أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - رياض الأسدي - عجز مكتسب: قفص حديد امن البصرة















المزيد.....


عجز مكتسب: قفص حديد امن البصرة


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2774 - 2009 / 9 / 19 - 09:35
المحور: سيرة ذاتية
    


في البداية, لم أكن أريد لهم هذه النهاية لكنهم هم من اختار ذلك بمحض أرادتهم. أبدا. حدث كلّ شيء في يوم واحد؛ بل في نهار من نهارات الشمس والماء والاخضرار الدائم. وكنت أحلم بغيرها؛ رغبت – بقوة حقيقة- في وضعهم جميعا في قفص حديد واحد، كبير, هو نفسه، ذلك القفص الصدئ القديم الذي وضعنا فيه ذات يوم في دائرة أمن البصرة؛ نحن "المودعين" القدماء ممن فلتنا عنوة من موت محقق أحاط بنا ذات يوم- ربما كنت مخطئا أن فضحت لكم ذلك الآن: لكنها الحالة المرة في الفم التي غلبتني في السنين الأخيرة والرغبة الدائمة في تقبيل كلّ من يصادفني .. هههههه! هذه نهايتك أيها الجربوع! لينقذك ربك الآن! ههههّ! والكتب التي كنت تطالعها هههههههههههههههههههههه! تمتلك عضوا أسود قبيحا، جدا هههههههههه.
أجل. يوضعون في قفص "قلّق" مليء بالقمل الأصفر السائر بين ثناياه الحادة الباردة؛ نفسه القفص الذي جيء به محمولا على شاحنة كبيرة بعشرات العجلات وسط المدينة في الساعة الرابعة فجرا وسط حراسات امنية مشددة مثل اختراع نووي؛ وبدا محمولا على تلك الشاحنات من فصيلة دودة القز التي تستعمل لحمل الزوارق الحربية المنقولة، أو الكرفانات الكبيرة، تعرفونها، أو المولدات الكهربائية الكبيرة التي تشبه حيوانات خرافية؛ كانت تشبه في سيرها البطيء دودة قز حديد عملاقة لحظة جيء بذلك القفص الفارغ وهي تصوت بذلك الطووووط الفخم: يقود كل ذلك (الهول) سائق واحد يظهر رأسه من خلل الزجاج على شكل سحلية منقرضة.
طوووط
طووووووط
طووووووووووط !
قفص حديد كبير، شهير، يوضعون فيه الواحد تلو الآخر، بلا استثناء، ويقذفون بعنف في داخله، ثم يطاف بهم في جميع المدن والقرى والقصبات من أجل الرؤية فقط: عراة ربي كما خلقتني. قد يجد الواحد منا بعض الحرج في البداية: فأنت عار امام الناس، لكن ذلك الأمر يصبح عاديا بعد المرور في أول شارع: أنت تتحرك وتتأمل وتجد كلّ شيء عاديا. فقد أعدوا للشاحنة الكبيرة الطرق ووسعوا من الجسور لأجل الرؤية والمواصلة وكانت تلك مهمة وزير الأشغال.
جميعهم.
حاسرو الرؤوس.
متعبون حدّ الموت
لا خجل قبل الموت بقليل
ليراهم الشعب الفقير كلّه في قفص حديد واحد.
(قلّق كبير)
كما يحدث في أفلام الرومان القديمة سكوب و بالألوان.
أليس من حقّ المعذّبين رؤية معذّبيهم، ولو مرة واحدة؟ كانوا قد رأوا عذاباتنا ملايين المرات على أية حال. لنكتب التاريخ، هكذا، إذا. لكن ذلك الحلم بقي مجرد حلم عابر في رأس السيد اللواء مدير الأمن. ربما ثمة من يدّعي الآن أن حلمي معادٍ لحقوق الإنسان.. حسنا.. إنه مجرد حلم, ورغبة قديمة؛ ألا يحقّ للمعذبين أن يحلموا ولو مرة واحدة بنهاية خاصة لمعذبيهم..؟ و ألا يستحقون منا المزيد؟ لو كنتم تدركون الضرر الذي أحدثوه باجتماعاتهم ونشراتهم ولغوهم ضد الحكومة..؟ وقد يكون حلما لا معنى له؛ تماما مثل (الحياة) التي عشناها بالقرب منهم عند قفص الحديد: نراقبهم يوميا وهم يذوون، وكانوا في ذوبانهم الساعاتي متعة لأرواحنا الفارغة: اجل روحي مثل فناء لا شيء فيه. لقد حولونا بأعمالهم إلى كائنات أخر أعترف بذلك أمامكم.
