أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (2) القدرة على التفرد Individuation ومقاومة الامتثال (التشكل بالبيئة) Resisting the Power of Conformity















المزيد.....



معايير النضج النفسي (2) القدرة على التفرد Individuation ومقاومة الامتثال (التشكل بالبيئة) Resisting the Power of Conformity


مشير سمير

الحوار المتمدن-العدد: 2779 - 2009 / 9 / 24 - 13:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن لفظة "التفرد"، بحسب المعجم الوجيز، تفيد: الانفراد (أن يكون الشخص منفرداً) وانقطاع النظير (أي التمايز). ولكن شرح المفهوم أصعب من ذلك بكثير، فالمقصود من "التفرد" هو أن يحتفظ الشخص بشخصيته وهويته مستقلة ومتمايزة عن كل من هو غيره، بمعنى أن يكون له لونه وبصمته الخاصة المختلفة عن الآخرين وأن يقاوم التقولب (أي الصب في قوالب جاهزة) ومحاكاة الآخرين والذوبان فيهم والتشكل بهم، وهذا هو معنى "مقاومة التشكل بالبيئة/ الامتثال"، أي أن يصير الفرد "فرداً" وليس وحدة نمطية من وحدات تكوين المجموع. وهذا هو ما سوف نشرحه في هذا الموضوع.

ولفظة "التشكل" هنا هي نفس اللفظة التي استخدمها بولس الرسول فيلسوف المسيحية، في اليونانية في خطابه إلى أهل روما (رو12: 2)، حين قال: "لا تشاكلوا conform(تتوافقوا/ تتماثلوا/ تتشابهوا مع) هذا الدهر (العصر/ العالم)."
فالرسول بولس هنا، من خلال دعوته للتغير، يناشد الإنسان بأن يحتفظ بشخصية خاصة ومتفردة لا تشابه أو تشاكل الآخرين بل تختلف عنهم. فلابد لنا أن نعرف أن واحدة من أهم سمات النضج النفسي، هي قدرة الفرد على الوقوف صامداً متماسكاً محتفظاً بذات (هوية) متفردة مستقلة ومختلفة أمام قوة ضغط الآخرين لتشكيل الفرد على شاكلتهم Power of Conformity، أو كما يسميها إبراهام ماسلو "مقاومة التشكل بالبيئة". فمجموع الأفراد معاً، عندما يأتوا معاً، له قوة هائلة في الضغط على الفرد المفرد من أجل امتثاله وانصياعه لما قد تعارف عليه هذا المجموع، ومن ثم صبه وتشكيله في قالب واحد بطريقة تفقد الفرد تفرده. مثال: اختبر نفسك كيف تشعر إن كان أصدقاءك يخرجون دائماً للعشاء معاً بعد العمل، وأنت تشعر بالرغبة في التخلف عنهم للقيام بشيء مختلف وبالطبع نظراتهم وأقوالهم تلاحقك وتضغط عليك للانصياع للمجموعة؟ نعم إن مجموع الأفراد له قوة ضغط على الفرد الواحد سواء أحس بهذا الضغط أو لم يحسه، كما تقول د. نوال السعداوي في احد كتبها "إن ضغط المجتمع على الفرد الواحد يشبه الضغط الجوي، قد يحسه الفرد وقد لا يحسه، ولكنه موجود دائماً وله آثاره التي تشتد أو تقل حسب قوة شخصية الفرد ونضجها وحسب نوع المجتمع."(1)

لماذا هذا الضغط من الأفراد بعضهم على البعض؟ ذلك من أجل تجنب الوحدة التي قد يحتويها الانفراد ضمنياً، وتحصيل قدر من الأمان من جراء مشابهة البعض للبعض حيث أن الاختلاف قد يكون للبعض مخيفاً، بما يشير بالطبع إلى افتقاد هذا الإحساس بالأمان بين الأفراد ومحاولة البحث عنه بهذه الطريقة الخاطئة. ولذلك تعود قدرة الفرد على مقاومة التشكل بالبيئة إلى إحساسه بالقيمة وثباته الداخلي الذي يوفر له الإحساس بالأمان، والنابع من علاقته الصحية بذاته التي تحدثنا عنها قبلاً. ولذلك فهذه القدرة على مقاومة التشكل بالبيئة ليست بالأمر السهل أو الطبيعي أو التلقائي. فليست هناك فقط قوى المجتمع الخارجية بل أيضاً قوى ضعف الفرد الداخلية، والتي تتكاتف معاً لتعيق هذه الخاصية من خواص النضوج لصالح التقولب والامتثال وضياع التفرد.

