أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد زكرياء - السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة:















المزيد.....

السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة:


فؤاد زكرياء

الحوار المتمدن-العدد: 2766 - 2009 / 9 / 11 - 13:09
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



1– بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثبات وجمود في الأفكار والعادات والقيم، أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى. فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أي نظام راسخ لا يتغير، سواء في الطبيعة وفي المجتمع، بل كان يعتقد اعتقادا جازما بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها.

2– كان ذلك عصرا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالم المحيط به من جديد. فبعد أن كان الاهوتيون يوهمونه بأن العالم الآخر هو وحده الذي ينبغي أن تتعلق به آمال الإنسان وتتجه نحوه جهوده، أصبح يتجه بكل قواه نحو استطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال. كما تمثل في عكوف العلماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقعية وتجريدية دقيقة، وحرصهم على ملاحظة تفاصيلها ملاحظة تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالم المحيط بهم لأول مرة.

3– ولم يكن من الممكن أن يتم هذا التحول لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح متفائلا معتدا بنفسه وبقواه، مؤمنا بأهمية العمل، وبأن كل جهد يبذله لا بد أن يعود عليه بمزيد من النفع والرخاء. ولقد كانت تلك بالفعل سمة بارزة من سمات المرحلة الرأسمالية المبكرة، ميّزتها بوضوح عن المرحلة الإقطاعية التي كان يسودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصراف عن العالم وبعدم جدوى أي جهد يبذله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتية، التي أخذت عندئذ في الانتشار في أجزاء هامة من أوروبا بعد أن ظلت الكاثوليكية هي المذهب الرسمي للمسيحية طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام، دور هام في وضع أسس هذه النظرة الجديدة إلى العالم. بل إن بعض الكتّاب، مثل ماكس فيبر Max Weber وتاوني يرون Tawney أن للبروتستانتية تأثيرا مباشرا في ظهور الرأسمالية: ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتف بتأكيد أن دافع الربح مشروح، بل لقد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة. وكل ما ينهى عنه الله هو الترف المفرط والتبديد، أما الاستخدام الرشيد للثروة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمجتمع فأمر تدعو إليه العقيدة الجديدة بحماسة. كذلك كانت هذه العقيدة تُعلي من قدر العمل الدائب، المستمر، الشاق، سواء أكان عملا يدويا أم عقليا – و في ذلك كانت تختلف اختلافا واضحا عما تدعو إليه الفلسفة اليونانية، ممثلة في قطبيها الكبيرين أفلاطون وأرسطو، من احتقار للعمل اليدوي واعتقاد بأنه يحط من قدر من يشتغل به وينزع عنه إنسانيته، وهكذا كانت البروتستانتية تحمل بشدة على حياة التكاسل والاسترخاء، حتى بالنسبة إلى من تسمح لهم ثروتهم بمثل هذه الحياة. وقد بلغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حد أنها دعت إلى ممارسة العمل لذاته، بوصفه شيئا يأمر به الله، لا من أجل ما يجلبه من جزاء، وكان ذلك في رأي البعض مظهرا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتها إلى عمال يمكن استغلالهم اقتصاديا على أساس من العقيدة، وهو نوع من التبرير لم يعد ضروريا بعد أن اكتملت السيطرة للرأسمالية في مرحلة لاحقة من تاريخها.

4– على أن هذا العصر، في تفضيله للنزعات المتعلقة بالدنيا على الروح الزاهدة، لم يكن على الإطلاق عصرا لا دينيا، وكل ما في الأمر أنه كان مضادا لسلطة الكهنوت والكنيسة الرسمية بقدر ما كانت تضع قيودا على نشاط الإنسان في استغلال العالم المحيط به. وترتب على ذلك أنّ الدين أصبح ينظم العالم الداخلي الباطن للإنسان، أما العالم الخارجي فإنه يترك للإنسان حرية التصرف فيه، ولا يتدخل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملا ساعد على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدين تتدخل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتنظم كافة مظاهر سلوكه وفقا لمبدأ الزهد والانصراف عن شؤون الحياة.

