أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين عجمية - العقل وفيزيولوجيا الدماغ















المزيد.....


العقل وفيزيولوجيا الدماغ


حسين عجمية

الحوار المتمدن-العدد: 2807 - 2009 / 10 / 22 - 00:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


العقل كجهاز نوعي جديد ارتبط وجوده بالإنسان، بطريقة غامضة وغير مفهومة، لأن الظواهر الناتجة عنه غيرت طبيعة الكائن الإنساني عن بقية الكائنات الأخرى، لأنه يمتلك قوة حيوية خلاقة تنظم تعاطيه مع الوسط الخارجي، بكل مقوماته الحية والجامدة ، فاعلية مرتبطة بالنشاط الفاعل، لا بالهجرة والتنقل كالحيوانات والطيور، بل بطريقة المعالجة بالتغيير العام للوسط المحيط به، ورسم ملامح هذه القدرة من تصور نابع ومكتمل التنظيم بالعقل، لأن طريقة التلازم بين وجود الدماغ والإنسان مرت بمراحل تطورية مديدة من التفاعل بين الدماغ البشري ووعيه، الناتج عن دوره في تجهيز المراحل الأولى للمعرفة كبداية قابلة للانطلاق ، فإذا كان العقل كمفهوم مرتبط بالوعي والتفكير والقدرة على التحليل والتخزين والتصور والتخيل، وغيرها من الخصائص ذات المهام الفائقة في أدائها وكفاءة معطياتها، وما تقوم به من تشكيل الروافد الأساسية للتقدم والتطور في نظام الحياة الإنسانية ، منذ دخول الإنسان نظام عالم الوجود الحي، وحتى هذه المرحلة المتطورة جداً من الحياة ، والسؤال المرتبط بعمل الدماغ في بداياته الأولى قبل تكامل قدرته على التفكير يلغى ما كان الواقع يؤشر على دور الدماغ البدائي في التعاطي مع قدرة الاستشعار والتنبؤ والتنبه لأخطار مفاجئة وظواهر طارئة في المحيط الخارجي، والعقل قبل تشكيل الرموز الدلالية لمعاني الموجودات في الطبيعة المحيطة بوجوده، كان عمله مرتبط بمهام فائقة في الأهمية ، كدليل متميز لتوجه الإنسان نحو مسارات وتفاعلات تحقق له قدرة على التواصل والاستمرار، من خلال قدرته على إرسال واستقبال إشارات قادرة لتنبيه الإنسان لنوعية الأخطار، والطريقة التي يتفاعل بها مع أبناء جنسه والوسط الخارجي، وبنفس الوقت لعبت هذه المرحلة دوراً مهماً في تاريخ العقل قبل التوصل لتشكيل لغة للتخاطب والمعرفة ونقل الخبرة إلى الأجيال، ولم تزل خفايا العقل الأول مبهمة وغير مفهومة كمضمون فاعل في نظام الحياة البشرية ، لأن الدراسات الجارية على ارتباط العقل بالدماغ تكونت من عقل إنساني وصل إلى مرحلة متطورة جداً من نظام التبادل المعرفي المنقول بواسطة اللغة والفنون الراقية بكافة أشكالها وأنواعها.
فالعقل البشري أظهر وسائل للتعبير عن العواطف والانفعالات الفردية بما يجعلها قابلة للفهم بالشكل الإنساني الكلي ، فالعقل قادر أن يرتب منظومة عاطفية وفنية وفكرية، يمكن فهمها وإدراك معناها في جميع العقول، وكأن الإنسان قادر أن يشكل عقلاً إنسانياً واحداً، بالرغم من انفصاله المجرد، فالقدرة الفيزيائية للدماغ والتجربة الانفعالية الخارجة بطريقة فنية عن طريق الوعي والخيال، يمكن توظيفها كمفاهيم موهوبة في تذكر التجارب الماضية، وتحليل بنيتها ومضامينها وغاياتها، وبنفس الوقت قادرة على تشكيل مفاهيم استباقية بدون أي دليل أو إشارات تؤكد قدومها ، فهي قدرة قادمة من الخيال العلمي تعطي إمكانية الوصول إليها مع تقدم التطور في نظام الزمن.
