أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - الصراع الثقافي في المجتمعات الديمقراطية الحقيقية - عن ساعات وخيول محمد خضير والتلميذ الدنماركي -















المزيد.....


الصراع الثقافي في المجتمعات الديمقراطية الحقيقية - عن ساعات وخيول محمد خضير والتلميذ الدنماركي -


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 2757 - 2009 / 9 / 2 - 16:33
المحور: الادب والفن
    



عن دار ـ GYLDENDAL الدنماركية صدر هذا العام 2009 كتاب VERDENSHISTORIER - - الكتاب يحتوي 12 نصا من أدب الجنسيات الأجنبية القاطنين في الدنمارك. النصوص تترواح بين الشعر والنثر والقصة القصيرة وفصول من روايات:
من كرواتيا قصة قصيرة - بيرو كوفيسي -، صربيا فصل من رواية دانيلوكيث -، البوسنة فصل من رواية - ميشا سليموفين -، تركيا قصائد - أورهان قبلي كانيك و - كامل أوشار -، فلسطين - سعاد العامري -، العراق كردستان قصائد - شيركو بيكس -، العراق قصة قصيرة- محمد خضير -، إيران قصة قصيرة -هوشانك كولثيري -، أفغانستان قصائد - بير محمد كاروان - و - محمد صادق بشرلي -، باكستان قصة قصيرة - كوردراتوله شهاب -، الصومال فصل من رواية نور الدين فرح -، وأخيرا من سريلانكا فصل من رواية - شيام سيلفادوري -. لست بصدد استعراض الكتاب بل وودت إلقاء الضوء على طبيعة الصراع الثقافي في المجتمع الدنماركي من خلال عرض لظروف مساهمتي في الكتاب المذكور.
في المجتمعات الديمقراطية الحقة كالمجتمع الدنماركي الذي تطورت فيه الديمقراطية قليلا قليلا منذ أكثر من 200 عام، حيث قرر أحد ملوكها التخلي عن حكمه المباشر، ونقل وزر تلك المهمة الثقلية إلى النخبة التي سارعت في تأسيس البرلمان. هذا المبحث المتعلق بطبيعة تطور المجتمعات ديمقراطيا ليس موضعه هنا. لكن هذا المدخل ناصية مهمة لفهم كيفية ولادة الصراعات داخل المجتمعات الديمقراطية، والكيفية التي تتجلى فيها. سأحاول إلقاء الضوء على تجليات الصراع في المجتمعات الديمقراطية الحقة من خلال عرض لصراعٍ ثقافي محتدم منذ أكثر من عشر سنوات سنحت لي الفرصة أخيرا للمشاركة فيه.
قبل الدخول إلى الموضوع لابد من مقدمة تعرض لتاريخ نشوء هذا الصراع الذي أشرت إليه.
