراطية والحرية؟!

لِمَ لم يوبِّخ بوش لزعمه غير مرة أن الرب هو الذي ألهمه قرارات الحرب، ولزعمه أنه والرب يناقشان في استمرار كل أمر سياسي يعتزمه الرئيس المؤمن؟!

دعانا البابا الألماني إلى استخدام عقولنا في مناقشة المشيئة الإلهية، فهل استخدم عقله في مناقشة "الوعد الرباني" لإبرام العبراني؟!

ليشرح لنا الحكمة في موقف الرب من بني إسرائيل.. في جعلهم شعبا له من غير سائر البشر، وفي تفضيلهم على سائر البشر، حتى على بينيديكتوس السادس عشر نفسه، وفي تمليكهم أرضا يملكها غيرهم!

حتى سنة 1965، كانت الكنيسة الكاثوليكية تتهم اليهود بارتكاب جريمة صلب المسيح، فهل أوضح لنا الفاتيكان الأسباب التي حملت المجمع المسكوني الثاني على تبرئة ساحة اليهود؟!

هل ألَّفوا "لجنة تحقيق تاريخية" انتهت إلى جمع أدلة على أن اليهود أبرياء؟!

"الإيمان" و"العقل" متى اجتمعا وتصالحا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية التي في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين فحسب اعترفت بأن غاليلو كان على حق إذ قال بدوران الأرض؟!

الإسلام في مرآة الغرب

الإسلام، في الغرب، أي في بعض من الغرب وليس في كله، هو "الآخر" الذي يصوَّر، في عقول ومشاعر الناشئة والشباب عبر كُتب التاريخ والمناهج الدراسية على وجه الخصوص، على أنَّه "عدو جديد" لا بد من محاربته والتغلُّب عليه في سبيل حماية الحضارة الغربية وثقافتها وقيمها الديمقراطية والليبرالية.

وفي هذه الحرب الفكرية، التي لم نوفَّق حتى الآن في خوضها في طريقة صحيحة وناجحة، يُستثمَر جهد تربوي وتثقيفي متزايد في الروح الديمقراطية والدينية للمواطن هناك، فيتضمن "النص التحريضي" دائما القول الآتي: "الإسلام يحضُّ أتباعه على نشره بالقوة وأساليب الإكراه، وقد جعل العرب إذ اعتنقوه وعملوا بأحكامه ومبادئه قوة احتلال في أماكن مقدَّسة لدى المسيحيين".

في كُتُب التاريخ، التي تُدرَّس في المدارس الإيطالية، جاء الآتي: "المسلم يرى أنَّ من واجباته أنْ يقوم بنشر الإسلام ولو بالقوة.. العرب احتلوا الأماكن التي عاش فيها السيد المسيح، وهي الأماكن المقدَّسة لدى المسيحيين".

وبتأثير هذا النص، يصبح المواطن الغربي مدعوا إلى جعل عدائه للإسلام طريقة يختبر بها قوة التزامه الديمقراطي (والليبرالي والحضاري) وقوة إيمانه الديني، وكأنَّ الإسلام، في مكوِّنه الفكري والروحي والثقافي، حرب على كل ما يقدِّسه المواطن الغربي في حياته السياسية والروحية!

أمَّا أغراض ودوافع هذه الحرب، التي يسمُّونها تارة "حرب أفكار" وطورا "صراع حضارات"، فتُنزَّه، عن عمد، عن كل ما هو شيطاني في السياسة، فهي لا تمت بصلة إلى "الأطماع النفطية"، أي أنَّ إله الحرب ليس من نفط؛ وإنَّما من قيم ومبادئ ديمقراطية وحضارية وأخلاقية ودينية!

تاريخياً، لا يمكن فهم "العلمانية" و"الديمقراطية" في أوروبا إلا على أنَّها حرب على الكنيسة بصفة كونها "الإقطاعي الأكبر" و"الحاكم السياسي الأعلى"، فهي المالك الأكبر للأرض والحاكم السياسي الأكبر للشعوب عبر الدمى من الملوك والحكومات؛ وبصفة كونها أيضا "الحائك الإيديولوجي" الذي يحيك الثياب الدينية لحروب ذات دوافع دنيوية صرف.

لقد كانت "العلمانية" سلاحا في حرب هدفها تخليص "الدولة" من قبضة رجال الدين، والنأي بالسياسة عن الدين؛ أمَّا عندنا فالحاجة تشتد إلى "علمانية معاكسة"، أي إلى علمانية تُخلِّص الدين من قبضة رجال السياسة والحكومات، فالمشكلة التي ينبغي لنا حلها لا تكمن، في المقام الأول، في "تديُّن السياسة"؛ وإنَّما في "تسييس الدين".

ويخطئ كل متديِّن إذا اعتقد أنَّ فصل الدين عن الدولة يعود بالضرر على الدين، فهذا الفصل هو تحرير للدين ذاته من قيوده السياسية، وهو الذي سيجعله بمنأى عن "التأويل السياسي"، أي تأويله بما يخدم مصالح الحكومات.

وفي صُوَر نمطية غربية عديدة عن الإسلام يَظْهَر أنَّ "التزمُّت" و"الإرهاب" هما في منزلة "الروح" بالنسبة إلى الدين الإسلامي، أي أنَّهما جزء لا يتجزأ من عقيدة المسلم.

نحن نحتاج، في الوقت الحاضر على وجه الخصوص، إلى ما يمكن تسميته "تصحيح الصورة"، ولكنّ كثيرا من دعاة التصحيح لا يبذلون الجهد، في هذا الصدد، إلا ليقولوا للمدافعين عن "الثقافة الغربية" إنَّ المسلمين، في ثقافتهم وعقيدتهم الدينية، لا يختلفون عنكم وعن ثقافتكم كثيرا، وإذا كان هناك من اختلاف فإنَّه ليس في الجوهر؛ وليقولوا لهم، أيضا، إنَّ زملاء لنا قاموا مِنْ قَبْل بإقامة الدليل الفكري على أنَّ كل ما هو "إيجابي" في الفكر الشيوعي (أو الاشتراكي) قد تضمَّنه الإسلام، فأنجزوا، إذ استخدموا "المجهر" لرؤية "القواسم الفكرية المشتَركة"، مصالحة بين الفكرين، واليوم، سنبذل نحن من "الجهد التأويلي" ما يمكِّننا من عقد صلح بين الإسلام والفكر الليبرالي في الغرب!

الخلل الكبير في قولهم لا يكمن في فكرهم وإنَّما في طريقتهم في التفكير، فهُمْ بحرصهم على إبراز ما يعتقدونه "تماثلا جوهريا" في الفكر بين الإسلام والليبرالية الغربية إنَّما يتوهمون ويوهمون غيرهم أنَّ سبب الحرب التي تشنها الولايات المتحدة علينا يعود إلى اختلاف جوهري في الفكر أو العقيدة، فإذا ما "صحَّّحنا صورة الثقافة العربية والإسلامية" في الغرب، في طريقة تجعل الاختلاف في الشكل وليس في الجوهر، فإنَّ هذه الحرب ستضع أوزارها، وسنعيش مع القوة الإمبريالية العظمى في أمن وسلام ليس في دارها وإنَّما في عقر دارنا!

إنَّ طريقتهم في التفكير والنظر إلى الأمور هي التي تحول بينهم وبين رؤية الحقيقة وهي عارية من كل وهم، فالصورة التي تُصَوِّر بها الولايات المتحدة الإسلام ليست من صنع عقل يجهل حقيقة الثقافة العربية والإسلامية حتى ننفق الوقت والجهد في سبيل تثقيفه وتعليمه وتنويره، وكأنَّ "العقل" وليس "المصالح" هو الذي يحكم العالم!

هذه الصورة يجب أنْ نفسِّرها بأصلها، وهو المصالح والأهداف الإمبريالية للولايات المتحدة في العالم العربي، فما نعده "صورة خاطئة" تُصَوِّر بها الولايات المتحدة الإسلام إنَّما هو، بمقياس الحقيقة الموضوعية، "الشكل الإيديولوجي" للحرب الإمبريالية التي تشنها علينا. وهل من حاجة إلى التذكير بانَّ الصورة التي صَوَّرت بها الولايات المتحدة الإسلام، في عهد "الحرب الباردة"، كانت مختلفة تماما؟!

مع زوال الخصم التاريخي للولايات المتحدة، وهو الاتحاد السوفياتي، تهيأت فرصة تاريخية لأنْ تفرض الولايات المتحدة هيمنتها الإمبريالية الشاملة على العالم العربي، بدءا من العراق، وانطلاقا منه. وكانت تعلم علم اليقين أنَّ مسعاها الإمبريالي هذا لا بد من أنْ يلقى مقاومة، فمَن ذا الذي سيقاومه بعد الفشل التاريخي لقوى المقاومة القديمة من قومية وشيوعية؟ ليس غير الإسلام، ولأسباب تاريخية، يمكن أنْ يكون مَصْدَرا للمقاومة الجديدة.

وهكذا صار الإسلام هو الشكل الإيديولوجي للمقاومة العربية الحتمية للهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة، التي أشعلت، أيضا، ما تسميه "حرب الأفكار" لعلَّها تتمخض عن جهد جديد يبذله قادة إسلاميون في سبيل نزع ما يسميه مفكِّرون غربيون "الوحشية السياسية" من الإسلام، فيُوَفَّقون في تأويل الإسلام تأويلا ليبراليا، يسمح للمسلمين من العرب بأنْ يفهموا مساعي الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة على أنَّها إصلاح ديمقراطي لحالهم السياسية، ومصدر خير لهم، أو على أنَّها الضارة التي يمكن ويجب أنْ تكون نافعة لهم، إنْ ليس في الحاضر ففي المستقبل بكل تأكيد!

إنَّ العربي المسلم، في عدائه للقوة الإمبريالية العظمى في العالم، ليس من صنع "آية قرآنية" أو "حديث نبوي" حتى "نصلح حاله" من خلال الإصلاح الليبرالي للفكر الإسلامي. إنَّه، والحق يُقال، من صنع عداء هذه القوة له، فهو لا يعاديها لأسباب دينية؛ وإنما يبادلها عداء بعداء، وينبغي لنا أنْ نبحث عن سبب هذا العداء المتبادل ليس في عقل الرئيس المؤمن بوش، أو في عقل العربي المسلم، وإنَّما في الواقع التاريخي للعلاقة بين الولايات المتحدة والعرب، فهنا رودوس!

