أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غادة السمان - كوابيس بيروت 23و35















المزيد.....

كوابيس بيروت 23و35


غادة السمان

الحوار المتمدن-العدد: 2795 - 2009 / 10 / 10 - 14:15
المحور: الادب والفن
    




كابوس 23



الا يتعب الرجال ؟

الا تستريح اصابعهم المشدودة على الزناد؟ فترات الهدوء لا تكاد تذكر . وقررت : لابد ان استبدال المقاتلين يتم خلال لحظات الصمت المتوتر العابرة.

الان عاد ذلك الصمت المتوتر المروع .ارهفت السمع . سمعت صراخ بعض الرجال ، لكنني لم استطع تمييز كلامهم ، فقط اصوات نداءات سريعة وحادة كصراخ الخطر لدى طيور الغابة.

كانت مأساتي ان بيتي يقع في منتصف الطريق تماماً بين المتقاتلين، تماماً في الوسط . تذكرت الذي قال "خير الامور الوسط" وترحمت عليه . لو كان يسكن بيتنا ، لقال شيئاً آخر ربما. كنت اعرف ان المقاتلين في الشوارع خلفنا ، لابد انهم يتصلون بالناس ، وربما يتقاسمون ارغفة (المناقيش) معاً . اما موقع بيتنا في الوسط تماماً على تلة مكشوفة من كل الجهات ومحاطة بحدائق برية الاعشاب ، كل ذلك جعل الاقتراب منا امراً مستحيلاً للطرفين. وحتى للطرف الثالث من الغربان الذين احترفوا سرقة البيوت المنكوبة بالحرب.

كنا كسكان وادي الجذام ، لا احد يجرؤ على الاقتراب منا ، حتى اللصوص !! وحدها القذائف تجرؤ على زيارتنا وقرع ابوابنا وجدراننا.





كابوس 35



كانت ابواب مغلقة في داخلي تتفتح باباً تلو الاخر ، ووجدتني احدق في الاشياء فارى الى ابعد منها .

في الممشى امامي على طول الجدار مكتبة تمتد من الارض الى السقف . ليس الممشى آمناً بقدر ما كنت اظن . ففي حال انفجار داخل البيت قد تنهار الكتب فوقي وتقتلني . اما البقية الباقية من الجدار فيغطيها ملصق (بوستر) فيه صورة خضراء كثيفة الاشجار . وكان بوسعي ان اخطو الى داخل اللوحة ، هاربة الى الغابة الاوربية من جحيم عالمي ، وكان بوسعي ان اتسلق الاشجار والتحف بالضباب وانام قليلاً. لكنني لم افعل . لقد علمتني الحياة ان الهرب من انتمائي الحقيقي لا يجدي . انا ابنة هذه الارض ، ابنة هذه المنطقة العربية المضطربة حتى الغليان . انا ابنة هذه الحرب ، هذا قدري. تعلقت عيني بالرف الذي يضم كتبي وعشرات من الكتب التي ترجمتها . ووجدتني اهمس : وانا ايضاً قد شاركت في صنع هذه الحرب. صحيح انني لم احمل سلاحاً قط ، صحيح انني مذعورة كاي جرذ في دكان بائع الحيوانات الاليفة ، ولكن كانت سطوري تحمل دائماً صرخة من اجل التبديل، صرخة من اجل مسح البشاعة عن وجه هذا الوطن وغسله بالعدالة والفرح والحرية والمساواة . وكل ما يفعله المقاتلون هو انهم ينفذون ذلك على طريقتهم . انها حروفي وقد خرجت من داخل الكتب لتتقمص بشراً ، يحملون السلاح ويقاتلون. اكنت حقاً اريد ثورة بدون دم ؟ اجل ، مثل كل الفنانين انا متناقضة ، اريد الثورة ولا اريد الدم . اريد الطوفان ولا اريد الغرقى.

ها قد عدت الى معزوفة تانيب الذات .

-ولكن هذه مجرد كوابيس لا ثورة .

-كل الثورات تولد هكذا معمدة بالدم . حتى ولادة طفل لا تتم الا معمدة بالدم.

-ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت .

-لا احد بريء في مجتمع مجرم.

-ما زالت انفجارات القنابل تتعالى ، ما زلت جالسة في الدهليز احتمي بجدرانه شبه المتلاصقة كرحم حجري . لم اعد مذعورة كجرذ. الكتب تحدق بي من رفوفها . وانا احدق بالكتب ، ولا احد يملك للآخر شيئاً.. الكتب اغلفة فارغة والكلمات هربت من الصفحات لتصير رجالاً مقاتلين . اتناول كتاباً من تلك التي ترجمتها . افتحه . اجده كما حدست ، صفحات بيضاء . ان الحروف خرجت الى الشوارع لتمارس حياتها الخاصة . صارت مقاتلين يحولون الافكار الى سلوك . ما الذي يخيفني؟

ما زالت انفجارات مضيئة تتلاحق في اعماقي وابواب مغلقة في روحي تنفتح باباً تلو الآخر. ما زالت الاصوات تتعالى في ذاخلي ، وتتابع نقاشها داخل ذلك الصندوق الصغير المقفل جيداً المدعو دماغي .تتلاحق الصرخات ويخيل الى ان جدران الدهليز ورفوف المكتبة تردد اصداءها .

-ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت .

-لا احد بريء في مجتمع مجرم.

-والوافقون على الحياد؟

-لا حياد في مجتمع بلا عدالة . لا حياد في مدينة العرى والفيزون . مدينة الجوع والتخمة . المحايدون هم المجرمون الاوائل . الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة ، انها ترى الظلم وتعانيه ، لكنها تؤثر السلامة الرخيصة على الكفاح الخطر النبيل .

-بعض الناس غير مؤهلين نفسياً لرؤية الدم .

-حينما يحدقون جيداً في جرحهم الداخلي ودمهم النازف، لابد وان يتعلموا رؤية عدوهم ينزف تحت ضرباتهم هم.

-من ضربك على خدك الايمن ادر له الخد الايسر.

-بل العين بالعين والسن بالسن والباديء اظلم .

-ولكن، ما ذنب الاكثرية الصامتة الامنة المسالمة .

-ذنبها الصمت والمسالمة والعيش في وهم الامن . كل عملية حياد هي مشاركة في عملية قتل يقوم بها ظالم ما ضد مظلوم ما. الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة . انها تشكل اغراء لا يقاوم لممارسة الظلم عليها . انها هي التي تثير غريزة الشر في نفوس الذئاب البشرية. المسالمة هي تحريض على القتل . وتلك جريمة . المسالمة هي شروع في الانتحار ، وتلك ايضاً جريمة.

-ولكنني لم اكن على الحياد. انني منحازة لطرف ضد آخر. انني منحازة للشمس والعدالة والحرية والفرح والمساواة. وقد قضيت عمري اخدم هذه القضايا بالسلاح الوحيد الذي اتقن استعماله .

-كان عليك ان تتقني استعمال اسلحة اخرى من اجل يوم كهذا .

-ولكن قلماً جيداً خير من رصاصة طائشة .

-ولكن ما جدوى القلم في دوامة النار الان؟

-انتظر ريثما يصمت الرصاص فيعود للقلم صوته .

-تعنين ان تجلسي في هذا الممشى المعتم كالجزذان . وحينما تنتهي الحرب تتابعين دورك السخيف : التصفيق او التصفير من خلف طاولة مكتبك. وحينما يدوي الانفجار تنزلين للاختباء تحت الطاولة.

-ولكن ما جدوى ان يقتل الادباء في الحرب مادامت طبيعة اكثرهم لا تؤهلهم ليكونوا مقاتلين جيدين . بايرون كان شاعراً عظيماً ومقاتلاً فاشلاً. وقد مات في الحرب الاهلية باليونان بعد ان كبد (فريقه) لا الفريق العدو خسائر كثيرة. لو عاش وكتب من اجل المثل التي يؤمن بها لافاد واستفاد بدلاً من ان يتعفن بعد ساعة من موته وتنطفيء يده التي هي مصباحه. من واجب الفنان ان يبقى على قيد الحياة كي يستمر في اداء رسالته : الكتابة!

-ولماذا تتمسكين بهذا المثال ؟ ماذا عن غيره من الفنانين المقاتلين؟

-همنغواي كان مقاتلاً سيئاً ايضاً. لقد استفاد ادبه من تجربة المعركة ، اما فريقه فلابد وانه دفع الثمن باهظاً من سوء استخدامه للسلاح ولفنون القتال. ولعل المرة الوحيدة التي اجاد فيها همنغواي استعمال سلاحه كانت لحظة انتحاره !

-ستجدين الان عشرات الامثلة لتبرير نفورك الفكري من مشهد الدم ، ومن العنف الجسدي.

-لا اريد ان اسقط فريسة شعور بالذنب لانني لا اقاتل . اعرف عشرات من المثقفين الفرنسيين الذين داهمهم هذا الشعور ايام الحرب الاهلية في اسبانيا وتطوعوا للقتال وكانت النتيجة انهم كانوا عبئاً على الثوار، واحداهن (كانت شاعرة كبيرة) لم تكن تصلح في ميدان الحرب حتى لطبخ الطعام للجنود . ان جر الفنان الى القتال هو كجر ماري كوري من مختبرها الى المطبخ بحجة ان البلاد تعاني نقصاً في الطباخين!

-اذن ترين ان مهمة الفنان هي ان يصب البنزين ويشعل النار ثم ينسحب من المدينة هارباً .

-تقريباً! هذا صحيح على نحو ما . مهمته ان يخلق الثورة لا ان يمارسها . لقد اعلن الرئيس جمال عبد الناصر ان كتاب "عودة الروح" لتوفيق الحكيم كان من العوامل الهامة التي ساهمت في تفجير ثورته والضباط الاحرار، واشعال شرارتها. الفنان شرارة الثورة ونبوئتها .

-ووقودها!

