أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد عادل التريكي - الإسلام والغرب















المزيد.....



الإسلام والغرب


محمد عادل التريكي

الحوار المتمدن-العدد: 2808 - 2009 / 10 / 23 - 15:40
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


أزمة ومأزق الفكر الإسلامي و الأمة الإسلامية:
بادئ ذي بدءٍ، فإننا نطرح بين أيدي أهل الفكر و الباحثين السبب الأول الذي تستدعى هذا الجهد الفكري، الذي تسهم به هذه الوريقات. هذا السبب هو الإحساس المكتف و المُلِح، لدى كثير من العلماء والمفكرين، بوجود "أزمة" يعاني منها الفكر الإسلامي، الأمر الذي أفقد الأمة الإسلامية الرائد الذي لا يكذب أهله، ودليل العمل الذي لا غنى لها عنه وهي تحاول النهوض، فوقعت الأمة هي الأخرى في " الأزمة" ! . وإذا كان الإحساس المكتف بوجود " الأزمة" دليل الاتفاق على قيامها ووجودها… فإن الاختلاف قائم، على نحو ما، حول تاريخها وقائم كذلك حول مظاهرها… وقائم بدرجة أكبر حول أسبابها وحول سبل التخلص منها… وتلك ميادين تتطلب الاجتهاد من كل قادر عليه، في أي ميدان من الميادين…
إن أحدا لا ينكر الفكر الإسلامي قد خُلع عن عرشه، وانحسر ظله عن أغلب مملكتـه-إن ضعفاً أو قسراً- و بخاصة في الساحة الأغلب من دوائر الحكم و الدولة وتنظيم وقيادة الواقع الاجتماعي والاقتصادي و السياسي والمعرفي للمجتمع الإسلامي… وأيضا في مساحة كبيرة من تصورات الجمهور و ممارستهم… ولقد حلَّ محله في هذه المساحات فكر غريب عن الصبغة و المعايير والضوابط الإسلامية… وهذا الفكر الغريب منه " الوافد الضار" من فكر الحضارة الغربية ومنه" الموروث المتخلف" من فكر عصر التراجع و الجمود… وهذه الأزمة في الفكر الغربي قد أحدثت أزمة لأمة هذا الفكر، عندما أفقدتها الاتجاه الطبيعي، وغبشت الكثير من تصوراتها الإسلامية الجوهرية..وجعلتها تخلط في سلوكها عملاً صالحاً بآخر سيئاً! و إذا كان الخلاف قائما حول تاريخ بدء هذه الأزمة الفكرية، فلا أعتقد أن هناك خلافاً حول من قدمها… فلقد حدثت فعلاً منذ قرون عدة، و ذلك عبر تطورات وتراكمات بطيئة، كطبيعة النشأة والفعل لعوامل وظواهر الفكر في حياة الأمم و الحضارات.
أما عن أسباب هذه " الأزمة" التي أفضت إلى هذا "المأزق"، فإن بعض الباحثين يراها ثمرة طبيعية لبنية الفكرة الإسلامية… فهذه البنية –في نظر هذا الفريق- تحمل في داخلها أسباب قصورها الذاتي، و لقد أفضى هذا القصور، عندما اشتدَّ عوده، إلى هذه "الأزمة" فهي –عندهم- أشبه ما تكون ب "الإفلاس- الطبيعي". وعلى النقيض من هذا التصور، يراها فريق آخر أثرا لعوامل دخيلة و عارضة على الفكرية الإسلامية، أقحمت عليها إقحاماً و فرضت عليها فرضاً من خارج الذات ومن وراء الحدود.
وإذا كنا نرفض التصور الأول، ونتحفظ على التصور الثاني، فإننا نميل إلى إرجاعها لعوامل عدة… منها الخارجي المفروض بالقسر –ترغيباً و ترهيباً- ومنها الداخلي النابع، لا من القصور الطبيعي، و إنما من القصور الناشئ عن الافتقار إلى إعمال قانون التجديد وسنته… و منها ما هو فكري.وما هو مادي: اقتصادي و اجتماعي… الخ… طوارئ كثيرة طرأت على المنابع الجوهرية و النقية للفكرية الإسلامية… وعوامل عديدة اعترضت مسيرتها، منها ما هو إفراز داخلي، ولقد تضافرت كل هذه الطوارئ و العوامل فأثمرت هذه " الأزمة" الفكرية للعقل المسلم و لأمة الإسلام.
وجدير بالذكر أن الإحساس بهذه الأزمة، وطرح الأسئلة حول أسبابها، والاختلاف في الإجابة عن هذه الأسئلة ليس بالأمر الحديث… فمنذ يقظة الاجتهاد الإسلامي الفردي، الذي تمثَّل في كوكبة من الإعلام، منهم:
الإمام الغزالي ( 450-550 ﻫ/ 1058 –1111 م )
العز بن عبد السلام ( 577-660 ﻫ/ 1699-1772م )
القرافي أحمد بن إدريس ( 684ﻫ-1285 م)
ولي الله الدهلوي ( 110-176 ﻫ/ 1699 – 1762 م)
الشوكاني محمد بن علي ( 1173-1250 ﻫ/ 1760-1834م)
ومنذ الدعوات و الحركات التي قادها أعلام مجددون من مثل:
محمد بن عبد الوهاب ( 1115-1206ﻫ / 1703-1792 م)
محمد بن علي السنوسي ( 1202-1276 ﻫ/ 1787-1859م )
محمد أحمد المهدي ( 1260-1302 ﻫ/ 1844-1885م)
جمال الدين الأفغاني ( 1254-1314 ﻫ/1838-1897م) …إلخ.
والتساؤل قائم حول هذه الأزمة، و الخلافات محتدمة حول أسبابها. ومن تمَّ حول سبل تجاوزها، و الخلاص- بالنهضة- من عللها و أعراضها وذلك مع الاتفاق على أنها سبب رئيسي من أسباب أزمة الأمة و مأزقها، و معلم من معالم جمودها وتخلفها.
وإذا كان هذا هو تاريخ و موقف اليقظة الإسلامية و الاجتهاد الإسلامي إزاء أزمة الفكر الإسلامي و مأزق الأمة الإسلامية، فلا نعتقد أن هناك مجالاً للخلاف على ضرورة و أهمية، بل وجوب أن ينفر قوم من مفكري الأمة، في عصرنا الراهن، فيعكفون على صياغة الإسلام كبديل حضاري للنموذج الغربي، الوافد و المهيمن على القطاع الأكبر والموروث، التي تفل قدرات الأمة و تقيد خطاها وتفقدها القدرة على الإبداع، وعلى أهمية وضرورة تحديد معالم هذا البديل الحضاري الإسلامي، كدليل عمل لكل العاملين في إطار النهضة الإسلامية، بمختلف الميادين… سواء منهم الذين يرون أن الأزمة الفكرية أساساً وبالدرجة الأولى فيؤمنون بأن هذا الميدان هو الوحيد الجدير بالجهاد و الاجتهاد أو أولئك الذيـن يعطون الأهمية و الأولوية لميـادين أخرى –سياسة كانت أو أخلاقية – فلا غناء عن "دليل العمل" هذا بالنسبة لكل الفرقاء. بل إن أهمية وضوح معالم هذا " الدليل- البديل" لتتجاوز نطاق حاجات النهضة في عالم الإسلام ووطنه و أمته، لتمتد إلى ميدان " الخيار الحضاري" الذي يستشرفه اليوم كل الذين يدركون – حتى في الغرب- طبيعة وحدة المأزق الذي يأخذ بخناق الحضارة الغربية، لا ليكون النموذج الإسلامي بديلا للحضارة الغربية، في بلادها، فربما كان ذلك- في المدى القريب و المنظور- حلما طوباوياً ومثالاً خيالياً- وإنما – على الأقل- ليكون ملهماً و مؤثراً في تطعيم الحضارة الغربية بما يدفعها نحو التوازن و الرشاد الذي يعدل مسارها، وينقذ إنسانها… وكل الواقعين في دوائر جاذبيتها وتأثيراتُها.
وغني عن البيان أن هناك فوائد كثيرة محققة، لكل العاملين في الحقل الإسلامي، من وراء الوحدة أو التقارب في الرؤية الفكرية لطبيعة هذه الأزمة – المفصحة عن أسبابها – ولسبل تجاوزها ولمعالم النهضة الإسلامية المنشودة –أي للمشروع الحضاري الإسلامي- وفي مقدمة هذه الفوائد اجتماع الجهود ووحدة الطاقات الفكرية القائدة لحركة النهضة الإسلامية… ذلك أن الانقسامات التي نشهدها الآن لطاقات الفكر وفعالياته، سواء في صفوف الإسلاميين، أو بين عموم الإسلاميين وعموم العلمانيين، إنما تعجز طاقات الأمة عن الفعل المناسب إما عند تقسمها بين المتنازعين الذين يتجاذبون حبال الطاقات والفعاليات محولين إياها إلى : " الثبات عند نقطة الصفر" ؟!. كذلك فإن دراسة الأزمة، إذا هي استخلصت الدروس و العِبر من الفشل والإحباط اللذين أصابا دعوات وحركات وأجيال، مَرَّت على درب محاولات النهضة الإسلامية الحديثة… لم ينقصها "الحماس" للتغيير… لكنها افتقرت إلى " الاجتهاد والتجديد في الفكر"، المُتفقة في " الواقع" والقادر على إعادة صياغته صياغة إسلامية، وضبط حركته بالمعايير الإسلامية… أي أنها افتقرت إلى وضوح الرؤية… إن دراسة تاريخنا في محاولة النهضة الحديثة من " الوهابية" إلى "السنوسية" إلى "المهدية" إلى دعوة الأفغاني وحركته – الجامعة الإسلامية- إلى –" الإخوان المسلمين " وإفرازاتهم المعاصرة… وما في هذا التاريخ- رغم إنجازاته الإيجابية الكبرى – من عثرات وإخفاقات وإحباطات… تقطع –مثل هذه الدراسة – بأن بلورة الإسلام كبديل حضاري، ووضوح معامله كدليل عمل –باعتباره "الرائد الذي لا يكذب أهله" – هو السبيل إلى إنقاذ الانعطافة الجماهيرية المعاصرة نحو الإسلام من إخفاق جديد و إحباط أكيد !