إذن ما الذي يعطي المجتمع قوة الضغط هذه على الشخص؟

نقول أننا خلصنا في الحلقة السابقة إلى أن الشخص الذي يفتقر للإحساس بالكفاية والأمان ولا يجدهما في داخله هو شخص يعيش في توتر قلق ويشعر بالتهديد وعدم اليقينية في ذاته (أي يشك في هويته)، لأنه لا يعرف من هو ولا يتلامس مع ما يحدث في داخله. فهو لا يجد السلام ولا التوافق أو الانسجام في داخل نفسه لأن هذه النفس غريبة عنه ولا يعرفها وبالتالي هو ليس في علاقة معها. ولذلك فنحن نجد الفرد هنا، الفاقد لإحساسه بهويته، لا يحتمل اختباره للتوحد والانفراد الموجودين ضمناً في اختلافه عن الآخرين (لأنه نفسياً ليس له أقدام يستطيع الوقوف عليها بمفرده)، فذلك أمر مرعب لا يطيق احتماله، فنجد د. أنطوني ستور في كتابه الشهير عن الاعتكاف، يقول:
"أن القدرة على التوحد (أن يكون المرء بمفرده the capacity t o be alone)، وهي أحد جوانب النضج الوجداني، تشير إلى الطمأنينة الداخلية التي بُنيت شيئاً فشيئاً خلال السنوات الأولى من العمر"(2).
ومن ثم نجد مثل هذا الشخص المفتقر للطمأنينة الداخلية يلجأ إلى التماثل مع الآخرين ويشعر بالدفع القوى نحو مسايرتهم والتشكل بهم لكي يحصل من خلال عملية المشاكلة (الامتثال) هذه على الطمأنينة من جهة ذاته المبهمة تلك، ملتمساً بعض الدفء في الآخرين. فعملية المشاكلة (الامتثال) هذه تعطيه الإحساس بالقبول والموافقة approval والرضى والاستحسان من المجتمع، الأمور التي تمنحه إحساساً خارجياً بالأمان الذي قد فشل في الحصول عليه داخلياً. ولكن تكون النتيجة أنه في هذه العملية يتعرض لفقدانه لتفرده. مثال: بماذا تشعر من زملائك في عمل جديد يسود فيه العرف بالتغطية على تأخير بعضهم البعض عن طريق توقيع أي زميل بالنيابة عن زميله المتأخر، وأنت الوحيد في هذا المكتب الذي يرفض هذا الأسلوب؟ كيف تشعر عندئذ؟
الإجابة إنما تشرح لنا قوة ضغط البيئة أو المجموع في مقابل حالة الفرد الداخلية من الشعور بالقيمة والثبات أو العكس.

يشرح لنا هذا الأمر الطبيب النفسي رولو ماي في كتابه الأشهر "بحث الإنسان عن نفسه"، فيقول: "يمتلك القبول الاجتماعي سطوة كبرى "أن نكون محبوبين" لأنه يبعد الإحساس بالوحدة. إذ يُحاط المرء بدفء مقبول ومريح وينخرط في الجماعة، ويعاد امتصاصه - وكأنه يعود للرحم كما في الرمز المتطرف في التحليل النفسي. فيفقد المرء وقتياً وحدته، ولكن هذا يحدث بثمن غال هو التخلي عن وجوده كماهية خاصة محددة."
"أن المرء يكره أشد ما يكون الخروج عن النسق والتطلع خارج الجماعة وعدم التواؤم معهم. فيفتقد الناس الشجاعة لخوفهم من العزلة أو لخشيتهم من التعرض للعزل الاجتماعي أي للسخرية أو التهكم أو الرفض. فإن عاد المرء وغرق داخل الجماعة فهو لا يتعرض لمثل تلك المخاطر، حيث أن تلك العزلة هي تهديد جد خطير."(3)

كذلك يشرح لنا عالم النفس والفيلسوف الأمريكي إريك فروم في الاقتباس الطويل التالي حالة الشخص الذي يفتقر للقيمة والأمان، من جهة صعوبة تفرده ومقاومة التشكل بالبيئة:
"ولكي يتغلب على الخطر الناتج عن مثل هذا الفقد للذاتية (فقدان القيمة والأمان الداخلي)، فإنه يضطر إلى التطابق والبحث عن ذاتيته بالاستحسان المستمر والإقرار به من جانب الآخرين. ولما كان لا يعرف من هو فعلى الأقل فإن الآخرين يعرفون – إذا تصرف وفق توقعهم، فإذا عرفوا فسوف يعرف هو أيضاً إذا وثق فحسب بكلمتهم."
"يمكن مقاربة هذا الميكانيزم بالطريقة التي بها تلون بعض الحيوانات جسمها طلباً للحماية. إنها تبدو مماثلة لمحيطها حتى أنه يصعب تمييزها. والشخص الذي يتنازل عن نفسه الفردية ويصبح آلة متطابقاً مع ملايين الآخرين من الآلات المحيطة به لا يحتاج إلى أن يشعر بأنه في وحدة وقلق بعد هذا. وعلى أي حال فإن الثمن الذي يدفعه غال، إنه فقدان نفسه."(4)
وهكذا يحصل المجتمع على قوته الضاغطة على الفرد من الفرد نفسه من خلال سعيه للتشكل بالآخرين، فنجد ذلك الشخص:
- لا يستطيع بل ويشعر بالخوف من الانفراد بنفسه، الأمر الموجود بالضرورة في معنى التفرد.
- يحاول أن يرضي الآخرين دائماً، وأن يتشبه بهم، ويخشى مخالفتهم.
- يعتمد كثيراً على الناس كما لو كان لا يستطيع أن يحيا بدونهم.
- يرتبط بالآخرين ارتباط زائد وغير صحي، حتى أنه لا يشعر بوجوده دونهم.
باختصار يصير نسخة ووحدة نمطية متكررة في بنيان المجتمع ويفقد أصالته.