صراع الحضارات

هل العالم يمر، فعلا، بمرحلة من الصراع يمكن أنْ نجد فيها من المعاني والسمات والخصائص ما يسمح لنا بالنظر إليها على أنَّها مرحلة "صراع حضارات"؟

قد يكون قديما هذا المفهوم، أعني مفهوم "صراع الحضارات"؛ ولكنَّ القول به شاع واتسع بعد زوال الخصم التاريخي الأول والأعظم للنظام الرأسمالي في الغرب وهو الاتحاد السوفياتي، وأنظمة الحكم الدائرة في فلكه في أوروبا الشرقية، التي نظر إليها رامسفيلد بعينيِّ الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة على العالم فاكتشف أنَّها يمكن أنْ تكون حصانا جديدا يمتطي صهوته في الصراع مع "أوروبا القديمة".. فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص.

وهذا المفهوم تشرَّب معانٍ عنصرية وصليبية ويهودية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وانتقل بجدله وأثره وتأثيره من عالم الإيديولوجيا إلى عالم السياسة. وبدا أنَّ الرئيس بوش وتشيني ورايس ورامسفيلد، وغيرهم، قد تبنُّوا، في بعض أقوالهم ومواقفهم وأفعالهم، مفهوم "صراع الحضارات"، الذي نظر إليه كثير من العرب والمسلمين على أنَّه تبرير إيديولوجي لشن الولايات المتحدة (وحلفائها) لحرب عنصرية صليبية (يهودية في عرقها النابض) على الإسلام والمسلمين، فصراع الحضارات، وفق فهم رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني لمعانيه ومراميه، إنما يستهدف تأكيد "تفوُّق" الحضارة المسيحية الغربية (في قيمها ومبادئها) على الحضارة الإسلامية، التي رأى فيها المناخ الإيديولوجي الملائم لنمو "الإرهاب الإسلامي"، الذي أثار خوف وهلع الغرب إذ ضرب ضربته الكبرى في نيويورك وواشنطن.

ولقد أظهر كثير من العرب والمسلمين ميلاً إلى فهم تبني إدارة الرئيس بوش (السرِّي تارة والعلني طورا) لمفهوم "صراع الحضارات"، في معناه هذا، على أنَّه تعبير عن خضوع هذه الإدارة للتأثير اليهودي في وجهيه الإيديولوجي والسياسي، وعن "الرغبة الصليبية التاريخية في الثأر والانتقام"؛ أمَّا تحقيق هذه الرغبة فيكون بالتهيئة لقيام "إسرائيل العظمى"، وبإخضاع وإذلال وإضعاف العرب والمسلمين ونزع ما يسمُّونه، في الغرب، "الوحشية السياسية" من الإسلام!

وبما يتفق مع هذا المعنى من مفهوم "صراع الحضارات"، الذي تبنَّاه وآمن به الرئيس بوش مهما حاول نفي ذلك، اقترح وزير إسرائيلي (من أقصى اليمين) هو الحاخام بيني ايلون "تنصير المسلمين"، توصُّلا إلى النجاح في "الحرب على الإرهاب"!

وعملية "التنصير" يجب، بحسب اقتراحه، أنْ تبدأ بمن أسماهم "المتطرفين من المسلمين"؛ وينبغي للمجموعات الأصولية المسيحية أنْ تتولى هذه العملية.

وحتى لا يشذ "التنصير" عن القاعدة المعمول بها تاريخيا وهي "تنصير الوثنيين"، اعتبر هذا الوزير الإسرائيلي (الحاخام) المسلمين الذين "يفجِّرون أنفسهم" ويرددون "الله أكبر" نمطا من "الوثنيين"، الذين يمكن ويجب تنصيرهم، قائلا: "يُفضَّل أنْ يعتنق هؤلاء الناس المسيحية التي تستند إلى الإنجيل الذي يعترف بحقوقنا في الأرض المقدَّسة"!

ودعا هذا الوزير المجموعات المسيحية الإنجيلية، التي يلتقيها في استمرار، إلى أنْ تقبل مساعدته لها في نشر "الدعوة المسيحية" في العالم أجمع انطلاقا من إسرائيل، على أنْ تلتزم هذه المجموعات باستثناء اليهود من مهمتها التبشيرية، فاليهودي هو الكائن البشري الوحيد الذي خلقه الله ليظل يهوديا إلى الأبد؛ أمَّا اليهودية فهي العقيدة الدينية الوحيدة التي يجب ألا يدين بها غير "شعب الله المختار"!

وعرفت الولايات المتحدة تنامي تأثير مجموعات مسيحية تعتقد أنَّ مسيحيتها وإيمانها الإنجيلي لا يتعززان ويكتملان إلا بإبدائها مزيدا من التأييد لإسرائيل ولليهود ولليهودية، وبقبولها العمل في خدمة "الشعب اليهودي"، تعبيرا عن إيمانها بما يسمَّى "الوعد الإلهي لشعب إسرائيل بمنحه أرض فلسطين (وجوارها) ليقيم له فيها وطنا ودولة"!

وتقوم هذه المجموعات بنشر وهم أنَّ خير خدمة يمكن أنْ يسديها المسيحي لمعتقداته وإيمانه هي خدمة "شعب الله المختار"، وتمكينه من تحويل الأوهام التلمودية إلى حقائق تاريخية وسياسية في فلسطين وجوارها، أي في "أرض الميعاد" كما رُسمت خريطتها في التوراة!

إنَّ هذا الوزير العنصري الإسرائيلي الذي هو مخلوق من مخلوقات الوهم يدعو خدمه من هذه المجموعات المسيحية الإنجيلية إلى أنْ ينتقل مبشِّروها من مسجد إلى مسجد من أجل "حمل النور إلى المسلمين ("القتلة")"!

هذا الوزير يتمنى أنْ تتمكن هذه المجموعات من بسط سيادتها الإيديولوجية (والسياسية) في الغرب، ومن النجاح في "تنصير" المسلمين ("الوثنيين") حتى يتحول العالم بأسره إلى خادم ذليل لهذا الشعب الذي أمعنت الحضارة في إذلاله فلم يجد ملجأ يلجأ إليه سوى نسجه مزيدا من الخرافات العرقية العنصرية البغيضة التي ما أنْ خلقها حتى شرعت تخلقه على مثالها!

لقد علَّمنا التاريخ أشياء كثيرة لعلَّ أهمها أنَّ صراع ذوي المصالح الفئوية الضيِّقة يميل، دائما، إلى أنْ يلبس لبوس "الصراع العام" في أشكاله وصوره المختلفة، فالرئيس بوش، مثلا، والذي لا نشكك في صدق إيمانه بكل تلك الخرافات والأوهام التي تؤمن بها المجموعات المسيحية الإنجيلية والحاخام ايلون، لم يغزُ العراق ويحتله إلا ليُمَكِّن ذوي المصالح الفئوية الضيقة في الولايات المتحدة من السرقة الإمبريالية لثروته النفطية، ولم يشن حربه على ما يسميه "الإرهاب الإسلامي"، ولم يسعَ في تغيير المناهج الدراسية عند العرب والمسلمين، إلا خدمة، أأدركها أم لم يدركها، لمصلحة القوة الإمبريالية العظمى في العالم في بسط هيمنتها وسيطرتها على ما ترى فيه مواقع مهمة لها في العالمين العربي والإسلامي.

إنَّ هؤلاء من ذوي المصالح الفئوية الضيقة لا يتورعون عن إلباس مصالحهم والصراع الذي يخدمها أي لبوس عام، مثل لبوس "الصراع الديني" أو "صراع الحضارات"، فالإيديولوجيا التي تستثير وتؤجج كل عصبية حمقاء وتافهة هي وسيلتهم في تحويل مجتمعاتهم وشعوبهم إلى وقود لحروبهم القذرة. وهؤلاء لديهم من الإمكانات ما يسمح لهم بتغليب فكر على فكر، وإيديولوجيا على إيديولوجيا في مجتمعهم، وفي المجتمع الدولي في وجه عام.

عندما أملت عليهم مصالحهم غزو العراق واحتلاله من أجل الاستيلاء الإمبريالي على ثروته النفطية، ومن أجل الإفادة من موقعه الجغرافي في بسط الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة، إقليميا ودوليا، جاءوا إلى البيت الأبيض برئيس لديه من قوة الإيمان بالأوهام والخرافات ما جعله ينظر إلى قراره شن الحرب على العراق على أنَّه "أمر إلهي"، وينظر إلى نفسه على أنَّه الشخص الذي خصَّه الله، بعدما اهتدى وتاب، بقيادة الحرب على "الشر" و"الأشرار"، من دول وجماعات وأفراد، في العالم أجمع!

والذين غزوا "عقل الرئيس" كل يوم وكل ساعة بمزيد من الأوهام والخرافات التي تتوفر على اختلاقها ونشرها المجموعات المسيحية الإنجيلية، أقنعوه بأنَّ إيمانه الإنجيلي لن يكتمل إلا بمضيه قُدما في التهوُّد والتهويد.

إننا لا ننفي "صراع الحضارات" ولا أي صراع واقعي آخر؛ ولكننا ننفي أنْ يشتمل "صراع الحضارات" على المعنى الحقيقي والتاريخي لهذا الشكل من الصراع، والذي قد ينشأ ويستمر (وينتهي) من دون إراقة دماء، فنحن في مجتمعنا العربي والإسلامي نخوض، يوميا، صراعا بين قيم حضارتنا العربية الإسلامية وقيم الحضارة الرأسمالية الغربية؛ أمَّا نتيجة هذا الصراع اليومي فلا تقررها سوى مصالحنا وحاجاتنا الواقعية، التي تختار من القيم والمبادئ وأنماط العيش والتفكير ما يخدمها ويلبيها.

"صراع الحضارات" هو سنَّة من سنن التطور التاريخي، الذي بفضله تتغير "الجينات الحضارية" وينتفي كل مبرر للقول بالحضارة الخالصة النقية.

وصراع الحضارات هذا لا يمت بصلة إلى مفهوم "صراع الحضارات" الذي استخدمته القوة الإمبريالية العظمى في العالم في تأليب شعبها وشعوب الغرب عموما على العرب والمسلمين، مدخلة في روعهم أنَّ حضارتهم المسيحية والليبرالية عرضة لهجوم "إرهابي" من "الحضارة الإسلامية" التي تمجِّد "القتل" و"الإرهاب" و"الاستبداد"، وأنَّ درأ هذا "الخطر" يستلزم غزو أفغانستان والعراق وتغيير "المناهج الدراسية" لدى العرب والمسلمين وتجريد هؤلاء من "أسلحة الدمار الشامل" ومن مصادر قوتهم "الإرهابية" مثل النفط.. ودعم إسرائيل في الحرب والسلام!

وهكذا يتضح أنَّ كل المعاني التي يدخلونها في مفهوم "صراع الحضارات" لا هدف لها سوى استثارة "الغريزة" و"العصبية" حتى يتيسر لهم زج شعوبهم ومجتمعاتهم في صراعات وحروب لا تعود بالنفع والفائدة إلا على أمثال تلك الشركة التي ألزمت تشيني أن يخدم الولايات المتحدة بما يتفق ومصالحها هي.