مع ازدياد الهجرة من دول الصراعات في فلسطين، لبنان، العراق، أفريقيا؛ الصومال وغيرها، يوغسلافيا القديمة، أفغانستان، تدفقت أعداد كبيرة جدا من اللاجئين إلى الدول الإسكندنافية في موجات بدأت منذ أواخر الثمانينيات. وأزدادت مع ظهور النزاعات الإقليمية وتفتت الدول بعد سقوط المنظمومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي. بالنسبة للعراقيين أبتدأت الهجرات الكثيفة حال نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية ويأس المنفيين الموزعين على دول الجوار وتحديدا في سورية وإيران. أعقبتها هجرة ما بعد الانتفاضة ومرحلة الحصار طوال تسعينيات القرن المنصرم. بدأت تلك الأعداد القادمة من مناطق الحروب الأهلية والإقليمية، بثقافتها المختلفة، وطبيعة قيمها، وتقاليدها، تضغط على الوضع الاجتماعي والاقتصادي المرتب ترتيبا دقيقا في الدول الاسكندنافية خصوصا وأوربا عموماً، أقصد الضمان الاجتماعي العالي المستوى، وميكانزم النظام الاجتماعي وقوانينه الدقيقة والتي لم تترك مفصلا من مفاصل حياة الإنسان دون تناوله من زاوية أنسانية بحيث عدت تلك المجتمعات في تلك الفترة بمجتمعات الرفاهية. هذا على مستوى الاحتكاك داخل هذه البلدان. أما على المستوى العالمي فقد كان سقوط المنظمومة الاشتراكية وظهور سياسة القطب الواحد، ومحاولة البوق الدعائي الغربي ومفكريه التنظير لصراع الحضارات في محاولة لوضع الإسلام في مواجهة الغرب بديلا للشيوعية، وبدء ماكنة الإعلام الهائلة في عصر الفضائيات والانترنت في ترويج وترسيخ هذا الصراع الجديد. ومن ثم أحتدام الحروب الداخلية في بعض البلدان الساخنة كالعراق والصومال وفلسطين ويوغسلافيا. كل ذلك أنعكس على الصراع الثقافي في الدنمارك متجليا في احتدام الصراع بين الكتل الأجنبية وقطاع غير قليل من الدنماركيين المناهضين لوجود الأجانب وتوافدهم المستمر حيث أن غالبيبتهم إلا أعداد قليلة جدا يعتمدون على المساعدات الاجتماعية التي تجبى كضرائب من مدخول المواطن الدنماركي العامل والبالغة 40 من الراتب الشهري. يضاف إلى تركيز الإعلام الدنماركي المرئي والمسموع على كل جريمة وخرق يقوم فيها أجنبي، وبالمناسبة نسبة كبيرة من الأجانب الشباب العاطلين عن العمل شكلوا عصابات في مواجهة التمييز العنصري الذي بدأ يظهر واضحا للعيان والعلن، إذ تشكل حزب سياسي أواسط تسعينيات القرن الماضي حزب الشعب الدنماركي على أساس معاداة الوجود الأجنبي في الدنمارك وأصبح الحزب الثالث في البرلمان بفترة وجيزة جدا لا تتجاوز العقد، مما عمق الصراع العنصري، وبلور مثل هذه البندات ( العصابات ) التي تعتمد غالبيتها على شباب أجانب دون سن الرشد ولدوا في الدنمارك.. وجدوا في البيئة الدنماركية محيطا شبه معادي بسبب جهل الوالدين بثقافة وتقاليد البلد الذي منحهم اللجوء، زائدا تجليات معاداة الإسلام بعد أحداث 11 سبتمر 2002. وهذا الوضع استغله تنظيم سلفي يتحرك لكسب هؤلاء الشباب الأجانب الساخطين على الوضع الجديد.. ونجح هذا التنظيم في تهيئة العديد من هؤلاء الشباب الذين غسلت أدمغتهم في معاداة الحضارة الغربية وتقاليد وقيم المجتمع الذين يعيشون فيه.
بالمناسبة هنالك شرعية لحزب التحرير ومجاز رسميا وفشلت محاولات الأحزاب اليمينية في البرلمان الدنماركي بأصدار قرار لمنع نشاط هذا الحزب بداعي حرية الرأي والعقيدة.
إزاء هذا الوضع المعقد، الملتبس والمحتدم يوميا في نقاشات البرلمان الدنماركي والصحافة والتلفزيون..ومخافة من سيادة أفكار اليمين المتطرف المتمثل في حزب الشعب القومي الشوفيني الدنماركي الذي أصبح لاعبا رئيسيا في السياسة الدنماركية الداخلية والخارجية حيث ساهم في تشريع العديد من القوانين المعادية للأجانب حتى بدت العديد من القوانين غير إنسانية كقوانين ( لَمْ الشمل) التي تعقدت وأصبحت شبه مستحيلة لا على الأجنبي فحسب، بل على الدنماركي الذي يتزوج من أجنبية أيضاً. عملت منظمات المجتمع المدني الدنماركية ومنها - منظمة مساعدة اللاجئين - على التخفيف من حدة هذا الصراع الذي لا يمت للإنسان بصلة من خلال محاولة التعريف بحضارة وأدب هؤلاء الأجانب الذين أضطرتهم ظروف الحرب والجوع والقمع في بلدناهم الأصلية اللجوء إلى بلدٍ مثل الدنمارك. ومنظمة مساعدة اللاجئيين الدنماركية منظمة مجتمع مدني، لا علاقة لها بالسلطة السياسية الدنماركية وليست مؤسسة دولة، لكنها ترسخت من خلال فعاليتها في مساعدة اللاجئين داخل الدنمارك وفي مناطق العالم الساخنة.