إن هذه الأمة قد من الله عليها إذ عصمها من الاجتماع على الضلال… فلم يطبق على جميعها عموم البلوى المتمثلة في الانحراف عن منهج النبوة، حتى في أقسى ظروف الجمود والتراجع والانحطاط… نعم خفتت المصابيح – فضلَّ الأكثرون السبيل-لكن المصابيح لم تنطفئ ولقد حدثنا رسول الله  عن هذه الخصوصية التي ميز الله بها هذه الأمة، عندما قال: » لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » .
ونحن نؤمن أن لهذه الخصوصية علاقة يكون شريعتنا ورسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، هما الشريعة و الرسالة الخاتمة… فلا نبي بعد محمد، ولا رسالة بعد رسالة الإسلام وشريعته، ومن تم انتفى من تاريخ هذه الأمة عموم الانحراف عن مناهج النبوة و سبيل الله، لأن حدوث ذلك إنما يقتضي –وفق لطف الله- إرساله رسولاً جديداً.
لكن وجود الجماعة القائمة على الحق، و التي لا يضرها من خذلها، إنما يمثل الاستثناء من قاعدة عموم البلوى!… وهو أمر لا يعني سيادة منهاج الإسلام ولا أداء الأمة لرسالة الخلافة عن الله، والقيام بمهمة الشهداء على الناس التي أرادها لها الله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ….
وهنا تبرز أهمية تلمس السبل التي تحول الجماعة القائمة على الحق من وضع "الاستثناء" الذي يؤكد قاعدة التخلي عن منهاج الإسلام، إلى " القاعدة" التي تجعل هذا المنهاج دليل عمل الأمة وسراجها الوهاج على صراط الله المستقيم .
وتلك هي الفرصة التاريخية المواتية التي تقدمها الصحوة الإسلامية المعاصرة لأهل الفكر من الطائفة الظاهرين على الحق، لتسليح هذه الصحوة ب" الخيار الإسلامي " الحق، وذلك حتى لا تدفع جماهيرها –كما قلنا – إلى إخفاق جديد وإحباط أكيد .
وإذا كانت الأسباب التي أشرنا إليها كافية لتحقيق اتفاقنا على أهمية و ضرورة معالجة " أزمة الفكر الإسلامي " فلا بد أن يفضي هذا الاتفاق إلى الاتفاق على ضرورة الاهتمام " بالمنهج " فالمنهج هو الطريق بل إنه –في اصطلاح العربية- " الطريق المستقيم" وليس مطلق الطريق ولا أي طريق، إنه –في موضوعنا –هذا : الطريق –والنظام –والإطار الحاكم و الجامع والرابط والناظم للمعالم التي تحدد مكان ومكانة الإنسان في هذا الكون، ورسالته في هذا الوجود، وعلاقته بالأغيار، ومصيره بعد هذه الحياة الدنيا ومن هنا تأتي أهمية تحديد معالمه، كمدخل لا غنى عنه لصياغة الإسلام كنموذج حضاري للإنسان المسلم و الأمة الإسلامية، أي لحل الأزمة الفكرية، ببلورة معالم المشروع الحضاري الذي تستطيع الأمة، إذا هي انتمت إليه، ورفعت لواءه، ومنحته ولاءها، ووضعته في الممارسة والتطبيق، أن تنعتق من إسار التخلف الموروث والاستلاب الوافد المفروض عليها من خارج الحدود، وعندئذ يصلح وينصلح لها أمر معاشها –دنياها- و أمر معادها-في الآخرة- معاً، ودونما خلل أو اختلال! وغني عن البيان كذلك أن هذه المهمة-مهمة تحديد معالم المنهج الإسلامي- إنما تغايـر تماماً مهمة الذين يتحدثون عن " البرنامج الإسلامي"، ويطلبونه من الداعين إلى إسلامية الحياة في المحيط الإسلامي، كما أنها تغاير مهمة تحديد مناهج البحث في فروع المعرفة ومختلف العلوم، فتشخيص أزمة الفكر الإسلامي، وتلمس معالم المنهج الإسلامي –بالقياس إلى "البرامج الإسلامية" و"مناهج البحث" المتخصصة والخاصة- هو أشبه ما يكون ب"الصناعة التقليدية" "الصناعة التحويلية" "صناعة أدوات الإنتاج" بالقياس إلى "حِرَف الصناعة الخفيفة" " صناعة أدوات الحياة اليومية" وذلك إذا تصورنا وهذا جائز تماماً – الفكر صناعة من الصناعات، فما نحاوله – في تلمس معالم المنهج الإسلامي- هو المدخل الحاكم، الذي يفضي إلى إمكانية صياغة الإسلام، كمشروع حضاري بديل. وهو الذي يهيئ-بدوره- للعاملين بالحقل الإسلامي أسباب وضع البرامج الإسلامية، في الميادين المختلفة، وصياغة "مناهج البحث" الجزئية و المتخصصة، عندما يتهيأ لها ولهم الضروري من الشروط والإمكانيات، فما نحن بصدد محاولته هو صياغة منهج الحياة الإسلامي " المنهج الأم" –إذا جاز التعبير- الذي هو السبيل إلى صياغة الإسلام كمشروع حضاري، بما يتضمنه هذا المشروع من "برامج مرحلية" لتغيير الواقع، ومن "مناهج بحث" في المعارف و العلوم… وأيضا فلا بد –ونحن نحدد مهمة هذه الصفحات- من أن نجيب عن هذا السؤال:
أهو منهج" للفكر " هذا الذي نبحث في معالمه ؟
أم أنه منهج " الحياة" ؟.
ونحن نبدأ إجابتنا عن هذا السؤال بالتساؤل ! فنقول: هناك " مغايرة "بين " الفكر" الإسلامي وبين " الحياة الإسلامية" ؟ ومن ثم "مغايرة" بين " المنهج" في كل منهما؟.
إن "الفكر الإسلامي " إذا غاير" الحياة الإسلامية"، أو حتى "انعزل" عنها، فَقَدَ فعاليته، وتجاوزته الحياة، بل ونسخته، لتبحث لها عن فكر جديد وكذلك " الحياة" الإسلامية، إذا غايرت الفكر الإسلامي ضلت الطريق إلى إسلاميتها، وسقطت في وهدة المعايير و القيم و الضوابط والتصورات غير الملتزمة بصبغة الإسلام في العقيدة و الشريعة والحضارة و الأخلاق… فلا بد إذن، من قيام العروة الوثقى، في المنهج بين "الفكر" وبين "الحياة" .
ولكننا نقول: إن انتقاء "المغايرة" لا ينفي "التمييز" و" الاختصاص" في "المنهاج" بعالم فكر الإسلام والحياة التي يرشحها الإسلام للمسلمين… إننا في الفكر الإسلامي لسنا بإزاء "مناهج" إسلامية عديدة، تشترك في إسلاميتها، لكنها تتمايز - دون أن تتغاير أو تتناقض- بتمايز العلوم والفنون والأدب الإسلامية والمصطبغة بصبغة الإسلام..تلك قضية لا يختلف فيها ولا عليها أهل الذكر والاختصاص ..فنحن بحاجة إلى بلورة و تحديد وصياغة المناهج الإسلامية لفكر الإسلام، مثلا في علم أصول الدين وفلسفته.. وفي علم أصول الفقه وقوانينه.. وفي علوم القرآن الكريم.. وفي علوم السنة النبوية الشريفة.. بل وفي علوم العربية، التي هي لسان الإسلام، ووعاء وأداة علومه -ديناً وحضارة-.. كذلك نحن بحاجة إلى بلورة وتحديد وصياغة المنهج الإسلامي الخاص بعلوم المادة والطبيعة، والذي يربط أبحاثها بالغايات الإسلامية والحِكم الإلهية، والذي يحكم وظائفها وتطبيقاتها بالقيم والأخلاقيات الإسلامية.
نحن –في هذا الميدان- بحاجة إلى "مناهج"،وليس إلى "منهج واحد"..وهي بالطبع،مناهج"للفكر"، تختصُّ بقواعد النظر والبحث والاستنباط الخاصة بكل علم أو فن من هذه العلوم والآداب والفنون.. لكن هذه المناهج جميعا، لابد – بحكم شمولية الإسلام للفكر والحياة – كل ميادين الفكر وجميع مجالات الحياة –لابد لهذه المناهج جميعا من الارتباط بمنهج الحياة الإسلامية،التي هي الغاية من وراء كل العلوم وجميع الآداب وسائر الفنون..فإقامة الحياة الإسلامية، التي تكتسب إسلاميتها بتجسيدها لفكر الإسلام، هي الغاية الحقيقية من كل العلوم؛ إذ غاية "الفكر"الإسلامي هي إقامة "الحياة" الإسلامية في الدنيا، لتكون المَعبَر المفضي إلى دار الخلود.
ومن هنا يظهر الإرتباط بين منهج الفكر الإسلامي العام، وبين منهج الحياة الإسلامية العامة..وتظهر الصِّلات بين منهج الحياة الإسلامية والمناهج المتخصِّصَة لمختلَف علوم الإسلام الدين وعلوم وفنون الواقع الإسلامي والحياة الإسلامية .
وعلى ضوء هذه الإشارات، والمحدِّد للقضية، فإن ما نحن بصدده هو " منهج الفكر الإسلامي "الكافل " إسلامية الحياة "لمن يضعون هذا المنهج في الممارسة والتطبيق..ولسنا بصدد بلورة وتحديد قوانين وقواعد المناهج الجزئية للعلوم المختلفة كما يراها منهج الإسلام..إننا بإزاء المنهج الكلي، الحاكم للحياة الإسلامية،في الفكر والتطبيق..والذي ، وإن لم تكن قواعد النظر والاستنباط والبحث في العلو المختلفة هي مهمته الأساسية، إلا أن مَعالمه هي مفاتيح الإضاءة، ومداخل الوصول، والمعايير الأساسية والعامة الحاكمة في مختلف ميادين هذه المناهج الجزئية والمتميزة لهذه العلوم والآداب والفنون..