سألني أستاذي في التاريخ العباسي عن نوع الأطروحة التي سأكتبها للتخرّج، وكنت لما أرى القفص الحديد بعد، ولم أتشرف بالدخول إليه، فقلت:
- سأكتب عن تاريخ الأقفاص في الإسلام..
- أية أقفاص تعني؟!
- الأقفاص الحديد التي استخدمها السجّانون العباسيون أيام زمان.. أليست فكرة غير مطروقة يا أستاذي؟
- هل أنت جاد؟!
- جدا.
- يا لك من أبله!
- لماذا يا أستاذ؟
- لم تكن آنذاك أية أقفاص حديد.. بدأ استعمال الحديد على نطاق واسع في العصر الحديث، أيها المتذاكي!
- وأين كانوا يسجنون الناس المعارضين وقتذاك؟
- في جب.. أفهم! في جب، ولا تستخدم هذه الكلمة" القفص" أمامي مرة أخرى!
- إذن سأكتب في تاريخ الآبار الناضبة..
- لا تورطنا!!
- هل تستطيع- أستاذي العزيز- أن تذكر لي أول من اخترع السجن في الإسلام؟
- لا تورررطنا!!!
القفص الحديد, في الأصل, يا سادة يا كرام, مكان للتعذيب الجسدي والنفسي الطويلين الأمد للمودعين من المعارضين او الذين يشتبه بأنهم معارضون من اجل إحداث ما يعرف بالعجز المكتسب. لم يفكّر ثمة أحد ما من المودعين كتابة تاريخه غيري.. قضى أغلب من كانوا فيه.
وبقيت مولعا بالأقفاص بكلّ أنواعها حتى قبل ان ادخلها: أقفاص الخشب. أقفاص الجريد. أقفاص زجاجية. أقفاص بلاستيكية حديثة. أقفاص مكهربة وحديثة مصنوعة في ألمانيا الشرقية سابقا. ليس لأن تخصصي أصبح في تاريخ الأقفاص، بل لأني طالما بحثت عن الغرائب أيضا. وكنت على أية حال أعدّ نفسي أن أكون قاصا. وكان والدي يبعث بقصصي إلى قصاصين من أصدقائه.. كتبت قصة عنوانها "شريد رغم القفص" رفضها محرر القصة في مجلة حكومية. وحينما سئل عن السبب، أجاب: أنت ورطة من البداية! أليس غريبا أن يوضع المودعون عراة في برد قارص في قفص حديد طوال مدة مكوثهم في الاعتقال؟ فتأكل رؤوسهم شمس تموز في الصيف؟ ويذوبون كما الملح تحت المطر؛ تحت السماء - آه، السماء العزيزة, تلك؛ يا للسماء الرحيمة! طوبى للساكنين في الملكوت.. كان المودعون يرمقونها بنظرة ملؤها الغرابة. ولن يكتشف ذلك إلا من وضع في قفص أكثر من سنة.. عاش في القفص الحديد مودعون أعواما قد تصل إلى أربع سنوات أحيانا. بعضهم جنّ تماما. وبعضهم مات بسرعة. بعد أيام فقط. آخرون بقوا مشدوهين. من الصعب تشخيص حالتهم. يمكن في الحقيقة توجيه السؤال إلى ما يعرف ب "قضاة الأمن" : أولئك وحدهم من شاهدوا اكبر مقدار من المودعين في قفص الحديد.
ذات مرة جيء بأحدهم وقد أثخن بالجراح فتمزقت دشداشته البيضاء وكادت أن تكون بلون احمر بعد أن ملأتها بقع الدماء من كلّ طرف. لم يستطع الحديث مع أي من المودعين سوى انه جيء به من المحجر الانفرادي.. وفي الصباح جاء مدير الأمن بنفسه- لا يظهر في المكان إلا نادرا - وكان من حملة الحزام الأسود للكاراتيه. دخل القفص - نادرا ما يدخل القفص منذ وضعه هنا وعدّ ذلك مكرمة!- فرفس الرجل بقوة، مرات عديدة، ثمّ أمره أن ينهض بعد أن ابتعد عنه المودعون وجلين، صاح به: "أخ القحبة ما تعترف؟!" وضربه ضربة واحدة "فنية العقرب" على الصدر فانتهت حياته فورا. هاللللو! رائع ضربة موفقة لنهاية ممتازة. ما أسعده الآن! وبقيت جثته عدة أيام وسط المودعين، حتى فاحت رائحتها في الموقف كله. يقال إن مدير الأمن نسي القتيل، وذهب في إجازته الدورية. فلم يجرؤ احد على رفع الجثة حتى قدومه طبعا.