فالعقل البشري يختلف اختلافا نوعياً عن بقية الكائنات الأخرى، لأنه قادر على التذكر المتعمد لتجارب سابقة، وتوظيف نتائجها في نماذج جديدة ، ترتبط بما هو قادم من التغيرات والظواهر، وتكوين معايير في نظام القيم والمعارف لطبيعة السلوك والظواهر غير المادية كالأخلاق والفلسفة والأدب وغيرها من النظم المعرفية المؤثرة على الطبيعة الإنسانية، والتفاعل مع نظام اجتماعي مرتبط بقواعد من الروابط المتشابكة من السلوك والأخلاق. فالتقدم المؤدي إلى اختراع اللغة البشرية، كأداة فذة وفريدة مرتبطة بنظام أعلى من اللغة البيولوجية ومختلفة عن منظومة التواصل عند الكائنات الأخرى، فالتغريد وصيحات الغرام لدى الطيور نظام مطبوع بدقة مع بنية الطير الفيزيولوجية، وهي لغات قائمة بالفطرة تطلق بدون أي زيادة أو نقصان في مبناها العام، وهي رسائل نمطية متكررة على نحو ثابت بدون إضافة أي تراكيب جديدة على هذه الأنماط من الأصوات الجميلة والمتقنة بالوراثة ، حتى القرود العليا التي تمتلك دماغ شبيه بالدماغ البشري، لا تستطيع استعمال سوى عدد بسيط جداً من الكلمات، توازي نمط لكلمات يتعلمها الطفل بعمر سنة أو أكثر قليلاً، مهما استمر الجهد في تعليم هذه القرود مفردات لغة معينة.
فاللغة الإنسانية فريدة بنوعيتها ومرونتها وقابليتها لتكوين أفكار إبداعية ، وتملك بنية يمكن توظيفها لتكوين أنظمة من العلاقات والمواضيع والأبحاث، ويمكن إدراجها في نظام الذاكرة والمعرفة الخاصة في عقول البشر ، كما يمكن من خلالها تشكيل نظام للإبداع المعرفي في شتى المجالات المرتبطة بالتوجهات الإنسانية، نحو معارف جديدة في بنيتها وتنظيمها وحتى يمكن تحويلها إلى أنماط من الرموز والعلاقات قابلة للاختزال كلغة الكيمياء، أو وضع قوانين ومعادلات رياضية في غاية الدقة، للتوصل إلى معارف متوسعة جداً في نظام الحياة الإنسانية.
ونظراً لاعتبار اللغة أداة رمزية للبشر والعالم بكل مكوناته، تمتلك قابلية تكوين معرفة قابلة للنقل والحفظ، بحيث ينعدم معها الحاجة للمعايشة المرتبطة بالتجارب وحقول الإبداع المختلفة، لأنها قادرة على تخزين جميع النشاطات والإبداعات الإنسانية كمفاهيم واضحة الدلالة، يمكن من خلالها إعادة بناء التجارب في أي وقت من الأوقات.
فالتواصل عن طريق الكلام باللغة، يؤدي إلى جذب الإعجاب والتنبيه ونقل التحذيرات والمهارات والتطورات وغيرها من أنماط التفاهم المختلفة بين البشر ، ولا يرتبط التفاهم فقط بالجانب الأفقي ضمن شريحة بشرية محدودة في الزمن، وإنما بطريقة التواصل العمودي بين الأجيال المختلفة، ترتبط من خلالها بالتواصل التاريخي بين العصور المختلفة، لمعرفة المراتب المعرفية والأنظمة العقلية والفكرية للأجيال السابقة ، عندما تكون مدونة في نصوص أو رموز، ويمكن قراءة أحوال وظروف الحياة لنوعيات من البشر تفصلنا عنها ألاف السنين، من خلال معرفة الأواني والأدوات المستخدمة في ذاك العصر القديم ، وباللغة يتلقى الإنسان أنواع التربية والمعتقدات وحفظ الإرث التاريخي لنظامه العقلي والعاطفي .
فالإنسان العاقل هو نوع من الظهور العقلي، قادر على التكيف مع الطبيعة والوسط بما لا يقاس بعمل الاصطفاء الطبيعي البطيء والمخصص لمظاهر معينة من الحياة العضوية فقط. فالذكاء المرتبط بالنظام العقلي يؤمن التكيف مع الوسط بطريقة فعّالة، مع اقترانه باليد الماهرة في صناعة الأدوات والآلات والفنون المختلفة، بما يتيح للوجود الإنساني نشر أعمال وصناعات عظيمة ودقيقة على كامل المساحة الأرضية وفي الفضاء الخارجي، وتجعل هذا الكوكب مجالاً لنشاط العقل المبدع والخلاق.