إن منهج " فكر الحياة الإسلامية "، الربَّاني المصدر، الإنساني الموضوع، الذي يمثِّل معيار "الإسلامية" للحياة، بما فيها من علوم وآداب وفنون..وهو، وإن لم تكن مهمته إبداع وبلورة وصياغة قوانين النظر الخاصة بكل علم من علوم الإسلام والمسلمين، إلا أنه يطمح إلى أن يكون المدخل إلى صياغة هذه المناهج المتعددة والمتميزة – أو على الأقل إسهاماً في هذه المهمة الفكرية الكبرى – وذلك بواسطة صفوة أهل الذكر والاختصاص من مفكري الإسلام في كل علم من هذه العلوم..
ذلك هو تحديد لماهية هذا المنهج ولوظيفته ولموقعه ومكانته من المناهج الجزئية والمتخصصة في علوم الإسلام فليس هو المنهج البديل الذي يغني عن المناهج الجزئية والمتخصصة في علوم الإسلام وحضارته..وإنما هو منهج فكر الحياة الإسلامية الذي لا غنى عنه حتى في صياغة وبلورة مناهج هذه العلوم. لكن ..هل للأمة الإسلامية منهج إسلامي مغاير أو متميز عن مناهج أمم الحضارات الأخرى ؟ إننا نجيب عن السؤال ب"نعم " وإن كنا نكتفي في حيثيات هذه الإجابة بالإشارة إلى أبرز الحقائق الموضوعية فيها..إن استقراء واقع مناهج العلوم والفنون، يقطع بتعدد هذه العلوم والفنون ..فمناهج العلوم الطبيعية،التي تدرس المادة والظواهر الكونية الثابتة، تختلف وتغاير مناهج العلوم الإنسانية التي تدرس النفس الإنسانية وظواهرها الاجتماعية المعقدة والمتغايرة بتغاير مكونات هده النفس ..والمناهج التي تعين على تصور «عالم الغيب » لا يمكن أن تكون هي ذات المناهج التي نتصورها وندرس عالم الشهادة..ومناهج العلوم العقلية مغايرة ومتميزة عن مناهج الفنون والآداب القولية والبصرية والسمعية..ويؤكد صدق هذا المعنى، وضرورته أننا نتحدث، هنا، عن هذا المنهج الذي إذا سلكناه فإنه يفضي بنا إلى ثمرة: »الإنسان السوي « – بالمعنى الحضاري والاجتماعي الشامل-..فهو منهج وإن كان رباني المصدر، إلا أنه إنساني الموضوع، موضوعه: أفكار وعلوم وفنون ومعارف الإنسان المسلم..وكذلك التطبيقات والضوابط والأخلاقيات المتميزة لهذا الإنسان المسلم بميدان تطبيقات العلوم الطبيعية ذات الحقائق العامة عالميا..ولذلك فهو منهج متميز،تميز هذا الإنسان المسلم، الذي تميزه عن غيره:عقيدة متميزة، وشريعة خاصة، أثمرتا حضارة متميزة هي حضارة الإسلام.
وإذا كان دين الله سبحانه وتعالى واحدا، أزلا أبدا منذ آدم إلى محمد بن عبد الله عليهما السلام..فلقد تعددت الشرائع والمناهج بتعدد أمم الرسالات وحضاراتها..وزاد هذه الحقيقة بروزا وتأكيدا تميز العقيدة الإسلامية بعد أن أصاب الغش والتحريف جمهر التوحيد فيما سبق الرسالة المحمدية من رسالات..فغدا التميز، لدى أمتنا وحضارتنا،شاملا العقيدة والشريعة عليهما.. فوحدة الدين، التي حدثنا عنها القرآن الكريم عندما قال: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه . لم تعد قائمة، على النحو الوافي بالأصول الجوهرية، بعدما أصاب عقيدة التوحيد في لاهوت الرسالات السابقة من غبش وتحريف… الأمر الذي أكد التعددية و التمايز في الشرائع والمناهج،التي حدثنا عنها القرآن الكريم بقوله: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم ما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم كما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وإذا كان ابن عباس، رضي الله عنهما، قد تحدث عن المنهج الإسلامي… منهج النبوة، فوصفه بأنه: » هو سبيل النبوة وسنتها « . فإن جميع ذلك يشهد على أن تميز المنهج الإسلامي هو واقع، بالملاحظة والاستقراء، كما أنه إرادة إلهية، تحدثت عنها آيات القرآن الكريم.
فللإسلام إذن، منهج متميز.. هو منهج النبوة.. الرباني المصدر.. الإنساني الموضوعي.. ولما كان الإسلام دينا جامعا.. فلقد أحدث في الواقع و الممارسة والحياة الإنسانية أثرا جامعا وبناء متكاملا.. فكانت عقيدته وشريعته –أي "الوضع الإلهي" في بنائه- بمثابة الحجر الذي ألقى في النهر، لتنداح من حوله، وبسببه، الدوائر المتعددة والمتسعة، التي ليست هي ذات الحجر، لكنها أثر من آثاره، ومرتبطة به رباط العروة الوثقى.. هكذا صنع الإسلام-كوضع إلهي- عندما وقَرَ في القلب، وصدقة العمل.. فلقد انداحت من حول عقيدته وشريعته وتوالت دوائر ولبنات صرح الحضارة الإسلامية، جهدا بشريا، وإبداعا إنسانيا-وليس وضعا إلهياً- لكنه وثيق الصلة، في الروح والتوجه، بما وضع الله، مصاغ وفق معايير الوحي، مصبوغ بصبغة الله..سالك في "الحضارة" منهج، الإسلام "الدين".
فمنهج النبوة، الذي غدا منهج حضارة، هو الذي تميزت به حضارتنا عن غيرها، لتميزه.. وهذه المعالم التي تميزه هي ذاتها معايير التجديد لهذه الحضارة، عندما يصيبها الجمود، وضوابط النهضة لها إذا عدت عليها عوادي الانحطاط.. ومن هنا تبرز أهمية تلمسها و رصدها وصياغتها عندما تكون المهمة الكبرى هي إنهاض الأمة من المأزق الذي وقعت فيه والوهدة التي تردَّت فيها..
وهذه الحقيقة.. حقيقة تميز الحضارة الإسلامية بتميز منهجها، هو الذي يجعل من رفضنا للنموذج الحضاري الغربي –بشقيه الليبرالي والشمولي- ومنهجه الوضعي موقفاً طبيعياً، نابعاً من القانون الإلهي في تعدد وتمايز الشرائع والمناهج.. وذلك فضلاً عن قصور هذا النموذج الغربي النابع من تنكبه النهج الإيماني، حتى في صورته المسيحية، التي حرفت بعض مواضعها، ثم شوهت صورتها الغربية تشويها باعد بينها وبين حقيقتها الأولى..ومن هنا كان قبول المنهج الغربي ونموذجه الحضاري: استلابا..وهيمنة..واحتواء.. وتبعية حضارية..وانحرافاً عن النهج المؤمن.. وليس نهضة..وتقدما..وانعتاقا.
الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية:
إنها رحلة شاقة في آفاق الفكر نظراً لأهمية هذا الموضوع وجسامته. ونظراً للممارسة العملية في هذا الميدان. ارتأيت أن أطرح هذا الموضوع وأحاول البحث في كل جوانبه لحساسيته في الظروف الراهنة، وأحدد تناولي له بمحددين أو أكثر من ذلك: الأول فكري وتنظيري والثاني علمي من خلال الحوار والتساؤلات ولنا الحق في مناقشة هذه المحددات.
إن هذا الموضوع يطرح إشكالية يصعب الحسم فيها فلا بد من توفر الخلفية التاريخية قصد التعامل مع هذه الإشكالية. فهناك الحلول المطروحة كبديل أو مقترحات تبديلية، وقد أُلِّفت في هذا المجال مؤلفات ضخمة تجف أحياناً وتنجح أحيانا أخرى .
مما لا ريبَ فيه أن الفكر في شَتَّى أصنافه ومراحله إنما هو جملة من المواقف والبراهين والملاحظات والتجارب العملية والعلمية يمكن استثمارها والاستفادة منها، وهدَفي من كل هذا الذي أود توضيحيه هو معالجة قضايا الأمة الإسلامية من منظور الواقع وفرض نوع من التحدي والمواجهة بالاستناد إلى نصوص تقربنا من هذه الثوابت الفكرية للأمة الإسلامية. ولكي نقف على ذلك لا بد أن نؤشر بمعادلة لا نخرج عنها في حوارنا وهي معادلة ثلاثية هي:
1. فكر إسلامي عربي متغرب يحتضن فكراً أوربياً.
2. فكر عربي يقبل - فكر عربي متغرب يحتضن فكراً أوربياً.
3. فكر عربي يرفض المواجهة الصريحة.
هذه المعادلة ذات الأطراف الثلاثية في الفكر العربي تضع في حسابها شروط الالتزام الحضاري كما تضع في منظورها التعامل الثقافي والتطعيم الثقافي الحضاري وتضع أخيراً في ميزانها التوفيق في جل مظاهره، ولكنها تسقط في التلفيق وتفشل أحيانا أخرى .
وفي ساحة الفكر العربي تظهر المواجهة إنطلاقاً من أنماط ثلاثية فكرية تأخذ المعركة من ناصيتها في مقدمة ذلك السلفية الأصلية وشقيقتها السلفية المعاصرة، وقد اعتبرت مرحلة زمانية مباركة فرضت نفسها كنمط فكري يحاول أن يعالج أمراض الأمة الإسلامية إنطلاقا من تصوره، ويبقى الهاجس الأكبر هو المقاومة وأحيانا أخرى التحدي والإقناع. ويأتي تيار آخر يقف في وسط المعركة إنه التيار الليبرالي العربي ينطلق في منظوره من شعارات الفكر الأوروبي ويتلثَّمُ الإسلام ويمثل صورة من التوفيق ويسقط هو الآخر في التلفيق. ويأتي تيار آخر مواجها للإسلام ومعلناً مبدأ التحدي وهو الاتجاه العلماني أو اللاَّديني، وهو في رأي بعض المفكرين العرب يمثل موقفاً ثورياً إنطلاقا من القومية كشرط حضاري ورسالة يجب تبليغها، وخطاب يُكرِّسُ الوعي الجماهيري المغلوط، الذي يلبس ثوب الفشل الذريع كوقاية من هجمة الحضارة الإسلامية. ويرفضون التعامل مع التراث لأنه نمط مضوي.