أيضاً قلنا في المحاضرة السابقة أن القدرة على الانعزال أو الانفراد (الاختلاء بالنفس)، في حد ذاتها تساعد الفرد على اكتشاف نفسه وإقامة علاقة صحية معها، الأمر الذي من شانه أن يُكسب الفرد القدرة على الاحتفاظ بهويته المتفردة ومقاومة عملية التشكل بالبيئة. فهنا عندما يهرب الشخص من التفرد (التوحد) والانفصال الموجودين في اختلافه عن المجموع، بسبب خوفه وشكه في ذاته، فهو بهذا يقوي عجزه و ضعفه الداخلي الذي يجعله أكثر عرضة للانصياع لتشكيل وضغط المجموع، فهو يهرب من الأمر نفسه الذي من شانه أن يساعده على التماسك وإقامة علاقة صحية مع نفسه، أي أنه يدخل نفسه في دائرة مفرغة. كما يستأنف رولو ماي في اقتباسه السابق قائلاً:"ومن ثم يتخلى المرء عن الشيء الوحيد الذي يمكنه من المواجهة البناءة للوحدة على المدى البعيد؛ ألا وهو تطوير موارده الداخلية وقوته وإحساسه بالاتجاه واستخدام هذا كأساس للعلاقة الحقيقية مع الآخرين."(3)
دعونا أيضاً في ذلك الشأن نستمع إلى ما يقوله رولو ماي في كتاب أخر له مشترك مع د.إرفين يالوم:
"يحس بعض الأفراد عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال (ذوبان) حدود الذات Dissolution of ego boundaries. يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون في وجودهم الخاص ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا في حضور شخص آخر، أي لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم."(5) وكأن بالكاتب هنا يقول أن فقدان الهوية والاحساس بالذات إنما يجعل الفرد يصير شخصاً بلا شخصية أو ملامح، أو بمعنى أدق ليس شخصاً بل كياناً مبهماً وبلا دلالة أو تعريف من جهة وجوده الخاص ومن هو يكون، وهو ما يجعله يحتاج إلى تذويب حدوده أكثر والتشكل بالآخرين والامتثال لهم لكي ما يشعر بوجوده.
وهذا ما يتحدث عنه رائد علم النفس الكبير كارل يونج في الاقتباس الفذ التالي له: "وكلما كان افتقار الذات Subject إلى التأمل الداخلي (التوحد والانفراد)، أي إلى خاصية النفاذ إلى داخل ذاتيتها (أي في علاقة صحية مع الذات)، كلما كان هذا الافتقار كلياً، كان اعتمادها على الموضوع Object الخارجي مطلقاً. فهي لا "تكون" إلا أن يكون معها موضوع يثبت لها أنها موجودة في الواقع."(6) وهذا الموضوع هو بالطبع الآخرين ورضائهم وموافقتهم على ذات الفرد. بمعنى أنه هناك علاقة عكسية بين العلاقة الصحية مع الذات والاحتياج إلى الامتثال والتشكل بالآخرين وفقدان التفرد.
ونستكمل اقتباسنا من كتاب ماي ويالوم، والذي يقول:
"أن تكون كأي فرد آخر – أن تمتثل وتخضع وتساير في الملبس والحديث والعادات، … ألا تكون لك أفكار خاصة أو مشاعر مختلفة – كل ذلك من غايته ومبتغاه أن ينقذ الفرد من عزلته (التي تكون مهددة ومرعبة في هذه الحالة)."(5) إلا أن هذا يخلق قطيع متشابه ومتماثل من البشر المعاقين المجردين من إنسانيتهم وليس مجتمع مكون من أفراد متفردين مستقلين ومسئولين. ولعل الأمثلة لا نهائية ولا حصر لها من حولنا: مثل مسايرة الآخرين في الحديث عن أحداث السياسة أو كرة القدم أو ارتفاع الأسعار، إذا كان هذا هو حديث المجموعة حتى وإن كان لا يعنيني كثيراً، المسايرة في عقد اللقاءات والمناسبات والأنشطة حتى وإن كان ذلك لا ينبع عن خطة خاصة، مسايرة خطوط الموضة بالطبع، مسايرة الأعراف في تقاليد الزواج وحفلات الزفاف حتى وإن كانت متعارضة بشدة مع قدرات الفرد أو معتقداته، كل هذه الأمور التي تجري لا لسبب إلا لأن "الجميع يفعلون هكذا"، و"لا يصلح إلا هكذا"، مما يكشف مرض الدافع وفقر الذات الشديد.

