أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد السلام الموذن - تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية















المزيد.....

تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية


عبد السلام الموذن

الحوار المتمدن-العدد: 2766 - 2009 / 9 / 11 - 09:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1- تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية

من الوجهة التاريخية الأصلية، يمكن القول، بأن الانسان بدأ يفكر تفكيرا منطقيا، عندما بدأ يفكر تفكيرا فلسفيا. ولقد بدأ الانسان يفكر تفكيرا فلسفيا، حينما أخذ يبتعد ويتخلى عن التفكير الأسطوري القديم. فالفلسفة إذن، تعارض الشكل الخيالي للأسطورة، بالشكل المنطقي للعقل والمفهوم.

لكن العقل يستند في تفكيره، على مجموعة من المقولات والقواعد والصور الذهنية (des catégories logiques)، مثل: العام والخاص، الوحدة والتنوع، الصدفة والضرورة، التماثل والاختلاف، إلى غير ذلك.

فالتفكير المنطقي يبدأ إذن لدى الانسان، عندما تصبح تلك القواعد المنطقية تتحكم في حركة عقله، أي عندما يصبح قادرا على تمييز ما هو ثابت من خلال المتغير، والعام في إطار الخاص، والصدفة في الضرورة... إلخ.

غير أنه لكي تظهر وتترسخ في الذهن مقولات: الثابت، المتماثل، العام، الضروري، فهذا يفترض مسبقا حصول وترسخ نوع من النظام والاستقرار داخل المجتمع البشري. وهذا بالضبط ما تحقق في المجتمع الطبقي القديم، وذلك عبر: ثبات الأعمال الحرفية، وانتظام التبادل في السوق، وتأطير العلاقات الاجتماعية في مؤسسات سياسية، وتنظيم التعليم... إلخ.

إن المقولات المنطقية من نوع: المتماثل، والعام، والضروري، تنتمي إلى مقولة منطقية أشمل، هي الجوهر أو الماهية.

والمقولات الأخرى من نوع: المتغير، والخاص، والصدفة، تنتمي إلى مقولة منطقية أشمل، هي الظاهرة.

وحينما تصبح الفلسفة هي النقيض التاريخي للأسطورة، ويصبح الشكل المنطقي للعقل هو النقيض التاريخي للشكل الخرافي للأساطير القديمة، حينئذ تصبح الاشكالية التالية: استخراج ماهية الشيء من ظواهره، هي المهمة المركزية للمعرفة الفلسفية.

ومن أجل استخراج تلك الماهية (أو الجوهر)، وضبطها وعزلها، لجأت الفلسفة إلى تجريدها من الظواهر الحسية للشيء، أي فصل الماهية (التي يفترض أنها ثابتة)، عن كل ارتباطاتها العابرة وغير الضرورية والموجودة بالصدفة.

إن دفع ذلك التجريد إلى حده الأقصى (الذي تعتبره الفلسفة، الطريقة الوحيدة الممكنة لتخليص جوهر الأشياء من الارتباطات الحسية، المعيقة للامساك بذلك الجوهر ومن ثم اكتشافه)، سيؤدي إلى جعل نقطة الانطلاق للبحث الفلسفي هي: الوجود الخالص، أي الوجود العام بوصفه كائنا خالصا، متجردا من كل ما هو زائل وحسي.

وإذن فإن الأساس المنهجي الذي أقامت عليه الفلسفة تأملاتها، يتحدد في التساؤل التالي: ما هي الطبيعة النهائية لكل الكائن ؟ بمعنى أن جميع الكائنات لها جوهر واحد مشترك، وبالتالي يجب اكتشافه لادراك كنه وسر الوجود.

إن البحث في المطلق.. إن علم الوجود الخالص (الأنتولوجيا) هو إذن الموضوع المركزي لفلسفة الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة).

وهذه الاشكالية الميتافيزيقية، قد استغرقت ألفي سنة من النقاش الفلسفي، بدون أن يتمخض ذلك عن جواب يشفي الغليل. والسبب أن الاشكالية هي في أصلها إشكالية مغلوطة، ولذلك لا حل لها في الاطار الذي وضعت فيه، وبالطريقة التي طرحت بها.

إن الميتافيزيقا إذن، لم تستطع طرح العلاقة بين ماهية الشيء وظاهره، طرحا سليما.. لم تستطع حل التناقض بين الماهي القابل للادراك بواسطة العقل، وبين الظاهرة القابلة للاحساس بواسطة الحواس.

