|
قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
رباح آل جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 2770 - 2009 / 9 / 15 - 14:05
المحور:
الادب والفن
مات قيس لفتة مراد موت البؤساء ، الأشقياء .. وهو أشقى من عرفت من الأدباء ، وأستطيع أن أقسم بأغلظ الأيمان ، إن الموت كان حلاً لجميع مشاكله .. وأن قولهم : ( إبتسم تبتسم لك الحياة ) كلام فارغ ليس له معنى ، فطوال حياته كان قيس مبتسماً للحياة ، ضاحكاً في وجهها ، ولم تبتسم له الحياة ، ولم تضحك في وجهه .. حتى في موته ، كانت الحياة عابسة !. ما زلت أتذكر الصديق العزيز جمال حافظ واعي ، يوم جاءني بصحبة الفنان المبدع الصديق فلاح حسن ( الخطاط ) ، وهو يقرأ لي مقالته ( المرثية ) في قيس لفتة مراد الذي ( أكلته المدينة وبلعته في أحشائها .. وكأنه دخل هذا العالم وخرج منه على رؤوس أصابعه ) .. قيس الذي ( عرفته أول مرّة ، مروّجاً للبياض ، وعرّاباً له ، فشعره أبيض ، وقلبه أبيض ، وجيوبه بيض أبداً ، وكنت أعتقد أنه من سلالة نادرة تنتمي في جذورها إلى ( الكمأ ) ، هذا النبات الذي يخرج من الأرض بمؤازرة قوى الطبيعة ) !. وكنت أجد نفسي أحياناً ، أقطع حزن الشوارع وأسى الأرصفة ، أتسلّل من بين ضوضاء المقاهي ، والسيارات العمومية ، والشوارع الخلفية ، وعيادات الأطباء ، والأسواق الشعبية ، المكتظّة بعربات الباعة المتجوّلين ، كي أصل ( كهف ) الشاعر قيس لفتة مراد ، الذي تورّمت قدماه من كثرة النوم على البلاط البارد ، في غرفة رطبة مستأجرة ، أشبه ما تكون بـ ( كهف ) ، أكلت جدرانه دودة الأرض في منطقة البتاوين ببغداد .. فكان قيس مثلما كان بطل دانتي ، يقاسي العذاب في جحيمه ، وكان قليلون منّا يلقون عليه السلام ، فربما تقع الحجارة فوق رؤوسهم !. وفي هذه الغرفة نفسها ، رحل قيس بعد صراع طويل ضد المرض ، لم يتفقد أحواله فيها أحد من الأصدقاء ، ولا من المؤسسات الحكومية الثقافية ، والأدبية ، والصحفية ، ولا تفقده أحد على سرير مرضه ، وهذه حال الناس ، وحال الدنيا ، وهو القائل : ( لحظة أيّها الردى.. كي أتمّ سطوري ) !. مات قيس لفتة مراد ، من دون أن يتمّ سطوره ، ومن دون أن تضيء الشموع حول سريره .. لقد قرأت مرة لجوركي عبارة على لسان أحد أبطاله ، يقول فيها : اذهب إلى الميناء ، واشتر لنفسك بنطلوناً جديداً ، إنك ببنطلون جديد ، ترتفع في أعين الناس ، فإذا سقط عنك البنطلون ، سقطت أنت الآخر !. هكذا إذن ، بالبنطلون الجديد ، تستطيع أن ترتفع في أعين الناس ، وبالشقق… وبالفلوس ، وبأشياء أخرى أغلب الأحيان ، تستطيع أن تصل إلى الشهرة ، والوجاهة ، والاحترام ، في دنيا عجيبة وواقع .. ولكن أغرب من الخيال !. وذات يوم قام خلاف على مسألة الفقر بين توفيق الحكيم ، وسلامة موسى ، وفكري أباظة ، واختلفت آراؤهم ، وتضاربت ، بين من يعدّ الفقر عقوبة ، وآخر يراه غلطة اجتماعية تصيب الناس من خلل في المجتمع ، وثالث يراه داء ، كسائر الأدواء ، يصاب به المريض الفقير . عاش قيس معيشة عسيرة بائسة ، فقيرا ، شقيا ، ولم تكن جنايته في الحياة إلاّ أن نفسه : ( بقيا أنفسٍ شقيت ... وكلّ ذنب ذويها أنهم ولدوا ) ، كما قال الجواهري الكبير .. وكنت أراه في حجرة مظلمة ، رطبة ، بائسة ، يسودها سكون كابوسي .. وكنت أراه دائم الاكتئاب ، دائم الحسرات ، في مكتب سعد الخطاط ، وكنت أراه مريضاً معلولاً ، يبتاع علاجه من صيدلية اللبلاب في شارع السعدون ، وكنت