الحضارة في ميزانها التلمودي!

الحضارة العربية، هي "حضارة الكذب"؛ أمَّا "الحضارة اليهودية (والمسيحية) " فهي الحضارة.. الحضارة الحقيقية أو حضارة الحقيقة.

هذا القول، أو الحكم، ليس لمؤرخ أو مفكر أو باحث جاد؛ وليس لأوروبي أو آسيوي..

إنه ليهودي متعصب، ضيق الأفق، يستبد به شعور "الدونية الحضارية والهامشية التاريخية".
إنه لجنرال إسرائيلي، مهزوم، حضاريا وإنسانيا، من الداخل، ويؤمن بأن الحضارة ذاتها تنبع هي، أيضا، من فوهة البندقية. إنه للعسكري باراك، أحد عبدة "إله الجند"!

وقبل هذا الجنرال السيئ الطالع، الذي يرى في نفسه عبقريا له أفق يسع كل شيء ولا يسعه شيء، جاء المفكر اليهودي العظيم شمعون بيريز بما يشبه تقويض وإلغاء بديهية هندسية، فقال، وكأنه يحاضر في موتى، إنَّ حضارة وادي النيل لا شيء، وإنَّ حضارة بني إسرائيل هي كل شيء، متسائلا، في وقاحة الجهلة من بني قومه، عما إذا كانت أهرامات الجيزة العظيمة في مصر العظيمة، بشهادة التاريخ، ترقى إلى مصاف "التناخ"، الذي وفق زعمه المسترشد بمبدأ "إنْ لم تخجل فقل ما تشاء"، أسبغ على البشرية نعمة الفكر، فنقلها، بما يعج به من أوهام وخرافات وأساطير ومن عنصرية تافهة بغيضة، من الظلمات إلى النور. أخذ بيرس على حضارة الفراعنة طابعها الوثني ممتدحا "حضارة" بني إسرائيل، التي أبدعت "عقيدة التوحيد"، وجاءت بمأثرة "التناخ"، الذي فيه خلقت القبائل اليهودية البدوية إلهاً على مثال اليهودي القديم البائس، الذي بخيمته وأغنامه، التي ينتقل معها من مكان إلى آخر، كان عاجزا عن أن يبتني لنفسه حضارة وثنية مهيبة كحضارة المصريين القدامى. كان مضطرا إلى أن يكون "غير وثني"؛ وليس في الاضطرار فضيلة يا أولي الألباب!

أين هي تلك الحضارة، التي يزهو بها باراك ويفخر؟!

أين مكانها، ومتى كانت؟!

أين إنجازاتها ومعالمها وآثارها، التي لم يقوَ الزمن على محوها وطمسها؟!

أين حضارتهم؛ بل أين هم، بالمعيار، الذي وفقه، يتحدد وجود الشعب أو الأمة من عدمه؟!

هم عرق باد منذ آلاف السنين؛ أمَّا بقيته الباقية التي نجت من الانقراض فقد امتزجت وذابت في الشعوب والأمم الحية حتى صار التنقيب عنها من اختصاص علم الجينات. وفي هذا الامتزاج والذوبان، الذي يشبه امتزاج وذوبان قطرة حبر في بحر، حدثت المبادلة الأسوأ في التاريخ، فالبقية الباقية من قبائل بني إسرائيل أعطت قلة قليلة من هذه الشعوب والأمم خير منتجاتها الخرافية ("العهد القديم") لتأخذ منها، بعدما تفرق دمها فيها، شيئا من إبداعها الحضاري، فتهيأت الفرصة، بالتالي، لظهور عظماء من أمثال آينشتاين، الذي لم يتوصل إلى "النسبية العامة والخاصة" إلا لكونه ألمانيا، بالمعنى التاريخي لا العرقي لكلمة "ألماني". ما كان له أن يكون عبقريا مبدعا لو اهتدى بهدي خرافة "الوعد الرباني لإبرام العبراني".

عالم الآثار الإسرائيلي عاموس كلونر اكتشف سنة 1980 في القدس الغربية مغارة، أو كهفا، فيها (أو فيه) توابيت، أو نواويس، من الحجر، نُقِشَ فيها أسماء عبرية. وبعد دراسات وأبحاث وتحاليل، وُصِفَت بأنَّها "علمية"، أُعْلِن التوصُّل إلى "أدلة دامغة قاطعة مُفْحِمة" على أنَّ أحد تلك التوابيت يضم رفات، أي حطام عظام، المسيح، وقد نُقِشَ في هذا التابوت الحجري اسما عبريا هو "يشوع بار يوسف"، أي "يسوع بن يوسف"، أي المسيح. وضمَّ تابوت ثانٍ رفات "مريم المجدلية"، التي وُصِفَت، افتراضاً، بأنَّها "زوجة المسيح"، وضمَّ تابوت ثالث رفات "يهوذا بن يسوع"، الذي وُصِف بأنَّه "ابنهما"، أي ابن يسوع من "زوجته" مريم المجدلية. وضمَّ تابوت رابع رفات أمُّ المسيح، مريم العذراء. وضمَّ تابوت خامس رفات "يوسف"، وهو "شقيق" المسيح، بحسب ما يعتقدون. وضمَّ تابوت سادس رفات "يوسف (ثانٍ)"، وُصِف بأنَّه "خطيب مريم العذراء (والدة المسيح)".

ذلك "الاكتشاف ـ الفرضية"، والذي رفض التسليم بصحته عالم الآثار الإسرائيلي ذاته، تضمَّنه "فيلم وثائقي"، أنتجه (مع مُنْتِجين آخرين) مخرج فيلم "تايتانيك" جيمس كاميرون. والفيلم باعتباره "وثائقي" تضمَّن من الأدلة "العلمية" ما جعل مؤيِّديه والمدافعين عنه يتحدُّون معارضيه أنْ يأتوا بما يمكْنه دحض تلك الأدلة. وهذا الفيلم أتى بعد فيلم "شيفرة دافنشي"؛ وكلاهما يُصوِّر المسيح على أنَّه بَشَرٌ في ماهيته.

في المسيحية ليس من نفي لوجود "قبر حقيقي" للمسيح؛ ولكن ليس من اتفاق على مكانه، فإذا كانت الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية متَّفقةً على أنَّ هذا القبر موجود في كنيسة القيامة في القدس الشرقية فإنَّ البروتستانت يعتقدون بأنَّه يقع بعيدا قليلا عن موقع تلك الكنيسة، وإلى الشمال منها في خارج أسوار المدينة القديمة. ولكنهم جميعا متَّفقون على أنَّ لا جسد (ولا رفات) للمسيح في "قبره الحقيقي" هذا (أو ذاك) لأنَّ المسيح غادر قبره هذا، جسدا وروحا، أي "قام من الموت"، بعد ثلاثة أيام، ثمَّ صعد إلى السماء "على مرأى من بعض تلاميذه". وهذا إنَّما يعني، مسيحيا، أنَّ جسم المسيح ما عاد له من وجود على الأرض مُذْ "قام من الموت"، صاعدا إلى السماء.

وقبل هذا الذي قيل، في "لهجة علمية"، في بعض مسلَّمات "العهد الجديد"، كان "اكتشاف ـ فرضية"، من الوزن ذاته، في عُمْق "العهد القديم"، فالباحث الدكتور كمال الصليبي، وفي كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، جَمَع من "الأدلَّة العلمية" ما يكفي لدحض فكرة أنَّ فلسطين كانت المسرح الحقيقي لأحداث التوراة، فكل "الرواية التوراتية"، في رأيه، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في موقع جغرافي آخر، هو منطقة الحجاز، بوصفها "الموطن الحقيقي لبني إسرائيل"، وكتابهم، أي التوراة.

لقد اكتشف عالم الآثار الإسرائيلي عاموس كلونر "المغارة" و"توابيتها"، وإنْ رفض التسليم بصحة "التفسير الافتراضي" لاكتشافه. على أنَّ كلونر، وغيره من كبار علماء الآثار الإسرائيليين، قد أخفقوا، على كثرة جهودهم ومحاولاتهم، في إقامة الدليل على أنَّ "التوراة جاءت من فلسطين"، التي في طولها وعرضها لم يعثروا على شيء يُعْتَدُّ به لجهة تأكيد "الحق اليهودي التاريخي" في فلسطين. وأحسب أنَّ الفيلم الوثائقي الذي ينبغي للمنتجين السينمائيين والعلماء أن يتوفَّروا على إنتاجه ليس فيلم "قبر يسوع الضائع"، وإنَّما فيلم "هيكل سليمان الضائع". "قبر يسوع الضائع" لم يدحض حقيقة تاريخية كبرى هي أنَّ فلسطين كانت موطن "العهد الجديد"؛ ولكن "هيكل سليمان الضائع" سيدحض كذبة إسرائيلية كبرى هي أنَّ فلسطين هي موطن "العهد القديم".

القس الكوري ميونج مون شاهد مع الرئيس جورج بوش طائرات الشيخ أسامة بن لادن وهي تنقضُّ، في "غزوة نيويورك"، على "البرجين"، وسمع بـ "حرب الأفكار" التي قادها رامسفيلد لاستئصال "التعصُّب الإسلامي الأعمى" الذي يستأصل القدرة على التفكير،ويُفرِّخ، بالتالي، "إرهابيين إسلاميين حاقدين على الحضارة والديمقراطية"، وسمع، أيضاً، بـ "حوار الأديان" الذي على وفرة ما عَثَرَ عليه مِنْ "قواسم دينية مشترَكة" لم يُوَفَّق بَعْد في التغلُّب على "التزمُّت الديني" في النفوس والنصوص.. فقرَّر، بالتعاون مع الممثِّلين الإيديولوجيين (والسياسيين) لـ "المصالح الدنيوية التافهة"، أنْ يَختصر الطريق الطويل، فألَّف "قصَّة" جاء فيها أنَّ المسيح ظَهَر له وهو في السادسة عشرة مِنْ عمره، وأخبره أنَّ الله اختاره ليؤسِّس جنَّة على الأرض، وزوَّده "مبادئ ربَّانيَّة"، تَصْلُح لـ "ديانة سماوية جديدة"، يندمج فيها الإنجيل والقرآن. وبعدما بشَّره المسيح بأنَّه سيكون "المسيح الثاني"، زار السماء، فالتقى هناك النبي محمد والخلفاء الراشدين وبعض الصحابة، فوقفوا بين يديه، وآمنوا به إذ أمرهم الله باتِّباعه.