إذن ما هي أرضية هذه المواجهة؟
إن الإسلام رسالة التوحيد، والدين رسالة خالدة تعتمد على الوحي والسنة والتشريع، والتشريع إحدى قنواته الأساسية، فالعقيدة الإسلامية تتضمن الإيمان والتوحيد، كما تتضمن الأخلاق ومذاهب اجتماعية فكرية.
إن مشروع الفكر الإسلامي دشنه القرآن كخطاب إلهي تميز بالبرهنة على وجود الله. وهكذا فالفكر الإسلامي وبناءا على هذه البرهنة أصبح في مواجهة مع باقي مظاهر الإنسانية. لكن قيل طرح المواجهة، ما هي عناصر هذه المواجهة؟ وما هي مقومات هذا الفكر؟
إن الصراع حول الخلافة بعد موت النبي  المرجعي في الحنكة السياسية دشن هذا الصراع أول محطة في الفكر الإسلامي. إنها محطة الوقوف، الوقوف على إشكاليات تبلورها في شكل أنماط من التفكير: فهناك من رأي أن الإمامة واجبة شرعا وعقلا. وتأتي الطائفة الثالثة تحاول البرهنة انطلاقا من النص المقدس مفاده أن الله سبحانه جعل خليفة في الأرض هو الإنسان.
ومن ثَمَّ فأمرُ المسلمين شورى بينهم في تولية من يشاءون، وخلع من يشاءون، وعرف هذا الأمر في المصطلح السياسي الإسلامي بأهل »الحل والعقد« وتولدت عن هذا الصراع تيارات وفرق ومذاهب فكرية إسلاميةُ وغير إسلامية، وبرزت في الساحة الإسلامية الإشكالية المعروفة » بإشكالية العقل والنقل «. هذه الإشكالية ساهمت في تقريب المواجهة بين الفكر الإسلامي والحضارة اليونانية.
إذن.. فالسلفية بزعامة أحمد بن حنبل تعتبر نزعة أو تيارا يمثل الموقف المحافظ والمرجعي لأسس الإسلام. فمن سمات هذا التيار المحافظة على الأصول: الكتاب والسنة وتنقيتها من الشوائب. ويبدو أن المواجهة في شكلها ومضمونها بدأت تطل وتحاول أن تفترض نفسها بين ممثلي الفكر الإسلامي المتفتح، وما محنة ابن حنبل إلا مؤشرا على هذه المواجهة التي هي ضعيفة. هناك مواجهة أخرى يشعر بها كل من قرأ الفكر الإسلامي تبدو صورتها واضحة إنطلاقا من الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية ودافعوا عنها بحجة أنها تمثل صور العقل، واعترضتهم مشكلة تتلخص في التحاور مع الدين، وهكذا كرسوا جهودهم سعيا وراء بناء فلسفة توفيقية لكنها لم تصمد كثيرا وذابت بفضل العنف السياسي أحيانا والاستبداد والانحطاط الاجتماعي أحيانا أخرى،وفشلت المواجهة بين الفكر الإسلامي الحاضن للعقل وللتفلسف، والفكر الإسلامي العقائدي الرافض للجنين الغريب الذي ليس من صلبه.
تعتبر الفلسفة لقيطة هكذا سماها الفقهاء المتزمتون أو أنثى غير شرعية. وابن تيمية وابن الصلاح وابن رجب وغيرهم حاولوا بل تعاملوا مع الفلسفة والمنطق تعاملا شنيعا قائما على رفض الأنثى الغير الشرعية والابن الغير الشرعي أي المنطق. فظلت المواجهة بين الفكر الإسلامي والمعطيات الدخيلة عليه من ثقافة وفلسفة ظلت في يقظة تامة وفي حالة يعكسها الانحطاط الاجتماعي والمستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي من التدهور عقب سقوط بغداد في يد التتار ووصول العثمانيين الأتراك إلى الحكم. إن الفكر الإسلامي عانى الكثير ولا يزال يعاني من مصاعب وأحداث وملابسات تراكمت عليه…
موقف الفكر الغربي من الدين :
فالفكر الغربي يقف من الدين موقفا يتموج بين الرفض والكراهية والخصومة والحذر، وسواء في مجال الفكر الليبرالي أو الفكر الماركسي، فالدين منظور إليه نظرة قلقة. وقد طرح هذا الفكر حول الدين مواقف كثيرة تتراوح بين القول بأن الأديان نبتت من الأرض، ولم تنزل من السماء، وأنها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، أو أن الدين أفيون الشعوب ابتدعه الإقطاعيون لتخدير العبيد والطبقات الكادحة عن المطالبة بحقوقهم المسلوبة، أو أن الدين لا يصلح مطلقا لأن يكون عاملا مدنيا .وأنه مانع من الترقي والنهوض، أو القول بأن البشرية بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد، أو القول بأن الدين علاقة خاصة بين الله والإنسان. وأن الإنسان لا يستطيع أن يكون مؤمناً بضميره وكافراً بعقله. وقليل من كتاب الغرب من قال بأن الأديان أساس الثقافة، ومن قال بهذا أعرض عن القول بأن الدين نظام أو منهج حياة.
ويرجع هذا كله إلى مواقف وتحديات من التاريخ السياسي والاجتماعي الغربي في مواجهة الدين، وفي مواجهة الصراع بين اليهودية والمسيحية، وبين المسيحية والوثنية اليونانية التي سبقتها، ومنها ما يرجع إلى مفهوم المسيحية الغربية التي عبرت إلى أوربا، فوجدت مجتمعا قائما على أساس نظام اجتماعي كامل فكانت بطابعها الروحي الخالص ذات وضع عقائدي، فضلا عن أنها عن طريق الكنيسة قد اصطدمت بالنهضة العلمية في منطلقها. ويرد كثير من الباحثين، تلك التحديات التي قامت عليها مفاهيم الدين في الفلسفات الغربية (سواء منها الليبرالية أم الماركسية أم النفسية والاجتماعية ) إلا هذا الطابع الذي طبع الفكر الغربي كله بالعداء للدين والخصومة للكنيسة على النحو الذي نراه في كتابات سبنسر الذي ارتكزت فلسفته على المادية واللاأدرية و "هلكس" و "نيتشه" و"ماركس" و"فرويد" والدعاة إلى البشرية ( humanism ) على أنها دين جديد يجعل مردَّ الآداب إلى النفس البشرية وينزع بالناس إلى درس الكتب الوثنية، وتقوم البشرية على أساس الإيمان بالإنسان بدلا من الإيمان بالله. والفكر الإسلامي في مواجهة هذا كله يختلف اختلافا عميقا على النحو الذي يجعل مثل هذا المنهج العلمي الغربي الذي شكلته هذه المفاهيم والتحديات عاجزا عن استيعاب الأبعاد الواسعة لفكر الإسلام.
أما في عالمنا العربي الإسلامي فإننا نجد أصالة التدين في هذه الأمة التي كانت مهد النبوة، والرسالة، والتي شكلت فكرها وعقيدتها وأخلاقها وفق مضامين الحنفية السمحاء التي حمل لواءها رسول الله إبراهيم. فكانت الجذور الأصيلة للأديان المنزلة، وكانت مصدر ذلك التراث الأصيل العميق الذي جاء على أصوله دين موسى ودين عيسى ودين محمد.
ففي هذه الأمة الحنيفية، نجد أن التوحيد هو العلامة الكبرى لحركة الفكر والأخلاق والنفس، ونجد العامل الروحي معانقا للعامل المادي في تناسق وتكامل، ونجد الدين بمفهومه الأصيل عاملا فعالا وأساسا جذريا في المجتمع والأخلاق والتربية وممارسات الحياة السياسية والاقتصادية.
ومن هنا يبدو عسيرا على الفكر الإسلامي العربي الذي تشكل منذ القديم أن يخرج عن فطرته وطابعه ومزاجه الأصيل، وأن ينفصل عن جذوره الراسخة العميقة، فيقبل مفهوم التجزئة والانشطارية ممثَّلة في منهج الفكر الغربي بطابعه المادي الصرف.
فالإسلام ليس دينا تعبديا فحسب، ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الإعتقاد والدولة والنظم الاجتماعية والأخلاق ،ومن ثَمَّ فإن المنهج العلمي الإسلامي للبحث والمعرفة لابد أن يكون واسعا وشاملا ومتكاملا على النحو الذي يتمثل فيه هذا الفكر.
ومن هنا أيضا يبدو المنهج العلمي الوافد قاصرا وضيقا ومحدودا في مجال المقارنة والنظر. ولقد يستطيع صاحب المنهج الجزئي أن ينظر في المنهج المتكامل، وأن يقبله لأن ما يؤمن به موجود في داخل الأفق الأرحب، ولكنه من العسير على صاحب المنهج المتكامل أن ينصهر في دائرة ضيقة بعد أن ألف الحركة الواسعة الشاملة.
الإسلام والغرب حوار لا صراع :
• الإسلام قدَّم نظرة شاملة للكون والحياة والإنسان صالحة لكل زمان ومكان.
• أول مواجهة كانت في بلاد الروم والفرس نادى المسلمون فيها بالمساواة بين الناس.
• تعاملت الحضارة الإسلامية مع الإنسان على أساس الصلاح والتقوى.
• تَلَخَّصَت المواجهة الأولى في معنى الآية الكريمة: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.
• الدعوة تنجح كلما عرفنا الآخر..فعلينا معرفة الغرب وأسرار حضارته وأفكاره.
• رسالة الإسلام عالمية الفكر والمحتوى والممارسة والمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء.
• المسلمون الأوائل اختاروا التفاعل الحضاري ورفضوا التبعية.