في كلّ لحظة، يقبع المودعون في القفص: كانوا يكتشفون فداحة العالم: لحاهم طويلة، وعيونهم زائغة، ولا ينتظرون شيئا غير الغياب عن هذا المكان بأية وسيلة.. لكنهم كانوا يصلون على الرغم من القذارة المحيطة بهم. ولذلك قررت أن اكتب تاريخهم لكم كي لا أكون شاهدا فقد ذاكرته بسبب ما رأى.. فلا يصلح القصاصون المودعون، هنا، أن يكونوا مؤرخين.. بل هم مشاهدون قدامى. التاريخ: سقوط في هاوية. أي تاريخ. لكنها المسؤولية تجاه القادم أيضا.. من الصعب معرفة ماذا تعني كلمة "مسؤولية" هنا. أنا كاتب سيء وفاشل على أية حال.
وعلى طريقة العلامة الطبري، حفظه الله، سأضع لكتابي عنوان (الفضح المبين في تاريخ الأقفاص والمودعين) لكي لا أنسى تراث الأجداد العتاة كلّهم, وطريقة كتابتهم للعناوين الرنانة. ثمّ سأنقل لكم كلّ الروايات غثها وسمينها, صغيرها وكبيرها، وما عليكم إلا الاختيار، والحكم على الصحيح منها. انتم وحدكم القادرون – أيها القادمون!- على الحيلولة دون مجيء أقفاص أخر.. لكني أشكّ في مقدرتكم على ذلك، ولا اخفي تشاؤمي .. هل كان الطبري متشائما وهو يسرد علينا تلك الحوادث اللعينة؟ ويطلب منا أن نختار ما نشاء منها، فهو ناقل للأخبار فحسب كما هو منهجه؟ هل أنا مثل الطبري؟ كلا.. الطبري كان واهما كبيرا. وأنا أشد وهما منه أيضا. ليس ثمة شيء في الحقيقة. وما دخل الطبري المسكين لآتي به أمثولة. أووووووه كم أنا غبي ولا أحسن شيئا من الكلام. اعذروني لأني قفصي نجا بأعجوبة. ولدينا - بناء على ذلك- أكثر من طبري مسكين هنا.. ولنحافظ على الحقيقة دائما كما أراد طبرينا العظيم. وهذا يثبت ارتباطي بالماضي لنا. بخ بخ! الماضي المشرق البهي: مجاميع من الصبيات البربريات والفارسيات والروميات يؤتى بهن أمام سوق المدينة مربوطات بحبل واحد.. لم يخترع السيد الماضي أحدا أبدا. هم الذين اخترعوه وهو موجود فينا دائما. ولذلك سأدون لكم ماضي الأقفاص كلّه. وسأترك الماضي الأقرب لكم. لا وقت لدي. ولن أستثني من "الجَلد الفكري" أحداً حتى نفسي.. كم أصبحت ثقيل الدم!
كان القفص أفضل من فلسفة "ياسبرز" في معرفة العالم. وكان سارتر سيقعى مغشيا عليه لو عاش يوما واحدا في "القلق" الحديد. يا للشرق الكبير الوسخ حتى النهاية. جيء بفكرة القفص الحديد أولا من بغداد. وبغداد جاءت بها من ألمانيا الشرقية. وألمانيا الشرقية من الرايخ الثاني. والرايخ الثاني من الرايخ الأول. ثم من الإمبراطورية الرومانية المقدّسة. أليس البحث التاريخي ممتعا وعلميا؟ - طلعنا من الموضوع موووو؟- وقد اختلف المؤرخون الغربيون والشرقيون في نسب اختراع الأقفاص لأول مرة، فالغربيون يقولون نحن.. والشرقيون أظهروا الوثائق المتعلّقة "ببراءات الاختراع" من الشرق حيث صدر كلّ الشر إلى العالم.. ومن الغرب جرى تعليبه.. الشرّ: عبارة عن مدونات قديمة ومخططات عتيقة وأسانيد من الأحاديث والأشعار والحكايات: أقفاص لنصوص من نوع آخر. أصبح دمي ثقيلا فعلا. لا تذهبوا بعيدا فاصل سيء وسنعود إليكم.