هذا "المسيح الثاني"، والذي تلقَّى الوحي مِنَ السماء، فجاء إلى الأرض، التي تدور فيها رحى الحرب السرمدية بين "الخير" و"الشر"، رسولاً للسلام، شرع ينشر ديانته الجديدة بين المسلمين، ولكنَّه اصطدم بعقبة أنَّ المسلمين يؤمنون بأنْ لا نبيَّ بعد النبيِّ العربي، فتفتَّق ذهنه عن حيلة، فذهب، بصفة كونه "داعية سلام"، إلى القدس، حيث التقى المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية الشيخ عكرمة صبري، وشخصيات إسلامية أُخرى، والْتُقِطت له الصور معهم، وقفل عائداً إلى المسلمين في دياره ليؤكِّد لهم بالصور أنَّ هؤلاء، أيضاً، قد وقفوا بين يديه وآمنوا به!

وبما يتَّفق مع طريقة الرئيس بوش في طلبه إقامة الدليل على عدم وجود "العنقاء العراقية"، قال للمتشكِّكين: "جيئوني ولو بدليل واحد على أنَّ المسيح لم يَظْهَر لي، وعلى أنَّ الله لم يكلِّفني بتأسيس الجنَّة على الأرض، وعلى أنَّ النبي محمد لم يقف بين يديَّ ويؤمن بي"!

قُلْنا إنَّ هذا "المانوي الجديد" قرَّر اختصار الطريق، فالقرآن مع الإنجيل يُدمَجان في "كتاب ربَّاني واحد جديد"، هو نسخة جديدة مِنْ أوهام "العهد القديم"، فبعدما "تهوَّد" الربُّ، ثانية، على يديِّ الرئيس بوش، واخترق التلمود أتْباع الإنجيل، ثمَّ الإنجيل ذاته، في عقر دار القوَّة الإمبريالية العظمى في العالم، اشتدَّت الحاجة إلى "ديانة جديدة"، يخترق فيها التلمود، القرآن أيضاً!

بوش.. ابن السماء!

لن نقسوا على "المسيح الثاني"، فهذا الشبل مِنْ ذاك الأسد، فالعالم الذي دخل القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد بذهنية القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد لم يُحرِّك ساكناً إذ فاجأه الرئيس بوش بـ "خبر" أنَّ السماء قد عقدت له الزعامة على معسكر "الخير والأخيار" في الحرب على معسكر "الشرِّ والأشرار"، وبـ "قرار" يُعْلِنُ فيه "ممثِّل إله الخير" أنَّ عدوَّه هو، أيضاً، كل من لا يقف إلى جانبه في هذه الحرب!

كيف يَنْظُر الإنسان إلى نفسه؟

وكيف يجعله "المحيطون به مِنْ ذوي التأثير" يَنْظُر إلى نفسه؟

وكيف ينبغي لنا أنْ نَنْظُر إلى "هذا" الإنسان؟

مصيبةٌ أنْ يُظْهِرَ الإنسان (الدَّجَّال) نفسه للناس على أنَّه يَمُتُّ بصلة قربى (أو بصلة الرحم) إلى "السماء". ولكنَّ المصيبة أدْهى وأمرُّ إذا نَظَرَ إلى نفسه على أنَّه كذلك فعلاً، أي إذا اقتنع بأنَّه "مبعوث العناية الإلهية"، أو في منزلته.

وأحسبُ أنَّ الرئيس بوش ليس "دجَّالاً"، وإنَّما "مُقْتَنِعٌ" بأنَّه "وحْيٌ يُوْحى". وأحسبُ، أيضاً، أنَّ "الدَّجَّالين"، مِنْ حَوْله، هُم الذين أدْخلوا في روعه أنَّ "روح القُدُس نَفَثَت في روعه أنَّ الربَّ هو الذي يلهمه الرأي والقرار"، فـ "سيِّد البيت الأبيض" إنَّما ينتمي إلى "ذوي النفوس الكبيرة والعقول الصغيرة"، أي إلى أولئك الذين فيهم يمكن العثور على "الرئيس" الذي هو "رأسٌ تُحرِّكها رقبة"، تارةً ظاهرة، وطوراً مستترة!

"الخبر السيِّئ" أنَّ "الرب" أمرَ "المولود الجديد"، أي جورج بوش الذي انتمى إلى كنيسة الإنجيليين سنة 1985 بعدما قضى الشباب مِنْ عُمْرِه في أعمالٍ تُغْضِبُ الرب كمثل معاقرة الخمر، بـ "فَتْح" أفغانستان والعراق، واستئصال شأفة الطغيان فيهما.

و"الخبر الجيَّد" أنَّ الربَّ أمره بأنْ يقيم للفلسطينيين دولة في جزء مِنْ "أرض الميعاد"، فـ "نَزَلَت" تلك "الخطَّة"، التي توهَّمْنا أنَّها مِنْ تدبير "اللجنة الدولية الرباعية"، والمسمَّاة "خريطة الطريق"!

"الرئيس" قال إنَّ "الربَّ" خاطبه قائلاً: "جورج إنْهِ الطغيان في أفغانستان والعراق، وأَقِمْ للفلسطينيين دولة، واحفظْ للإسرائيليين أمنهم"، فأجابه "المأمور" قائلاً: "سأفعل"!

وكشف "الرئيس" أنَّ "الربَّ" كلَّمَهُ عن "السلام في الشرق الأوسط"، وأهميَّة تحقيقه. على أنَّ "الرئيس" أوضح أنَّه "لا يستخدم الإرادة الإلهيَّة في تبرير القرارات (السياسية) التي يتَّخذها"، ويحاول، فحسب، أنْ يكون "رسولاً يُنَفِّذُ إرادة الرب".

وقد يكون هذا هو السبب الذي حَمَلَهُ على رفض الامتثال لـ "الشرعية الدولية"، فَمَنْ نال "شرعية السماء" لا يعبأ بـ "شرعيَّة أرضية"، ولو كانت شرعيَّة الأمم المتحدة!

ميثولوجيا "الإرهاب" و"الإرهاب الآخر"!

وفي "الإرهاب"، وفي "الحرب عليه"، نرى أيضاً الميثولوجيا تزدهر تفسيراً وتعليلاً.. ففي "تفسير ميثولوجي" للضربة الإرهابية في "عاصمة الضباب"، رأى "أبو عبد الله"، وهو الناطق باسم "أبو حمزة المصري" وخليفته في صفة "أمير" جماعة "أنصار الشريعة"، أنَّ استفحال "الزِّنا واللواط" في المملكة المتَّحدة هو الذي عاد عليها بهذا "العقاب الربَّاني". على أنَّ هذا "التفسير" لم يمنعه مِنْ أنْ ينسب التفجيرات الإرهابية في لندن إلى "أيدٍ خفية"، بعضها مِنَ "الحكومة البريطانية"، وبعضها مِنَ "جماعات الضغط اليهودية"، فـ "لأصحاب هذه الأيدي" مصلحة في "زَرْع الخوف" بين المواطنين البريطانيين. وهذا "أُسلوب هتلري استلهموه"، وقد يفيدهم، أيضاً، في "توريط" المسلمين.

ومع أنَّني لستُ مِنَ المعتقدين بجدوى محاربة الإرهاب في "داخل العقول والنفوس والنصوص"، وكأننا نسعى لإزالة الشيء مِنْ خلال إزالة صورته في المرآة، فإنَّني أُؤيِّد الدعوة إلى حملة عربية قومية ديمقراطية مِنْ أجل "بتر واقتلاع الفكر السلفي التكفيري"، الذي يتوفَّر دعاته وعلماؤه ومشايخه على تأويل "النص الديني" في طريقة تُظْهِر الإسلام على أنَّه العقيدة التي يمثِّلها خير تمثيل أسامة بن لادن، وأمثاله، مِنَ "المجاهدين"، الذين، عن وعي أو عن غير وعي، لا يعرفون مِنَ الجهاد إلاَّ ما يعود بالنفع والفائدة على الولايات المتحدة وإسرائيل في "جهادهما" في سبيل القضاء على ما بقي لدينا مِنْ قوى البقاء القومي.

هؤلاء المشايخ، الذين يمثِّلون في أفكارهم وعقائدهم الموات الفكري والحضاري والإنساني، يتَّخذون "الاحتياج الديمقراطي والقومي والاقتصادي والحضاري والإنساني" لدى شبابنا سوقاً لبضائعهم الفكرية الفاسدة والمغشوشة، فالمحتاج لا بدَّ له مِنْ أنْ يلبِّي حاجته، وليس في "السوق"، التي تحميها حكوماتنا بـ "الديمقراطية الغائبة المفقودة"، غير تلك البضائع، فيُقْبِلُ عليها، كمثل جائع يتضوَّر جوعاً فلا يجد شيئاً يأكل غير معلَّبات غذائية فاسدة انتهت صلاحية استخدامها منذ زمن طويل.

لو أنَّ حكوماتنا "حرَّرت" هذه "السوق الفكرية"، وسمحت للمنافسة بأنْ تسودها، لوَجَدَ شبابنا فيها غير أولئك التجار مِنَ "المشايخ"، وغير بضائعهم الفكرية الفاسدة المغشوشة، ولخرجوا، أخيراً، ومِنْ دون "الأساليب البوليسية" في مكافحة الإرهاب، مع بضائعهم، مِنْ تلك السوق.

مَنْ أراد، حقاً، مكافحة الإرهاب، عليه أنْ يقرَّ، أولاً، بحاجة شبابنا، الذين يرون العدم خيراً مِنَ الوجود، إلى أنْ يبادِل عدوه القومي، أي إسرائيل والولايات المتحدة، عداءً بعداء، وإلى تجربة سياسية تقنعه بأنَّ لديه مِنَ الحقوق والحرِّيات الديمقراطية، ومِنْ احترام الحكومات وأنظمة الحكم لها، ما يمكِّنه مِنْ أنْ يكون سيِّد نفسه، وصانعاً للتغيير الذي يريد ويحتاج إليه.

شبابنا لا يرى مِنْ وجود فعلي له في الحياة السياسية، وكأنَّ الوطن سجن وسجَّان. ولا يرى مِنْ حكوماته، في كل معارك الدفاع عن الوجود القومي، إلاَّ "الامتناع" و"المنع"، فهي ممعنة في الامتناع عن "الدفاع (غير الإرهابي)"، وفي منع شعوبها ومجتمعاتها مِنْ أنْ تقوم هي بنفسها بالمهمة. شبابنا هذا ليس مِنْ خيار له إلاَّ أنْ يستجير مِنْ رمضاء حكوماته بنار "مشايخ الإرهاب والتكفير والتزمُّت"، وكأنَّ حكوماتنا لم تحكم إلاَّ بما يؤدِّي إلى تمليك هؤلاء المشايخ "مستودعات بشرية"!