*
مدخل:
آثرت الحديث عن حوار الحضارات وبالذات بين الإسلام والغرب للاعتبارات التالية:
• تميز الحضارة الإسلامية في الفكر والمحتوى والتطبيق عن الحضارة الغربية.
• كل حضارة تشغل مساحة جغرافية واسعة على اتساع العالم.
• كل حضارة تتشكل من عدة ثقافات مختلفة.
• للغرب وحضارته علاقات ولقاءات بالمسلمين وحضارتهم على مدى التاريخ.
• المصالح الاقتصادية والعلمية والتقنية تتداخل لدرجة أن المصالح السياسية أحيانا تبدو متشابكة بل ومشتركة في بعض الميادين.
وإذا كانت الحضارتان الإسلامية والغربية إلتقيتا ذات يوم على صعيد العداء المشترك للعقيدة الشيوعية وما أفرزته من عداوة للأديان وترسيخ الإلحاد، فقد بقيت كل حضارة تحافظ على سماتها وتحاول تثبيت منهجها في الحياة، ونشره بين الناس.
وقد شهدنا في الفترة الأخيرة التي أعقبت سقوط النظام الشيوعي، بروز بعض الأفكار المتطرفة في الغرب الرأسمالي تدعو إلى الحذر من المسلمين، بل وترى أن المستقبل ينبئ بقيام حروب بين الحضارات كما قال الدكتور "هنجتون" أستاذ العلوم السياسية في "جامعة هارفارد"، وهي من أكبر وأعرق الجامعات الأمريكية في مقاله الشهير بعنوان "صدام الحضارات"، وهذا المقال دعوة صريحة للغرب بأن يقف ضد الإسلام لأنه يمثل خطرا على الغرب.وفي هذه الدعوة افتراء على المسلمين الذين يؤمنون بالحوار بين الأفراد والجماعات وبالتالي بين الحضارات المختلفة.
نظرة الإسلام إلى الكون والحياة والإنسان:
الإسلام قدم نظرة شاملة للكون والحياة والإنسان، وأن هذه النظرة تبقى أساسية وصالحة للبشر في كل زمان ومكان، وهذه النظرة تشمل الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة، وجعلت العدل والتقوى والعلم منطلقات مركزية لكل تصرف إنساني،ومن هذه المنطلقات فقد قامت الحضارة الإسلامية على مبدأين مهمين هما: التغيير والاستشراف ولعل فوائح رسائله عليه الصلاة والسلام إلى إمبراطور الروم وكسرى والفرس توضيح هذين المبدأين: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون  . ولنستمع إلى إجابة الرسل الذين حملوا هذه الرسائل إلى عواصم أكبر قوتين على وجه الأرض عندما سُئلوا : ما الذي جاء بكم ؟ : » و الله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام « .
وتدلنا الآية الكريمة والإجابة السليمة على مجموعة من المعاني:
1. أهمية الحوار  تعالوا إلى كلمة سواء .
2. التغيير ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
3. الثبات على الحق  فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا المسلمون.
4. احترام المشيئة الذاتية لدى الآخر ليخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
5. المضمون الجديد للحياة وهو: أن العبودية لله وحده دون سواه..وأن عهد الطواغيت والجبابرة ولَّى بفعل الدعوة الإسلامية.
6. استشراف المستقبل في الدعوة إلى الخروج (من ضيق الدنيا إلى سعتها ) فالدنيا مهما اكتسبت من وسائل الترفيه والعيش الباذخ البعيد عن الدين فإنها تبقى ضيقة، عيشها كلف وحياتها شظف.
7. الإنعتاق من جور وصلف الأديان إلى عدل الإسلام في رحلة روحانية نحو حياة جديدة يسودها العدل والتقوى والأخلاق.
وهكذا نجد أن الإسلام بما أوتي من وضوح فكر وبتكريمه للإنسان.. كل إنسان، وفي كل مكان، وفي كل زمان.. وبما يمتلكه المسلمون من تراث علمي كبير مصدره القرآن، والحديث، والسيرة النبوية، وحياة السلف الصالح واجتهاد الأئمة والفقهاء. إن الإسلام بهذه العوامل هو دين العطاء الخالد المتجدد الذي لابد وأن يتبلور عطاؤه في حضارة إنسانية تؤصل الإنسان، وتطور معارفه، وتقدر مشاعره، وتسمو بعواطفه، حضارة لا تستغل الإنسان ولا تستنزف قواه وابتداعا ته ولا تبيعه للآلة والمادة. حضارة إسلامية تتعامل مع الإنسان على أساس الصلاح والتقوى.
إن الحضارة الإسلامية ليست خيال مصلحين، ولا فكر فلاسفة، فقد تحققت وقامت على الأرض قرونا طويلة، حيث نمت العلوم واعتمد العلماء الملاحظة والتجريب منهجا للتطبيقات العلمية، حيث نقلها الغرب عن ابن رشد وعن ابن خلدون… فقيمة الإنسان بالعمل الصالح: والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وقوله تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها  .
وعندما نتحدث عن الغرب.. فإننا نقصد به تلك الثقافات التي أفرزت حضارة مادية ( ماركسية ورأسمالية ) قامت في رأينا على ستة مبادئ:
1. الفصل بين العلم والحكمة، أي بين الوسائل والغايات.
2. اعتماد القياس لتحليل الوقائع الآنية والماضية..وتصور المستقبل مما حَرم الناس من الجمال والحب والإيمان والمعاني.
3. التطبيق الصناعي لأسس العلوم وقواعد التقنية..وهذا حقق للغرب تقدماً عمرانياً سلب ألباب الكثيرين لدرجة أن بعض أبناء الحضارات الأخرى وقفوا مدهشين أمام تقدم الغرب المادي.
4. الفردية التي اعتمدها الجناح الرأسمالي من الحضارة الغربية، فالفرد يعتبر رقماً أساسياً في التقدم التجاري والصناعي والزراعي. وهو-أي الفرد- جزء من الآلة الإنتاجية وبقدر ما يحقق من عمل يقود إلى ربحية فهو موجود..مع اختزال عواطف الفرد ومشاعره..وهذا الأسلوب الفردي ينطبق على أسلوب الجماعية التي نادى بها الجناح الماركسي أيضا.فالكل في حضارة الغرب (الفرد والجماعة) ما هو إلا حلقات في سلسلة الإنتاج الموجه الذي أخذ من الإنسان كل ما يريد وحرمه من كل شيء.. وهكذا وفي هذا الجانب فقد تمَّ اختزال الإنسان كله..حتى جهده وفكره وتطلعاته وإبداعاته.
5. حرمان الإنسان التسامي في ذاته.. بمعنى استعباد الإنسان.باستلابه بحيث فقد معاني القيم النبيلة المتمثلة في العدل والوفاء والتضحية.فكل شيء عنده يرتبط بالمصلحة..والمصلحة هي التي تقود سلوك الفرد.. وهكذا نجحت نظرية مكيافيللي (الغاية تبرر الوسيلة).
6. إطلاق العنان للحاجات النفسية حتى سيطر فجور الغرائز على التصرفات اليومية للفرد.
مما سبق يتضح أن الحضارة الغربية قد قامت على احترام المنفعة، فكلما كان الإنسان قادراً على العمل، ماهراً فيه، حاذقاً لأساليبه وطرقه، فهو مكرم على هذا الأساس، أما الصلاح فلا مكان له في مقاييس الحضارة الغربية. لقد أفرزت هذه المفاهيم كماًّ هائلاً من الجشع والأنانية التي تبيح القتل والنهب والاستغلال إلى جانب الحقد والكراهية، وحب العدوان، والتسلط، ففي أمريكا تمَّ قتل الهنود الحمر في كل سهل وشعب وقرية، وتمَّ الاستيلاء على ممتلكاتهم..وما يزال هذا التمييز العنصري قائماً حتى اليوم حيث يعيش الهنود في معسكرات مقفولة ومحرومة من جل الخدمات المدنية مثل الماء والكهرباء والبريد والشرطة. كما أن أوربا شهدت نظاماً إقطاعياً متسلطاً يستنزف قوى الفلاحين ويستغل جهدهم وعرقهم..وما تزال هذه العقلية قائمة في أرجاء المعسكر الغربي تستنزف جهود العمال والفلاحين، كما أن صناعة المخدرات وتجارة الجنس، والجريمة المنظمة والإرهاب قامت جنباً إلى جنب مع صناعة الطائرات والسفن وتقدم الطب وقيام الجامعات ومراكز الأبحاث مع الإقرار من قبلنا وللإنصاف بأن الغرب نجح في توفير الحاجات المادية الأساسية التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان مثل: الغذاء الكساء، والمأوى، والدفاع.. وأيضا الهجوم. والفرد في حضارة الغرب بالرغم مما توفر له من وسائل معيشية راقية ومرهفة فإنه يعاني من القلق، ويرتجف خوفا من الجريمة، وقد اعترف بهذا فلاسفتهم فسارتر يصف الغرب بالعبث والغثيان وأنه يعاني من نظرية المعقول التي قادته إلى غير المعقول.
وعموما فإن الإنسان الغربي لا يعاني من الضعف ولكن يعاني من الانتفاخ، حيث إن:
 التطور أدى إلى مزيد من التطور.
 الاختناق إلى مزيد من الاختناق
 التكاثف والتراكم إلى مزيد من التكاثف والتراكم.
 والقلق إلى مزيد من القلق.
 والجريمة إلى مزيد من الجريمة.
 والسبب في ذلك هو غياب الإيمان بمعانيه السامية وقيمه النبيلة التي تؤكد على الحق، والعدل والصلاح.