لكن بقيت الصورة المنقولة عن تحميل القفص الحديد على شاحنة كبيرة زرقاء تحمل أرقاما غير واضحة وصعبة القراءة والتحقق منها، والسير به من العاصمة إلى أقصى الجنوب ليلا: هي أكثر الوثائق الماثلة. وهي محض تخمين أيضا. فلم يشاهد ذلك ثمة احد. المودعون هم من أشاع ذلك بينهم. لم يشاهد ذلك الحادث أيا من المواطنين العادين القابلين بالنظام، الخانعين، الفائضين عن الحاجة؛ المسالمين من أجل بقاء النفس حتى آخر نَفَس. السفال!. النائمون مع زوجاتهم والتلفزيون يلهج بالأغنيات الوطنية الحربية: هه يا سعد يا جدنا.. لا والله والعباس نوكع زلم فوك الزلم هاي الكاع ما تنجاس.. العزيز أنت. أنت!!.. وكلّ الأناشيد تعزف بالقرب من القفص.. والناس خارج القفص يمارسون الجنس على وقع الأناشيد الحماسية. مواطنون صالحون دائما. والسياسة بالنسبة لهم: الابتعاد عن الخطر. دجاج معمل. تروتسكي ليس عربيا – ما الذي جاء بتروتسكي هنا؟ يمكننا استعمال حمدان قرمط أيضا- ولن تجد نظريته ثمة مجال لها بيننا.. لأن القفص قفصنا، ونحن من اخترعناه، وما يحكى عن استيراده هو محض أكاذيب سطرها خيال المودعين وحدهم. وهذا القذر واحد منهم: انظروا إليه كم هو شاحب وحينما أسأله عن مهنته؟ لا يقول انا معلم بل كاتب تفوووو عليك وعلى كلّ واحد مثلك!
أما الآخرون إذا سمع أحدهم بالقفص الحديد فإنه ينهض كالملدوغ من على زوجته، حتى وإن كانت في قمة حالة الاورجازم.. ثم يرتدي كلّ ملابسه. ويقف في حالة استعداد.. قد يرتجف مثل دجاجة معمل. طبعا. يستسلم تماما وهو يوضع في كفة الميزان قبل الذبح. لا دجاج "عرب" صياح ومشاكس بعد اليوم. ومنذ ان اخترعوا دجاج المعمل الأبيض المسالم والأحمر السمين والرجال يتكاثرون. أقفاص الدجاج ملأى بهم.
لا أحد يريد الذهاب إلى القفص الحديد إلا من به مسّ؛ إلا أولئك المخبولين رسماً. الانتحاريون فقط. إنهم أساؤا إلى ذويهم. رجال قلق الحديد. كانوا يسبّون على المنابر البيتية يوميا. ذهب شيخ عشيرتي وتبرأ مني أمام السيد المحافظ، وأمين سر الفرع، وأهدر دمي بأعلى صوته دون ان يأمره احد بذلك لأني دخلت القفص فقط.
أخبرت بذلك وانا في القفص.. من حراسه.. قالوا شامتين: لا احد يسأل عنك في الخارج... ودمك مهدور من شيخك.. قلت لا شيخ لي.. جاد عليّ الربع بسبب ذلك بستة عشر كيبلا.. قالوا من لا شيخ له لا رئيس له. وأما يقال عن القفص الحديد المحمول على تريلة كبيرة فهو محض دعايات روجها أناس لا شغل لهم. تريله كلمة ممنوعة الاستعمال بحكم قانون المحافظة على سلامة اللغة العربية: قل شاحنة ولا تقل تريلللللا! قل قفص احتجاز ولا تقل قلّق! حفاظا على سلامة لغتنا العتيدة. وموضوع القفص الحديد كتبته باللهجة العامية العراقية في البداية. ربما كان من الصعب تفصيح ذلك؛ بيد إن ثمة رغبة بعد أعوام، وتهديم مديرية امن البصرة.. وتحولها إلى سكن عائلات متضررة.. أن أصبحت العربية مطواعا للموضوع؛ لكن اللهجة العامية أكثر صدقا.. وأشد فوضى في الكلام.