5– على أننا نستطيع أن نقول إن أبرز السمات التي تميزت بها المرحلة الرأسمالية المبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تميزا قاطعا، كانت الاعتراف بالسيادة المطلقة للعقل، والتخلي عن النزعات اللاعقلية التي كانت تسود العصر السابق. ولا شك في أن عنصر التعامل النقدي، الذي أشرنا إلى أهميته من قبل، كان مرتبطا بهذا الإعلاء من شأن العقل: إذ أن التعامل النقدي يتسم، كما بينا، بأنه تجريدي، لا شأن له بالعوامل الشخصية، تلك بدورها سمة هامة من سمات التفكير العقلي الذي يترك المحسوسات جنبا ليتعامل مع المجردات، فضلا عن أنه لا يعمل حسابا للانفعالات والمشاعر الشخصية، وكلما تمكن من التخلي عن العوامل الذاتية كان أقدر على أداء وظيفته الحقة. وفضلا عن ذلك فإن التعامل النقدي، وما يرتبط به من حسابات مالية ومصرفية معقدة، يحتاج إلى تقدم في التفكير الرياضي العقلي، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تحرز الرياضيات في ذلك العصر تقدما كبيرا بالقياس إلى فترة الركود التي مرت بها منذ انقضاء العصر اليوناني القديم.

ولقد كان من الضروري للتاجر، ثم لصاحب المصنع فيما بعد، أن ينظر إلى كل الظواهر على أنها قابلة للتنبوء، وللحساب الدقيق، بحيث يرى العالم كله كما لو كان مصنعا آليا ضخما يمكن حساب كل ما يجري فيه من عمليات. وكانت تلك القدرة العقلية على حساب التفاصيل والتنبؤ – على أساس مدروس – بتطورات الأحدث جزءا لا يتجزأ من تكوين رجل الأعمال الناجح في ذلك العصر. بل لقد كانت الواقعية الصارمة صفة لا بد منها لمثل هذا الرجل، ولم تكن الروح المكيافيلية إلا تعبيرا صادقا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأول، وعن القيم العقلية السائدة فيه، كما أن قصة مثل "دون كيخوته" لم تكن بدورها إلا تأكيدا، لا يخلو من مرارة، لانقضاء عهد الفرسان النبلاء المؤمنين بقيم الشهامة والبطولة الفردية، وظهور عالم واقعي صارم يحسب كل شيء فيه بحساب العقل الموضوعي الدقيق.

ولم يكن من الممكن أن يصمد في المنافسة الحادة التي أصبحت تميز ميدان الأعمال الاقتصادية، إلا من توافرت له صفات الذكاء الفردي والمهارة والصرامة والقدرة على التوقع واستباق الحوادث. أما الصفات المكتسبة من الحسب والنسب والمزايا الوراثية فلم تعد تُجدي نفعا. وهكذا فإن وزن الأمور كلها بميزان العقل الدقيق، بغضّ النظر عن أي اعتبار شخصي، أصبح هو السمة التي ينبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يتحقق له النجاح.

بل إن الحروب ذاتها قد اصطبغت بهذه الصبغة العقلانية اللاشخصية: فقد كان حلول المدفع محل السيف تعبيرا رمزيا عن الانتقال من عصر شخصي إلى عصر عقلاني صارم، لأن القتال بالسيف قتال بين شخص وآخر، وبين إنسان وإنسان، على حين أن المدفع يصيب دون التحام مباشر بين أشخاص، ولا يميز في الإصابة بين إنسان وآخر، بل لا يعرف من الذي يصيبه. ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا وجود نوع من التوازن بين الانتقال من التعامل العيني بالسلع إلى التعامل النقدي المجرد، ومن إنتاج الثروة في مزرعة يملكها سيد إقطاعي إلى مصنع يعمل فيه عمال لا تربطهم بصاحب العمل أية صلة شخصية، وبين التحول الذي أشرنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدرع إلى المدافع والبارود.