وهنا يجدر بنا التوقف أمام التجربة الفريدة التي قام بها سلومون آش عام 1951. في هذه التجربة وضع آش ثمانية طلاب متطوعين في غرفة ثم أعلن للطلاب أن التجربة التي سيشتركون فيها تدور حول فحص الرؤية البصرية (ما تراه العين). وضع آش على اللوح بطاقتين تبعد الواحدة عن الثانية متراً واحداً. رسم على بطاقة (أ) مستقيماً واحداً وعلى البطاقة (ب) رسمت ثلاثة مستقيمات سوداء مختلفة الطول، كان المستقيم الأوسط بين الثلاثة هو الوحيد المساوي في طوله للمستقيم على البطاقة (أ).
جلس الطلاب على بُعدٍ ما من الصور وطلب منهم الإجابة على السؤال التالي:
أي مستقيم في البطاقة (ب) مساوٍ للمستقيم في البطاقة (أ).
لقد سبق وتحدث آش مع 7 طلاب من بين الثمانية واتفق معهم على إجابة خاطئة. وفقط طالب واحد نسميه "الطالب الساذج" لم يشترك بالمؤامرة.
دخل الطلاب إلى الغرفة في الساعة المتفق عليها، وعندما سألهم آش: أي مستقيم من البطاقة (ب) مساوٍ للمستقيم في البطاقة (أ). أجاب السبعة الواحد تلو الآخر، وبصوت واثق وواضح أن المستقيم من الجهة اليمنى في البطاقة (ب) مساوٍ للمستقيم في البطاقة (أ).
تشير نتائج آش إلى أنه عندما أجاب الطلاب السبعة بصوت واثق ومقنع أن المستقيم في الجهة اليمنى من البطاقة (ب) هو المساوي للمستقيم في البطاقة (أ) ظهر أن "الطالب الساذج" في حالة من الارتباك فقد بدأ يهز رأسه ثم يحكه بأصابعه ويحرك رجليه بعصبية وعندما وصل دوره للإجابة تردد لوقت طويل وفي النهاية أصدر قراره بصوت متردد ومرتجف قليلاً. لقد اختار كباقي المشتركين في التجربة نفس المستقيم (في الجهة اليمنى من البطاقة ب) على الرغم من أنه كان واضحًا بأن الإجابة خاطئة.
لقد أثبتت تجربة آش والتي أجريت مرات عديدة على مئات المشتركين أن للبيئة الاجتماعية تأثير قوي جدًا على عملية اتخاذ القرار وعلى والتصرفات المنبثقة عنها. وبسبب هذا التأثير الاجتماعي الكبير يحدث أن نتنازل عن أفكارنا حتى في حالة كان "الآخرين" هم بالفعل مجموعة من الأشخاص المجهولين الذين لا تربطنا بهم علاقة لا من قبل ولا من بعد. ويقول أحد أحد الأساتذة الجامعيين العرب (د. فلاح العنزي) معلقاً على هذه التجربة:
"في تجارب آش اتخذ الفرد قرار مسايرة رأي الأغلبية الخاطئ لأنه ربما يخشى الازدراء لكونه مختلف عن الأغلبية. فهذا التغير من قبيل ضغط الجماعة هو مثال على الإذعان."(7) وهذا ما يرينا خطورة التدمير الذاتي الذي يقوم به الإنسان حين يخدع نفسه ويحرف الحقيقة في مقابل ألا يخسر قبول الوسط الاجتماعي له ويتعرض للرفض. أو كما يقولها إريك فروم بأسلوبه القوي النافذ المعهود: "يميل الإنسان إلى قبول الحقيقة التي تقررها الغالبية العظمى من الجماعة، وما يصدره من أحكام تحدده حاجته إلى الاتصال بالقطيع، وخوفه من الانعزال عنه. وقليل من الأفراد هم الذين يستطيعون احتمال هذا الانعزال، وقول الحق على ما فيه من خطر فقدان الصلة بالقطيع. وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيين للجنس البشري، ولولاهم لكنا الآن نعيش في الكهوف."(8)

وهنا تستشهد د. نوال السعداوي من تعبير "كينيث ووكر" عن نفس هذا المعنى حين يقول: "إننا نتعلم من المهد إلى اللحد أن نستبدل قيمة أنفسنا بالقبول الاجتماعي، وتكامل شخصياتنا وأرواحنا بالتكيف الأخلاقي"، وتعلق قائلة "وهكذا فإن ثمن الحصول على الأمن هو فقدان النفس، وكم يكون هذا الثمن باهظاً لأنه ثمن الحياة ذاتها"(9).
وهذا ما يؤكده رولو ماي حين يقول: "أن الـ "أنا" ego لا تتحرك باتجاه الذاتية المتفردة المسئولة إن هي بقيت أساساً مجرد انعكاس للسياق الاجتماعي المحيط بها في عالمنا المحدد هذا، حيث التواءم هو أكبر مدمر للذات في مجتمعنا، حيث يصير التوافق مع النمط السائد هو العرف والمعيار. فإن القول بإلزام الذات بوجوب الامتثال لتساير مقولة (ليكون المرء محبوباً)، إنما هذا يفضي إلى إلحاق الأذى الكبير بتطورها."(3)