إن هذا الاشكال الفلسفي المستعصي عن الحل، قد دفع الميتافيزيقا إلى إقامة فصل تام وقاطع، بين جوهر الشي، وظاهره.. بين عالم الادراك العقلي، وعالم الاحساس الحواسي. والخلاصة التي انتهى إليها ذلك المنطق، هي أن جوهر الأشياء لا ينتمي إلى الأشياء ذاتها، أي إلى الظواهر الحسية نفسها، بل إلى عالم خارجها ومستقل عنها. وهذا العالم هو عالم الفكر أو الروح. وهكذا إذن نشأ الاتجاه المثالي داخل الفلسفة. فالفلسفة المثالية، بالتالي، لا تعني شيئا آخر، غير انتماء ماهية الأشياء وجوهرها إلى عالم الفكر والروح، لا إلى عالم تلك الأشياء الحسية نفسها.

لكن البنيان النظري الذي شيدته الفلسفة المثالية، لم يكن بذلك التماسك المنطقي الذي اعتقدته تلك الفلسفة. فالفلسفة المثالية كانت تخترقها تناقضات مدمرة يصعب احتواؤها. إن أبرز تلك التناقضات، التناقضان التاليان:

1) إذا كاذ الجوهر لا ينتمي إلى العالم الحسي، فكيف يعقل أن يكون إذن ذلك الجوهر في نفس الوقت جوهرا للعالم الحسي ؟

2) إذا كان الجوهر متميزا، وثابتا، وضروريا، فكيف يعقل أن يكون في نفس الوقت، هو حقيقة العالم الحسي، الذي كله حركة، وتغير، وعلاقات عرضية ؟

إن هذه التناقضات ستؤدي إلى بلورة اتجاه فلسفي نقيض للاتجاه المثالي. وهذا الاتجاه الجديد هو الاتجاه المادي (بصيغته الكلاسيكية).

وإذن فإذا كان الاتجاه المثالي، يؤكد عل أن الجوهر له وجود فعلي، وأن واقعه واقع فكري. فإن الاتجاه المادي، على العكس، ينكر أي وجود للجوهر. وبالنسبة إليه، فإن مفاهيم الجوهر والماهية، هي مجرد تجريدات ذهنية فارغة، لا أساس لها في الواقع. والأشياء الوحيدة التي يعترف بوجودها، هي الأشياء الحسية الملموسة والعينية.

إن الاتجاه المادي أراد إذن، أن يتجاوز تناقضات الاتجاه المثالي، عن طريق إلغاء مفهوم الجوهر من الفكر المنطقي الواقعي. فهل أفلح في ذلك ؟

لم يفلح. إنه هو نفسه اخترقته تناقضات مدمرة، كاذ أبرزها التناقض التالي:

فإذا كانت الأشياء الملموسة، هي وحدها تتمتع بصفة الوجود، وإذا كانت العموميات المجردة مجرد كلمات فارغة لا تعكس أي شيء في الواقع المادي، فكيف يمكن إذن فهم البعد الموضوعي للعقلنة وللمفهوم المنطقي ؟ كيف يمكن للفكر أن يكون قادرا على تجاوز الأفق الضيق للمعرفة الحسية المباشرة ؟ (فبعض الفلاسفة مثلا، استطاعوا استنتاج فرضيات غير مرئية عن طريق خاصيات مرئية للأشياء. وهناك العديد من الكواكب الفلكية التي تم اكتشافها فرضيا، بواسطة ذلك الاستنباط المنطقي، قبل أن يتأكد وجودها الواقعي الملموس عن طريق التليسكوب).

إن الفلسفة المادية بدورها، قد عجزت إذن عن تجاوز تناقضاتها البنيوية.

وهكذا ظل الصراع قائما بين الاتجاه المثالي، الذي كان يتزعمه سقراط وأفلاطون، وبين الاتجاه المادي الذي كان يتزعمه ديمقريط وأبيقور، إلى أن جاء أرسطو. ما هو جوهر فلسفة أرسطو ؟

إن النهج الذي اتبعه أرسطو في بناء منظومته الفلسفية الخاصة، هو التالي: لقد اعتبر أن كلا من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية، تتكونان في نفس الوقت من جوانب خاطئة وجوانب صائبة. من هنا فقد حاول إقصاء الجوانب الخاطئة، والاحتفاظ بالجوانب الصائبة، وإقامة تركيب اندماجي بين ما هو صائب في الفلسفتين معا. إن محاولته إذن محاولة توفيقية تصالحية.