6– ولقد كان العلم بدوره يقوم بدور حاسم في تأكيد هذه النظرة الموضوعية إلى الأمور، بحيث يمكن القول إن الكشوف العلمية الحديثة قد أرست الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه. في نفس العصر الذي نتحدث عنه، حدث تحول في العلم لا يمكن تجاهل سماته التي توازي سمات التحول الاقتصادي. فقد بدأت الرياضيات تقوم بدور هام، لا في المجال العلمي فحسب، بل في مجال الحياة اليومية أيضا. وإذا كنّا اليوم قد اعتدنا أن نعبر عن عدد لا حصر له من مظاهر حياتنا بالأرقام – كما في الإحصائيات التي تحدد مستوى التقدم الاقتصادي، وفي الحسابات التي تقوم بها في حياتنا الخاصة – فإن الأوروبيين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يبدون اهتماما بالأرقام، بل لم يكونوا يهتمون حتى بتحديد أعمارهم بدقة. ونستطيع أن نلمس الفارق بين العصرين، وبين العقليتين، بوضوح، إذا ما قارنّا بعض العادات التي لا تزال شائعة في الريف المصري بعادات أهل المدن. ففي الريف لا زلنا نجد بعضا من كبار السن يصعب عليهم تحديد يوم ميلادهم. كذلك لا يقوم الزمن بدور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تحدد المواعيد حسب "مغرب الشمس" و"في العشية" على حين أن ساكن المدينة يعمل حسابا للدقائق قبل الساعات، ولا يستغني عن الدقة الكاملة في جميع معاملاته.

وهكذا كان اكتساب عادات الدقة والانضباط من الصفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة، بل أن من المفكرين من يذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللحظة التي اخترعت فيها "الساعة": وذلك أولا لأن الساعة نموذج كامل للآلة الدقيقة التي تنظم حركاتها بنفسها، ومن ثم فهي النموذج الأول لحركة التصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيا – و الأهم – لأن الساعة أدت إلى تأكيد عادات الدقة والضبط والانتظام، وخلقت عالما ينظمه العقل، ويُحسب كل شيء فيه حسابا دقيقا، لا عالما يخضع لإيقاع الطبيعة الخارجية والطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.

ولقد كانت عادات الدقة هذه هي أول العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العلمية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، وإلى التواصل إلى أساليب جديدة في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهد بها. فبفضل هذه العادات استطاع علماء الفلك، مثلا، أن يقوموا بحسابات دقيقة أدت إلى إحداث انقلاب كامل في نظرة الإنسان إلى العالم، ومثل هذا يقال عن علم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.

ولو تأملنا مثلا واحدا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض كما توصل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر، لاستطعنا أن ندرك مدى التأثير المتبادل بين التحول في نمط التفكير العلمي والتحول في نمط الإنتاج الاقتصادي. ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، لا العكس، لم يكن يتحدى بذلك تراثا علميا يرجع إلى قرون كثيرة فحسب، بل كان يتحدى أيضا اعتقادا راسخا لدى الإنسان العادي، تؤيده حواسه وتجربته اليومية الملموسة: إذ لا يبدو أن هناك ما هو أكثر يقينا، بالنسبة إلى هذه التجربة، من أن الأرض ثابتة وأن الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدور حولها. ومن هنا لم تكن الثورة التي أحدثها كبرنيكوس ثورة في مجال علمي محدد فحسب، بل كانت أيضا ثورة في طريقة الإنسان الحديث في النظر إلى الأمور: أعني أنها كانت دعوة إلى عدم التقيد بالعوامل الشخصية والأحكام التي توحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلا للعقل الموضوعي الصارم على الآراء الذاتية، وإعلانا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العلمية، المبنية على الحساب الدقيق، محلها. وتلك كلها في واقع الأمر أمور تحققت، بطريقة تكاد تكون موازية تماما لهذه، في مجال الاقتصاد: إذ أن نمط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتصف، بالقياس إلى النمط الإقطاعي الزراعي، بنفس النوع من الموضوعية ومن تجاهل الاعتبارات الذاتية والشخصية، والاعتماد على التنبؤ والحساب الدقيق بصرف النظر عن كل رأي شخصي وشعور ذاتي.

على أن تقدم العلم لم يقتصر على الجانب النظري وحده، بل أن العلم أحرز تقدما كبيرا في الجانب التطبيقي أيضا. وكان التقدم التطبيقي دليلا على أن العلم أخذ يمارس وظيفته الاجتماعية على نحو أكمل. وقد تمثلت هذه النظرة إلى العلم بوصفه نشاطا يؤثر في المجتمع ويتأثر به – تمثلت بوضوح كامل في فكر الفيلسوف الإنجليزي "فرانسس بيكن". ففي رأيه أن العلم يجب أن يزيد من سعادة الحياة الإنسانية وألاّ يكون معرفة من أجل المعرفة فحسب. وكان يرى أن المخترعين والعلماء التطبيقيين هم الذين يحتلون قمة السلم الاجتماعي، لا الحكماء النظريون ورجال اللاهوت. والواقع أن بيكن قد استبق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أن المخترعات المرتكزة على العلم قادرة على تغيير حياة البشر، وعلى أن تضفي على العالم بأسره شكلا جديدا. وهكذا كانت لديه قدرة تنبؤية على الاستبصار بالعالم الذي سيأتي من بعده – عالم التقدم التكنولوجي المتلاحق.