فالتغيرات الجارية على البنية الدماغية للإنسان، أتاحت له التطور المتدرج عندما بدأ الدماغ ينشر طاقات مرموقة مفيدة للكائن الإنساني، وأخذ الاصطفاء الطبيعي يعمل بنظامه المعهود، بحفظ الإمكانات اللازمة للنجاح التطوري في المنظومة القابلة للعمل، قياساً ببقية الأجزاء الأخرى من الجسد، فقد تزايد وزن الدماغ وطريقة تعقيده بشكل خاص ، وبدأ بتخصيص مجموعة من الوظائف الهامة والضرورية لنظام الوعي والفهم والنقل والتخيل وغيرها، وتزايد وزنه حتى وصل إلى 1 على 14 من وزن الجسم العام، وبدأ وتطور في أجزائه المكرسة للوظائف العليا للمعرفة، بتنسيق الوظائف في القشرة الدماغية عندما ارتبط وجودها بطراز توجيهي قاد البنية الدماغية للقيام بأعمال أكثر كمالاً، وبدأت الطفرات بالتلاحق لإنتاج منظومة دماغية أقدر من خلال تداخل تفاعلي لتوالد تفريقي، لدرجة أنّ التراكيب الجديدة للمورثات كانت تتسارع في تحسين ميزاتها المرتبطة بإنشاء طاقات العقل، بحيث ارتفع الوعي الإنساني بالتغيرات الجارية في نظامه، لأن أكثر التطورات أهمية في الحياة الإنسانية ارتبطت بالجانب العقلي، بتوظيف نظام موجه خاص بالطبيعة الوراثية للعقل، وكأنّ كلّ شيء عند الإنسان أهمل وراثياً، لكي يشجع تنامي قدرة الدماغ في تكامل بنيته العامة ، لقد فقد الإنسان الشعر الكثيف الواقي وتأخر بلوغه الجنسي، لتأمين الظروف المناسبة للعقل لاستكمال بنائه الحيوي، والدخول في طريقة التعاطي مع الحياة باللغة والكلام وبالفكر والخيال، وغيرها من الأنشطة الدماغية الموظفة لتأمين تلازم وظيفي مرتبط بإنتاج العقل بما لا يقبل الشك.
ونظراً لأهمية اللغة والكلام في تنامي التفكير والأعمال المرتبطة بنجاح الإنسان في الميادين المختلفة من النشاط، فقد ظهر تطوراً مهماً في الأجزاء المخصصة لهذه المهام، وارتبط الكلام بالجانب الأيسر من مهام الدماغ فخضع لنظام تطوري هام في بنيته، وأي صدمة لهذا الجانب تؤدي إلى صعوبة النطق بالكلام أو ما يسمى بالحبسة الكلامية، الناتجة عن تخريب منطقة من الجانب الأيسر توجه اللفظ في الكلام، فالتنامي الهام لبنية دماغية مخصصة للغة، أعطت الحياة العقلية للإنسان وجوداً موجهاَ نحو إدراك معمق لجميع الجوانب المرتبطة باللغة، دخلت جميع مفاصل الحياة العقلية وعلى كامل الساحة الإنسانية على اختلاف مناطقها، اندمجت مع بنية لغوية متماسكة ومتقاربة في منظوماتها الدلالية المعبرة عن المعرفة على اختلاف أنواعها، فالتطور غالباً ما يُطور وظائف أساسية خاصة بالمحيط الحي، وكأنّ الحياة تنتقي الوظائف المناسبة للكائن، ويسرق التطور في ظروف غامضة وظائف هامة لكائن تم اختبار خواصها في نظام كائنات أخرى، توصلت إليها بنفس القدر من الأهمية بطريقة الاصطفاء الطبيعي، فالمركبات الوراثية الجديدة تعمل بطريقة تزيد من اقتصاد الطاقة الحيوية في نظام حياة الكائنات الحية، وهكذا فإن نمو القابلية لاستكمال بناء لغة ما، يوفر مجالاً هاماً في الاقتصاد الحيوي من خلال وجود اللغة. فاللغة الإنسانية قلّصت الجهد المبذول للتواصل مع الوجود، وأعطت الوجود الإنساني قابلية التعاون والتفاهم، قياساً بزمن ما قبل اللغة، فعندما يحرم الإنسان بعد الولادة مباشرةً من العيش في وسط إنساني، يخرج عن نظام احتواء لغة ما مهما كانت بسيطة، ولكنه يستطيع تقليد أصوات الحيوانات والرياح