أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - الإناءُ المصدوع














المزيد.....

الإناءُ المصدوع


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2781 - 2009 / 9 / 26 - 00:33
المحور: حقوق الانسان
    


وتقول الحكايةُ الصينيةُ إن امرأة عجوزًا كانت كلَّ صبحٍ تذهبُ إلى البئر حاملةً فوق كتفها عصا مُعلّقا بها إناءان من الفخار. أحدُهما سليمٌ ترجع البيتَ به مملوءًا بالماء لحافته، أما الآخرُ ففي قاعه شرخٌ طفيف يتسرّب منه نصفُ الماء في الطريق. وخلال عامين كان الإناءُ السليم يباهي بصحّته واكتماله، فيما بدا المصدوعُ حزينا. قال للسيدة ذات مساءٍ وهو مُطرقٌ في أسفه: لَكَم أودُّ أن أعتذرَ لكِ عن عطبي الذي يُفقدك نصفَ مائي كل يوم! فابتسمتْ وقالت: ألم تلحظْ يا صديقي الطيب صفَّ الزهور الممتدَ على جانب الطريق من البئر حتى بيتنا؟ هو على جانبك أنت، وليس على جانب الإناء السليم الذي يفاخركَ باكتماله. ذاك أنني انتبهتُ لما تسميه "عطبا" فيك، فبذرتُ البذورَ في ناحيتك. وعلى مدى عامين ملأتُ بيتي بالزهور التي رواها الماءُ المنسربُ من شرخِك. بيتي يا عزيزي مَدينٌ لك بهذا الجمال!
وكثيرة هي الحكايات التي تؤكد لنا أن ثمة جمالا في كل عيب، وثمة نورا داخل كل عتمة، وأن في النقص اكتمالا. بل إن الاكتمالَ التامَ هو العيبُ، هو النقصُ، ليس فقط لأنه محضُ وهمٍ، بل لأن في النقصِ وجاهةً ورقيًّا ونبلا أيضًا. في النقص رقّة وعذوبة. في النقص شيءٌ من الإنسانية وشيءٌ من النبوّة. ولهذا يتعمد الفُرْس تركَ غرزةٍ معطوبة في سجاجيدهم العجمية فائقة الجمال باهظة الثمن. ولهذا أيضا بتر الرومانُ تماثيلَ حسناواتهم الرخامية. لأن الجمالَ لا يتأكد إلا عبر مسحة من الخلل تُكرّس فرادتَه.
وفي يوم 25 ديسمبر العام 1642، هتفتِ القابلةُ: "يا إلهي! إنه أصغر مولود رأته عيناي، انظروا، بوسعي وضعه في كوب صغير! لن يعيش هذا المخلوقُ سوى يوم أو بعض يوم!". هكذا هتفت بدهشة ممزوجة بحزن حينما استقبلتِ الطفلَ الهزيل الذي ستُكتب له الحياة رغم حدسها. صحيحٌ أنه سيحمل طوال عمره جسدا ضعيفا مهزولا، وصحيحٌ أن أقرانه في المدرسة سيجعلون منه مادةً لتندّرهم وسخريتهم، حتى أن أحدهم سيبطش به ويصرعه أرضا بقبضة يده وسط ضحكات الرفاق، لكن هذا الذي حُدِسَ له بالموت المبكّر سيعمّر خمسا وسبعين سنةً، وسيحمل دماغُه الهزيلُ عقلا ليس فقط غير هزيل، ولا هو حتى عقلٌ مساو لأقرانه الأشدّاء، بل سيوهب مخٌّ يبزُّ البشريةَ حدّة وتفردًا وذكاء وألقًا. مخٌّ فائقٌ نادرُ الوجود حتى أنه سيغدو القيمةَ المعياريةَ القصوى على مقياس معدّل الذكاء Intelligence Quotient (I.Q.) المعروف. الطفلُ اسمه اسحق نيوتن الذي سينال اللقبَ الإنجليزي رفيع الشأن "سير" لأنه سيغيّر من مسار العلوم والفيزياء بقوانينه التي وصفها آينشتين، بعد ذلك بثلاثة قرون، بقوله: "إن كل ما عُرف من العلوم الطبيعية النظرية مَدين لنيوتن، كلها ليست سوى امتداد طبيعي لآرائه". بل إن لقبه "نيوتن" Newton سوف ُيطلق بعدئذ على وحدة القوة الفيزيائية. وهي مقدار القوة التي لو أثّرت على كيلوجرام واحد لأكسبتها سرعةً تعجيلية acceleration مقدارها مترٌ في كل ثانية.
وكثيرون هم العظام الذين لم تكن طفولتهم سوى بعض "صفر"، بمعاييرنا الساذجة، بما لا ينبئ بعبقرية قادمة. لكنها الحياةَ تحب دوما أن تشاكسَ البشر قائلة ها هي توقعاتكم أخطأت! فمتى تتعلمون ألا تتعجلوا الحكم؟ وماذا نقول عن آينشتين الذي كان المعلم يطرده في طفولته من الفصل ناصحا والديه أن يسحبوه من المدرسة لأن قدراته العقلية محدودةٌ وغير قادر على التفاعل والاستيعاب. كان آينشتين متوحّدا وآمن والده بخلله، لكن أمه لم تؤمن إلا بتميز ابنها. آمنت أنها قادرةٌ على صناعة معجزة ما. فجنّدت له كتيبةً من المعلمين وأطباء التخاطب وخبراء في تنمية القدرات الاجتماعية فكان أن قدمت للعالم نابغةً غيّر مسار البشرية بنظريتيه الفذتين النسبية العامة والنسبية الخاصة. وماذا نقول عن درّة عقدنا طه حسين الذي نذره أبوه لتعلم القرآن وحفظه آملا، في أحسن الأحوال، أن يغدو مُقرئا على الموتى عند الأضرحة لقاء بعض التمر والفطائر، سوى أن القدر خبأ للدنيا عقلا تنويريا فذًّا أقدر مطمئنةً أن أقولَ عنه: "ظالمُ العزمِ عَلِيُّ الارتقاء"، على وزن "ظالمُ الحسنِ شهيُّ الكبرياء"، كما وصف إبراهيم ناجي حبيبتَه.