هكذا انتقد الفلسفة المثالية، لأنها زعمت بأن الجوهر لا ينتمي إلى العالم المحسوس، وانتقد الفلسفة المادية، لأنها أنكرت أصلا وجود الجوهر. وعلى هذه الطريق الوسطى بين النقيضين، قام ببلورة مفاهيمه الفلسفية الخاصة.

إن فلسفة أرسطو تقوم برمتها على الأساس التالي:

علة العلاقة بين الصورة والمادة. فبالنسبة لأرسطو، إن الجوهر يمثل بالنسبة للكائن، ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة. فكما أنه لا يمكن تصور وجود صورة بدون مادة، فكذلك لا يمكن تصور وجود كائن ملموس... واقع محسوس بدون جوهر. إن الصورة تعطي للمادة شكلها المتميز، والجوهر يعطي للكائن الملموس هويته الخاصة.

لكن أرسطو حين يؤكد على الوحدة بين الصورة والمادة، فإنه مع ذلك لا يطابق بينهما: فالصورة لها وجود متميز حتى وإن توحدت بالمادة.. حتى ولو منحتها شكلا. والسبب في ذلك أنه من جهة، حين يتم التعميم بين عدة أشياء، فإن جميع المميزات الخاصة لتلك الأشياء، يتم إهمالها لكي تبقى الصورة المجردة عن الكل وفوق الكل. ومن جهة ثانية، فالأشياء المادية تزول وتفنى، بينما الصور التي كانت ملتصقة بها، تبقى بعد ذلك الفناء.

إن هذه المنظومة الفلسفية التي بناها أرسطو، والتي حاول من خلالها أن يحل التناقضات التي كانت تعصف بالفلسفتين المثالية والمادية معا، قد استطاعت فعلا آن تهيمن وتصمد عدة قرون، إلى أن جاء ابن رشد.

إن عبقرية ابن رشد تكمن في اكتشافه للخطأ النظري العميق، الذي قامت عليه منظومة أرسطو. وهذا الخطأ يتجلى في التمييز الجوهري الذي وضعه أرسطو بين المادة والصورة. إذ في رأي أرسطو، فإن الأشياء المادية معرضة للزوال والفناء، بينما الصورة باقية وغيرفانية.

والاسهام الأساسي الذي أتى به ابن رشد، لتطوير الفلسفة البشرية، هو أولا، تأكيده على أن الطرح الأرسطي للعلاقة بين المادة والصورة، بالشكل الذي طرحها به، (أي تمييزهما عن بعضهما البعض تمييزا جوهريا)، يؤدي حتما إلى انفجار المنظومة الأرسطية من الداخل، وانشطارها إلى شطرين متناقضين. بعبارة أخرى، أن ابن رشد اكتشف بأن فلسفة أرسطو قابلة بنيويا لتأويلين متناقضين: تأويل مثالي وتأويل مادي.

أما الاسهام الثاني، وهوالحاسم، فهوأن ابن رشد قدعمل على تطوير مفاهيمه الفلسفية انطلاقا من التأويل المادي لفلسفة أرسطو.

وهكذا لم تمر على وفاة ابن رشد في مدينة مراكش المغربية سوى سبعا وعشرين سنة، حتى ولد في قصر "روكازيكا" بإيطاليا، طوماس الأكويني الذي سيتزعم حركة التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، داخل الفلاسفة السكولاستيكين. إن أفكار أرسطو التي تم تأويلها تأويلا مثاليا، قد تم دمجها في اللاهوت المسيحي. وفلسفة طوماس الأكويني، التي تأسست على التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، قد أصبحت هي الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية في عصر الاقطاع الأوربي.

ولأن فلسفة ابن رشد كانت ذات توجه مادي، وكانت بالتالي تهدد الايديولوجيا المحافظة، السائدة داخل الكنيسة الكاثوليكية، فلذلك وجدت نفسها تتعرض إلى حملة واسعة من التشهير والتضييق في البلدان الأوربية، وخاصة إيطاليا، من طرف فلسفة طوماس الأكويني المثالية. بل إن هذه الأخيرة، لم تظهر في الأصل إلا كرد فعل على فلسفة ابن رشد. فالتأويل المثالي الذي أعطاه طوماس الأكويني لفلسفة أرسطو، كان الغرض منه محاربة التأويل المادي الذي أعطاه إياها ابن رشد.