مَنْ أراد، حقاً، مكافحة الإرهاب، عليه أنْ يدل شبابنا على "الطريق القويم" إلى حماية وجودنا القومي مِنْ إسرائيل والولايات المتحدة، فنحن، في مبادَلتنا لعدوِّنا القومي هذا عداء بعداء، لا نحتاج إلى نبذ الصراع، وإنَّما إلى تعلُّمه وإتقانه، وإلى أنْ ننبذ، إلى الأبد، الأُسلوبين الفاشلين: أُسلوب حكوماتنا وأُسلوب أسامة بن لادن.

وفي معركة "بتر واقتلاع الفكر السلفي التكفيري"، لا نقول بالقمع البوليسي لأصحاب هذا الفكر ودعاته، وإنَّما بالمنافسة الحرَّة في "السوق الفكرية" التي لا مكان فيها ولا دور للشرطي، فتحرير العقول والنفوس مِنْ هذا "الاحتلال" لا يتحقَّق إلاَّ بـ "قوَّة الحجة"، وبالفكر المضاد الذي فيه مِنَ القوَّة والحيوية والديناميَّة، ما يسمح له بتلبية الحاجات الأساسية للناس، وبالخروج فائزاً مِنْ صراع البقاء.

الإرهاب إنَّما يستمد قوة مِنْ "طبيعة هدفه"، التي تزداد إيجابية بالنسبة إليه مع كل نجاح تحرزه الحرب العالمية عليه، وكأنَّ هذه الحرب لا يمكن المضي فيها قدماً، وتشديدها، والزج بمزيد مِنَ القوى فيها، مِنْ غير أنْ تمده بمزيد مِنْ أسباب القوة والنماء والحياة، وأنْ تجعل مكافحته أشد صعوبة مِنْ ذي قبل.

منطقان متضادان تنطوي عليهما "الحربان" في "القرية العالمية"، فمنطق "حرب الإرهاب" هو "الضرب حيث تستطيع الضرب"، وليس "حيث ينبغي لك الضرب"، ومنطق "الحرب على الإرهاب" هو "الضرب حيث يضر ولا يفيد الضرب". الإرهاب لا يستطيع أنْ يضرب حيث يجب أنْ يضرب، أي حيث يصيب مقتلاً مِنَ الخصم أو العدو، فـ "الأهداف" هنا ليست في متناول اليد. إنَّها في حصن حصين، وفي بروج مشيَّدة. وتستطيع الدول والحكومات أنْ تحمي تلك الأهداف بقليل مِنَ الجهد.

ولا شكَّ في أنَّ العداء للولايات المتحدة، وحلفائها الدوليين والإقليميين، كان سيُتَرْجَم بـ "أعمال قتالية مختلفة"، يصعب إدراجها في مفهوم "الإرهاب"، لو كان ممكناً ضربها، وضربهم، حيث يجب الضرب، أي حيث يصيب مقتلاً منها، ومنهم. لقد اجتمع فيها، وفيهم، "الظًُلم العظيم" مع "الجبروت"، فكان لا بدَّ لهذه "الوحشية المنظَّمة" مِنْ أنْ تُنْتِج، في المظلومين الضعفاء، نقيضها، وهو "الوحشية العشواء".

المظلومون فشلوا في خوض "الحرب النظيفة"، وفي خوض الصراع الذي ينبغي لهم خوضه في سبيل التغيير الذي يحتاجون إليه، فخرج الإرهاب مِنْ رحم هذا الفشل، الذي تحوَّل إلى "نجاح" في قتل مدنيين أبرياء حيث يمكن قتلهم، وليس مِنْ مكان يصعب فيه قتل وإيذاء المدنيين الأبرياء. لقد تبدَّلت "طبيعة الهدف"، فأصبح هزم هذا الإرهاب هدفاً غير واقعي، وأصبحت الحرب عليه كصبِّ الزيت على النار.

والإرهاب الذي يضرب ويُضرب يستمد قوَّة ليس مِنْ "طبيعة الهدف" فحسب، وإنَّما مِنْ وسائله وأساليبه، التي تسمح له بأنْ "يعيل نفسه بنفسه"، فبضعة أفراد، وبقليل مِنَ الجهد والمال يستطيعون اقتناء وسائل ومواد للقتل والتدمير، واستعمالها، مِنْ ثمَّ، في ضرب مدنيين أبرياء في هذا الموضع الذي يحتشدون فيه أو ذاك. أمَّا "النتائج الأهم" فهي التي تتمخَّض سريعاً عن "التفاعُل الإعلامي" لـ "الحدث"، فهذا التفاعُل، وليس العمل الإرهابي في حدِّ ذاته، هو ما يغري باللجوء إلى الإرهاب، فـ "التفاعُل الإعلامي" للضربات الإرهابية هو ما جَعَلَ لها هذا الوزن والتأثير، فالعمل الإرهابي في حدِّ ذاته لا يُنْتِج إلاَّ قطرة في بحر ما يُنْتِجَهُ تفاعله الإعلامي.

ولجعل "الهدف"، الذي في متناوَل الأيدي، في متناول العقول والنفوس أيضاً، يُصوَّر قتل المدنيين الأبرياء على أنَّه عمل مُبرَّر حتى مِنَ الوجهة الدينية والأخلاقية، فالبشر يخترعون مِنَ الأخلاق والعقائد كل ما يُبرِّر لهم ارتكاب الجرائم، فالسائح الغربي الذي جاء إلى شرم الشيخ، مثلاً، إنَّما جاء لنشر الفسق والفجور. ويكفي أنْ يُفسَّر وجوده ومجيئه على هذا النحو حتى يصبح قتله هدفاً في حدِّ ذاته.

وما يكسب الإرهاب مزيداً مِنَ "الجاذبية" أنَّ ما يلحقه مِنْ خسائر بالمجتمعات يَقِلُّ كثيراً، وكثيراً جداً، عن الخسائر التي تتكبدها المجتمعات في مكافحته ومحاربته، وكأنَّ "الوقاية" قنطار، و"العلاج" درهم!

وينبغي لنا ألاَّ نضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ ثمَّة "أيدٍ خفية" في كثير مِنَ الأعمال الإرهابية، فالإرهابيون كثيراً ما "يحالفهم الحظ"، الذي ليس بـ "حظ"، في أعمالهم الإرهابية، إعداداً وتخطيطاً وتنفيذاً، فلا يرون مِنَ "الأيدي" سوى ما ظَهَرَ منها، أي أيديهم فحسب، فـ "التسهيلات اللوجيستية" لا يحصلون عليها، دائماً، بكدِّهم وعرق جبينهم وذكائهم. وأحسب أنَّ ضرباتهم في كثير من الأماكن لم يوفقَّوا فيها إلاَّ بفضل "الأيدي الخفية"!

الحرب العالمية الحقيقية على الإرهاب لم تبدأ بَعْد، فهي لن تبدأ قَبْلَ "تغيير المناخ العالمي"، الذي لن يتغيَّر قَبْلَ أنْ تتغيَّر الولايات المتحدة نفسها، فـ "حصَّتنا مِنَ الإرهاب" لا تتعدَّى "الأيدي والأدوات". أمَّا حصَّتهم هُم فتعدل "حصَّة الأسد"!

في "وسيلة نقل عامة" في قَلْب عاصمة أوروبية، تُفجَّر قنبلة، فيُقْتَل العشرات، ويُجْرَح المئات، مِنَ المدنيين، الذين مِنْهُم أطفال ونساء. وربَّما كان بعضهم مِنَ المسلمين. هؤلاء هم الضحايا، أو الضحية الأولى والكبرى.

إنَّ هذا الذي قام بهذا العمل (ولا أُريدُ هنا تسمية أو وصف هذا العمل فهو يُسمِّي ويصف نفسه بنفسه) قد أراد ضَرْب "العدو"، فهو، وهنا تكمن المصيبة الكبرى، يرى في هؤلاء الضحايا "العدو" الذي ينبغي له ضربه وقتله، أو يرى في قتلهم وإيذائهم "وسيلة" يَضْرِبُ بها "العدو" المحمي في حصن حصين ولا يستطيع، بالتالي، الوصول إليه وضربه مباشَرةً.

هذا "التصوُّر" سأُضَمِّنَهُ "فرضية" هي أنَّ القائم بـ "العمل" كان "مسلماً، أو "إسلامياً"، وأنَّ لديه مِنْ قوَّة "التزمُّت الديني" ما يُسوِّل له قتل "الآخر"، ولو كان مدنياً.. ولو كان طفلاً أو امرأةً. وهذا الذي قام بهذا "العمل" لا بدَّ أنَّه قد توقَّع أنْ يكون "مسلمون" بين ضحاياه، فكيف يمكنه، في هذه الحال، أنْ يكون راضياً عن نفسه؟ ربَّما أنَّه اعتقد بـ "فتوى" مماثِلة لتلك التي أصدرها المرحوم الزرقاوي، والتي جاء فيها أنَّ مثل هذا المسلم الضحية يُحتَسبُ عند الله شهيداً، فهو لم يُقْتَل على يديِّ مسلم إلاَّ لأنَّه كان مقيماً بين "أعداء" لا بدَّ مِنْ ضربهم، ولكن لا يمكن ضربهم مِنْ دون قتله أو إيذائه!

وتَعْظُم "المصيبة" مع الانتقال إلى ما يشبه "التبرير السياسي"، فهذا "العمل" يفهمه القائمون به، ومؤيِّدوهم، على أنَّه تجريعٌ لـ "العدو" مِنَ العذاب ذاته الذي يُذيقنا في فلسطين والعراق وأفغانستان، فهو يرتكب الجرائم في حق مدنيينا الأبرياء العُزَّل مِنْ أطفال ونساء وشيوخ، ولا بدَّ لنا، بالتالي، مِنْ أنْ نُذيقه العذاب ذاته لعلَّه يرعوي. وهذا "التبرير" يستمدُّ مزيداً مِنَ "المنطق" مِنْ عواقب "التفوُّق القتالي" لـ "العدو"، فهذا التفوُّق يمنعنا مِنْ ضربه حيث يجب أنْ يُضْرَب، ويَحُولُ بيننا وبين خوض "الحرب النظيفة"، أي الحرب التي تكفينا شرَّ هذا "الإرهاب الأعمى".

في هذه "الحجَّة"، التي يَظْهَرُ فيها "الإرهاب" على أنَّه سلاح "الضحايا الضعفاء"، شيءٌ مِنَ المنطق. ولكنَّ ذلك لا يُبرِّر، ويجب ألاَّ يُبرِّر، محاربة الجريمة بالجريمة، وينبغي له ألاَّ يُضْعِفَ مناعتنا الداخلية، فيتمكَّن "العدو"، بالتالي، مِنْ أنْ يُعيد خَلْقنا على صورته ومثاله.