وغيرها من الأصوات المتكررة في نظام حياته، بما يدل بأنّ اللغة نظام وارد بالتعلم والمحاكاة، والدماغ مؤهل بشكل كامل لتقبل وتعلم اللغة من خلال تنظيم وتشكيل ارتباطات خاصة بطريقة حفظها، فقد كشف التحليل اللغوي الحديث بأن جميع البشر يمتلكون أنماط لغوية ونحوية أساسية مشتركة ، ابتداءً من اللهجات البدائية لقبائل إفريقية أو سكان استراليا الأصليين وبالمقارنة مع أكثر اللغات تطوراً كاللغة الإنكليزية والعربية وغيرها في نظام التشكيل القاعدي للغة، بما يؤكد توافق التنظيم الدماغي الخاص باللغة، كتنظيم مشترك عند كافة الشعوب على الأرض، وتكامل ظهور كافة عناصر الاتصال بين العناصر البشرية على الأرض ستولد تراكيب لغوية جديدة لإجراء وظائف هامة في نظام اللغة، وهكذا فإن اللغة تتطور من خلال من خلال إنشاء كم هائل من التراكيب والتراتيب الهامة لنظامها الإبداعي.
وكل إنسان يمتلك نمطية لغوية خاصة به وقابلة للفهم من جميع البشر، ومهما اتسمت بتراكيب غريبة وإبداعية، مما يدل على توحد القابلية اللغوية عند جميع البشر، لأنها قابلة للتكيف مع أي نمط لغوي أو تراكيب جديدة داخل بنائها.
فاللغة مرتبطة لفظياً مع بنى ومواضيع محددة في علاقات قادمة من منظومة مزدوجة من المعارف، منها ما هو مأخوذ من التجربة والحياة خلال تعلم الفرد في وسط اجتماعي معين، ومنها ماهو قادم من نظام الطاقة المدرجة في نظام الدماغ يمكن من خلال حضها أن تتحول إلى نظام كشف إبداعي، قادر من خلال التقدم أن يكتسب مفهوم أعم في نظام العقل، مرتبط بوعي العالم المحيط والعالم الداخلي من المشاعر والأحاسيس ، فالبنى تنطلق من إدراكات أولية عن العالم، وترتفع لتكتسب سمات أكثر تعقيداً وتجريداً في بنية العقل، لدرجة قد تمكنها من توليف مجموعة من الأفكار والمعارف تخرج كنموذج كشفي عميق الدلالة مؤثر وفاعل في نظام الحياة الإنسانية ، وما النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية سوى تجسيد لهذه الكشوف العقلية .
ومنذ أن يتم تحديد المركبات العقلية في النظام البيولوجي، يبدأ التنامي لتشكيل شبكة عصبية بخلايا عصبية، تستطيل لتشكيل ألياف متشعبة قابلة لنقل الإشارات كالرائحة والألوان والأوامر الحركية وتنطلق كزمر من دفعات كهربائية، تسير ضمن مسار دقيق وموجه، لأن الخلايا العصبية تمثل شبكة متكاملة ومترابطة، قادرة لنقل الإشارات إلى المكان المحدد تماماً، وهذا الترابط في النظام العصبي يعمل على كامل البنية الجسدية، ويستطيع تلقي وإرسال كافة المنبهات الخاصة بحياة الكائن الإنساني.
ومع توارد الفكر النشيط والمركز يرتبط مع الفعالية الدماغية، بحيث يتخذ وصلات ترابطية مع مجموعة المشابك العصبية الأكثر اتساعاً وحيوية ، بل والأكثر تدفقاً في نظام الإشارات المولدة للوعي، لأن الوفرة الكبيرة للتفريعات تمنح فاعلية الأفكار خصوبة في التصميمات الخلاّقة ، والطابع الإيحائي الذي يعطي الشعر نظامه المبتكر في اللغة والتصميم، يتخذ مدلوله المؤثر والعميق من خلال استخدام التوصيلات المخبأة في نظام اللغة، بحيث يتمكن من إحداث انطلاقات نيرة على شكل دفعات كهربائية تستطيع تحريض التوصيلات المخبأة في البنية الدماغية، لإعطاء فتح نموذجي لتركيبات شعرية مميزة، والنظام المولد لمثل هذه التركيبات يشكل فتحاً في المعرفة الدالة على عمق البناء اللغوي.