وهكذا فالصراع الفكري والفلسفي العنيف، الذي شهدته أوربا في المرحلة ما قبل عصر النهضة، كان في أساسه بين فلسفة طوماس الأكويني المحافطة، وفلسفة ابن رشد النقدية.

ولما بزغ نمط الانتاج الرأسمالي في أوربا، ممهدا بذلك إلى ظهورعصر النهضة، الذي أحست فيه البورجوازية الناشئة بالحاجة إلى مفكريها الطبقيين، الذين يتولون مهمة التبشير والدفاع عن النظام الجديد، الذي وجد نفسه في تعارض مع النظام الاقطاعي الاسائد... فإن الأسلحة النظرية والفلسفية النقدية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، والتي خاض بها مفكروعصر النهضة البورجوازيون، حربهم الطبقية ضد الاقطاع والكنيسة، هي أسلحة فكر ابن رشد. إن جميع مفكري عصر النهضة الطليعيين، سينحازون إلى التأويل الذي أعطاه ابن رشد لفلسفة أرسطو، وسيتبنون منطلقاته وأفكاره في الصراع ضد فلسفة طوماس الأكويني، المعبر الايديولوجي عن مصالح الكنيسة والاقطاع. إن فلسفة ابن رشد إذن، قد مثلت قاعدة الانطلاق للعقلانية الأوربية الحديثة.

لكن ما هو التأويل المثالي الذي أعطاه طوماس الأكوني لفلسفة أرسطو، وما هو التأويل المادي الذي أعطاه ابن رشد لنفس الفلسفة ؟

لنبدأ بالنقطة الأولى. لقد قلنا سابقا بأن أرسطو يضع تمييزا جوهريا بين المادة والصورة. فبالنسبة إليه، الأشياء المادية، زائلة وفانية ومعرضة للفساد والانقراض. بينما الصورة التي تلبسها تلك الأشياء، دائمة وغير فانة.

من هذه الفجوة إذن التي تركها أرسطو في منظومته الفلسفية، تسرب طوماس الأكويني لتأسيس تأويله المثالي للفلسفة الأرسطية. إن منطق تفكير طوماس الأكويني كان على الشكل التالي:

فبما أن هناك انفصالا بين المادة والصورة، بعد فناء الأولى. وبما أن الصورة تبقى مستقلة عن المادة، التي كانت مرتبطة بها، والتي منها تستمد شكلها الملموس. وإذن فإن الصورة التي لها القدرة على الاستمرار في الوجود، حتى بعد فناء مضمونها المادي، هذه الصورة إذن الغير فانية، لا يمكن أن تلتصق وتتحد مع الأجسام المادية الفانية، إلا بواسطة خالق هو نفسه غير فان. في رأي طوماس الأكويني إذن، إن الصورة لها شكل رباني، وأن الله هو الذي يتوسط بين الصورة الغير فانية والمادة الفانية، لتحقيق تركيب بينهما.

والخلاصة: بما أن أرسطو يضع تماثلا بين الجوهر والصورة (ما يمثله الجوهر بالنسبة للعالم الحسي، هو نفس ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة)، وبما أن الصورة ربانية وغير فانية، فبالتالي ينتهي طوماس الأكويني إلى نتيجة منطقية مفادها، أن جوهر الأشياء المادية هو حقيقة غير مادية. وبهذا يعود بفلسفة أرسطو، إلى الاتجاه المثالي الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته.

أما ابن رشد الذي قد توقع ذلك التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، قبل ولادة طوماس الأكويني نفسه، فإنه سلك نهجا مغايرا تماما. إن منطقه يقوم على الأساس التالي: كيف يعقل أن المادة التي تشكل مع الصورة وحدة عضوية، تفنى، بينما الصورة تبقى ! فإذا كانت المادة فانية، فإن الصورة هي الأخرى فانية بالضرورة. كيف يعقل أن الكائنات المادية تستمد صورها من واقع غير مادي ! إن اللجو إلى الله في هذه الأشياء لا يفسر شيئا. ولذلك انتهى ابن رشد إلى هذه الخلاصة الحاسمة: إن سر الصورة يجب البحث عنه في المادة نفسها.