مواقع اللقاء والمواجهة:
عندما جاء الدين الإسلامي بالهدى للناس أجمعين توجه الدعاة إلى بلاد الروم وفارس يدعون إلى عبادة الله، وحده، وينادون بالمساواة بين الناس وتحريمهم من الطواغيت والأوثان. كانت هذه الدعوة أول محاولة للحوار بين الإسلام والغرب. وقد نجحت هذه المحاولة، حيث دخل الناس في دين الله أفواجاً، وارتفعت رايات الإسلام في ديار فارس والروم، وفتحت القسطنطينية، وقامت دولة الأندلس في أوروبا، وتضامن الدعاة حملة لواء الإسلام من العرب مع سكان تلك البلاد سواء من دخل منهم في الإسلام أو أولئك الذين بقوا على غير دين الإسلام.. وقامت حضارة إسلامية أضاءت بنورها من دمشق، وتشامخت بعلومها من بغداد، ونعمت إشبيلية وغرناطة بعدالتها ومساواتها بين الناس. أما اللقاء الثاني فقد كان واضحاً جداً حيث تمَّ بين الشرق المسلم والغرب النصراني من خلال المؤسسات العلمية التي قامت في الأندلس وجاء إليها أبناء أوروبا من الجزر البريطانية، ومن فرنسا، وألمانيا والأراضي المنخفضة وغيرها يأخذون عن المسلمين علومهم وعادوا بها إلى بلادهم حيث استطاع الغرب بذلك أن يؤسس نهضة صناعية وزراعية، وتجارية أطلق عليها المؤرخون ( الثورة الصناعية).وجاءت كلمة ثورة لتعبر عن مدى التغيير السريع الذي شمل جميع نظم الحياة في أوربا وأمريكا. ولعل في الرسالتين اللتين تبادلهما كل من الملك جورج ملك بريطانيا والخليفة الأموي بالأندلس هشام السادس، ما يوضح مدى حاجة أوربا إلى علوم المسلمين، ومدى تقدم المسلمين في هذا المجال.
فقد أرسل الملك جورج ملك بريطانيا وفدا من بنات الأشراف الإنجليز مكونا من ثماني عشرة فتاة برئاسة ابنة أخيه الأميرة ( دوبونت ) ويرافق الوفد أحد كبار موظفي القصر الملكي البريطاني هو النبيل ( سيف ديك ) ومع الوفد هدية ثمينة للخليفة، تقول رسالة الملك إلى الخليفة بعد مقدمة ودية:
» لقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضها العادي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائها اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية في إقتفاء آثارهم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة. وقد أرسلنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبونت ) على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز لتكون مع زميلاتها موضع عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة وعطف اللواتي سيشرفن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل وأرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والإخلاص «. " خادمكم المطيع جورج"
وعند وصول البعثة أمر الخليفة باستضافة جميع أعضائها والمرافقين في قصره وإحاطتهم بكامل الضيافة وتخصيص نفقة مالية لكل منهم من بيت مال المسلمين وبعث الخليفة هشام السادس آخر الخلفاء الأمويين في الأندلس بخطاب جوابي إلى الملك البريطاني جاء فيه : »لقد اطلعت على التماسكم فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر.أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد،وبالمقابلة أبعث لكم بغالي الطنافس وهي من صنع أبنائنا وهدية لحضرتكم وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا ،والسلام « " خليفة رسول الله على ديار الأندلس-هشام "
واللقاء الثاني في نظري اكتمل في هذا القرن عندما شعر المسلمون بالتأخر والانحطاط الذي أصاب بلادهم بعد سقوط الخلافة العثمانية الذي يمثل قمة الانهيارات العظيمة التي أصابت بلاد المسلمين.. إن اللقاء الثالث يتمثل في محاولات التطوير التي قامت في مصر على يد محمد علي، وامتدت بعد ذلك إلى كثير من بلاد المسلمين.. وقد سافر بعض الشباب المسلمين إلى أوربا، وأخيرا إلى أمريكا لطلب العلم حيث استطاع كثيرون من أولئك الطلبة أن يكتسبوا علوما ونظما وطرائق جديدة في مجالات الفيزياء، والكيمياء والرياضيات والطب والتربية، والإدارة والعلوم الإنسانية وعادوا إلى بلدانهم يدعون إلى التقدم في مجالات الطب والزراعة والصناعة والتعليم، والتنظيم الإداري.. مع الالتزام بالهوية الإسلامية.. وقد برزت هذه الجهود وأثمرت بغض النظر عن بعض الأصوات التي طالبت المسلمين بأن يتبعوا خطوات أوربا حذو القذة بالقذة إلا أن هذه الأصوات واجهت مقاومة فاعلة من أبناء المسلمين فذبلت واضمحلت.. ولم تعش إلا في أصوات المثقفين لغرض الجدل العلمي الذي يحاول الوصول إلى الحقيقة. ولعل الكفاءات الوطنية السعودية العالية التي تعمل في الصناعة والزراعة والطب والطيران والتعليم ومراكز البحوث بما في ذلك الجامعات السبع، ومدينة الملك عبد العزيز والقرية الشمسية والمصانع العملاقة في الجبيل وينبع خير شاهد على قدرة المملكة على استيعاب روح العصر مع المحافظة على الهوية الإسلامية المتميزة. ولكن هذه الصور الجميلة عبر التاريخ لم تكن وحدها في ساحة التعامل بين الإسلام والغرب، فقد شوهتها وقللت من أهميتها المواجهات التي اعتمدها الغرب ضد الإسلام والمسلمين.. وأهم هذه المواجهات حصلت في الميادين التالية:
أولا.. المجال الفكري : لقد أخذ الغرب صورة مشوهة عن المسلمين من أفواه العامة من التجار والمغامرين والبحارة، وهؤلاء لم تكن لديهم خلفية ثقافية ولا ثروة معرفية، ومع الأسف فقد اعتمد رجال الدين من النصارى على هذه المعلومات فصوروا المسلمين لمواطنيهم على أنهم قتلة وسفاحون وأن القرآن كلام محمد وأنه لم يكن وحيا من عند الله وأن المسلمون يكرهون غيرهم ولا يقوون على العيش مع الآخر.
ثانيا.. الحروب الصليبية : قامت الحروب الصليبية لأهداف منها، السيطرة على الثروات الشرق ومصادر الحياة فيها، إلا أنها اتخذت من الدين شعارا لإقناع العامة من النصارى بالانضمام إلى الجيوش التي غزت بلاد المسلمين تقتل النساء والرجال والشيوخ والأطفال بدون تمييز على أساس أنهم كفار ولا يؤمنون بالله ولا بدين جاء من عند الله، ودام الاحتلال الصليبي للمسجد الأقصى قرابة قرن من الزمان، ولا تزال الروح الصليبية تسيطر على كثير من المواقف الفردية والجماعية تجاه المسلمين حتى يومنا هذا.
ثالثا.. التنصير: شهدت إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية واستراليا حركة نشيطة في مجال التنصير.. وذلك بتحويل أكبر عدد ممكن من الناس إلى الدين النصراني.. وقد شهدت البلاد الإسلامية وخاصة المناطق الفقيرة التي ينتشر فيها الجهل وتحتاج إلى خدمات أساسية مثل المستشفيات والطرق ودور العجزة نشاطا واسعا للمنصرين..وعندما وجدوا صعوبة في تحويل المسلمين عن دينهم نادى كبار رجال الكنيسة والمنصرين بالإكتفاء بالعمل على إضعاف وتوهين رابطة المسلم بعقيدته كما جاء على لسان المنصر المعروف صموئيل زويمر عندما قال:" عندما تذبذب مسلما وتجعل الإسلام يخسره تعتبر ناجحا، يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم نصرانيا". ويقول غلادستون،رئيس وزراء بريطانيا في عام 1882 يخاطب مجلس العموم البريطاني: «إنه ما دام هذا القرآن في أيدي المسلمين، فلن يقر لنا قرار في تلك ولن تكون أوربا في أمان». أما دافيد بن جورجيون أول رئيس وزراء في إسرائيل فيقول: «إننا لا نخشى القوميات والاشتراكات والديمقراطيات في المنطقة، ولكن ما نخشاه هو الإسلام، ذلك المارد الذي نام طويلا ثم أخذ يستيقظ من جديد ».
رابعا.. الاستشراق: لقد قام عدد من العلماء الغربيين بالبحث والتنقيب في تراث المسلمين فحققوا كتبا قيمة، وطبعوا مؤلفات كانت مجهولة، وطبقوا منهج الموضوعية والتجرد على كثير من تراث المسلمين، ولم يقفوا عند هذا الحد بل نقلوا كثيرا منها إلى لغاتهم واستفادوا منها. إلا أن المستشرقون عندما يحققون أو يعلقون أو يؤلفون فإنهم يقدمون أعمالهم من منظور نصراني أو يهودي متعصب مما يشوه الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية .. وقد ربطوا مع الأسف تقدم عَالَمَهم بدينهم النصراني وتأخر العالم الإسلامي بالإسلام دون تورع ولا روية.. مع أن العملاق الياباني لم يكن نصرانيا واستطاع أن ينافس الغرب في مجالات العمران والاقتصاد والصناعة. وهكذا تجد أن المستشرقين من يدرون أو لا يدرون كانوا يخدمون الكنيسة وقوى الاستعمار . وللإنصاف فإنني أؤكد هنا أن منهم من قدَّم خدمة علمية للتراث الإسلامي من حيث النشر والتأليف. ولكن علينا أن نلزم الحذر فيما كتبوا وحققوا حتى تسلم عقيدتنا وقيمنا من التشويه. ولا ننسى أن بعضهم اعتنق الإسلام كما فعل المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس الذي يعتقد أن أي إنسان "يدرس الإسلام دراسة غير متميزة، لا بد أن يعتنقه " وهو يرى أن تطبيق الشريعة وسيلة ناجحة لتهذيب السلوك وتوفير الأمن وصيانة الحرمات والحقوق.