فاللغة نظمت التفاعل الإنساني وأعطته الثقافة المتنوعة في كافة مجالات الحياة، بحيث جعلت الإنسان يتغير بطريقة مخالفة للنظام الدارويني الاعتباطي في تحديد الأنماط الوراثية بالصدفة، من خلال التوالد التفريقي بين كائنين يمتلكان مورثات مختلفة، يندمجان بطريقة نوعية لإعطاء سمات جديدة في إنسان جديد، بينما الثقافة تعطي تغيراً سريعاً في طبيعة الكائن الإنساني وتلاؤم حيوي مع وسط ما، ليس من خلال تعديل وظهور مورثات جديدة في كيانه الخاص، بل بتعديل متعمد للوسط المعاش، بحيث يصبح أكثر قابلية للعيش مهما كانت طبيعة الظروف التي ينتمي إليها هذا الوسط، ابتداءً من القطب الشمالي مروراً بخط الاستواء وانتهاءً بالقطب الجنوبي، وهذا التغيير في نظام الوسط ناتج عن تأثير موجه بواسطة التطور الثقافي عند الإنسان، وقد مكنته الثقافة من التأثير على نوعيات الأخرى سواءً بالتدجين أو بالاستئصال، وهذا التطور وضع الإنسان في مدار توافقي مع بنائه، بزيادة عدد الوسائل المستخدمة والمعدة لتأمين حياة إنسانية متحكمة بنظام وسطها الخاص.
ويطلق الإنسان مهام عمله لبناء وجوده الثقافي بالمحيط الخارجي، إذ يخلق لنفسه أجواء مناسبة بما يستدعي تدخل بيولوجي يعمل على تعديل البنية الذاتية، لتوافق الأنماط والتغيرات الجارية في نظام الوسط، فالازدحام والتلوث وظواهر أخرى تستدعي تكيفاً ملازماً لطبيعة وجودها، لأن الضجيج والاكتظاظ السكاني يغير من نظام الصفات العضوية، ويعمل الاصطفاء الطبيعي على تعديل الأنماط الجينية بما يوافق التغيرات في نظام الوسط الناتج عن الثقافة الإنسانية، كما يرتبط وجود الإنسان مع ثقافة الحروب ونشر مواد كيماوية في غاية التنوع والفتك، وتخلق أجواء لظهور ولادات تعاني من شذوذات وراثية وتشوهات خلقية متعددة ، لترتفع أصوات إنسانية مسالمة مطالبة المجتمع الدولي لتصحيح الأوضاع الداخلية والتفاعلية والتعايش في عالم خالٍ من الحروب، وتأمين قابلية التنوع الوراثي القائم على المرونة من خلال تأمين أنماط وظروف خارجية سليمة وصحيحة بالحد المطلوب من وجودها.
فالإنسان مؤسس على وعي نمطي تجاوبي خاضع لنظام ثقافي متغير، ومرتبط بالحالة الإنسانية العامة بعد تطوير الوسائل المعرفية وطرائق النقل الثقافي المتعدد الأنماط والأشكال، بحيث يعمل على إبداع بنى فكرية وعلمية تحدد طبيعة سلوكه وقابليته لصياغة نموذج إنساني متنوع، ليس في مدار البيولوجيا وحسب بل في مجالات ثقافية توطد التفاهم وتكسب الحياة الإنسانية وجود مرتبط بالمحبة، يدعم التواصل الجنسي البيولوجي ويرتبط بوضع ثقافي متعدد الوجوه وتأمين السلام لكافة الشعوب.