وعلى الصعيد الديني نرى مثال لهذه الخاصية من خواص النضج النفسي أيضاً في شخص الكاتب والمعلم الألماني ديتريك بونهوفر والذي لاقى مصرعه على يد الحكم النازي الذي نفذ فيه حكم الإعدام نتيجة لتمسكه، كإنسان مسيحي، باختلافه وبأفكاره المناهضة لهذا الحكم.
يقول لنا بونهوفر بكل جسارة وتحدى: "إن رفضت أن تكون وحدك فأنت ترفض دعوة الله لك"(10). ولا شك أن بونهوفر قد اختبر هذا النوع من الوحدة والانفصال بالسجن، وأن يكون وحده تماماً في مواجهة نظام كامل. ولكننا نرى مستوى الأمان والثبات الداخليين لديه (الأمر الذي شهد عنه زملائه بسجن برلين(11) يمكناه من الوقوف في هذا الاختبار الصعب للوحدة. فقد قال بونهوفر حين اتـُهمَ بعدم ولائه لبلاده: "نعم أنا ألماني، ولكنى أولاً مسيحي".
وهنا نرى أن بونهوفر لم يخشى رفض المجموع ونبذه له الذي وصل إلى حد الإعدام في السجن النازي، أو حتى اختلافه عن المجموع المسيحي في عودته من أمريكا التي سافر إليها مع الكثير من زملاءه الخدام الذين لجئوا إليها أثناء الحكم النازي، إذ أنه كان يتمتع بالأمان الداخلي، فلم يكن محتاجاً إلى الحصول عليه عن طريق قبول وموافقة المجموع، أو حتى عن طريق مهادنة المجموع في أمر اختلافه هذا معهم (وبالطبع ليست هذه هي القاعدة دائماً في مواجهة أي اختلاف، فهناك اختلافات أخرى قد يكون من الأفضل إرجاء التصادم معها، مثل موقف بولس رسول المسيحية والذي نقل المسيحية من اليهودية إلى الأمم في صدام واضح مع زملائه الرسل بالكنيسة اليهودية آنذاك، وهو بلا شك لا تنقصه الجرأة ولا يلجأ إلى المساومة، ولكننا نجده أيضاً في سياق آخر لا يتصادم مع موقف المجتمع الروماني من الرق رغم اختلافه الواضح والصريح مع هذا الموقف).

وهنا، وقبل الانتقال إلى زاوية أخرى للموضوع أود أن اقتبس مقطعين من مقالة للكاتب المصرية د. من حلمي، نـُشرت لها في مجلة روزاليوسف العدد 3691 بتاريخ 8/3/1999 تحت عنوان "الخوف من الاختلاف"، تقول فيها:
"نعم، لكل إنسان ذاته المتفردة التي لا تشبهها ذات أخرى، تماماً مثل بصمة الإصبع غير قابلة للتكرار. كل إنسان يُولد متفرداً ولكن ليس كل إنسان يموت متفرداً، ترى ما الذي يحدث لنا بين الولادة والموت؟
ترى ما الذي يمسح أو يقتل فينا فطرة التفرد؟ إنه "الخوف من الاختلاف؟. نخاف أن نفكر ونحس ونغضب ونحلم ونتكلم ونتحرك خارج الخطوط والمدارات المألوفة المرضي عنها.
منذ الصغر في الأسرة يزرع الأهل (سلطة الأب أو سلطة الأم أو الاثنين معاً) بدايات هذا الخوف .. وتتعاون كل ثقافة المجتمع الأكبر، في تدعيم ما أرسته سلطة الأسرة في خلق أناس متشابهي التفكير والإحساس والأحلام."
"والشيء الغريب أن البشر يوجهون الكثير من الوقت والجهد والاهتمام لتنمية أشياء خارجة عنهم مثل النجاح والفلوس والشهرة وكسب الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية، كل ذلك في إطار من استحسان الآخرين، ورضاهم، ومدحهم، لكنهم يبخلون بالوقت والجهد والاهتمام للاستماع إلى صوتهم الداخلي وإنماء الذات المتفردة داخل كل منهم.
إن الانشغال بالعالم الخارجي وإهمال العالم الداخلي يضع أسس اغتراب الإنسان عن ذاته الحقيقية .. وطالما اغترب الإنسان عن ذاته، فإنه يظل غير سعيد مهما وصل إلى نجاح مادي أو مركز مرموق أو شهرة أو فلوس ومهما أحاط نفسه بالعديد من الصداقات والعلاقات."

أيضاً قد سمعنا جميعنا مقولة الرسول السكندري أثناسيوس التاريخية بالقرن الرابع الميلادي (متمسكا بقوة بقناعاته اللاهوتية أمام الهرطقات المعاصرة آنذاك) حين قالوا له: "إن العالم كله ضدك يا أثناسيوس"، فأجابهم قائلاً: "وأنا ضد العالم". فهل كان هذا الرسول مصاباً بجنون العظمة والاضطهاد Paranoid؟!
ماذا إذا خرج أحدهم إلينا اليوم قائلاً بأن الأرض مسطحة وليست كروية! ألا نتهمه بالجنون والمروق؟ إن هذا تماماً كان وضع العالم الفلكي جاليليو في ذاك الوقت حين خرج في مواجهة الجميع بما هو يعد جنوناً ومروقاً منه أنذاك، إذ قال بأن الأرض كروية وتدور حول الشمس وليس العكس. وهكذا واجه جاليليو المجتمع بأسره ممثلاً في محاكم التفتيش الكنسية متهماً بالجنون والهرطقة. فهل كان جاليليو كذلك؟ وهل كان أثناسيوس الرسول بارانوياً Paranoid (مريضاً بجنون العظمة)؟