-ان موته كجرذ لا يفيد احداً . ولكن ما يحدث عادة هو ان الفنان نوع فريد من الثوار . انه يصنع الثورات ويجد نفسه بطريقة ما وقوداً لها لا محالة . انه يشعلها وهو يعرف انه اول من سيحترق بنارها . وحتى اذا لم يقتل الفنان اثناء الثورة فانه سيفقد ادوات عمله : مكتبته ومراجعه وكتبه وارشيفه وسلامه النفسي الداخلي النسبي الذي سيمزقه تماماً التشرد الجسدي ، هذا بالاضافة الى تشرده الروحي المستمر.

-ولماذا لا يقاتل الفنان حين تشب الحرب كاي فرد آخر في المجتمع؟ هنالك مقاتلون جيدون ومقاتلون سيئون ، فلماذا لا يكون مقاتلاً سيئاً ؟ ان ذلك سيحجبه على الاقل من الموت وحيداً ، ومن عذاب الاصوات المتناقضة في داخله .

-لان تركيبة الفنان النفسية التي تجعل منه فناناً جيداً هي نفسها التي تحول بينه وبين ان يكون مقاتلاً جيداً . لا استطيع ان اقتل أي انسان او اعذبه . سافكر بانه كان ذات يوم طفلاً بريئاً. سافكر بانه لم يصنع من نفسه الوحش الذي هو امامي وانما هي عوامل كثيرة خارجة عن ارادته ساهمت في صنع ذلك الوغد امامي . سافكر ايضاً بامه ، بحبيبته ، ساعجز عن تعذيبه ، ساتذكر كيف قد يبدو وجهه وهو يضحك وهو يصلي. ساحس بانه كوكب قائم بذاته ، وان قتله مجزرة كونية.

اصوات ، اصوات ، اصوات ، تتفجر داخل راسي وتتناقش بصوت عال ومع كل صوت اشعر بان امرأة جديدة خرجت من داخلي، ولم اعد امرأة واحدة في الدهليز ، بل تناسلت وتكاثرت وازدحم بنا الدهليز . ودوى انفجار رهيب وكنت واثقة انه داخل بيتي في مكان ما . وعدت امراة وحيدة . وحيدة في الدهليز على الخط الفاصل بين الموت والحياة، اواجه مكتبتي الكبيرة ، والمح عبارة "الثورة" في اكثر عناوينها . وصرخ صوت في داخلي: هذاكابوس لا ثورة. هذه "كوابيس سادية" لا "حرب تحريرية."

ورد صوت آخر : كل الثورات في التاريخ كانت تبدو من الداخل هكذا . المهم في الثورة هو الجيل الذي سيحصدها . لابد لكل ثورة من جيل ضحية.

سمعت جيدا صوت سقوط جدار ما ، اخمد انفجار الاصوات في رأسي . ركضت . للوهلة الاولى ، بدا لي دخاناً كثيفاً يتصاعد من غرفة جدتي. لم اكن ادري انني استطيع ان اكون شجاعة. دونما وعي حملت (طفاية الحريق) الصغيرة وسارعت الى الغرفة . كان السقف محفوراً والجدار مقابل للنافذة. في البداية ظننت قذيفة ما سقطت على السطح، وركضت نحو المطبخ اتسلق السلم الخشبي الى السطح ففوجئت بأن القرميد الذي يغطي بيتنا سليم ولا ثقب فيه . عدت الى الغرفة . كانت سحب الغبار قد استقرت على الارض والاثاث. وحين حدقت جيداً اكتشفت ان شيئاً ما قد اخترق زجاج النافذة وثقبه دون ان يكسره مصطدماً بالسقف ومرتداً الى الجدار وان ما توهمته دخاناً كان مجرد غبار تساقط من السقف والجدار المشروخين . وبحثت على الارض فوجدت ثلاث قطع معدنية ما تزال ساخنة ، واحدة منها مدببة ، وكانت بصورة عامة صغيرة واذهلني انها قادرة على احداث هذا الخراب كله.

حينئذ فقط لاحظت ان ركبتي ترتجفان كانهما فُصلتا تماماً عن جسدي ورغباتي . وركعت على الارض ودفنت وجهي بين يدي وبدات ابكي.



#غادة_السمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوابيس بيروت 12و13و16
- كوابيس بيروت 2,3,4,6,10,
- هاربة من منبع الشمس
- رسالة الدكتور جيكل والمستر هايد
- سفوح جسد
- ترقبوا أسراري العاطفية في مذكراتي
- هاتف ليلي
- ختم الذاكرة بالشمع الأحمر
- بومة عاشقة في ليل الحبر
- ذاكرة الانهيار
- ذاكرة بصّارة في أمستردام
- غفوة في أحضان البحر
- نوارس الورق الأبيض
- عاشقة تحت المطر
- العلامة الفارقة: عاشقة!
- إمرأة البحر
- أشهد أن زمنك سيأتي ...
- ثلج النسيان الأسود
- مقاطع من كتاب اعتقال لحظات هاربة ..
- عصفور على الشجرة خير من عشرة في اليد !


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غادة السمان - كوابيس بيروت 23و35