الردُّ لا يكون بـ "الإرهاب الأعمى"، وإنَّما بـ "تمليك" شعوبنا ومجتمعاتنا مِنَ الحقوق والحرِّيات السياسية والديمقراطية ما يسمح لها بأنْ تُدافع عن نفسها في طريقة مجدية فعلاً، وتُظْهِرُ فيها تفوُّقاً حضارياً وأخلاقياً.

أُنْظُروا، مثلاً، إلى ما انتهت إليه محاولاتنا المختلفة، في العالم العربي والإسلامي، لتحديد موقف مِنَ "العمليات الاستشهادية (أو الانتحارية)"، فتارةً "نحلِّل (دينياً)"، وطوراً "نُحرِّم"، حتى أنَّ المواطن العادي ما عاد في مقدوره أنْ يقف موقفاً ثابتاً ومتماسكاً ومنسجماً مِنْ هذه العمليات. تارةً، مجَّدوا دينياً، أي إسلامياً، هذه العمليات، واعتبروها "جهاداً"، يستحق صاحبه "الجنَّة"، وطوراً، لعنوها ، واعتبروها "انتحاراً"، و"كل منتحِر مصيره جهنَّم".

لقد غاب عن "المحلِّلين" و"المحرِّمين" مسألة في منتهى الأهميَّة هي أنَّ "الواقعة"، أو "الظاهرة"، حديثة النشأة، وليس في "المرجعية الدينية" مِنَ "النص"، أو "الاجتهاد"، أو "التفسير"، أو "التأويل"، ما يسمح، بالتالي، بتحديد "موقف ديني" منها، "تحليلاً"، أو "تحريماً". "العملية الاستشهادية (أو الانتحارية)"، أو ما يسمَّى "القنبلة البشرية (الإسلامية)"، إنَّما هي "مُرَكَّب"، حديث النشأة، يتألَّف مِنْ ثلاثة عناصر، أو مكوِّنات، هي: "الانتحار"، و"المتفجِّرات" في شكل "الحزام الناسف" مثلاً، و"الدافع الديني"، الذي يختلط فيه "الدافع القومي".

مَنْ أراد "التحليل" ضَرَب صفحاً عن "الفعل الانتحاري"، مُبْرِزاً أهمية "الدافع الديني"، فالقائم بـ "العملية الانتحارية" إنَّما قَتَلَ نفسه في سبيل أنْ يقتل عدوَّاً لنا، هو، بحسب مبرِّرات دينية مُقْنِعة لعامة الناس المسلمين، عدو لله أيضاً. وفي هذا مِنْ معاني "الجهاد" ما يملي علينا النظر إلى "الانتحاري" على أنَّه "مجاهد استشهادي"، مصيره، الذي لا ريب فيه، هو "الجنَّة".

أمَّا مَنْ أراد "التحريم" فأبرز، في حججه، "الانتحار"، الذي هو فعل لا ريب في تحريمه دينياً. وطَعَّم هذا الموقف بشيء مِنَ "الخُلق الديني"، فـ "المدني الإسرائيلي اليهودي البريء الأعزل" يجب ألا يستهدفه "العمل الجهادي"، بدعوى أنَّ بهذه الأخلاق تَخَلَّق المحارب الإسلامي في فتحه البلدان الأجنبية. وطالما رُدَّ على هذه الحجَّة بحجَّة مضادة، مؤدَّاها أنَّ هذا "المدني" هو جزء مِنْ مُحتلٍ أجنبي كافر لديار إسلامية على درجة عالية مِنَ القدسية الدينية.

ما أُريد قوله هو أنَّ "الجهاد الإسلامي القديم"، وفي زمن نزول القرآن على وجه الخصوص، لَمْ يَعْرِف تلك "الواقعة" لسبب بسيط هو أنَّ "المتفجِّرات"، وفي شكل "الحزام الناسف" تحديداً، لَمْ تَكُن قد اخْتُرِعَت بَعْد، فالمحارب الإسلامي القديم ما كان في مقدوره أنْ يصبح "قنبلة بشرية"، فيقتل نفسه في حشد مِنَ الأعداء، وفي سبيل أنْ يقتلهم، دفاعاً عمَّا يرى فيه قدسية دينية.

لقد عرفوا "فِعْلَ الانتحار"، الذي حُرِّم دينياً، ولكنَّهم لم يعرفوا قط ظاهرة "أنْ تَقْتُلَ بانتحارك عدوَّا (للمسلم ولله)". وهذا يكفي سبباً للنظر إلى "العمليات الانتحارية" بـ "عيون السياسة" وليس بـ "عيون الدين".

إنَّ "الإرهاب" هو "العنف" الذي "يستهدف" المدنيين الأبرياء العزَّل، بصرف النظر عن جنسهم وجنسيتهم ودينهم، توصُّلاً إلى "هدف سياسي". والعجز عن خوض "الحرب النظيفة" ضدَّ عدو متفوِّق عسكرياً يجب أنْ يشدِّد الحاجة إلى "المقاوَمة الشعبية الشاملة والمنظَّمة"، وليس إلى "الإرهاب"، وضرب "الأهداف (المدنية) الرخوة"، فبهذا "التفوُّق"، وبأمثاله، يصبح ممكناً التغلُّب على عواقب ذلك العجز.

"الإرهاب الأعمى" لا ينال مِنْ قوَّة "العدو"، وإنَّما يزيده قوَّة، وهو لن يؤدِّي إلاَّ إلى مجتمعٍ زُرِعَ فيه مِنَ الخوف ما يكفي لجعله في مَيْلٍ أشد إلى التضحية بكل تلك القيم والمبادئ التي لنا مصلحة حقيقية في بقائه مستمسكاً بها، فهذا "الإرهاب الأعمى" إنَّما يزرع مع "الخوف" أسباب "النازية" و"العنصرية"، ويرفع، حتماً، منسوب "الوحشية السياسية" في "العولمة"، التي هي، بِحُكْم طبيعتها الرأسمالية، مُحبَّة لـ "الوحشية"!

والمدنيون الأبرياء حيث يجتمعون ويتركَّزون هُمْ، دائماً، الصيد السهل، ولكن غير الثمين، فالإرهابيون يتوهَّمون أنَّ هجوماً إرهابياً يذهب ضحيته عشرات، أو مئات، أو آلاف، المدنيين الأبرياء، سيتفاعَل، في المجتمع الديمقراطي، في طريقة تؤدِّي إلى إطاحة الحكومة المعادية، والمجيء بحكومة صديقة. وقد أتت التجربة دائماً بما ينبغي له أنْ يقوِّض هذا الوهم، فالإرهاب يتفاعَل، في داخل تلك المجتمعات، في طريقة تجعل العداء لنا ولقضايانا ينتشر مِنَ "القمَّة الحكومية" إلى "القاعدة الشعبية"، وكأنَّه لا يشق الطريق إلاَّ إلى مزيدٍ مِنَ "التحوُّل النازي" لتلك المجتمعات. هذا الإرهاب يجب أنْ تنتفي الحاجة إليه. وليس مِنْ سبيل إلى ذلك سوى تمكين شعوبنا ومجتمعاتنا مِنْ أنْ تكون سيَّدة نفسها حقَّاً، عَبْرَ "حكومات تمثيلية ديمقراطية منتخَبة"، تستطيع أنْ تخوض، مع شعوبها ومجتمعاتها، الصراع بوسائل وأدوات وأساليب مجدية حقَّاً.

"الإرهاب"، بأسبابه وعواقبه، يدلُّنا بنفسه على "الطريق" المؤدِّية إلى مكافحته والقضاء عليه، جذوراً وفروعاً. إنَّها "الديمقراطية"، ولا شيء آخر سواها!

"كلُّ الكلاب حيوانات". إنَّها بديهية لا يختلف فيها اثنان مِنَ البشر العقلاء. أمَّا عندما تُصاب البصيرة بهذا العمى أو ذاك فإنَّ ما كان بديهية يتحوَّل إلى مَصْدرٍ لأفكار وأحكام ضد العقل والمنطق، فيُقال: "كل الحيوانات يجب أنْ تكون كلاباً؛ لأنَّ كل الكلاب حيوانات"!

هذا "العمى" في البصيرة كان مشترَكاً بين الإرهابيين الذين يضربون مدنيين أبرياء وأولئك القادة والمسؤولين الحكوميين في الغرب الذين يسرعون في نَسْبِ تلك الجرائم الإرهابية إلى المسلمين، وكأنَّهم مِنْ مدرسة ذلك الفيلسوف الذي كان يَنْسِب كل شيء يجهله إلى "الروح"!

إنَّ "العمى" هو الذي يقود "حرب الإرهاب" و"الحرب على الإرهاب"، وكلا الخصمين نجح، وينجح، في خَلْق الآخر على صورته ومثاله. وكلاهما يشتد ميله إلى اتِّخاذ "الجريمة" وسيلة لبلوغ أهدافه، فالمدنيون الأبرياء هُمْ الكرة التي يتقاذفها اللاعبان، وكأنَّ "العولمة" تعني سياسياً رَفْع منسوب الوحشية في السياسة، أهدافاً ووسائل.

صورة العدو

في عالم السياسة اليوم، نرى ميلا متزايدا إلى "اختراع الأعداء" وكأنَّ العالم خلا من الأعداء الواقعيين الحقيقيين، فالولايات المتحدة ما أنْ أسدى إليها التاريخ خدمته الجليلة، وهي القضاء على عدوِّها الطبيعي والتاريخي الأوَّل وهو الاتحاد السوفياتي، حتى شرعت تبحث عن عدو جديد يملأ الفراغ، فاخترعت هذا العدو، وهو "الإرهاب العالمي"، الذي يلده "التطرف الديني" لدى المسلمين، ولدى العرب منهم على وجه الخصوص، والذي مالت إلى تصويره على أنَّه نتاج طبيعي للإسلام ذاته حتى أنَّها تحدَّثت، بالتصريح تارة وبالتلميح طورا، عن ضرورة إصلاح الدين الإسلامي في طريقة تؤدِّي إلى تجفيف منابع "التطرف الديني" و"الإرهاب" فيه.

ومع احتلالها للعراق، وتنامي واشتداد شعورها بالعجز عن كسب "معركة السلام" فيه، أي تحويل نصرها العسكري إلى نصر سياسي، شرعت تبذل جهودا، بعضها في العلن وبعضها في الخفاء، من أجل اختراع مزيد من الأعداء، فالوحدة القومية للشعب العراقي هي عدو حقيقي لهيمنتها الإمبريالية على العراق، ولا بد، بالتالي، من القضاء على هذا العدو عبر تمزيق هذه الوحدة إربا إربا بقوة العصبية الطائفية والعشائرية والعرقية، التي هي المحتوى الحقيقي للديمقراطية والفدرالية في "العراق الجديد".