إذن هناك قاعدة هامة لابد وأن نخلص إليها بعد هذا التصعيد، وهي أن:
"اتفاق المجموع على شئ لا يعني بالضرورة صحته (كما نسمع العبارة المعيارية الخاطئة التي تقول: الكل قالوا هكذا/الكل يفعلون ذلك، هل ستفهم أكثر من كل هؤلاء البشر؟!)، وكذلك رفض المجموع لشئ لا يعني بالضرورة خطئه." "فالانتشار (كما يقول د. خالد منتصر) ليس دليل صدق الفكرة."(12) وهذا أشد ما نحتاج إليه في مجتمع كمجتمعنا لكي ينمو ويتقدم، إذ أننا مجتمع يعيش على موروثات عتيقة من الأعراف والعادات والتقاليد البالية لمئات من السنين دون أن يجرؤ أحد على فحصها أو حتى مناقشتها دون التعرض لمحاكم التفتيش المعاصرة. يستأنف د. خالد منتصر ويقول: "الخارج عن هذا الانتشار يُوضع فوراً في خانة المجانين، وكم من علماء إتهموا بالجنون لأنهم لم يتلاصقوا مع ناسهم كالطيور أثناء الصقيع، وضحوا بدفء القطيع والسرب، في سبيل فكرة أو اكتشاف علمي."(12)
وهنا يجدر بنا اقتباس قول الفيلسوف الدانماركي الشهير كيركجارد في مصادمته مع الديانة الوضعية بالدنمارك في وقته، إذ يقول:
"إن ملايين البشر الذين يعتنقون المسيحية لا يمكنهم تحويلي عن اتخاذ قراري بنفسي لأن تلك الملايين قد تكون مخطئة."(13) بالطبع لم يكن كيركجارد بارنوياً ليقول أن جميع الناس مخطئين إلا هو، ولكنه أيضاً لم يتردد في أن يقول أن الحقيقة أنه يمكن لملايين البشر أن تكون مخطئة في وقت ما، وهذا ما أثبته لنا التاريخ مراراً وتكراراً، كما راينا مع جاليليو ومحاكم التفتيش والكثيرون من رجال النهضة والإصلاح، ومسيحية العصور الوسطى هي أكبر دليل على ذلك.
إلا أنه أيضاً يقول الكاتب المعاصر روجر بالمز: "أما ما يقوله الآخرون فلا يمكن أن نتخذه مقياساً لما هو صواب، أو حق، أو أخلاقي، حتى لو كان شيئاً شرعياً لا غبار عليه. فرأي الغالبية ليس هو بالضرورة رأي الله."(14)
كذلك يقول الأسقف رايل، أسقف ليفربول بنهايات القرن التاسع عشر والذي يُعد أفضل رجال الكنيسة في إنجلترا، قال في سياق حديثه عن الانفصال عن العالم: "لا تعمل أشياء، فقط لأن "الجميع يعملونها."(15)
نعم فالإنسان الناضج، الذي يستطيع أن يصنع التاريخ، هو الذي يتمتع بالأمان والسلام الداخليين الحقيقيين بحيث نجده يشعر في داخل نفسه بالثبات حتى أنه يستطيع عند اللزوم ليس فقط أن ينفصل عن المجموع بل أن يواجه المجموع بتشوهه ويقف منفرداً في مقابله كما لو كان هو الوحيد المحق.

ونحن نرى بالتأكيد هذه القوة والثبات في حياة السيد المسيح إذ كان كثيراً ما يقف وحده منفرداً ضد المجموع حتى اتـُهم بالجنون والتخريف والهذيان (إنجيل مرقس3: 21/ يو10: 20). وهو نفس موقف بولس الرسول أيضاً حين وقف ضده اليهود من جهة ولم يصدقه أو يؤمن به الأممين، الذين اضطهده اليهود بسبب تبشيره لهم، من الجهة الأخرى، حتى وقف وحده أيضاً متهماً بالتخريف والهذيان، حين قال له فستوس: "الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان!" (كتاب أعمال الرسل 26: 24).

ولنترك البعد الديني الآن لنعود ثانية إلى البعد النفسي ونقول:
أن التفرد حتمية لنضوج المجتمع
إن إدراك الإنسان لهويته الداخلية (اليقين ممن هو يكون) وإيمانه بتفرده هو الأمر الوحيد الذي يجعل منه صاحب وجود خاص وفكر خاص يستطيع أن يسهم بهما في المجتمع، ولكن إن ضاعت هوية الإنسان الخاصة وفـُقـِد التفرد والاختلاف انحل المجتمع وأضطرب. فاختلاف الأفراد واحدة من أهم حيثيات نضوج المجتمع كما يخبرنا د. زكي نجيب محمود حين يقول:
"إن المثل الأعلى لحياة المجتمع هو أن يكون لكل فرد طابعه الخاص الذي يتميز به دون سائر الأفراد، وأن يختلف بصوته (برأيه) ما شاء له فكره أن يختلف. لأنه إذا تشابه فردان من البشر تشابهاً كاملاً كان أحدهما زائدة لا مبرر لوجودها، ولكن شريطة أن يجئ اختلاف الأفراد مماثلاً لاختلاف الآلات الموسيقية مع مختلف العازفين في سيمفونية واحدة".
ألا يذكرنا هذا بفكر بولس الرسول عن تنوع المواهب والشخصيات في الجسد (البنيان) الواحد (الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 12)؟!
وهنا نرى أن تماثل الفرد للمجموع ومشاكلتهم بعضهم للبعض، بخلاف أنه تعبير عن فقدان الهوية والأمان الداخلي فإنه يصنع تشوهاً ومرضاً خطيراً في الإنسان وبالتالي في المجتمع. وهذا المرض هو فقدان الأصالة، أي أن يصير الشخص نسخة مكررة في تطابق رتيب، مما يفقد الحياة سمة الخلق والإبداع أو بالأحرى يفقد الوجود معناه.