خامسا.. الاستعمار: جاء الغرب إلى بلاد المسلمين مع بدء ضمور حكم الخلافة العثمانية وتآمر الغرب مع الكثيرين على نشر البلبلة في البلاد الإسلامية وانتهت هذه المؤامرة بسقوط حكم الخلافة وتقاسم البلاد الإسلامية في مختلف القارات: الماركسية سيطرت على ألبانيا وبولندا والمجر ومقدونيا والبوسنة والهرسك. فيما سيطرت هولندا على إندونيسيا،واحتلت بريطانيا كلا من مصر، والسودان، وفلسطين، والعراق، وجنوب شبه الجزيرة العربية.. وأكثر من هذا أقامت سلطات الانتداب البريطاني بتسليم الأسلحة والذخيرة العسكرية إلى اليهود ومساعدتهم لاحتلال فلسطين وتشريد أهلها منها. وإيطاليا تمركزت في ليبيا والحبشة، وفرنسا في ديار المغرب العربي وسوريا ولبنان، وأمريكا اعترفت ب:(إسرائيل) الدولة الوليدة المحتلة وقدمت وما تزال تقدم لها المساعدات المالية والعسكرية والدعم السياسي في المحافل الدولية مما أدى إلى تمزيق الوطن العربي وتفريق كلمة العرب وتعطيل مسيرة التنمية في أكثر البلدان العربية.
لقد أثبت الإنسان على مدى التاريخ ومنذ أن قامت المواجهات بين أبينا آدم عليه السلام وهو يمثل قوة الحق وبين الشيطان (إبليس) وهو يمثل قوة الشر، ومنذ أن قامت الحروب الكبرى في التاريخ، ووصولا إلى هجوم التتار والمغول والصليبيين على العالم الإسلامي وإلى أن قامت الدول الغربية بالهجمة الشَّرسة على بلاد المسلمين في بدايات القرن العشرين حيث أسقطت الخلافة العثمانية واحتلت بلادا كثيرة، وأقامت قواعد عسكرية متسلطة متعددة، ونهبت الثروات، وفرضت ثقافات غربية على أهل الديار الإسلامية إلى درجة أن فرنسا طبقت استخدام اللغة الفرنسية في المغرب العربي في المدارس والجامعات والصحافة لطمس الهوية الإسلامية في بلاد المسلمين.. إلا أن الإنسان السوي المعتدل أثبت خلال تاريخه الطويل بالتآلف والاختلاف أحياناً، ومع موجات التقارب والتنافر أحياناً أخرى أثبت هذا الإنسان أن الصراع بين الثقافات ما هو إلا حالة شاذة وآنية ومؤقتة ولم تكتسب بعداً أخلاقيا ولم تستطيع الديمومة والاستمرار لأن الصراع قام على الاستعلاء والغرور والحقد والكراهية والأنانية، وهذه الصفات لا تلبث أن تنهار في ذاتها وتؤدي بالذين يعتنقونها إلى الانهيار.. وإلى جانب ذلك أثبت الإنسان أن الحوار هو الثابت في السلوك وأن التفاعل والتكامل والتفاهم هي أفضل السبل لترسيخ التلاقح بين الحضارات ذلك أن الحوار هو الثابت في السلوك وأن التفاعل. والتكامل والتفاهم هي أفضل السبل لترسيخ التلاقح بين الحضارات ذلك أن الحوار هو طبيعة العقل ووسيلة المعرفة، ولذلك جعل الله أمة الإسلام أمة وسطا وجعل التعارف هو القاعدة الأخلاقية والأساسية في التعامل بين القبائل والشعوب ولا كرامة لأحد على آخر ولا لمجتمع على آخر إلا بالتقوى.. وهذا التعارف هو الخطوة الأولى على طريق الحوار.. ومن عناصر الحوار بين الحضارات الاعتراف بميزة العقل البشري الذي يستطيع الاستمرار في التعلم والبحث والتنقيب بما استودع الله فيه من قدرات على الاكتساب والاستيعاب والاكتشاف والاستشراف..وهكذا يبقى باب التفوق والإبداع مفتوحاً أمام الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  .
ولكن كيف الحوار؟
الحوار مع النفس : إن أي حوار مع الآخر لا ينجح إلا بالحوار مع النفس، وهذا يعني الثقة بالذات وفهم الواجبات المترتبة على الفرد المسلم وبالتالي معرفة الحقوق التي يتمتع بها حتى لا يصيبه الغرور من ناحية فيتجاوز حرية وحقوق الآخرين..وحتى لا يصيبه الوهن والضعف وفقد الثقة بنفسه من ناحية أخرى.
الحوار مع الشقيق: إن العالم الإسلامي بما يعتريه من تفكك وتشر ذم في الوقت الحاضر، وما يعانيه من الاختلاف وسوء الفهم يحتم على أبنائه العودة إلى فهم بعضهم البعض باحترام كل مسلم لأخيه المسلم وإشاعة التعاون فيما بينهم وأن يعيشوا متراحمين يشعر كل منهم بالآخر، بل تنفيذاً لتوجيهات الرسول عندما شبه المؤمنين من أمته: » في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى « .
الحوار مع الجار: تتسع البلاد الإسلامية لتشمل قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وينتشر الإسلام مع الأقليات المسلمة التي تعيش أيضا في أوروبا والأمريكتين وأستراليا. ولذلك فإن المسلمين على اتصال دائم ومباشر مع جميع الحضارات النصرانية والبوذية والهندية وغيرها..ولذلك فإن فهم الجيران ومعرفة ثقافتهم وطموحاتهم يعزز العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
الحوار الحضاري: من المسَلَّم به أن الحوار يتِمُّ بين نَدَّين أي بين متساويين. وهو لا ينجح بين غالب ومغلوب أو بين سيد ومسود.. وأن علاقتنا بالحضارات الأخرى هي علاقة إنسانية تدفعها الرغبة في العيش الكريم والسلام الشامل بين جميع الناس.. سيما وأننا نمتلك حضارة هي في أساسها ومقوماتها تصلح لجميع الناس في جميع الأماكن وفي جميع الأزمان.فالناس في الإسلام سواسية، والحاكم مسؤول عن مواطنيه، والمواطن مطالب بإبداء رأيه والنصح للحاكم وفق الضوابط الشرعية، والحقوق مصانة سواء أكانت للفرد أو للجماعة. والفرد هو أساس التنمية، ومركز التطور، والجماعة هي المجال الذي يعيش فيه معه وبه كل فرد وكل أسرة، وبقدر ما يختزن الإنسان من التقوى والأمانة والوفاء والتضحية وحب الخير،والتعاون بقدر ما تحسب مردودية عمله ..والأهمية هي للصَّلاح..وبه تكتسب وتقاس الصلاحية..وأي إنتاج بدون تقوى هو عمل بدون صلاح..ولذلك فإننا نبحث عن الصلاح لأنه دليل التقوى،والمؤمن تقي وخير عباد الله هم المؤمنون،كما جاء في القرآن الكريم حيث قال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم . وقال: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات ، وقوله تعالى:  يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم  .
وهكذا فإن الإنسان مهما اختلفت حضاراتهم وتباينت ثقافتهم فإن لهم عوامل حضارية مشتركة.. أخذ بها المسلمون وأضافوها إلى خصوصيات الحضارة الإسلامية كما يقول الكاتب الإسلامي الدكتور محمد عمارة فاختاروا ( التفاعل الحضاري ) ورفضوا (التبعية والتشبه والتقليد ) وكان إقبالهم على الحضارات الأخرى واضحاً حيث أخذوا عن الرومان " تدوين الدواوين"، ورَفضوا القانون الروماني اكتفاء بالشريعة ونقلوا " الفلك والحساب" عن الهنود واستبعدوا الفلسفة وتمسكوا بالتوحيد.. وأخذوا عن الإغريق علومهم التجريبية وكفروا بالأساطير الوثنية.. ولم تعمد الحضارة الإسلامية في تاريخها الطويل إلى محاولة طمس الآخر بإلغاء خصوصياته الحضارية.. ولكنها دعت الأمم إلى حرية اختيار ما يناسبها ويدعم هويتها واستقلالها .
إحياء التفكير والتجريب: لقد برع المسلمون عندما اعتمدوا مبدأ التجريب والملاحظة والكشف والتجديد والابتكار فأقاموا حضارة كانت مهوى أفئدة العلم وطلابه.. ولذلك فإننا مطالبون في هذا العصر بالعمل من أجل التجديد في البناء الحضاري الشامل، فالتقليد لا يبني أمة و لا يُرسِّخ هوية.
إن تأسيس الجامعات وإتاحة الفرصة لأساتذتها كي يدرسوا ويبحثوا ويبدعوا لَهُوَ مطلب أساس في عملية النهضة الحضارية.. كما أننا بحاجة إلى مراكز البحوث المختلفة سواء في مجال التطبيقات العلمية أو في مجال العلوم الإدارية والإنسانية النافعة. كما وأن الحركة العلمية تتطلب اتصالا يوميا ومباشراً مع مراكز البحث العلمي والعلماء والجامعات في أقطار الأرض..بحيث نأخذ من الإنساني العام المشترك، ونحافظ على (خصوصياتنا الثقافية) والعقدية والحضارية.. وقد قال المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني: » إن أبا العلم وأمه هو الدليل.والدليل ليس أرسطو بالذات.. والحقيقة تُلتمس حيث يوجد الدليل..والتمدن الأوروبي هو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة، وسير الاجتماع الإنساني..والمسلمون الذين يقلدونه إنما يشوهون وجه الأمة ويضيعون ثروتها، ويحطون من شأنها..إنهم المنافذ لجيوش الغزاة يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب .«
وفي هذا الصدد وعن تجربة عملية رائعة يقول الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية –رحمه الله: » التقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل.. يقولون إن المسلمين في تأخر وبحثوا ليجدوا طريقة لتقدم المسلمين، فما وجدوا طريقة أمامهم ألا أن يقلدوا الأوربيين، ولكنهم لم يقلدوهم، فيما كان سبب قوتهم ومنعتهم، بل قلدوهم فيما لا يسوغ في دينهم فقد مضى على هؤلاء عشرات السنين وهم يدعون الناس بالسر والعلانية، بالقول والعمل لتقليد الأوروبيين ولكن من منهم عمل إلى اليوم إبرة، أو صنع طيارة، أو بندقاً أو مدفعاً ؟..
إن الدين لا يمنع الناس عن تعلم الصناعات وما شكلها، بل هو يحث عليها في مواضيع كثيرة من محكم آيات القرآن الكريم«.
عالمية الإسلام: لقد جاء الإسلام ليكون الرسالة الخاتمة إلى الناس أجمعين، فبعث الله محمداً بن عبد الله  ليكون آخر وخاتم الأنبياء والرسل.. وجاءت رسالته عالمية الفكر والمحتوى والممارسة فهو (رحمة للعالمين)، وأرسله الله (للناس أجمعين)، والمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل الذين سبقوا محمداً ويؤمنون بالأديان السماوية ولا يقبلون عليها أي تحريف.ومن هذا المنطلق فإننا في الحوار الحضاري لا بد وأن نؤكد للأمم الأخرى و لأبناء الحضارات الأخرى أن الدين الإسلامي يحث أتباعه على التعامل والتفاعل مع بقية الأمم من أجل بناء حضارة إنسانية تهدف إلى تحرير الإنسان من عبودية غير الله، وترمي إلى تحقيق العدل بين الناس، وإقامة مجمع الرفاه الذي يعطي لكل ذي حق حقه ويضمن حرية الرأي المسؤولة، ويقبل الرأي الآخر.. ويشجع على التعاون بين الناس في كل ما هو (إنساني عام مشترك) مع الإقرار بما ( يميز كل حضارة ويعطيها خصوصيتها) التي قامت عليها..والتاريخ يؤكد هذا المنطلق حيث انبرى المسلمون خلال القرن الهجري الأول من أجل تحرير وتنقية الضمائر وتحرير الاعتقاد وبناء الدولة المنظمة وقد تعاون معهم بعض أبناء الحضارات من الروم والفرس وهم على دينهم القديم. وعلى هذا سار الخلفاء الراشدون- رض الله عنهم- والأمويون والعباسيون، والدولة الإسلامية في الأندلس.
هذا التعاون مع الآخر..وهذا التلاقح بين الحضارات جاء نتيجة التربية الإسلامية حيث قال الله سبحانه وتعالى:  لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي  وقال: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر   قال يا قوم أَرَأَيْتُم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، آنلزمكموها وأنتم لها كارهون ولو شاء ربك لآمن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين  . والناس في نطاق العالمية الإسلامية ينقسمون إلى قسمين:
• أمة الاستجابة: وهم المسلمون الذين اختاروا هذا الدين عن طواعية واقتناع.
• وأمة الدعوة: وهم الذين على غير دين الإسلام..وواجبنا التعايش معهم ودعوتهم إلى الإسلام من خلال الحوار الحضاري الذي يكفل لهم حق الاقتناع وحرية اختيار العقيدة.
التعاون العالمي: يتمتع الإسلام في هذا العصر بخاصية الانتشار في جميع أصقاع العالم، وبين أبناء الأعراق والأجناس المختلفة..ولذلك فإن الإسلام يرفض الانغلاق والانعزال..والعمل الصالح مطلوب من المسلم ليس من أجل نفسه وأسرته ومجتمعه فحسب، بل ومن أجل صلاح الإنسان..أي إنسان..وفي كل مكان..والبر والصلاح مطلوب من أجل سلامة كل حي بما في ذلك الحيوانات، كما قال رسول الله: « في كل كبد رطبة أجر » .
ومجال التعاون الدولي.. هو ميدان رحب لحوار الحضارات.. حيث إن جميع المنظمات الدولية في الوقت الحاضر تقوم على ثقافة الغرب التي تعتمد الآنية والفورية والمصالح في حركتها..ولذلك جاءت منظمة الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومؤسسة النقد الدولي لتراعي مصالح الدول الكبرى فقط..وكلها دول غربية، ولا تُعبِّر عن مصالح الدول الصغرى والمتخلِّفة، والفقيرة غالباً، إلا عندما تخدم هذه الدول مصالح الكبار..إن المنظمات الدولية الحالية تخدم طورا معاصرا ومؤقتا من أطوار التاريخ ولا يملك القدرة على الاستمرار لا في الفكر ولا في الممارسة.. لأنها لا تراعي الخصوصيات التي تميز الحضارات الأخرى.. ولذلك تم تقسيم العلم حسب رؤية الغرب إلى شمال وجنوب.. فالشمال هو الذي يعرف ويملك..والجنوب هو الذي لا يعرف ولا يملك.. كما أن التمثيل للدول الكبرى، ولها أيضا حق النقض (الفيتو)، مما أفقد العالم ميزة التوازن الذي يحقق العدل. ولكن وبالرغم من هذا الإجحاف.. فإنني أن المنظمات الدولية هي مكان مناسب لحوار الحضارات نحاول من خلاله أن نصل إلى العدالة التي توفر التعايش في سلام بين الحضارات.. وهذا يأتي ثمرة جهود كبيرة وكفاح طويل.. أن الأماني لا تحقق عدلا وأن النقد وحده لا يقيم معوجا، ولكنه العمل الجاد الدؤوب:  وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .
الأقليات الإسلامية: إن وجود أقليات إسلامية في المجتمعات الأخرى وفي الغرب بالذات، يساعد المسلمون على تحقيق الحوار الحضاري.. وذلك بأن تكون الأقليات عنصرا فاعلا في النسيج الاجتماعي في كل بلد تعيش فيه هذه الأقليات.. نريد منهم أن يقدموا الإسلام إلى الآخرين بالقدوة الحسنة، وذلك من خلال الإخلاص في العمل، والصدق في القول والوعد، والمبادرة إلى فعل الخير للآخرين مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية.. والمسلمون في الولايات المتحدة وحدها يتعدون خمسة ملايين نسمة، ويعيش في أوربا حوالي ثلاثة عشر مليون مسلم في أربعة عشر بلدا.. وهذا لا يشمل تركيا والبلاد الإسلامية التي انسلخت أخيرا عن الاتحاد السوفيتي السابق.
المراكز الثقافية الإسلامية: تؤدي المراكز الإسلامية دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر من ناحية وفي نشر الإسلام من ناحية أخرى، وكان للمملكة العربية السعودية النصيب الأوفر والعمل الأشرف من خلال هذه المراكز كما وأن مسجد روما الذي أقامته المملكة أخيرا في مكان بارز أمام الفاتيكان يجسد رؤية عملية وعلمية للإسلام، وتقوم أكاديميات الملك فهد في كل من واشنطن ولندن وبون بأداء دور تربوي لا يستهان به وستظهر ثماره واضحة في المستقبل إن شاء الله.
وأشيد بالمبادرات الخيرية على المستوى الشخصي مثل إنشاء كرسي الملك فهد، حفظه الله، للدراسات الإسلامية في جامعة هارفارد الأمريكية، وإنشاء قسم الأمير نايف بن عبد العزيز للدراسات الإسلامية بجامعة موسكو.
الدراسات الغربية: إننا ونحن أمة حوار حضاري وتسامح ديني.. وإننا نحن مكلفون بالدعوة إلى الحق إلى يوم القيامة.. فإنه وفي هذا العصر الذي تقاربت فيه المسافات بفعل تقدم وسائل المواصلات.. ولأن الدعوة تنجح كلما عرفنا الآخر فإنني أدعو إلى إنشاء مراكز وأقسام للدراسات الغربية في الجامعات العربية الإسلامية، وذلك بقصد معرفة الغرب وأسرار حضارته وأفكاره وبالتالي تقديم ثقافتنا وحضارتنا إليه وإلى الحضارات الأخرى في آسيا وإفريقيا.
لقد بذل الغرب جهودا كبيرة ليس لمعرفة أصولنا الثقافية ولكن لاختراق مجتمعاتنا بفكره وثقافته. ونحن من جهتنا يجب أن نعرف الآخر، ونقدم أفكارنا إليه رغبة في إقامة تبادل وتلاقح ثقافي وحضاري يعتمد على العدل والمساواة وحرية الاعتقاد وحرية الاختيار في الوقت نفسه.. وليس أجدى لتحقيق هذا الهدف من إقامة مراكز بحوث وفتح أقسام علمية لدراسة أحوال الحضارات.. وبالذات الحضارة الغربية.
التعاون مع الهيئات والأفراد في الغرب: تقوم في الغرب مؤسسات ومعاهد وجامعات بدراسة التراث الإسلامي واللغة العربية مع التركيز على معرفة الشخصية الإسلامية وطريقة التفكير لدى المسلمين،وذلك بتمثيل الواقع المعاش في ديار المسلمين واستقراء التاريخ الإسلامي مثل (جامعة هارفارد ) وجامعة ييل في أمريكا. وكامبردج واكسفرد وجامعة لندن في بريطانيا، والسوربون، العالم العربي في فرنسا.
أما الأفراد، فقد ظهر عدد من القيادات الغربية يتحدثون عن الإسلام ويحاولون أن يتحدثوا عنه بإنصاف.. وفي مقدمتهم الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا.
ولهذه الهيئات والأفراد تأثير كبير في رسم السياسات الغربية تجاه المسلمين.
الدعوة إلى الله: انتشر الإسلام بالدعوة إلى الله في حسن منطق ووضوح، حجة وصبر جميل. وكانت القدوة السلوكية أنجح الوسائل.. ولذلك فإن على المعاهد إعداد الدعاة في العالم الإسلامي إعداد الشباب علميا في مجال العقيدة والتاريخ الإسلامي وفي مجال اللغة الأجنبية التي يتحدث بها الداعية، وفهم الخواص النفسية والثقافية والتاريخية للأقوام الذين سيكلفون بدعوتهم.
مما سبق نتبين رحابة صدر الحضارة الإسلامية بانفتاحها على الحضارات الأخرى من خلال تبادل ثقافي، ودعوة إلى الدين الخالص ( بالحكمة والموعظة الحسنة ) والتاريخ مليء بتسامح المسلمين مع الآخرين، وإسهاماتهم الكبيرة في تقدم الإنسانية. ولكن هذا لا يكفي، فهم مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بمعرفة دينهم، وواقعهم، وبالتالي التقدم إلى الأمام في مسيرة بناء حضاري يحقق للأمة الإسلامية ريادتها العالمية ويقدم للإنسانية نموذجا صالحا لمجتمع بشري يسوده السلام والعدل والرخاء.



#محمد_عادل_التريكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية
- تأصيل الحداثة وعصرنة التراث
- المرأة في المجتمع الإسلامي
- أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد عادل التريكي - الإسلام والغرب