"العدو المخترَع" إنَّما يشبه "النقد المزوَّر"، فهذا النقد لا أهمية ولا فائدة له إلا في وجود "النقد الحقيقي"، ويكفي أنْ ترى نقدا مزوَّرا حتى تتأكد أنَّ النقد الحقيقي موجود، فالناس لا يزوِّرون النقود بسبب اختفاء النقد الحقيقي من الوجود؛ وإنَّما بسبب وجوده. وأحسب أنَّه ينبغي لنا أنْ نفهم "العدو المخترَع"، أو "اختراع الأعداء"، في الطريقة ذاتها، فالولايات المتحدة (وغيرها) لا تخترع الأعداء بسبب اختفاء العدو الحقيقي من الوجود؛ وإنَّما بسبب وجوده، فالعدو المخترَع هو خير دليل على وجود العدو الحقيقي الواقعي، ولا أهمية ولا فائدة له إلا في وجود العدو الحقيقي.

العدو الحقيقي الطبيعي الواقعي (بعد زوال الاتحاد السوفياتي) كان في داخلها. كان شعبها الذي امتلك من الحرِّيات السياسية والديمقراطية أكثر مما يحق له، فالحرب الباردة انتهت، والعدو التاريخي هُزِم شرَّ هزيمة، وكان لا بد، بالتالي، لذوي المصالح الفئوية الضيِّقة في داخل الولايات المتحدة والذين مثَّلتهم إدارة الرئيس بوش خير تمثيل من أنْ يتفلتوا من قيودهم عبر اتخاذ "الإرهاب" قيدا يقيِّدون به حرِّيات شعبهم تلك. إنَّهم، ومن أجل محاربة هذا العدو الداخلي الحقيقي، اخترعوا عدوا سمُّوه "الإرهاب العالمي"، فارهبوا شعبهم، فشرعوا يعرُّونه شيئا فشيئا من حقوقه وحرَّياته السياسية والديمقراطية والمدنية. وهكذا حاربوا "العدو الوهمي" وهو "الإرهاب العالمي" حتى أحرزوا النصر على عدوِّهم الداخلي الحقيقي!

مصالحهم الفئوية الضيِّقة قضت، أيضا، بالسيطرة العسكرية والسياسية على "العراق النفطي"، وعلى كل ما في العالم العربي من أشياء يعتقدون أنَّ سيطرتهم عليها ستسمح للولايات المتحدة، التي يحكمون قبضتهم عليها، بحُكْم العالم. وقبل أنْ يطلقوا الرصاصة الأولى في حربهم الإمبريالية على العرب، بدءا من العراق، كانوا يعلمون علم اليقين أنَّ سعيهم الإمبريالي سيلقى مقاومة، وأنَّ الإسلام سيكون خطابها الفكري والسياسي هذه المرَّة، فغيره من العقائد هُزِم وكان مثخنا بالجراح.

إنَّها المقاومة ذاتها، بالدوافع والأهداف ذاتها؛ ولكن بلغة دينية إسلامية هذه المرة. كان هذا هو العدو الحقيقي الواقعي للولايات المتحدة، فحاربته، دوليا وإقليميا، بدعوى محاربة قوى التطرف الديني والإرهاب، التي ينتجها الإسلام بسبب منع الإصلاح السياسي والديمقراطي والتربوي عن المجتمعات العربية والإسلامية. أمَّا داخليا، أي في داخل العراق، فاخترعت الولايات المتحدة العداء الطائفي والعشائري والعرقي، معتقدة أنَّ العصبية الطائفية والعشائرية والعرقية ستنجح حيث فشل "المارينز"، أي أنَّها ستصيب مقتلا من المقاومة العسكرية العراقية، ومعتقدة، أيضا، أنَّ عدواها ستصيب الجيران من عرب وفرس وسنة وشيعة، وكأنَّ "العظْمة" تكفي لإشعال صراع في داخل العراق وفي جواره يسمح للولايات المتحدة بالتهام اللَحْمة!

لقد اخترعت لنا عدوا نستنفد طاقتنا في محاربته، أي في محاربة بعضنا بعضا بهذا السلاح من العصبية التافهة، فنلهوا به ونغفل عنها وعن إسرائيل، أي عن عدونا الحقيقي الواقعي!

قُلْ لي مَنْ هو عدوك أقول لك مَنْ أنت!

الإنسان أكان فردا أم جماعة يحتاج إلى "الصديق"، و"الحليف"، وإلى مَنْ يأمن جانبه ويطمئن ويأنس إليه ويجد فيه العون والمساعدة؛ كما يحتاج، خلافا لما قد نظن ونعتقد، إلى "العدو".

وإذا كانت "المقارنة" بين الأشياء هي البحث عن أوجه التماثل (التشابه) والاختلاف (التباين) بين شيئين فإنَّ بين "العدوين" من أوجه التماثل وأوجه الاختلاف ما يسوِّغ عقد مقارنة بينهما، فالأشياء المختلفة هي ذاتها "المتشابهة"، و"المتشابهة" هي ذاتها "المختلفة".

قد نفهم "العدو" على أنَّه "المختلف" عنا؛ ولكن هذا الفهم لا يشتمل إلا على نصف الحقيقة فحسب، فنصفها الآخر يكمن في أنْ نفهم "العدو" على أنَّه "المماثل" لنا في بعض الصفات والنواحي والأوجه. إنَّ عدونا هو "المرآة" التي يمكننا أنْ نرى فيها "نصفنا الآخر"، أي تلك الصفات والنواحي والأوجه التي نشترك فيها معه.

وينبغي لنا أنْ نفهم "العداء"، في جانب من جوانبه، على أنَّه "قوة تربوية"، بفضلها نتطبع بطباع عدونا، أي ذاك الذي كانت (أو صارت) له مصلحة في اتخاذنا عدوا له، أو ذاك الذي كانت (أو صارت) لنا مصلحة في اتخاذه عدوا لنا.

و"العداء" ليس بالحالة "الثابتة"، فهو يتبدَّل مع تبدُّل "المصالح"، التي فيها، أيضا، يكمن سر "الصداقة"، فليس مِنْ "عداء"، أو "صداقة"، إلا ويضرب جذوره عميقا في "المصالح الواقعية" للبشر مهما ظهر أو أُظهر لنا على أنَّه "روحاني" الجذور، فكلا العدوين يحاول، دائما، تمويه "حالة العداء" بالإيديولوجيا، التي لا يمكننا فهمها فهما صحيحا إذا ما ضربنا صفحا عن حقيقة أنَّها "انعكاس مشوَّه" للأسباب الواقعية للعداء.

ويميل البشر إلى أنْ يجعلوا لعدوهم "صورة إيديولوجية" تشحن نفوسهم بطاقة عدائية هائلة حتى يغدو قتل "العدو" مثل قتل حشرة في سهولته النفسية، فالعدو يجب أنْ يفقد، في هذه الصورة، كل تلك السمات والخصائص التي قد تستثير في نفوسنا رادعا إنسانيا يردعنا عن إيذائه.

و"العداء"، في هذه الرؤية، يشبه "الحب"، فكلاهما أعمى أو يصيب الإنسان بالعمى، الذي هو و"العصبية" صنوان.

البشر مختلفون في صفاتهم الجسدية والثقافية والاجتماعية.. وكثيرا ما فهموا "العداء" على أنَّه ثمرة لهذا الاختلاف، فإذا ما ظهر عداء بين "أبيض" و"أسود" من الجنس البشري فإنَّ كلا العدوين يميل إلى تفسيره وتعليله باختلاف "لون البشرة". وإذا ما ظهر عداء بين جماعتين تختلفان في الدين فإنَّ كلتاهما تميل إلى تفسيره وتعليله بهذا "الاختلاف الثقافي".

وهكذا نميل إلى أنْ نضرب صفحا عن "الأسباب الواقعية" للعداء وعن "المصالح" التي فيها تكمن جذوره، مفضِّلين البحث عن "أسبابه الوهمية"، التي نعثر عليها، دائما، في اختلاف الصفات الجسدية والثقافية والاجتماعية، وكأنَّ طريقة التفكير المفضَّلة لدينا هي ذاتها التي عبرها نتوصل إلى معرفة من قبيل أنَّ الشمس هي التي تدور حول الأرض!

مَنْ تلقَّى تربية "عشائرية" أو "قبلية"، يبحث، دائما، عن عدوه في العشائر والقبائل، فعدوه "المفضَّل" لن يكون، مثلا، من نمط "قومي" أو "طبقي". ومَنْ تلقَّى تربية "قومية" أو "عنصرية"، يبحث عن عدوه في "جماعة قومية" أو "جماعة عرقية". ومَنْ تلقَّى تربية "طبقية" يبحث عن عدوه في الطبقات الاجتماعية.

إنَّ "مصلحة واقعية"، اقتصادية في المقام الأول، هي، عادة، "سبب العداء"، الذي يتخذ عصبية ما (عشائرية أو قبلية أو دينية أو قومية أو عرقية أو طبقية..) شكلا له، من خلاله يؤكد وجوده ويعبِّر عنه.

نحن نعلم، مثلا، أنَّ "العشب" و"الماء" كانا السبب الأهم في النزاع والصراع والحروب بين القبائل البدوية العربية. غير أنَّ ما مِنْ قبيلة إلا وحرصت على تمويه هذا "السبب الواقعي" بأسباب إيديولوجية وغير واقعية، كانت تجدها، في يسر وسهولة، في اختلافات ثقافية وعرقية حتى توهَّم كثيرون أنَّ "العداء" هو ثمرة اختلافات من هذا القبيل مع أنَّ "الصداقة" بين الناس كانت تنشأ وتتطور في وجود هذه الاختلافات، التي كما أوضحنا لا يصح أنْ نبحث فيها عن سبب "العداء" أو "الصداقة".

عندما تظهر لديَّ "مصلحة واقعية" في أنْ اتخذ شخصا ما عدوا لي، يتحوَّل اختلافه في الصفات عنِّي، سريعا، إلى مبررات لعدائه، فهو عدوي؛ لأنَّه أسود البشرة، أو يدين بهذا الدين، أو ينتمي إلى هذه العشيرة أو القومية أو العرق..

أنا لا أصدِّق هذه "المبررات"؛ ولكنَّ مصلحتي في تجنيد المؤيدين والأنصار، الذين هم، عموما، لا مصلحة واقعية لهم في مناصبته العداء، تحملني على استثارة وتأجيج عصبية ما، فالعصبية هي الأداة التي بفضلها أزج في معركتي، التي لي فيها ناقة أو جمل، أناس ليس لهم فيها ناقة أو جمل؛ ولكنَّ "العصبية" التي تستبد بعقولهم وقلوبهم تُعمي أبصارهم وبصائرهم، فيقبلون، عن طيب خاطر، أنْ يكونوا وقودا وضحايا لهذه الحرب!