لم تثبّت تلك الحالة الغريبة في حمل "القلّق الحديد" مطلقا في سجلات دوائر المدينة الرسمية. لم يرد ذكره في التخطيط العمراني. هو من خيال المودعين أنفسهم؛ اخترعها أحدهم وبثها كالنار في الهشيم.. أعلن غير مودع – وعلى مدى عشرات السنوات التي استخدم فيها القفص في الاعتقال- بأن ثلاثة من الخبراء الألمان جاءوا إلى المدينة، خلسة، وادعوا بأنهم من مهندسي المجاري، فخططوا شيئا ما على الأرض، في هذا المكان بالذات، الذي وضع فيه "القفص" وسط مديرية امن البصرة، وعلى هذه البقعة من الأرض التي كانت تابعة إلى دائرة ماء ومجاري المدينة بالضبط. الاستخبارات الألمانية الشرقية كانت وراء الفكرة كلّها. أجل. هذا ما يدعيه كلّ مودع يدخل القفص لأول مرة. يسرّ كلّ مودع الآخر على نحو دائم. وبما أن القفص لم يخلو يوما من مودعين منذ وضعه وحتى قصف التمثال في ساحة سعد من دبابة بريطانية، لذلك فإن تاريخ القفص بقي محفوظا ومتواترا كنقل شفاهي متواتر من مودع لآخر.. مثل هذا الأمر يصعب إثباته أيضا. ومن المستحيل التحقق عن كثير من أجهزة التعذيب في تلك البناية المسماة (الليث الأبيض) لكن القفص بقي قائما بعد السقوط المدوي.. وامكن مشاهدته من عشرات آلاف الناس. والثابت لدينا الآن: أن عملية صناعة القفص نفّذت من عمال لحام محلّيين مجانا. جيء بهم من "المنطقة الصناعية" في المدينة. وقاموا باللحام على وفق مخطط هندسي مصمم سلفا. اجل. كان معهم مهندس عراقي من أهل المدينة يعمل في البلدية.
الفكرة الأولى كانت: القفص لحماية ماكنة مجار كبيرة تساعد على دفع المياه الثقيلة. وقطع الحديد الطويلة والتشبيك والباب الكبير الضخم جيء به من بغداد. كان العمل في ترتيب أوضاع مدينة تعاني من طفح المياه الجوفية. اما فكرة استعمال الفقص فتعود إلى مفوض امن قديم عمل في "الشعبة الخامسة" منذ العهد الملكي.
ومن العبث البحث في تاريخ القفص الحديد، وأسرار بناءه، والأفكار الملحقة به؛ هذا ما كان يشغل كلّ المودعين فيه. أما المواطنون العاديون فإنهم لم يسمعوا بالقفص إلا في السنوات الأخيرة على الرغم من الصعود إلى بناية من ثلاثة طوابق كافية للتحقق من وجوده. لكن احدا لم يحاول. لقد نفذ عمل تركيب القفص على عجالة بعد اعتقالات أواخر السبعينات للمعارضين الدينيين والشيوعيين. ويذكّر القفص الحديد على العموم بتلك الأقفاص التي توضع للقرود في حديقة الحيوان بعد ان وضع وسط قاعات المودعين. ربما يكون اكبر قليلا إذ يمكنه مما كنت أتصوره بعد رؤيته آخر مرة يوم 13/4/ 2003 حينما زرناه مع أناس هائجين يظنون أن ثمة من لا يزال تحت الأرض كسجون سرّية في بنايات أمن البصرة؛ حتى أنهم جاءوا بشفل وحفروا في المكان كلّه ببوكلاين. كان "قلّقا" كبيرا حقا؛ يستوعب مائتي مودع في آن واحد حيث يتركون أياما عديدة فيه، ولا يفتح لهم إلا في حالة الصراخ بكلمة : تححححقييييق!.
الصعوبة الكبرى للعديد ممن دخل ذلك القفص هو الذهاب على دورة المياه، يصبح هذا الأمر عزيزا وبيد "مفوض القفص" أو أحيانا يتنازل عن ذلك الحقّ إلى "المراقب الأقدم" فيه فيتعطف الأخير على المودع ببولة في النهار وبولة في الليل. أما عندما يقوم المودع بالبول في القفص فإن تلك جريمة يعاقب عليها ببضعة "كيبلات" على الظهر.. كما انه يصبح محطّ "استهجان" من أقرانه المودعين معه الذين يقرفصون او يقفون في القفص طوال الوقت ككائنات هبطت من الفضاء توا. في البداية تكون التحذيرات من الاتكاء على الحديد، لأن ثمة قمل اصفر يسري عليه ويصعب على العين اكتشافه. لون القفص بني غامق. وحينما تنبّهت دائرة الأمن إلى تآكله عملت على صبغه بطلاء أحمر قان مضادّ للصدأ. هكذا شاهده سكان المدينة الذين لم تسنح لهم فرصة زيارة مديرية الأمن كمودعين آخر مرة.
وحول القفص انتشرت قاعات السجناء التي كانت مقسّمة حسب الدعاوى. فهناك قاعة (المنشآت) وهي تعنى بما عرف وقتذاك بالجرائم الاقتصادية، وكان يديرها سجين قزم. وثلاث قاعات متلاصقة لتجاوز الحدود. وكذلك قاعة الجرائم والسرقات حيث يديرها المراقب الأقدم وهو أسود كان قد أتهم بسرقة بنك محلّي عام 1991 ويعدّ وكيلا دائما لضباط التحقيق، كما انه من المقرّبين إليهم بما ينقله من معلومات عن المودعين الجدد والقدماء أيضا. ولذلك فقد أطلق عليه " أبو ذانات" فهو ينفرد عادة بكلّ مودع قبل ذهابه إلى التحقيق لأول مرة غالبا.
أما قاعات السياسيين الخطرين الذين ينقلون من القفص بعد أنتهاء التحقيق معهم فهي معزولة عن هذا الجناح، ولا يشاهد أحدا منهم. ثمّ اصبح القفص "لجماعات التجاوزات الحدودية" التي ازداددت بعد منتصف التسعينات. وهي ثلاث قاعات قذرة مليئة بالقمل الأصفر والدوباس(*) مكتظة بأولئك الذين حاولوا الهرب من العراق. لم يعد السياسيون يرون في القفص فقد اخترعوا لهم مكانا آخر يصعب التحقق منه. معظم ادوات التعذيب تختفي عن عين التاريخ كما هي الجرائم الجماعية.
كان الشاب الأسود "احمد المراقب" قد قابلني، وسألني عن دعوتي، فقلت له إنها دعوة "تجاوز حدود" جاءت من المخابرات مباشرة. قال:
- هل صحيح انهم يعطون المودعين دجاجا في "قلّق" المخابرات؟
- يعطون...خالتك!
- هل عذبت بالتابوت في (الحاكمية)؟
- هل تريد أن تعيدني إلى المخابرات بدعوى "تسريب معلومات"؟
- هنا الفلقة جاهزة دائما..
- وهل تعرف أنت تاريخ الفلقة في الاسلام ؟
- لا.. هل هي من اختراعاتنا أيضا؟!
- اسأل الطبري!
- يا طبري.. هل كان مودعا معكم في (الحاكمية) ؟
- اجل..
- ما دعوته؟
- كتابة تاريخ.
- تاريخ ماذا؟.. للرئيس مثلا ..أنت تمزح..؟ هنا ..
- لا والله.. هكذا هي دعوته.
- أسمه غريب.. طبر.. أبو طبر..؟ لم أسمع به من قبل.
- طبري طبري!
- أسم عجيب!
- هذا أفضل..
كان القفص باردا. ثمة عشرات المودعين. نادوا برقمي 2473 لأول مرة مع كلمة: تحقييييق!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) حشرة تسبب أمراضا جلدية لا ترى بالعين المجردة تنتشر في السجون عادة.








#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على ماذا يراهن المالكي في الانتخابات القادمة؟
- زخرف: ملحمة ظهور محمود البريكان مؤخرا
- الأدب السرياني العراقي دليل مضاف على وحدة الثقافة العراقية ا ...
- تعليم الببغاء صوت إطلاق الرصاص
- عراق ما بعد الأربعاء الدامي.. ( المشروع الوطني العراقي) امكا ...
- اثنا عشرية آدم
- العراقيون في الداخل/ يستغيثون لتدخل العالم: scandl الأربعاء ...
- (خرنقعيون): لن تنفعهم كريما الوطنية
- الإسلاميون العراقيون: (جبل التوبة) وماذا بعد؟
- لا يصلح العطار ما افسده الاميركان!
- رماد قديم / نصوص لم تنشر كتبت إبان الحرب العراقية الإيرانية
- غرف البالتوك والمنتديات العراقية
- مع الشيخ الدكتور احمد الكبيسي و الصمت على مدير المجاري
- ما تبقى من عازف الساكسفون قراءة عراقية في مذكرات بيل كلنتون
- شكل الدولة القادم في العراق
- البريطانيون: لا حللتم أهلا ولا وطأتم سهلا
- منظومة امنية اميركية جديدة لمنطقة الخليج العربي
- هل يعي (المالكيون) الدرس
- من اجل إصدار قانون للاحزاب في العراق
- المالكي والبرزاني وباب العراق المفتوح


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - رياض الأسدي - عجز مكتسب: قفص حديد امن البصرة