بادرت المنظمة إلى طرح فكرة إصدار كتاب على أكبر وأقدم دار نشر في الدنمارك GYLDENDAL - يضم نصوصا أدبية من بلدان الأجانب المقيمين في الدنمارك يعرف بأدبهم وحضارتهم. ، وأعداده كي يكون مادة تدريس في المدارس الدنماركية. وافقت الدار ودرس المشروع وتقرر أن يُعَدْ الكتاب كي يدرس في ثلاث مراحل دراسية؛ الصف الثامن، التاسع والأول مناشيوم الإعدادي -.
بدأ التنفيذ الفعلي للمشروع منذ صيف 2006 حيث جرى الأتصال بمن له علاقة بالأدب أو الأدباء من الأجانب القاطنين الدنمارك. كُلفتُ من قبل القائمين على المشروع تقديم نص يمثل الأدب العراقي، فوصلتني رسالة بالبريد الألكتروني تشرح بتفصيل شروط النص الذي سوف أختاره، أولها أن يكون لكاتب عراقي مشهور ومخضرم يمثل حقا الأدب العراقي، وثانيها أن يكون النص المختار مترجما إلى اللغة الإنكليزية كي يستطيع المستشار الثقافي في دائرة منظمة مساعدة اللاجئين ومدير النشر في الدار قراءة النص قبل الموافقة على ترجمته من اللغة الأم مباشرةً.
لا يدرك القارئ أي محنة وقعت فيها. أي مسؤولية تتعلق بتاريخ أدب بلدي العراق -.. مسؤولية تساوي كينونتي التي كرستها للأدب. تساوي ما لا يقدر بثمن:
كيف سينظر الطالب الدنماركي المُجِدْ بعد قراءته للنص الذي يتعين عليّ تقديمه وجود - العراق - والعراقي المعاصر كذات؟!.
النص سيبقى طويلا كمادة تدرس للطلبة. وستمر عليه أجيال من الطلبة الدنماركيين (بالمناسبة يعّلمون التلميذ هنا في الصف الرابع الابتدائي قراءة رواية وتلخيصها ثم تحليلها، وفي الخامس يعلمونه كتابة متابعة نقدية عنها) في ثلاث مراحل دراسية ببلد تمكن بالعقل من بناء نظام اجتماعي هو من أكمل النظم الاجتماعية التي توصلت لها الحضارة البشرية منذ فجرها.
المهمة عسيرة لكنها تستأهل الجهد.
جلست لأيام وفرشة الأدب العراقي والنص النثري والشعري أمامي مشرعة، ليست لدي مشكلة في معرفة أي النصوص العراقية المهمة منذ النشأة وحتى الآن، لكن المشكلة في معرفة أي من النصوص التي سوف أرشحها مترجم إلى الإنكليزية. وضعت في بالي عدة نصوص أحببتها ولا تزال تذهلني قراءتها كلما عدت إليها بين الحين والحين، وضعت عددا يربو على أكثر من عشرة نصوص. وبالعمل مع مترجمة دنماركية مدلّهة بالأدب العربي، تمكنّا من العثور على بعض منها مترجما إلى الانكليزية. قمت بتقديمها فقامت منظمة مساعدة اللاجئين بشرائها والنصوص هي :
قصتان لفؤاد التكرلي هما؛
1 القنديل المطفئ 2 العيون الخضر
منشورتان في مجموعته القصصية الأولى الوجه الآخر
قصيدتان للجواهري.