ومن العلاقات المرتبطة بالوضع الثقافي للبشر، طريقة التزاوج واختيار الشريك لتأمين التواصل النوعي للحياة، وهي خاضعة لنظام ثقافي خاص بالوضع الإنساني، والتزاوج عند الكائنات الحية الأخرى مرسوم بطريق مغايرة عن ما هو موجود في الحياة الإنسانية ، لأنه مبني على توافق هرموني وراثي يرتبط بكل مرحلة من مراحل التزاوج، فطائر الحمام مثلاً يتبع نظام مرسوم في بنيته، ابتداءً من مرحلة الغزل الفعلي والمجاملات المتعددة والمعقدة حتى الوصول للتزاوج وبناء عش ووضع البيض وحضانة الصغار، كلها مراحل مرسومة بدقة ناتجة عن أنماط وراثية ومؤثرات هرمونية تعمل بطريقة توافقية في كل مرحلة من مراحل نظام التزاوج، وعند انتهاء كل مرحلة يُلغى الفعل المرتبط بها تلقائياً، لينتقل إلى مرحلة جديدة بسلوك جديد لأنه نوع من التزاوج النوعي، مرتبط بنشاط بيولوجي خاص ودقيق مطبوع في البنية الوراثية من الألف وحتى الياء، بينما الزواج في الحياة الإنسانية خاضع لنظام ثقافي متنوع يندرج تأثيره في نظام الحياة العضوية، بدون أنماط بيولوجية تربط الطبيعة التقابلية بين الجنسين بنظام مطبوع في الذاكرة الوراثية، لأن الجنس البشري يرتفع بالثقافة على جميع المؤثرات العضوية، وتنسجم العلاقات بين البشر مع سلوك اجتماعي إبداعي، يقود الحياة نحو تجاوب توافقي ينظم مسيره بالخبرة القابلة للتجديد في نظام الزواج، وتكوين حياة زوجية جديدة لكل حالة من حالتها المتنوعة، فالإنسان قادر على إبداع ظروف اللقاء والمحبة وبدون الخضوع للمؤثرات البيولوجية البحتة، حتى التوائم الحقيقية المتماثلة في البنية البيولوجية، تمتلك أساليب مختلفة في التعاطي الاجتماعي والثقافي مع الوسط، وطريقة مختلفة في تنظيم الزواج وتشكيل أسرة، لأن كل منهما يمتلك تجربة وأنا خاص به، نابعة من مؤثرات مختلفة في بنائه الثقافي وخصوصية نوعية ترتبط بحياته، لأن الطريقة التفاعلية مع الشريك ناتجة عن إضافة إبداعية مرتبطة بخصوصية التقابل الثقافي والاجتماعي، وخصوصية كل شخص من التوائم ترتبط مع شخصية خاصة مغايرة عن مثيلتها للتوأم الآخر، وهذا ما يستدعي تكيف ثقافي جديد يُظهر التنوع في البنى الاجتماعية مهما كان التوافق البيولوجي في نظامها قائماً.
صحيح أن الثقافة تمد الإنسان بوعي اجتماعي وإنساني مرموق على مستوى الوجود الحي، ولكن الوجود ضمن أوضاع الثقافة الإنسانية والبيولوجيا النمطية لها، تستدعي تساؤلاً مهماً فيما إذا كان الاختيار الحاصل بين إمكانيات متعددة قائم على الحرية، أم الحرية وجود مرتبط بالوهم الإنساني ، لأن الأفعال مرتبة أحياناً بطريقة صارمة ومعاندة للاختيار، فإذا كان الوجود تنوعي قائم على وجود ذوات مختلفة في طريقة التعاطي مع الحياة ونظام الأهداف والقابليات النفسية والسلوكية، وحتى التباين في تشرب الثقافة الإنسانية يجعل واقع الاختيار مشوب بالغموض، لأنّ قابلية الاختيار غير متوفرة بحدها الأقصى، وليس الوجود كم من أصناف متنوعة من الثمار يتم الاختيار منها وفق إشارة فيزيولوجية مرتبطة بطبيعة الحاجة النفسية، لا تتفق بأي شكل مع نظام الحياة الإنسانية المفعمة بالأحاسيس والمشاعر والأهواء ومظاهر ثقافية متنوعة، حتى الأنا الفردية تأخذ مجراها في نظام التعاطي الإنساني ، هنا يمكن للحياة أن تربط الوجود الإنساني بقابليات متغيرة ونظام المترابطات الواعية والظرفية أحياناً، وأحياناً تتأثر بالطرائق المتبعة في النظام الأخلاقي والحقوقي في كل مجال ومجتمع إنساني معين. والدماغ قادر أن يجعل الفرد الإنساني يعمل بوعي موجه، وانتظار معقول لبعض النتائج الناتجة عن هذا العمل ، ولكن هل يتم اختيار نتائج الأعمال دائماً، وما دور الدماغ في تحديد النتائج المرغوبة والقيمة، وما هي نمطية النتائج المرغوبة والقيمة ، هل هي نماذج لقيم أخلاقية ؟ أو اقتصادية أم علمية أو غيرها من الأنماط التابعة لمعايير مختلفة ، فالاختيار لا يجلب ما هو أفضل للوجود، بل ويمكن أن يعطي إساءة لهذا الوجود، وهذا ما يربط الناتج البشري أحياناً بمعطيات تعرقل التطور، وتعطي أوضاع مغايرة لما هو متوخى من أهداف، يتوجه الإنسان نحوها بدون تضمينات موثوقة تؤكد قيامها ، فهل الكائن البشري يتحرى مجموعة الرغبات والآمال والمخاوف والتنازلات وغيرها الكثير فبل الدخول في نظام ثقافي موجه، بالرغم من اشتقاقها من الحياة الثقافية والأنا الفردية قبل القيام بأي نشاط في نظام الاختيار. إن هذا النمط من الوجود لا يمكن تحقيقه في نظام الاختيارات الثقافية، نظراً لتشعب بنيتها ومضامينها المعرفية، وهذا ما يجعل الدماغ يعمل بطريقة ذاتية في نظام الاختيارات الخاصة بكل كائن، لأن الطبيعة المرتبطة بالنشاط الدماغي وفاعلية مسعاه وقدرة النفوذ في بنائه، قابلة لتحديد أفضل الشروط المرتبطة بواقع الاختيار بين إمكانيات مختلفة. وبالتالي فإن الأفعال الحرة في نظام الحياة لا يمكن أن تكرر نفسها وفق محددات ثابتة، بل تقتضي تفاعل أكثر ديناميكية في اختيار المواقف بحرية، لأن الوجود متغير بكليته دائماً وهذا ما يعطي الحرية اختيارات خاصة مرتبطة بمظاهر متغيرة في الحياة، ويقوم العقل بتوجيه الطريقة الخاصة لكل حرية بنمط الاختيار الخاص بها، وهذا ما يجعل المسارات البشرية متباينة في الاتجاه، وتعمل من أجل الوصول إلى واقع ينسجم مع تطلعاتها النهائية، ونشاط العقول الإبداعية توجه مسارها نحو الوجود ألأرقى في كل شيء، حتى في طريقة التعاطي مع الجرائم والأمراض والاكتشافات وغيرها من حقول المعرفة، بل ومن الأرضية المادية للنشاط البشري المتجه دائماً نحو أوضاع تؤمن له بقاء التفوق في نظام الحياة والوجود على الأرض.



#حسين_عجمية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة كبناء إنساني جديد
- مسؤولياتنا تجاه البداية العقلية للطفولة
- العلاقة التفاعلية بين العقل والدماغ
- ديالكتيك العقل في البناء المعرفي
- أرقام الخلق الكونية
- دلالات العقل الكوني
- الشعر روح الزمن
- مزامير
- وجوه متحجرة
- انعكاس الوحي
- نور من نساء القهر
- عولمة الضياع
- دوائر الكلمات
- الموت يغرق بالعيون
- البناء الأعرج
- عواصم الموت
- كنوز العقل --- 6
- كنوز العقل --- 4
- كنوز العقل --- 3
- كنوز العقل --- 2


المزيد.....




- حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر ...
- باريس تعلق على طرد بوركينا فاسو لـ3 دبلوماسيين فرنسيين
- أولمبياد باريس 2024: كيف غيرت مدينة الأضواء الأولمبياد بعد 1 ...
- لم يخلف خسائر بشرية.. زلزال بقوة 6.6 درجة يضرب جزيرة شيكوكو ...
- -اليونيفيل-: نقل عائلاتنا تدبير احترازي ولا انسحاب من مراكزن ...
- الأسباب الرئيسية لطنين الأذن
- السلطات الألمانية تفضح كذب نظام كييف حول الأطفال الذين زعم - ...
- بن غفير في تصريح غامض: الهجوم الإيراني دمر قاعدتين عسكريتين ...
- الجيش الروسي يعلن تقدمه على محاور رئيسية وتكبيده القوات الأو ...
- السلطة وركب غزة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين عجمية - العقل وفيزيولوجيا الدماغ