أراه يسعى بخطاه ، وهو يهمهم مطرقاً مع الفنان حسين نعمة ، وكنت أراه كثير الغم ، والهم ، والصفنات ، وهو يتخذ مكانه على التخت في مقهى شعبي في البتاوين ، ولا يضعون له على التخت حصيراً .. وحين كانت الأفواج من الناس تتدافع أمام المحلات للتبضّع ، كنت أراه قنوعاً مكتفياً بأقلّ الأشياء في مدن تأخذ من دمه ، ولا تعطيه أيّ شئ ، سوى لقمة العيش المغمسة بالعرق !. وكتب قيس أحلى القصائد من عيون الدواوين ، وكتب في الشعر الشعبي ما لم يستطيع شاعر أن يكتبه ، ومن شعره الشعبي : ( ولا مرهم بعد يرهم ولا كَعدات كَمرية ) ، وكتب عموده الصحفي ( الفانوس ) بإسلوب السهل الممتنع ، وقيس رسّام ، ومارس الرسم زمناً ، وله لوحات رائعة .. ومن أجل أن يأكل ، ويدفع إيجار غرفته ، ويعالج مرضه ، كان قيس يكتب قصائد ، ومقالات لمن لا يقرأون ، ولا يكتبون ، فينشرونها بأسمائهم في الصحف العراقية بلا حياء ، أولئك القراصنة الذين يأكلون بشهية مفتوحة لحم الأدباء الأحياء ، والأموات ، من دون تفريق ، ويسطون على كلّ ورقة مكتوبة من أوراقهم . وباع قيس ـ ذات يوم ـ قلمه الـ ( باندان ) في سوق هرج في الباب الشرقي ، لكي يشتري بثمنه رغيف الخبز ، وعاد إلى صومعته وحيداً منعزلاً ، يقول في قلمه : أبيعك مرغماً ولأنت أدرى بأنك لا تباع ولست تُشرى وكنت أسمعه يردد ـ على الدوام ـ قول الشاعر : ( مصائب الدهر كفّي ... إن لم تكفّي فعفّي ) .. وفي السنوات الأخيرة من حياته ، صبّت عليه مصائب الدهر ، وأُصيب قيس بمرض عضال ( قيل انه السل ، وقيل انه السرطان ) ، وظلّ يراجع مستشفى ابن النفيس في بغداد ، حتى حمله الموت إلى القبر ، وكان عدد المشيّعين قليلاً ، وانغلقت على جسده ذراعان ، في حين انفتح أفق التاريخ بأكمله ، ليقول في قيس : إن قصائده لم تستطع أن تأتيه بالرغيف ، وربما كان مديناً في كثير من شاعريته ، إلى مظاهر البؤس ، والحرمان ، أو ربّما كان بسبب معاناته الشديدة ، وعذابه ، وحرمانه ، ينتظر الموت بفارغ الصبر ، فهو الصديق المنقذ ، الذي ينقذه من حياة ، لم يكن أسوأ منها على الإطلاق !.
#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
-
لا هو موت .. لا هو انتحار
-
أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
-
مصطفى محمود .. المفترى عليه
-
عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
-
مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
-
( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
-
أبو جهل يتوحم على دمائنا
-
عندما تغضب الكلمات
-
علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية
-
عبد الوهاب البياتي .. الأول في روما
المزيد.....
-
في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
-
-يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا
...
-
“أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن
...
-
“أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على
...
-
افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
-
بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح
...
-
سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا
...
-
جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
-
“العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024
...
-
مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|