وقصة محمد خضير ساعات كالخيول المنشورة في مجموعته درجة 45 مئوي -.
في أول أختبار كتبت لي مسؤولة المشروع في منظمة مساعدة اللاجئين أنها استبعدت قصة التكرلي القنديل المطفئ كونها عنيفة الوقع على التلميذ الدنماركي. القصة عن أب في الريف يخطب بنتا صغيرة، يرفض أهلها بسبب فارق السن، فيخطبها لابنه غير البالغ لاحقا، ليقوم ليلة (الدخلة) بطرد ابنه واغتصاب زوجته.
رُشِحَتْ البقية، وأرسلت إلى دار النشر، التي أشادت بجميع النصوص، لكنها اختارت قصة محمد خضير (ساعات كالخيول) كي تترجم من الأصل العربي. وهذا تطلب أكثر من عام، فالمشروع يتعلق بأكثر من اثني عشر نصا أجنبيا يجمع في كتاب من المفترض أن يقدم شيئا للطالب الدنماركي وللقارئ أيضا غير ما يسمعه في نشرات الأخبار على التلفاز الدنماركي وفضاءات العالم الغربي، فالمفترض أن يجد فيه القارئ ما يرضي فضوله ويعرفه بطبيعة وتكوين الأجنبي عميقا من خلال أدب بلاده فهم يشاركونه يومه في وطنه الصغير، والكتاب فعل ذلك وهذا يفسر الإقبال الشديد على شرائه وعدد المتابعات النقدية التي كتبت عنه في أهم الصحفات الأدبية في أشهر الصحف اليومية وكذلك في المجلات الأدبية الدنماركية، والمواقع الأدبية على الانترنت.
وهنا دخلت في محنة اخرى، فالنص الذي كنت ولم أزل معجبا به؛ نص عميق يتوجب عليّ تحليله وكشف ما يحتويه من قيم جمالية وتاريخية ولغوية وفنية وبالتالي معرفية تساهم في جعل التلميذ والقارئ الدنماركي يعرف ويفهم بعمق ثقافة وتاريخ عراقيّ.
قرأت النص مرات لا تعد فوقعت على سر ذهولي فيه، سر حيوية ساعات كالخيول - منذ نشره أول مرة. وجدت فيه نصا مفصليا في تاريخ السرد العراقي والعربي أيضا، للأسباب التي ذكرتها في التحليل المكثف الذي ترجم كمقدمة للنص أو بتعبير أدق كعتبة تفضي بالتلميذ إلى عالمه. ومن خلال ذلك النص يدخل باب العراق وحضارته علَّ ذلك يجعله ينظر بعين مختلفة لزميله التلميذ العراقي أو الأجنبي الجالس جنبه على مقعد الدرس فيخفف من الروح العنصرية المستشرية في البيئة الدنماركية في الأعوام الأخيرة. وأدناه النص الذي كتبته بالعربية عن ساعات كالخيول والذي كثف قليلا أثناء الترجمة.
لابدّ من ذكر أنني أشترطت على القائمين على المشروع العمل مع المترجمة الدنماركية كي نستطيع إيفاء النص والتحليل الذي كتبته حقهما. وأثمر ذلك الجهد نصا متماسكا في الدنماركية حسب الصحف الدنماركية.

(عن ـ ساعات كالخيول ـ ومحمد خضير)


قرأت نص ـ ساعات كالخيول ـ أول مرة قبل واحد وثلاثين عاما حينما نُشِر في جريدة ـ طريق الشعب ـ العراقية في صيف عام 1976، والتي خصصت لها صفحتها الأدبية كاملة. منذ القراءة الأولى ربطتني بأجواء النص علاقة خاصة، فمازلت أعيد قراءته مكتشفا شيئا جديدا وكأنه صندوق سحري ذو طبقات يمنحك المعرفة والمتعة كلما قلبّت محتوياته وانغمرت في أجواء حكاياته. وقتها كنت قد بدأت كتابة أولى قصصي، فجعلني أتريث طويلا متأنيا في الكتابة كي أجد نفسي ومناخي الخاص، بحيث لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد 18 عاماً.