وبهذا الطرح، يكون ابن رشد قد عاد بفلسفة أرسطو إلى الاتجاه المادي، الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته. لكن ابن رشد لم يعد الاعتبار إلى الاتجاهات المادية الكلاسيكية وحسب، بل طعمها بتأكيده الصارم الموضوعي والمادي لمفهوم الجوهر (وهو ما لم يفعله لا أرسطو، بسبب نظرية التمييز بين الصورة والمادة، ولا ديمقريط وأبيقور وكل الماديين الآخرين، الذين كانوا ينكرون أصلا وجود الجوهر).

إن بعض المفكرين البورجوازيين في أوربا، يقللون من شأن إسهامات ابن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية. فبالنسبة إليهم، إن كل إسهاماته تنحصر في شرحه لفلسفة أرسطو. وكلمة شرح تعني بالطبع، إزالة الغموض عن الأفكار والمفاهيم الفلسفية الأرسطية المعقدة. وبالرغم أن الشرح نفسه ليس بالشيء الهين، خصوصا بالنسبة لفكر فيلسوف عملاق من طراز أرسطو، وفي وقت كانت فيه أوربا يعمها الجهل والأمية، إلا أن إسهامات ابن رشد مع ذلك، قد تجاوزت كثيرا دور الشرح. إن فلسفة ابن رشد قد مثلت تجاوزا تاريخيا لفلسفة أرسطو. وبدون الدخول في التفاصيل، يكفي الاشارة إلى الاطار العام. ما هو الجوهر الذي قامت عليه فلسفة أرسطو ؟ هو الاعتقاد بامكانية التوفيق والتوحيد بين الاتجاهين المثالي والمادي في الفلسفة.

وما هو رد ابن رشد على ذلك ؟ هو البرهنة على استحالة ذلك. ونقطة انطلاق تلك البرهنة كانت، هي نقد ابن رشد للأطروحة المركزية التي تأسست عليها منظمومة أرسطو، وهي تمييزه الكيفي بين الصورة والمادة. إن هذه الشقة في العلاقة بين الصورة والمادة، التي حملتها معها الفلسفة الأرسطية منذ نشأتها، كانت بمثابة الجرثومة التي أودت بحياة منظومة أرسطو. ولقد جاء انهيار المنظومة الأرسطية، أولا على يد ابن رشد بنسفه للطابع التوفيقي لتلك المنظومة، وشقه الطريق المادي في الفكر الفلسفي. وثانيا، على يد طوماس الأكويني، الذي أعطى الضربة القاضية لتوفيقية أرسطو، من خلال شقه للطريق المثالي.

إن تجربة أرسطو، وعبرها تجربتي ابن رشد وطوماس الأكويني، تؤكد على أن التناقضات بين المادية والمثالية، هو تناقض تناحري، ولذلك يستحيل حله في إطار وحدة توفيقية. إن التناقضات التي تسمح بذلك النوع من الحلول، هي وحدها التناقضات الغير تناحرية.

إن السطور السابقة تكفي لتوضيح مدى الاسهام الهام لابن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية. والسادة البورجوازيين الأوربيون، وكل من حذا حذوهم من عنصريين ومتعصبين، لم يكفهم مسخ فكر ابن رشد وحده، بل لقد مسخوا أيضا حتى اسمه نفسه. هكذا قد تحول بقدرة قادر، اسم "ابن رشد" العربي، إلى اسم « أفيرويس » اللاتيني !

ولحسن الحظ، أن أوربا الرأسمالية، شأنها شأن أي واقع متناقض آخر، لم تنجب البورجوازيين فقط، بل ونقيضهم الشيوعيين كذلك. بالأمس تدخل ماركس وإنجلز للدفاع عن الحقيقة التاريخية وإنصاف علماء العرب، واليوم تصدى الفيلسوف الشيوعي الفرنسي الكبير « لوسيان لوسيف »، في كتابه العملاق « مدخل لدراسة الفلسفة الماركسية »، للمناوئين لابن رشد، مبرزا في نفس الوقت تأثيره الحاسم، ليس على مفكري عصر النهضة وحدهم، بل وعلى العصر اللاحق أيضا.

--------------------------------------------------------------------------------

كتبه: عبد السلام الموذن
المصدر : "الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية - عيون المقالات - الدار البيضاء (الطبعة الأولى - 1990) ص 93-143
نسخ الكتروني: مجموعة من المتطوعين (مايو 2005)





#عبد_السلام_الموذن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطبقة العاملة
- ثورة ماركس في نظرية المعرفة:الانتقال من الايديولوجية إلى علم ...
- ثورة كارل ماركس في نظرية المعرفة


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد السلام الموذن - تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية