أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد صبيح - شيء من لوثة الايدلوجية















المزيد.....

شيء من لوثة الايدلوجية


خالد صبيح

الحوار المتمدن-العدد: 2787 - 2009 / 10 / 2 - 20:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



لوثة الأيدلوجية داء قتال لصاحبه. قد تؤدي بحاملها في أهون الشرور إلى أن تجعل منه مزورا للحقائق وفي اشرها قاتلا ساديا ودمويا. لكن الأيدلوجية أو لوثتها لا يمكنها وحدها أن تنتقل بحاملها إلى مراقي القتل السادي أو التزوير هكذا لوحدها وباليتها ودفعها الذاتي فقط، وإنما ينبغي أن يرافقها ويحفزها ويدعمها توفر عوامل أخرى مثل الخلفية الاجتماعية والتكوين والإرث النفسيين. ويجب الاستدراك والتأكيد أن الأيدلوجية مقصود بها هنا تلك الحاملة للقيم المطلقة والناتجة عن أحلام رومانسية وخيالية متناشزة مع الواقع وتحركها عقلية إرادوية وليس الأيدلوجية بمعناها المعرفي الذي يصف الواقع ويهيئ لتغييره بعد فهمه حتى لو رافق عملية الفهم والسعي للتغيير الكثير من النزعة التبريرية التي هي غالبا صفة لصيقة بكل عقل أيدلوجي.

في العراق عصفت تطرفات الأيدلوجية في مناحي الحياة السياسية كثيرا، ولكنها لم تبلغ مدى من القسوة والاستهتار كما بلغته منذ 8 شباط عام1963. ففي يوم الانقلاب ذاك سالت دماء بريئة بوفرة تخجل منها حتى الضواري. وأخذت حمامات الدم والقسوة والعنف مذاك منحى تصاعديا طالما قبض البعثيون على مقاليد السلطة، حتى غدت كل فترة من فترات حكمهم الثقيل الوطأة أمّر وأقسى واعنف من التي سبقتها. ورغم إن الفترة تلك كانت فترة احتدام أيدلوجي عارم، إلا أن لمفتتح مهرجان القتل الجماعي في 8 شباط الخصوصية لأنه شكل منعطف الريادة الدموي الذي جعل من العنف، بالخبرة والمران، المدخل الأول والأخير للبعثيين في ممارسة السياسة داخل وخارج السلطة.

لقد سببت ممارسات الميليشيا البعثية( الحرس القومي) في أيام الانقلاب ذاك صدمة للمجتمع العراقي الذي لم يعتد الطريقة الممنهجة والمقصودة لذاتها من عنف القتل العشوائي التي مارستها هذه الميليشيا. ولا يمكن لأي نظرة تحليلية لتقصي أسباب هذا العنف المنفلت أن تقصي أهم محركين ممكنين لهما. أولاهما الخلفية الأيدلوجية للبعث كحزب بنى منظوره السياسي على النزعة الارادوية الانقلابية وعلى التلفيق النظري، وثانيتهما الخلفية النفسية والاجتماعية لبعض ممن كان قرار العنف بيده.
ولم يكن كل ما أثير في مخيال الناس وحكاياهم عن همجية الحرس القومي الذي كانت تتردد تفاصيلها في أحاديث الناس الحميمة من نسج الخيال الشعبي المولع عادة بالمبالغات والتهويل. فلقد فاق العنف ألبعثي في غرائبيته، عند انكشاف تفاصيله المؤلمة والجارحة للشعور الإنساني السوي، حتى أكثر قدرات الخيال الشعبي جموحا وتهويلا.

فمن ثمار ابتكارات العنف الذي (اجترحه) البعثيون في تلك الأيام، انه عثر على مقبرتين جماعيتين،ـ والمقابر الجماعية هي ابتكار بعثي بامتياز ـ، في منطقتي الجزيرة والحصوة جنوب وغرب بغداد، وكذلك عثر ( في أقبية قصر النهاية، الذي استخدمه مكتب التحقيق الخاص للحرس القومي( الذي ترأسه عمار علوش) مقرا له، على كل أنواع أدوات التعذيب الكريهة بما فيها الأسلاك الكهربائية المزودة بكلابات والخوازيق الحديد المدببة التي كان المساجين يجبرون على الجلوس عليها، وعثر كذلك على آلة مازالت تحمل آثار أصابع مقطوعة... البعثيين، الذي وصفوه بالطاغية والدكتاتور. فيورد الدكتور في كتابه عن 8 شباط وذكريات <طالب شبيب>، احد قيادات الانقلاب والبعث آنذاك، شهادة من <تحسين معلة>، وهو أيضا من قياديي البعث وميليشيا الحرس القومي، عن محكمة <المهداوي> التي اعتبرها البعثيون والقوميون معهم إحدى أهم علامات استبداد حكم <قاسم> حيث يقول معلة ( إن التحقيق قبل المحاكمة جرى دون ضغط أو تعذيب) بالإضافة إلى أن المحاكمة كانت علنية. ورغم ما رافقها من سخرية وأسلوب شعبوي غير لائق بهيبة القضاء، إلا أنها كانت تتيح للمتهمين، ولوكلائهم، الدفاع عن أنفسهم ومحاججة القاضي. ومعروف ما وقع من جدل واستعراض للأفكار والمبادئ الذي قام به البعثيون الذين حوكموا في جريمة محاولة اغتيال <عبدالكريم قاسم> في راس القرية عام 1959، بل إن البعض ذهب< حسن العلوي> إلى حد اعتبار أن هذه المحاكمة كانت واحدة من أهم المصادر الدعائية والتعبوية للبعث قد قدمتها الحكومة لهم مجانا. ويذكر أن <المهداوي> كان يعامل البعثيين أثناء المحاكمة كوطنيين ولم يخونهم كما اعتادوا هم أن يفعلوا مع معارضيهم وخصومهم. ويذكر بهذا الصدد أن <تحسين معلة> الذي قام بمعالجة المصابين من الذين قاموا بمحاولة الاغتيال قد القي القبض عليه وأطلق سراحه بعد عشرة أيام بكفالة بعدما أنكر كل شيء( لاحظوا!، عشرة أيام وبكفالة)، لكنه اعتقل بعد عشرة أيام مرة أخرى بعد أن اعترف عليه <سمير النجم> احد المشاركين في المحاولة. ونعرف إن <تحسين معلة> أثناء انقلاب شباط كان طليقا ومارس القتل والتعذيب بنفسه. فأين هذا الاستبداد؛ وكيف يمكن مقارنته بل وربطه بما قام به البعثيون من تنكيل واضطهاد استخفوا فيه بكل القيم والاعتبارات الإنسانية والأخلاقية؟. ومن يعرف منكم متهما سياسيا أطلق سراحه بكفالة في وقت ما من أزمنة حكم البعث الدموية؟.

وهنا ينبغي طرح تساؤل مهم حول ماهية السر الكامن وراء هذه القسوة ودرجات العنف اللانهائية التي مارسها البعثيون، والتي كانت منفصلة عن كل سياقات تاريخ العراق السياسي؟.

يأتي العنف غالبا كثمرة من ثمرات فكرة الحلول الجذرية التي تتبناها عادة الأحزاب الراديكالية، وهو يرافق عادة بعض التحولات الاجتماعية والسياسية، لكنه عند البعث اخذ اتجاها غدا فيه السمة الطاغية والأسلوب الوحيد، وتعود دوافع ذلك إلى ما وصفه <بطاطو> في تحليله؛ إلى الشعور بالخوف، هذا الشعور الذي يلازم في عالم السياسة من ليس له جذور أو قاعدة عريضة تشكل له سياجا يحميه وأداة تعينه على تحقيق أهدافه. وفي واقع الحال إن أكثر ما عاناه البعث طيلة وجوده هو طبيعة تكوينه النخبوي المقصور على بعض من ذوي الخلفيات الاجتماعية والسياسية المشوهة، مما جعله يدير حياته الداخلية، ويدير الدولة بعد ذلك، بطريقة عصابات المافيا. فكل سلوك البعث كان قائما على الشك والخوف والابتزاز، وتلك هي بالضبط أجواء عالم عصابات المافيا. والبعث كان طيلة سيرته يخشى السياسة ولايثق بالعمق الجماهيري، وهما المعبران التقليديان والطبيعيان لكل حزب سياسي يسعى للتأثير في الحياة العامة، سواء كان حزبا ديمقراطيا، يمارس نشاطه وبالتالي وجوده عبر الحياة السياسية النيابية وغيرها، أو حزبا راديكاليا يحتمي بالجماهير ويتخذ من حركتها منبرا لتنفيذ أجندته. وحتى هذه اللحظة التي نحيا، بقي البعث، رغم تحوله التام إلى عصابة علنية من القتلة، يخشى هذين المجالين ولا يجرؤ على الخوض فيهما. ومازال يسعى لتحقيق مآربه عبر التآمر والترويع وإشاعة الإرهاب وغيرها من الأساليب غير العقلانية التي يمارسها بحماسة في العراق الآن. وما يجري الآن من جدل في الساحة العراقية، وما يقوم به ممثلوه وأنصاره من أعمال ومحاولات، لمعالجة إشكالية وجوده في الحياة السياسية ومتطلبات واشتراطات ذلك يؤكد بوضوح طبيعته تلك. فهو لا يريد أن يتحول، كما فعلت الأحزاب الشيوعية في بلدان المعسكر الشرقي، ـ مع الفارق الكبير والنوعي في الخلفية والإرث بين الاثنين ـ عندما أخذت في إعادة هيكلة نفسها وسياساتها وبرامجها لتتناسب مع متطلبات التحولات الاجتماعية والسياسية التي جرت في بلدانها. وما يزال البعث يصر على أن لاخيار أمام الآخرين إلا قبوله كما هو (كأن العلاقة به علاقة عشق) أي قبول انفراده وتحكمه وبالنتيجة استهتاره بكل شيء. والا فدون ذلك الطوفان.

في الواقع إن البعث سواء أراد ذلك أم لم يرده فانه كحزب وكفكر اثبت في مسيرته الطويلة، المؤلمة والمكلفة للمجتمع، انه صار حزبا عاجزا عن البقاء على قيد الحياة إلا بإجراءات قسرية لن تبقي عليه أو تطيل من عمره في كل الأحوال.

لكن الخلفية الأيدلوجية والإرث السياسي يشكلان عاملا واحدا من عوامل نشوء القسوة التي وسمت سلوك البعثيين السياسي، إلا انه لا يمكن له وحده، كعامل موضوعي، أن ينتج هذه القسوة بغير ما وجود لعنصر ذاتي فردي وخاص يدعمه ويجسده كسلوك. وأكيد أننا سنعثر على هذا في النشأة الشخصية والخلفية الاجتماعية لدى بعض زعاماتهم، التي هي مؤثرات تكوينية تترك بصماتها على سلوك الإنسان العام وتسهم في تشكيل طبائعه وبنيته النفسية.

ولعل طفولة المرء، التي تلعب دورا مهما وكبيرا في تكوين شخصيته، هي واحدة من المداخل المهمة لفهم بعض عناصر الشخصية السياسية وغيرها. وكمثال على ذلك فان طفولة <علي صالح السعدي>، كما ستكون طفولة <صدام حسين> لاحقا، كانت طفولة تثير الانتباه وتحتمل مآلات عديدة. فقد ولد <السعدي> في منطقة شعبية في بغداد من أب فقير مهاجر من ديالى وأم هجرها الأب وابنها ما يزال صغيرا. وعاش حالة تشرد وفقر مدقع. ويمكن أن تشكل هذه النشأة مع أم وحيدة ومهجورة تنتهكها أقاويل الناس خلفية لعقدة نفسية تورث درجة من الكراهية للمجتمع. وقد عرفت شخصية <السعدي> على العموم، إلى جانب جرأته ومواهبه في الإدارة والتنظيم، بالقسوة والفوضوية أيضا، وهما تعبيران عن فرط الكراهية الكامنة في النفس من تكوين مجتمعي شامل ومبهم. وقد انعكس هذا الدافع في سلوك السعدي العنيف في 8 شباط. فقد كان واحدا من اكبر المسؤولين عن العنف الذي وقع في الانقلاب. وإذا جاورنا أوليات هذه النشأة مع قوله لـ <عبدالكريم قاسم> أثناء المحاكمة الشكلية والارتجالية التي أجريت لـ <قاسم> في مبنى التلفزيون في ظهيرة 9 شباط، كما أورد ذلك <علي كريم سعيد> في كتابه انف الذكر:
(أنا كنت اعمل تحت السرداب( تنظيم سري) ولكني الآن نصف دولة).