وهنا يقول د. أنطوني ستور:
"عندما يكون الحفاظ علي التماسك الاجتماعي (مسايرة الأعراف والعادات والتقاليد) هو الشغل الشاغل للمجموعة، فإن الأصالة قد تخنق. إن الأصالة تتطلب أن يكون المرء جريئاً بدرجة كافية بحيث يذهب إلي ما هو أبعد من نطاق المعايير المقبولة. وهذا يتضمن في بعض الأحيان فهم الآخرين له بطريقة خاطئة أو أن يصير منبوذاً من أقرانه وكلما كان المرء أقل اعتماداً علي الآخرين وأقل ارتباطا بهم، فإنه يجد من الأسهل عليه أن يضرب صفحاً بالمتعارف عليه. والواقع أن المجتمعات البدائية تجد أن من الصعب عدم الإغضاء عن القرارات الفردية أو التباينات في وجهات النظر (وهنا يظهر عدم نضج المجتمع)."(2)
(ترى كيف يكون وضعك، خاصة لو كنت فتاة، في مجتمعنا الشرقي إذا خالفت أحد تقاليد المجتمع المقدسة في مسألة الارتباط والزواج أو حفل الزفاف؟! ماذا لو رفضت الارتباط، رغم بلوغك الثلاثين من العمر، رغم تقدم أكثر من شاب مؤمن جيد، لا لسبب إلا لعدم التوافق في بعض الطباع ووجهات النظر؟! ماذا إذا أصررت على دراسة شخصية المتقدم للارتباط بك لمدة عامين، كما يقول العلماء، قبل الارتباط للتأكد من توافق شخصياتكم؟!)
نستأنف مع أنطوني ستور، فيقول: "و لقد قام برنو بتلهيم Bruno Bettelheim بدراسة المراهقين الإسرائيليين الذين تربوا في الكيبوتس (مزارع جماعية يهودية) ووجد أن القيمة العليا المنوطة للمشاعر الجمعية المشتركة بين أفرادها كانت متسمة بالعداء للإبداع."
"إني أعتقد أنهم يجدون من المستحيل تقريباً أن يكون للمرء رأى شخصي عميق يختلف عن رأى المجموعة، أو أن يعبروا عن أنفسهم في كلام مكتوب يتصف بالإبداع . وليس ذلك بسبب كبت المشاعر فحسب، بل لأن ذلك قد يعمل علي تحطيم الأنا. فإذا كان الأنا الشخصي هو أنا المجموعة، إذن يكون وضع الأنا الشخصي الخاص ضد أنا المجموعة بمثابة خبرة مهلكة. وعندئذ يحس الأنا الشخصي بأنه ضعيف جداً بحيث لا يستطيع الصمود عندما يكون أقوى جانب فيه – وهو الأنا الجمعي – معرضاً للضياع".(2)

ترى هل نستطيع نحن اليوم أن نقول عن أنفسنا أننا نمتلك هذه الروح الحرة المتفردة في مواجهة تقاليد المجموع؟! إننا للأسف لا نستطيع في كثير من الأحوال مخالفة تقاليد بالية وضعها المجتمع الفرعوني الوثني أو المجتمع القبّلي الجاهلي من مئات السنين ولا زلنا نمتثل إليها اليوم جيلاً بعد جيل خوفاً من الرفض والنبذ من الآخرين. يا لنا من مجتمع مكون من أفراد بلا هوية وبلا أمان داخلي!!

إننا نشبه دودة القز Caterpillar التي يظل أفرادها يتبعون بعضهم البعض في حلقة مفرغة وبلا نهاية بحثاُ عن الغذاء، حتى تهلك جميعها والغذاء أقرب ما يكون في منتصف هذه الدائرة. ذلك لأن أي منها للأسف لم يستطع أن يكسر الدائرة ويخرج عن القطيع.



"الإنسان الروحاني يختلف عنا نحن البشر في مقدرته على تحمل العزلة،
في أن قامته الروحانية تتناسب تناسباً مطرداً مع قدرته على تحمل العزلة،
في حين أننا نحن البشر الذين لا ننفك عن أن نكون في احتياج دائم إلى الآخرين،
نحن القطيع الدهماء نموت أو نقع في اليأس إن لم يتم طمأنتنا بأننا مع سائر القطيع،
ونحمل نفس الرأي الذي للقطيع."(16)

(سورين كيركجارد)