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي متميز، أحدث بطريقة كتابته وبقليل من النصوص ثورة في السرد العراقي، وشكّل ظاهرة في القصة العراقية والعربية، ومازال يواصل نتاجه الكثيف والمختلف. ولد عام 1942 في مدينة البصرة، ولم يغادرها إلى الآن رغم تعرضها طوال ثماني سنوات للقصف اليومي في الحرب العراقية ـ الإيرانية 1980 ـ 1988، ورغم تحولها إلى ساحة قتال في الحرب العراقية ـ الأمريكية الأولى عام 1991، وكذلك في حرب 2003، وكتب عنها كتابا (ـ بصرياثا ـ صورة مدينة 1993)، مؤكدا فكرته في الإصرار على وجوده فيها كــ (مواطن أبدي ).
ينتمي ـ خضير ـ إلى جيل الستينيات الأدبي في العراق، صدرت المجموعة القصصية الأولى له (المملكة السوداء) عام 1972 فاعتبرها النقاد نقطة تحول مهمة في الأدب العراقي والعربي إذ أضافت عالما مختلفا وجديدا، متشابكاً، معقداً، مركباً وبسيط،اً عميقاً ووهمياً، واقعياً وخيالياً في آن. تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوف الإنساني النبيل أدوارا لافتةً للنظر
وفي عام 1978، صدرت مجموعته الثانية في درجة 45 مئوي فسجلت نقلة نوعية أخرى في عالمه القصصي، فهو لم يكف عن محاولته لإقامة عوالم مدينية تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي .
ومن هذه المجموعة اخترت نص ـ ساعات كالخيول ـ الذي يشكل بدوره نقلة نوعية في أدب الكاتب والسرد العراقي، فبعد أن كان السرد حسيا معنياً في الحادثة المفردة أو الحالة الإنسانية ذات البعد الاجتماعي و النفسي أو العاطفي أو السياسي كما هو الحال في مجموعة الكاتب الأولى، يتحول في هذا النص إلى سرد معرفي يمزج الحكاية بالمعرفة بالفنتازيا بالواقع بالتأريخ في بنية سردية بدت ظاهرا شديدة البساطة لكنها شديدة العمق، فبعد هذا النص ستتحول القصة العراقية إلى منحىً لم يكن معروفا لدى الكاتب نفسه والأجيال اللاحقة.
النص مهم لأسباب عديدة. فهو ذو طبقات يحكي قصة آخر بحار عراقي معمر، بلغ التسعين ممن كان يعمل على ظهر السفن القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، تحول إلى ساعاتي، يروى للسارد ولنا حكايته الساحرة بأسلوب ممتع وشيق، سيتعرف التلميذ الدنماركي على نمط متطور من الكتابة الأدبية في العراق لا يختلف كثيرا عما وصل إليه الأدب في الغرب، وله خصوصية متأتية من أهمية البقعة الجغرافية تاريخيا التي تروي القصة عنها وفيها، فعلى أرض العراق نشأت أولى وأهم الحضارات الإنسانية القديمة السومرية والبابلية، غير بعيد عن مدينة الكاتب ـ البصرة ـ هنالك اكتشف الإنسان الكتابة ووضع أولى القوانين، فإذا كان الطالب قد سمع عن هذا التاريخ، فمن خلال ـ ساعات كالخيول ـ سيتعرف على التاريخ العراقي المعاصر، من خلال حكاية النص المشغولة بما جرى للبصرة في مرحلة الصراع الإنكليزي ـ العثماني قبل الحرب، ثم الاحتلال البريطاني للبصرة 1915، ومن الجدير بالذكر إلى أن هذه البقعة ـ البصرة ـ هي نافذة العراق الوحيدة على البحر والتي يأتي دائما من خلالها المحتل، بمن فيه المحتل الأمريكي الذي قَدِمَ قبل أربعة أعوام 2003، وهي أي ـ البصرة ـ من أغني بقاع العالم بالنفط. النص يؤرخ لبشرها قبل اكتشاف النفط الذي سيحولها إلى جحيم محتدم حتى الآن.