سنجد بدون مبالغة إن هذا القول يفسر إلى حد ما طبيعة هذه الشخصية المتعطشة للسلطة وللانتقام والميالة للتدمير. وقد برزت نزعة <السعدي> الغريزية للتدمير جلية في سلوكه أثناء توليه مراكز حساسة في الدولة والحزب بعد الانقلاب. فقد اشتكى من سلوكه المتسم بالفردية والفوضوية زملاؤه البعثيون الذين رافقوه في إدارة الدولة أنفسهم. ولاشك أن الفوضوية والميل للارتجال في العمل السياسي هما احد علامات نزعة التدمير تلك.
و <السعدي> كان ذو تأثير وجاذبية داخل ميلشيا الحرس القومي، وكثيرا ما كان يزور مقراتهم في الليل ويصطحبهم إلى البارات والمراقص الليلية وينتهون معا سكارى يثرثرون بأصوات مسموعة بأسرار الدولة والحزب. وللحرس القومي حكايات في انتهاك القيم الأخلاقية والإنسانية يصعب تصديقها ناهيك عن استيعابها. ومنها ما ذكره <صالح مهدي عماش> ناقلا إلى<عبدالسلام عارف> شكوى ضباط الجيش من سلوكهم. و<عماش> هو واحد من أسوا البعثيين وقد عرف، كما يصفه بعثيون آخرون منهم <السعدي> الذي يحتقره كثيرا، بانتهازيته وجبنه وضعف شخصيته. ذكر <عماش> في حديث شكواه:

(إن هناك تذمر بين قادة الجيش بسبب إهانات الحرس القومي لهم بتفتيش سياراتهم باستمرار... وإن الحرس القومي كانوا يستخدمون أسلحتهم( رشاشات بور سعيد المصرية) في مزاحهم، وقد أدى ذلك إلى مقتل بعضهم، ويسجل يوميا مقتل أكثر من ستة أشخاص نتيجة لذلك...كما ويرتاد أفراد الحرس القومي الملاهي والحانات الليلية، فيفرضون على أصحابها مايشاؤون، وعلى الفنانين والفنانات من طلبات الأغاني إلى طلبات <المضاجعة>، وستجدون كلما تعمقتم في البحث ما يصم الآذان ويزكم الأنوف) <علي كريم سعيد>( عراق 8 شباط. ص 172).

والحرس القومي هؤلاء هم لملوم من ذوي العاهات النفسية غير متجانس ولا يوحده اتجاه، وتركيبته متنافرة ولا يجمع عناصره غير حب التسلط والرغبة بالانتقام وتحقيق ألذات عبر إذلال الآخرين. وهم بقدر سعة حجم ممارساتهم الرديئة والمخزية لم يعرف لهم شجاعة أو استعداد للتضحية، أو على الأقل المواجهة كتحصيل حاصل لمن يحمل السلاح فيستخدمه في موقف يفرض عليه. فما زال العراقيون يتذكرون انه ما أن انقض الجيش على مقرات الحرس القومي حتى صارت طرق استسلامهم السريع والمخزي حكايات طريفة ونوادر مضحكة أثارت سخرية عامة الناس الذين لم يرغبوا حتى بالتفرج على هزيمتهم، وتركوهم في شوارع فارغة يواجهون مصيرهم الطبيعي على يد الجيش. ومعروفة قصة العقيد ألبعثي الذي سلم سلاحه ونفسه لمفرزة عابرة يقودها ضابط برتبة ملازم لم تكن تقصده، مخاطبا الملازم( سيدي هاي بندقيتي وأنا اسلم نفسي الكم). وكذلك حالات كثيرة يتداولها الشارع عن إرسال عناصر الحرس القومي لبنادقهم بأيدي أمهاتهم خوفا من أي احتمال للمواجهة. وأيضا ما رواه <سعد البزاز>، وهو بعثي( لا يشق له غبار) عن (شجاعة) <طارق عزيز> حينما كلف مع بضع أفراد من الحرس القومي في يوم الانقلاب بمهاجمة بيت احد قادة ثورة تموز، وما ان أطلق الحرس عليهم بضع اطلاقات حتى هربوا مذعورين. ولمن لا يذكر أو لا يعرف شيئا عن (مآثر) البعثيين في تلك الأيام فيكفيه الاستئناس بما حدث بعد ذلك بأربعين عاما حيث تكرر نفس المشهد ولكن بفضائحية اكبر هذه المرة حينما هربوا على ضفاف دجلة بملابسهم الداخلية ذعرا من أسيادهم وعرابيهم الأمريكان.

لنعد إلى علي صالح السعدي.

إن ما يمكن اعتباره صحوة الضمير التي (عصفت) بعقل <السعدي> لاحقا، بعدما جرد من كل سلطاته، واهين وأذل في نهاية حكم البعث الأول في تشرين 1963، قد جاءت، في جزء منها، تجسيدا لميوله الفوضوية المتأصلة في سلوكه العام، ولنزعته اليسارية الشعبوية التي اكتظت بأشباهها الساحة السياسية في المنطقة. لاسيما بعد النجاحات التي حققتها حركات التحرر في بلدان أفريقيا واسيا وأمريكا اللاتينية، والانتفاضات الاجتماعية والثقافية التي شهدها الغرب في مظاهرات الطلبة عام 1968 على أرضية نقد القيم السائدة والأفكار التقليدية، والتي اعتبرت الماركسية بثوبها السوفيتي الرسمي واحدة منها. وكذلك على أرضية الهزيمة العربية المدوية أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967 والتي أدت، فيما أدت إليه، إلى تجذر المفاهيم السياسية وانتعاش أفكار اليسار بصعود المقاومة الفلسطينية كبديل عن تكلسات الأنظمة العربية الرجعي منها والراديكالي. في هذه الأجواء، بالإضافة إلى تأثيرات الثورة الكوبية التي كان <السعدي> أصلا معجبا بها وبرجالاتها، ظهرت صحوة <السعدي> التي جسدها باستعداده لقول كل شيء عن انقلاب شباط ( ويحكى أن صحفية مصرية أجرت معه أحاديث مطولة لساعات تحدث فيها بصراحته المعهودة، لكن هذه الأشرطة اختفت. ربما هي محفوظة في دهاليز واقنية المخابرات المصرية). وأطلق حينها تصريحه الشهير (إننا جئنا إلى السلطة بقطار ماكنته أمريكية). ويجدر بالذكر هنا أن قصة ارتباط بعض البعثيين بأجهزة المخابرات الدولية أكثر من مشهورة. فقد اعترف <الملك حسين> في حديثه الخاص لـ <محمد حسنين هيكل> في الستينات عن معرفته باتصالات قام بها بعض البعثيين مع المخابرات الأمريكية في بيروت. وكذلك قصة <إيليا زغيب>، الأستاذ الجامعي اللبناني، الذي أشيع عنه حينها انه كان جاسوسا ووسيطا بين المخابرات الأمريكية وبعض البعثيين، وقبل هذا اجتماع القيادة القومية في ألمانيا الغربية عام 1962 في ما اسماه عفلق بالمؤتمر القومي الثالث الذي غابت وثائقه ومقرراته من أدبيات البعث، وكذلك قصة دور <ناصر الحاني> وزير الخارجية ألبعثي، واتصالاته بالمخابرات الأمريكية لتنفيذ انقلاب تموز 1968. ومعروفة أيضا ارتباطات <عبدالرزاق النايف>، حليف البعثيين ودابتهم لتنفيذ انقلابهم في تموز، بالمخابرات البريطانية.