وفي النهاية، أود أن أترككم مع اقتباس آخر من مقالة للكاتب المصرية د. من حلمي، نـُشرت لها في مجلة روزاليوسف العدد 3931 بتاريخ 17/10/2003 تحت عنوان "الخوف من كلام الناس"، حيث تقول فيها:
"إن المجتمعات الإنسانية تتميز بمدى قدرتها على قهر وكسر الخوف، وهذا ينطبق أيضاً على الأفراد، فما يميز إنساناً عن آخر رجلاً كان أو امرأة، هو ما عدد المخاوف التي انتصرت عليها؟
نستطيع أن نكتب تاريخ الشعوب، بالتعرف على المخاوف المهزومة، نستطيع أن نتابع التقدم في حياة النساء والرجال بمتابعة المخاوف التي قضى عليها.
وفي مجتمعاتنا يحتل "الخوف" مكاناً كبيراً على خريطة وجودنا وأحلامنا وحركتنا، ولهذا السبب فإن وجودنا متعثر وأحلامنا مجهضة، وحركتنا مكبلة. في مجتمعاتنا تخاف الناس من المجهول.. ومن المعلوم، تخاف المغامرة "تخاف المخاطرة" تخاف الجديد، تخاف تفرح، تخاف تضحك، تخاف الوحدة.. تخاف الزمن، تخاف أن تحب وأن تعشق.. تخاف التغيير.. تخاف الاختلاف.. تخاف اكتشاف عادات مغايرة. سلسلة محكمة من المخاوف تضربنا صباحاً، ومساء، ولا نملك إلا الإذعان لضرباتها. نخاف حتى من الخوف.
لكنني أود التركيز على نوع خاص جداً من الخوف، نتميز به. ربما توجد بعض المخاوف مثلاً كالخوف من المجهول تشاركنا فيه مجتمعات أخرى. لكن هذا النوع المتفرد من الخوف يكاد يكون إحدى السمات المميزة لمجتمعاتنا.
إنه الخوف "من كلام الناس"، ربما نفهم قليلاً، الخوف من المغامرة والمخاطرة أو الخوف من الوحدة والزمن،ولكن ليقل لي أحد: لماذا نخاف "كلام الناس"؟؟! ليقل لي أحد لماذا وكيف يكون "كلام الناس" أهم من كلام العقل أو كلام المنطق؟؟!! لماذا وكيف يكون "كلام الناس" مانعاً لأخذ القرار السليم، أو السلوك العادل، أو القول الحق أو حتى مجرد الحلم بالتغيير؟؟!!
لماذا يهمنا "كلام الناس" ولا يهمنا تحقيق رغباتنا؟ لماذا نعطي "كلام الناس" أولوية على راحتنا وسعادتنا، وصدقنا، وحريتنا؟؟!! لماذا، وكيف تأتينا القدرة على إسكات ضمائرنا، ولا تأتينا القدرة على إسكات "كلام الناس"؟؟!! والبعض يبالي بعقاب الناس أكثر بكثير مما يبالي بعقاب الله؟؟!!
لماذا وكيف تؤرقنا "نظرة الناس؟ لنا ولا تؤرقنا نظرتنا إلى أنفسنا؟؟!! لماذا وكيف يشغلنا "احترام الناس" لنا ولا يشغلنا احترامنا لأنفسنا؟؟!! يسعدنا جداً "رضاء الناس" علينا.
من تأملاتي والحكايات العديدة التي أسمعها من أصدقائي وصديقاتي ومعارفي أقول أن "كلام الناس" كرباج على أرواحنا، وأجسادنا، أقول أن "الخوف من كلام الناس"، يفوق كل خوف وإن المعركة معه شائكة وشرسة."



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- السعداوي، د. نوال. "الرجل والجنس". دار ومطابع المستقبل بالفجالة والأسكندرية، مصر. الطبعة الرابعة 1991
2- ستور، أنطوني. "الإعتكاف عودة إلى الذات". ترجمة: يوسف ميخائيل أسعد. نهضة مصر 1993
3- ماي، رولو. "بحث الإنسان عن نفسه". ترجمة: د. أسامة القفاش. مكتبة دار الكلمة. القاهرة 2006
4- فروم، إريك. "الخوف من الحرية". ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. مكتبة دار الكلمة. القاهرة 2003
5- ماي، رولو، ويالوم، إرفين. "مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي". ترجمة: د. عادل مصطفي. دار النهضة العربية. بيروت 1999
6- يونج، كارل. "الإله اليهودي". ترجمة: نهاد خياطة. دار الحوار للنشر والتوزيع. اللاذقية، سوريا 1995
7- العنزي، د. فلاح. "علم النفس الاجتماعي". الناشر: فلاح العنزي، الرياض 2000
8- فروم، إريك. "الدين والتحليل النفسي". ترجمة: فؤاد كامل. دار مكتبة غريب، القاهرة.
9- السعداوي، د. نوال. "المرأة والجنس". دار ومطابع المستقبل بالفجالة والأسكندرية، مصر 1990
10- مقتبسة في: "كالخبز الذي كُسِرَ". الأب بيتر ج. فان بريمن اليسوعي. ترجمة: الأب وفيق حبيب نصري اليسوعي. المكتبة البولسية، بيروت 2003.
11- من مقدمة: "اتباع المسيح". بونهوفر، ديتريك. ترجمة: طانيوس زخاري. دار النشر المعمداني، بيروت 1968.
12- منتصر، د. خالد. "فوبيا العلم". دار أخبار اليوم، كتاب اليوم – السلسلة الطبية (العدد 290)، القاهرة 2008
13- Kierkegaard, Soren “Either .. Or” Vol. 1, P. 86
14- بالمز، س. روجر. "بهجة العشرة مع الله". ترجمة: رمزي سعد. لجنة خلاص النفوس للنشر، الكتاب السنوي رقم 31. القاهرة 1991
15- جي. سي. رايل. "في الطريق مع الله". ترجمة: القس رفعت فتحي. الرابطة الإنجيلية في الشرق الأوسط "ميرف". القاهرة 2002
16- Kierkegaard, Soren, “Attack upon Christendom”.



#مشير_سمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معايير النضج النفسي (1) - العلاقة الصحية/السليمة مع الذات
- ليه لازم؟


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (2) القدرة على التفرد Individuation ومقاومة الامتثال (التشكل بالبيئة) Resisting the Power of Conformity