البعد المهم الآخر للنص هو إنساني، فتيمة النص معنية بالإنسان كقيمة مطلقة يتجسد ذلك من خلال مدلولات حكاية مرزوق ـ في حواراته مع السارد. في مطلع النص يتحاور السارد مع صبي الفندق حينما يسأله: هل هو هندي؟. فيغور في تكوينات بشر تلك البقعة متحدثا عن اختلاط الأجناس وانصهارها في بعد واحد هو الإنسان حيث أن الشهوات لا تعرف لونا أو جنسا حسب تعبيره، ثم رؤية السارد في تأملاته، نجد ذلك حينما يقف أمام بيت الساعاتي القديم متأملا بلاطة منزوعة من الجدار متخيلاً، من وقف بنفس موضع وقفته في أزمنة أخرى ( ـ بحار مزعزع بدوار البحر ـ ، جندي محتل تكبله الشهوات، باحث أثار نزعها لغرابة خطوطها). هذا العمق في تأمل اللحظة العابرة يحتل كل جملة وفكرة في النص.. مما يجعل النص أقرب إلى نشيد شاعري يبّشع العنصرية والتطرف والعنف، وبهذا يظهر النص روح الإنسان العراقي الحقيقية في تطلعه نحو أممية البشر لسبب جوهري يقوله النص كون الأجناس امتزجت تاريخيا في ـ البصرة ـ وهو حال كل بقاع الأرض المحتدمة حول خط الاستواء جغرافيا في كل التاريخ.
البعد الآخر الذي اقترح على التلميذ الدنماركي البحث فيه هو البعد الفلسفي كخلاصة لتيمة النص، فمن الإنسان كمطلق من خلال اختلاط الأجناس إلى علاقته بالكون والوجود من خلال الزمن وهي العلاقة الأشد حساسية والأعمق معرفيا، حيث يشي النص من خلال حكايته المنسابة عن علاقتنا بالكون عبر الساعة محور القصة ومحرض السرد، ففي مشهدين وحركتين يقوم بها ـ مرزوق الساعاتي ـ
الأول هو اختلاف مواقيت ساعاته في المشغل وتعليقاته عن أحوال سكان الأرض المختلفة في نفس لحظة الدق مما يعطي بعدا إنسانيا يحسس بوجود البشر في بقاع الأرض.
الثاني وقوفه أمام ساعة مائية قديمة، وشرحه للسارد عن تاريخ هذه الساعة ومن أين تعلم تصنيعها وعن حسابها اليوم عشرين ساعة بدلا من أربع وعشرين، مما يجعل حساب الأعمار والأوقات مختلفا، وهذا حال الزمن في الكواكب وأمكنة الكون الأخرى، مما يضفي على النص بعدا كونيا.
من أهم الأبعاد التي ممكن بحثها في النص هو البعد الجمالي المتمثل في لغة النص الخاصة بـ ـ محمد خضير ـ دون غيره من الكتاب. فلغته مميزة مفرداتها منتقاة بحساب دقيق بما يتناسب مع المادة الخام، كما أنها شديدة الشعرية ـ أتمنى أن يتمكن مترجمها نقل ما تحمله من إحساس ودقة وعمق ـ فالجملة السردية لديه تحمل أبعادأً مزدوجة شعرية ومعرفية تحّكم بنية النص. سأورد مثلا كي يكون استنتاجي واضحا. تيمة النص تعتمد الحديث عن بحار تحول إلى ساعاتي في إبحار مختلف لكنه في النتيجة واحد، فمرزوق في شبابه أبحر في البحر، وفي شيخوخته أبحر في الزمن وهو يغرق بالساعات ودقاتها في القبو، هذه المعادلة جعلت لغة الكاتب تنسج تلك العلاقة من خلال مرادفات متشابهة في تكوين الساعة وتكوين الميناء والإبحار، فعندما يصف الساعة يقول:
ـ لم يكن يعمل فيها سوى نابض الغطاء الذي ما أن ضغطت عليه حتى انتصب كاشفا عن ميناء ناصعة وعن عقربين راسيين على رقمين من أرقام الميناء اللاتينية ـ
فالميناء والرسو هما من مدلولات الإبحار في اللغة العربية.