#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملاكُ يهبطُ في برلين
- ناعوت: الإبداع العربي الراهن فرسٌ جموح والحركة النقديّة عربة ...
- تحيةٌ للشيخ طنطاوي
- بالأمس فقدتُ مَلاكيَ الحارسَ
- مينا ساويرس، موحِّد القطرين!
- شوارعُ تُغنِّي بالفرح
- ذاك الذي غبارٌ عليه
- القتل صعب يا هنادي!
- يا صغيرتي، ليس كلُّ فأرٍ -جيري-
- أنا في طبلة المسحراتي!
- كيف يقرأ هؤلاء؟
- ترويعُ الأطفال، والاسمُ: مُلْتَحٍ
- الحضورُ موتًا،
- المِصَحْيَاتي
- السلطانُ والخُّفُّ الجِلديّ
- يا مباحثَ بلدنا، أحبيِّنا
- أنا أستطيعُ، والناسُ تحبُّني
- الفِتْنةُ ليست دائمًا أشدَّ من القتل!
- للجريدةِ مآربُ أخرى
- لغةٌ -قايلة- للسقوط


المزيد.....




- بعد قانون ترحيل لاجئين إلى رواندا.. وزير داخلية بريطانيا يوج ...
- تقرير أممي مستقل: إسرائيل لم تقدم حتى الآن أي دليل على ارتبا ...
- الأمم المتحدة تدعو بريطانيا إلى مراجعة قرار ترحيل المهاجرين ...
- إغلاقات واعتقالات في الجامعات الأميركية بسبب الحرب على غزة
- مراجعات وتوصيات تقرير عمل الأونروا في غزة
- كاريس بشار لـCNN: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى ا ...
- رئيس بعثة الجامعة العربية بالأمم المتحدة: العمل جار لضمان حص ...
- الأمم المتحدة: نزوح أكثر من 50 ألف شخص بسبب المعارك شمال إثي ...
- بعد تقرير -اللجنة المستقلة-.. الأونروا توجه رسالة للمانحين
- مراجعة مستقلة: إسرائيل لم تقدم أدلة بشأن ادعاءاتها لموظفي ال ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فاطمة ناعوت - الإناءُ المصدوع