وعلى العموم فان أقوال البعثيين خارج السلطة لا يعول عليها ولا يمكن الوثوق بها لأنها تندرج ضمن أساليب الخداع التي يتبعونها عادة للوصول إلى السلطة، ( التي كانت لعبة البكر المفضلة). ولا يمكن الارتكان الى البعثي والوثوق به، إن كان ذلك ممكنا على الإطلاق، إلا حين يغير من انتمائه. أي بالضبط حينما لا يكون بعثيا.
لكن صفات البعثيين الرديئة لا تقتصر على القسوة والميل الغريزي للعنف بل هناك أيضا صفة الغدر والنكث بالعهود. فقد عرف عن <البكر>، وهو أكثر البعثيين ظهورا على مسرح السلطة، انه خان كثيرا العهود؛ بل ربما انه خان كل العهود والوعود التي كان يقطعها للآخرين. وبهذا الصدد يصفه الدكتور <علي كريم سعيد> بأنه (قد خان جميع زملائه الذين اقسم معهم على عدم الخيانة). وأورد في كتابه أمثلة عديدة سياسية وشخصية عن ما يؤكد صفة البكر تلك. وكذلك حذا حذوه فيما بعد صنيعته وتابعه <صدام حسين> في كل المناسبات ومع الجميع.

وان كان واقع السياسة باعتباره عالم متغير ومتعدد الامكانات لا يحتمل صيغ الوفاء بالعهود، لان الوفاء بالعهود قادم من حقل آخر هو حقل القيم الاجتماعية السوية والمثل المبدأية التي لا يجد الباحث عنها ملمحا في سيرة البعث وتاريخه. إلا انه في حالة البعث قد زاد عن كونه تكتيكا سياسيا أو سلوكا تقتضيه متغيرات السياسة، وصار بالضبط نهجا براغماتيا، نفعيا، وانتهازي ولااخلاقي.

ومن غرائب الأمور انه لم يثار من البعثيين لما ارتكبوه في شباط 1963 من جرائم وماالحقوه من أذى نفسي ومادي بالعراقيين إلا البعثيين أنفسهم. فقد صفى نظام صدام- البكر عددا كبيرا من بعثيي شباط بطرق مختلفة، تذكّر بما كانت تقوم به عصابات المافيا من تصفيات فيما بينها؛ من القتل عن طريق الاغتيال أو دس السم أو حوادث الطرق المدبرة، والقتل تحت التعذيب، أو الإعدام بتهم مختلفة مثل التآمر على الدولة أو التجسس للغرب، أو القتل بالسجون بتهم الشذوذ الجنسي وغيرها كما حدث لـ <عبدالكريم نصرت> و <فؤاد ألركابي>.

لكن تبقى من الناحية السياسية جرائم البعثيين وانقضاضهم على السلطة في شباط 1963 حادثة فريدة واستثنائية في التاريخ السياسي العراقي. وقد دار وما يزال يدور جدل حول دوافعها الحقيقية، وعن القوى التي أسهمت في تنفيذها، والأجندة التي ارتبطت بها. ويبدو إن أمر الكشف عن كل أسرار هذه الحقبة وهذه اللطخة في تاريخ العراق قد غدا أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا، لان لا وثائق تلك المرحلة موجودة لتقدم الأدلة الحقيقية، ولا الشهود قادرين على تقديم شهاداتهم لأنهم إما تواروا وراء الصمت والمكابرة، أو غيبهم الموت والتصفيات الواسعة التي نفذها بهم رفاقهم أنفسهم.

لكن مهما تكن الظروف فان ملف هذه اللحظة الحرجة من تاريخ العراق سيبقى مفتوحا وسيحاكمها التاريخ ويحكم عليها رغم أن التاريخ قد قال قولته في البعثيين مرة واحدة والى الأبد.






#خالد_صبيح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشاركوننا جرائمنا أو نشارككم براءتكم
- شبح التطرف في كردستان
- شهداء منسيون
- معوقات وحدة اليسار العراقي
- صناعة الخصوم
- معضلتان يساريتان
- تعرف الأشياء بأضدادها
- عبء التاريخ
- طرائف ديمقراطية
- قراءة اولية في انتخابات مجالس المحافظات
- شارة النصر
- عالمية القضية الفلسطينية
- في إنصاف النقد
- إحراجات غزة
- أدوات العدوان الإسرائيلي
- غزة والعرب
- حذاء الزيدي ووجوه البعثيين
- لماذا اتحاد لكتاب الحوار المتمدن
- اتحاد كتاب الحوار المتمدن
- الحوار المتمدن رتوش في طريق التطور


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب بنيويورك
- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد صبيح - شيء من لوثة الايدلوجية