مصلحتي الواقعية الشخصية هذه لا تُخدم على خير وجه، أي لا أستطيع أنْ أجد جنودا يحاربون من أجلها، إذا ما أظهرتها على أنَّها السبب أو الدافع الحقيقي للعداء. إنَّها تُخدم على خير وجه إذا ما وُفِّقتُ في أنْ أجد في "العدو" أو أنْ ألصق به من الصفات ما يساعدني كثيرا في استثارة عصبية مشحونة بطاقة عدائية هائلة، فالعصبية (العشائرية أو الطائفية أو العرقية..) هي طاقة كراهية حبيسة وكامنة في جماعة بشرية، يسعى في تحريرها وإظهارها كل مَنْ قضت مصلحته الشخصية بذلك، وهي، في عواقبها، عدو لكل مَنْ تستبد بعقله وقلبه؛ لأنَّها توقعه في فخ صراع لا مصلحة واقعية له في خوضه إنْ لم يُلحق الأذى بمصالحه.

الإنسان، أكان فردا أم جماعة، ينبغي له أولا أنْ يعي مصالحه الواقعية والأساسية، حاضرا ومستقبلا، وأنْ يراها في حجومها الواقعية، فمَنْ لا يعي مصالحه لا يمكنه الدفاع عنها؛ ثم ينبغي له أنْ يحدد وفقها "الأعداء" و"الأصدقاء"، فيكفي نفسه شر خوض حروب هي في دوافعها وأهدافها حروب غيره، فالإنسان الحر والسيد لا يسمح لعصبية ما بأنْ تعمي بصره وبصيرته، وتشل إرادته فلا يريد إلا ما أراد غيره، وتزجه في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. ومع إنسان كهذا يختفي الاستبداد، فالأمَّة ما عادت قطيعا من الغنم حتى تنجب، دائما، الديكتاتور والطاغية!

أوباما.. المهدي المنتظَر!

حتى "السياسة"، التي هي بنت العلم والفن، نجنح لتفسيرها تفسيراً ميثولوجيَّاً، فهل تَذْكرون كيف فسَّرنا أوباما، ومجيئه إلى الحُكْم، بما يُظْهِرنا على أنَّنا أنَّنا عُشَّاق أبديون للميثولوجيا، فَهْماً وتفسيراً وتعليلاً؟

لقد كان أوباما "المهدي" الذي انتظرته الميكيافلية السياسية للولايات المتحدة زمناً طويلاً، والذي لم يحكم بوش إلاَّ بما شدَّد الحاجة إلى ظهوره، ولم تأتِ الأزمة في "وول ستريت" إلاَّ بما عجَّل فرجه، وسهلَّ مخرجه (من السرداب)!

بعضٌ من الإيرانيين القائلين بعقيدة "المهدي المنتظَر"، وبالعقيدة السياسية المشتقة منها، وهي عقيدة "ولاية الفقيه"، وبضرورة طاعة "الإمام القائد المرجع السيد الخامنئي قدس سره"، بوصفه تجسيداً آنياً لـ "ولاية الفقيه"، اكتشف في أوباما علامة على قرب ظهور المهدي المنتظَر (أو المنتظِر في سردابه) فسيِّد البيت الأبيض الجديد إنَّما هو، بحسب الحديث المنسوب إلى الإمام علي، "الرجل الأسود طويل القامة الذي سيحكم الغرب، ويقود أقوى جيش على الأرض قبل ظهور المهدي". أمَّا المرجع الذي ورد فيه هذا الحديث فهو كتاب "بحار الأنوار (أي بحار الظلمات)"، الذي ألَّفه محمد باقر المجلسي، في العهد الصفوي، في القرن السابع عشر.

ومع إخضاع الاسم (باراك حسين أوباما) لفحص مجهري شيعي ثَبْت وتأكَّد أنَّ "مباركة الحسين" هي المعنى الحقيقي لـ "باراك حسين"، وأنَّ "أوباما"، في الفارسية، يعني "إنَّه معنا". وبعد طول تفكير وتأمُّل في نتائج هذا الفحص المجهري توصَّلوا إلى أنَّ الحسين بن علي يبارك (ويهنىء) أوباما الذي إنَّما جاء وفاز ليقف مع الشيعة (في إيران النووية).

بقانون "تداعي المعاني" تذكَّرتُ أوَّلاً شكسبير، فبعضٌ من أهل السنة من العرب اكتشف، وفي الطريقة نفسها، أنَّ الاسم الحقيقي لشكسبير هو "الشيخ زبير بن وليم"، رحمهما الله.. وكيف لا يتوصَّلون إلى هذا الاكتشاف وهم الذين اكتشفوا من قبل "الفرق الجوهري والنوعي" بين الرجل والمرأة، فالمرأة تحيض، والرجل لا يحيض؟!

ثمَّ تذكَّرْتُ حادثة قديمة لا تقل أهمية، فعندما احتلت الولايات المتحدة العراق جابت عربات عسكرية لـ "المارينز" المناطق الشيعية في بغداد لتَبُثَّ عبر مكبرات الصوت "أناشيد وأغاني دينية شيعية"، تُصَوِّر "وقائع مأساة الإمام الحسين بن علي وآل بيته"؛ ثمَّ حضر بعض من "المارينز" جلسات استماع لأحاديث دينية شيعية، مدارها "التبشير بعصر ظهور المهدي المنتظَر الإمام الثاني عشر من أُمَّة آل البيت".

وقال قيادي في "كتلة الائتلاف العراقي الموحَّد" الشيعية إنَّ إدارة الرئيس بوش (والرئيس بوش على وجه الخصوص) تُبدي اهتماماً متزايداً بـ "عصر ظهور المهدي"، معرباً عن اعتقاده أنَّ الولايات المتحدة لديها "خوف حقيقي من هذا الظهور".

وقد قادته أوهامه تلك إلى أن يكتشف أنَّ "أحد أهم أسباب الوجود العسكري للولايات المتحدة في العراق هو أن تكون على مقربة من منطقة الكوفة التي سيتَّخذها المهدي عاصمة له عند ظهوره (الحتمي)".

ولإقامة الدليل على أنَّ هذا "الغباء"، الذي ليس بلا أجْرٍ، على ما نعتقد، يتعدَّاه إلى "مرجعية السيستاني"، قال إنَّ الروايات الدينية للمرجعيات الشيعية تُشير إلى أنَّ من أهم "علامات الظهور الوشيك للمهدي المنتظَر منذ مئات السنين" هذا "الظهور الشيعي في الحياة السياسية للعراق".

إننا نتوفَّر دائماً على السؤال (في اهتمام) عن علامات ظهور المهدي؛ أمَّا هم، أي أولئك الذين لا ينتظرون، وإنَّما يصنعون، المهدي الخاص بهم، فيسألون (ومعهم كل الحق) عن السبب الذي يَحْمِل بعضاً منا على ترقُّب ظهور المهدي، وظهور من يشبهه، أو ما يشبهه، من قوى "الخلاص الأبدي" الوهمية!

سننتظر ظهوره طويلاً؛ ولكن كمن ينتظر سقوط السماء على الأرض. وقد نُغيِّر "أناشيدنا وأغانينا" لِنُصَوِّر فيها "وقائع مأساة اختفاء العراق"، فالعراق سيصبح أثراً بعد عين من غير أن نرى عيناً ترى ظهور "المهدي المنتظَر"، فهذا المهدي (الذي عمره الآن 1200 سنة، والذي سيبقى في السرداب حتى يشبع العالم ظلماً وجوراً وفساداً) لن يَظْهَر في عصرنا، ولِمَ يَظْهَر، فنحن الذين عُدْنا إلى عصره؟!

إنَّنا أُمَّة تفضِّل العيش في السراديب، كل متاعها الفكري كتاب "بحار الأنوار"، لا تثق بنفسها أبداً، فتنتظر "مهديها" كما تنتظر الفتاة الشرقية فارس أحلامها مع حصانه الأبيض، فادْعُ لنا ـ يا أوباما ـ أن يعجِّل الله فرجنا، ويسهِّل مخرجنا من سراديبنا!

ولقد حان لنا نبذ الأوهام، تفسيراً للتاريخ وللسياسة، فالأوهام لا يحتاج إليها إلاَّ كل من يحتاج إلى خداع نفسه، وإلى أنْ يخفي عن نفسه، وعن غيره، المحتوى الحقيقي للصراع، ويبقي حماسته على مقربة من الدرجة العليا للتراجيديا التاريخية العظيمة.

ونحن العرب، كلَّما تحدَّانا المستقبل أن نصبح له أبناء، ولمعركته جنوداً، رَجَعْنا القهقرى، بعقولنا وأفكارنا ومشاعرنا..؛ ولكن، إلى أين؟ إلى عصرٍ أصبح أثراً بعد عين، وكأن لا قوَّة يمكننا امتلاكها إلاَّ تلك المستمدَّة من الماضي وأمواته وأرواحه وأشباحه.

ومع ذلك، إيَّاكم أن تتوَّهموا أنَّ كل عودةٍ إلى الماضي يجب أن تكون عودة إلى الأوهام، فإنَّ بعضاً من تلك العودة لا يستهدف التقليد الساخر لصراعٍ مضي واندثر مع الشخوص التي أنْتَج؛ وإنَّما تمجيد الصراع الجديد، وكسوه بجمال وجلال وهيبة ووقار القِدَم!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مديح وهجاء -وادي عربة-!
- قيادات فضائية!
- ما هي -الدولة-.. عربياً؟
- بوستروم.. لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيَّاً!
- في الجدل الانتخابي العراقي!
- نحو حل -الدولتين الفلسطينيتين- للنزاع بين الفلسطينيين!
- الفأس والرأس.. اللقمة والرأي!
- غولدستون -المسار- هو الأهم من غولدستون -التقرير-!
- -الاحتكام إلى الشعب-.. فلسطينياً!
- الاعتراف ب -يهودية- إسرائيل هو تهويدٌ للعقل!
- القيادات الفلسطينية.. رؤوسٌ تبحث عن عقول!
- -نوبل-.. ونُبْلُ أوباما!
- -أردي- جاءت تأكيداً لا نفياً لنظرية داروين!
- محادثات واشنطن..أهي تجربة تفاوضية جديدة؟
- الدكتور زغلول النجار إذ هبط بالعِلْم إلى الدرك الأسفل من الش ...
- الحلُّ في حلِّ -مشكلة الحدود- أوَّلاً!
- -التعصُّب- إلغاء للعقل!
- نتنياهو يطلب تشدُّداً فلسطينياً وعربياً!
- أُطْلبوا -عِلْم التفاوض- ولو في إيران!
- إنَّها -مفاجأة- أوباما الأولى!


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جواد البشيتي - في التفسير الميثولوجي للتاريخ.. والسياسة!