أو صوت مرزوق وهو ينصت لدقات الساعة واصفا فعل الدق بنفسه:
ـ كالخيول.. كالخيول تجري في قاع البحر ـ
أو ما يشعر به السارد بعد سماعه حكاية غرق سفينة تهريب الخيول من البصرة إلى الهند حينما يستلم ساعته بعد تصليحها من مرزوق:
ـ فتحت الغطاء. كانت العقارب تدب. أطبقت على الساعة راحة يدي، وأنصتنا للبحر يدوي في ساعات القبو. القوائم الرشيقة للخيول تجري في شوارع الميناء، وتخطف في زجاج الساعات الدقاقة، الساعات تتكتك، حوافر رنانة، تتدافع الأمواج، صهيل الخيول ـ
وعلى هذا المنوال يستطيع التلميذ الدنماركي تحليل النص من زوايا لا عد لها مثل خيول تجري في قاع البحر.
في الختام تحية لمحمد خضير الذي منحنا متعة هذا العمق المعرفي والجمالي للنص القصصي.
وتحية لكل من يناهض العنصرية بأشكالها الجديدة كما عرضت في تجربة هذا الكتاب في الدنمارك، علنا نتعلم قليلا من ميكانزم هذه التجارب والصراعات التي يمثل هذا الكاتب أقصى احتداماتها في الوسط الثقافي الدنماركي. فتيمة هذا المشروع الذي عرضت له هو أن الإنسان واحد نفسه في الإمكنة والتاريخ وأخطر ما يواجه هذه الحقيقة هو أيديولوجية الأفكار ومساطرها. وهذا ما قاله نص محمد خضير.
طوبى للإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه وديانته ومكان إقامته
طوبى لمحمد خضير ثانيةً المقيم الأبدي في مدينته البصرة نافذة العراق الوحيدة على البحر.

قاص وروائي عراقي يقيم في الدنمارك



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلام ابراهيم: رواية الإرسي أحدثت ثورة داخل عائلتي
- ندوة في القاهرة لمناقشة رواية سلام إبراهيم - الإرسي
- كلاب الألهة مجموعة القاص العراقي نعيم شريف سبعة أناشيد تهج ...
- فيلم الجذور لأحسان الجيزاني: إنحياز للإنسان العراقي المسحوق ...
- حكاية من النجف لحمودي عبد المحسن عالم النجف المكتظ بأساطير ...
- -دنيا -علويَّة صُبح خلاصة حياة لا الحياة في تفاصيلها
- منجز القصة العراقية
- بيت النمل-* مجموعة هيفاء زنكنة القصصية المنفي كائن هش.. لا ع ...
- حضن هو الدنيا#
- دروب وغبار رواية جنان جاسم حلاوي عن العراقي التائه الباحث ...
- أرباب الرعب
- طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع
- وجهك المأمول حجتي رسالة عاشق مخذول تحول إلى سكير حالم حتى قا ...
- حوار بين الشاعر علي الشباني وسلام إبراهيم
- قولبة شخصيات النص في أبعاد معدة سلفاً رواية أيناس لعلي جاس ...
- أقواس المتاهة مجموعة عدنان حسين أحمد القصصية المغزى في النص ...
- بنية روائية تؤسطر الوقائع وتدفعها إلى حافة الجنون قلعة محمد ...
- المنفى هو منفى أبدي بعد مجيء الطير مجموعة إبراهيم أحمد القصص ...
- بنية قصصية تبحث عن دلالتها بالرمز -ما يمكن فضحه عن علاقة أبي ...
- كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا مصاطب الآلهة مجموعة محم ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - الصراع الثقافي في المجتمعات الديمقراطية الحقيقية - عن ساعات وخيول محمد خضير والتلميذ الدنماركي -