وإذن، فعلى المستوى النظري كان تقدم العلوم الرياضية، وزيادة دقة التعبير الكمي عن قوانين الطبيعة، مرتبطا أوثق الارتباط بالعصر الجديد تقوم فيه الحسابات الرياضية بدور هام في معاملات السوق. وعلى المستوى التطبيقي انتفع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرا في صنع الآلات، فضلا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقات جديدة لخدمة الإنسان. وسرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأن السبيل إلى زيادة إنتاجهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتباع الأساليب العلمية، أي ما يعرف بأساليب الترشيد، فضلا عن إدخال الآلية على نحو متزايد. وبالاختصار فإن نفس الروح التي كانت تدفع الرأسمالي إلى مزيد من الاستثمار والنشاط الاقتصادي، كانت تدفع المكتشف إلى ارتياد آفاق جديدة، والعالم إلى كشف قوانين جديدة، والمخترع إلى ابتداع تطبيقات جديدة، إذ أن الجميع كانوا يسعون إلى زيادة قوة الإنسان وإحكام سيطرته على الطبيعة.

7– وأخيرا، فلا بد لنا أن نشير غلى سمة أخرى هامة من سمات هذا العصر، ترتبت على التحول الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نمو النزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدب والفن. وليس من الصعب أن نجد تعليلا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر: ذلك لأن الشخص الناجح في العصر الجديد لم يكن يدين بنجاحه لأسرته ولقبه الوراثي، ولم يعد الانتماء إلى جماعة معينة هو أساس التفوق، بل إن كل شيء أصبح يتوقف على الجهود الخاصة التي يبذلها كل فرد. وكان ذلك العصر حافلا بأمثلة الأشخاص العصاميين الذين تمكنوا بجهودهم الخاصة من أن يصلوا إلى مكان الصدارة في المجتمع، وخاصة في المجال الاقتصادي. ومن شأن هذا الاتجاه أن يزيد من شعور الفرد بقدراته الخاصة، ويجعله أقدر على تحدي السلطة، بكافة أنواعها، بحيث لا يعود معتمدا على عوامل "الانتماء" بقدر ما يعتمد على عامل الكفاح الفردي. وإلى هذه الظاهرة ترجع مختلف مظاهر التحرر من السلطة في ذلك العصر: أعني سلطة الفلاسفة القدماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوراثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المرتبطة به. وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرة من الاتجاهات الفكرية المستقلة التي تتسم بقدر كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتجاهات العصور الوسطى التي كانت متقاربة متجانسة إلى حد بعيد. كما انعكس في ميدان الأدب والفن على شكل أعمال تسعى إلى استكشاف العمق الباطن للفرد، والاهتمام بمشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفن يقتصر فيها على خدمة قضية دينية وسياسية معينة دون أدنى اهتمام بالعنصر الفردي. وهكذا فإن الفنان والأديب "الفرد"، الذي يعبر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلب إلينا أن نهتم به على أساس أنه إنسان متميز عن كل من عاداه – قد ظهر لأول مرة في ذلك العهد. وربما قال البعض إن ظهوره كان رد فعل على النزعة العقلانية اللاشخصية المتطرفة التي كان يتسم بها العصر الجديد، ولكن الأرجح أنه كان متمشيا مع مقتضيات عصر فتحت فيه أمام الفرد آفاق لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقة بنفسه وشعورا بكيانه، وأزيلت فيه الحواجز التي كانت تحول دون تحقيقه لأمانيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي.
***********************************
مراحل تشكل المجتمعات البشرية

كتبه: د. فؤاد زكرياء
المصدر : "آفاق فلسفية" الباب الأول ص9-71
العنوان الأصلي : "الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية"
الناشر : مكتبة مصر - دار مصر للطباعة
نسخ الكتروني: وجدي حمدي (أبريل-مايو 2005)







#فؤاد_زكرياء (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد زكرياء - السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة: