أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - ظروف معرفتي برشيد (مآذن خرساء 29/48).















المزيد.....

ظروف معرفتي برشيد (مآذن خرساء 29/48).


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 2753 - 2009 / 8 / 29 - 06:53
المحور: الادب والفن
    


.
زمن لقائي برشيد كان في خريف 93 اما المكان ففي عربة قطار الضواحي.
حين صعدت من المحطة الرئيسية " اوسلو أس" كان القطار مكتظا. حالما لا حطت خلو المقعد قبل الأخير في الركن الأيسر من الجزء الخلفي من العربة اتجهت نحوه، حين دنوت من المقعد الشاغر طالعتني جريدة عربية مفتوحة احتل صاحبها المقعد الأخير، لم يكن يبدو منه الا شعره الأسود. ما ان استدرت لآخذ مكاني حتى ايقنت ان المكان لا يناسبني، فقد كانت تجلس قبالة المقعد الشاغر فتاة نرويجية كانت مستغرقة في تصفح مجلة صور كرتونية، كان عريها فاضحا كما كان جمالها صارخا... رغم ذلك جلست، بعدما قدرت، انه من غير اللائق مغادرة المقعد فورا،عن يميني و بجوار النافذة كان يجلس كهل آسيوي لم يستطع كبح نفسه فطفق يتأمل عري الفتاة بشكل مركز، وكأنه كان يبحث بين فخذيها عن كنز من كنوز الفيكنج !فيما كانت الفتاة غافلة تماما عما أحدثه عريها من فوران للمشاعر الآسيوية و الأفريقية .
أمام سطوة الجمال يستوي الجميع في الخضوع و التسليم . الملوك يصبحون عبيدا، و رؤساء أعظم الدول يتحولون الي مساخر و أضحوكة للناس، بيل كلينتن اضطر الى انزال كلسونه أمام المحققين متيحا لهم فرصة التاكد من كون ذكره الرئاسي يحمل أو يخلو من علامات مميزة نعتتها غريمته ضمن شكواها من تحرشه بها... جورج واشنطن شوهد متسللا من شباك خلفي لزنجية حسناء وهو يحمل بنطلونه مكورا بين يديه، شكرت الله كثيرا حين تأكدت من ان ياسين ليس مهووسا بالجنس، حين بلغ الرابعة عشر قلت له:
ـــ لا أريدك أن تتورط في الزنا، اذا أعجبتك فتاة ثم اتفقتما على العيش معا، سأزوجها لك في الحال، حسب التقليد الجاري به العمل... اي بدعوى العيش المشترك، دون زواج رسمي.
اذا حدثك نرويجي عن ابنائه الثلاثة فمن الطبيعي جدا ان يعقب على ذلك بقوله: لكنني لم اتزوج أمهم التي أساكنها منذ عشرين سنة!
اهتمام ياسين كان منصبا نحو السيارات ... الرجل العادي جدا لا يصبر على معاشرة امرأة واحدة، ذات مرة قالت اعربية معاتبة زوجها الذي هجرها :" أتفارقني بعد ثلاثين سنة؟ "رد عليها :" لم اجد لك ذنبا سوى تلك الثلاثين سنة " رئيس امريكي نسيت أسمه.... كان مغرما جدا بالنساء، كان يهمل معاشرة زوجته، في زيارة لهما الى احدى المداجن سألت السيدة الأولى أحد العاملين هناك:" كم يمارس الديك الجنس أجاب العامل: "أربع مرات في اليوم ". ادرك الرئيس ما تعنيه زوجته فبادر العامل بقوله: " لكنك نسيت ان تخبرها أن الديك لا يقع في كل مرة على نفس الدجاجة !"
سألني ياسين مرة : ــ عن اعذب شيء في الحياة
قلت له " النساء، فهن يتصدرن بشهادة الخالق قائمة المشتهيات البشرية (زين للناس حب الشهوات من النساء) "
حين عاتبتني زوجتى عن صراحتي التي قدرت انها مكشوفة قلت لها:
ــ امرنا الإسلام بمعاملة ابنائنا كأصدقاء حالما يبلغون سن الرابعة عشر
ثم ذكرت لها ايضا توصية الرسول:" لا عب ابنك سبعا و ادبه سبعا و صاحبه سبعا "
ياسين لا يخفي عني شيئا من خصوصياته، اعلمني بمجرد احتلامه لأول مرة، كما اراني اول زغبات ظهرت على عانته. كما صارحني ذات مرة انه استمنى، بعدما ضبطته يتفرس في نساء عاريات على أحد المواقع في الأنترنيت قلت له :
ـــ إسمع يا بني، لو أخبرك احد الناس ان هناك اجمل من امراة عارية فاجزم بانه كاذب أو يعاني تخلفا عقليا أو برودا جنسيا... القضية تكمن في كون هاته اللعبة الخطيرة ستصبح مخدرا يصعب التخلص منه إن بدأته على سبيل التجربة... هذا بالإضافة الى كون النظر للنساء الجميلات بدون داع يغضب الله .
اعلمت زوجتي ان هناك دراسة غربية أسست على سبرآراء آلاف الآباء و الأمهات و الإخصائيين أكدت أن غربة المراهق داخل اسرته و الإهمال الذي يلاقيه من قبل ابويه تعد اهم اسباب انحراف الشباب.. ففي بحثهم عن الحب خارج البيت يتورطون في تجارب مدمرة .. فأحسن ما يهبه الآباء لأبنائهم ليس المال و لا الهدايا و بل جزءا و لو كان يسيرا من وقتهم و اهتمامهم
حين لم استطع منع نفسي من استراق النظر الي اللحم المكشوف، وتأكدت من فشلي التام في السيطرة على عيني، نهضت مجتازا النصف الأول من العربة، لأقف حذو الباب متطلعا الى الخارج، كان يقطع الصمت المخيم على الركاب ضحكات طفل نرويجي لم يتجاوز السنة من عمره الا بقليل .. كان مستمتعا بشكل واضح بخطواته الاولى التي كان يخطوها... كان يمشي حينا و يتوقف حينا أخر رافعا يديه و ملامسا بهما ارضية العربة.. كانت هناك سيدة عجوز تشجع الصبي بصوت ضعيف حينما يحاذيها متجها الى أمه التي كانت تجلس على بعد مترين في الجزء الأمامي من العربة، كانت الأم الشابة تستقبل صغيرها في كل مرة فاتحة ذراعيها فيرتمي بين يديها لتضمه الى صدرها... بعد أن تلاطفه بكلمات قليلة، و حين تتأكد من استرجاع انفاسه بما فيه الكفاية . كانت تديره بين يديها مشيرة باصبعها الى شاب جالس في قاع الجزء الخلفي من العربة التي لا يفصلها عن الجزء الأولى غير حاجز زجاجي . فيتجه الطفل من فوره الى حيث يجلس ذلك الشاب الذي كان يستقبله بنفس حفاوة الأم .

حين توقف القطار في محطة Bryn نزلت الفتاة الحسناء فتوجهت فورا الى حيث المقعد الشاغر، قبل ان ادركه طالعني صاحب الجريدة و قد طوى صحيفته و أرخى جفنيه و أسند راسه الى زجاج النافذة" ربما رايته في المركز الثقافي" هكذا فك، حين شاهدت بجانبه اعدادا من صحيفة سعودية أيقنت انني رايت الرجل هناك. كان المركز الثقافي يتلقى اسبوعيا اعدادا هائلة من تلك الصحيفة السعودية الثقيلة الظل، و كان الإمام الباكستاني يحث المصلين العرب على اخذها من المركز تخلصا منها.
حينما قلت لحبيب الرحمن :
ــ انظر، لقد بلغت استهانة آل سعود بمشاعر المسلمين حد تسمية اكبر صحفهم "الندوة ".
حملق فيّ ببلاهة، ثم رفع كتفيه ولوى شفتيه و أشار بيديه قبل ان يردّ :
ــ ماذا يعني لك ذلك؟ أنا لم افهم ما تريد ان تصل اليه؟
سألته ملقنا، و قد بدا لي في جهله مجرد طفل صغيرقد ارتدى ثيابا تنكرية و لحية اصطناعية :
ـــ مااسم الدار التي كان يجتمع فيها كفار قريش للتآمر على النبي محمد ؟
أجاب دون ان يبدو عليه أنه أدرك ما أعنيه:
ـــ دار الندوة .
اضطرني الي مزيد من الإيضاح:
ـــ اذا كان قد اصطلح عل تسمية المؤسسة التي تصدر جريدة الصباح مثلا، دار الصباح .فكيف تكون تسمية المؤسسة التي تصدر صحيفة الندوة؟
زاده شرحي حيرة. أصابني إحباط بعد ما ايقنت انني كنت انفخ في قربة مثقوبة، تولّى شابّ باكستانيّ يدرس في مصر توضيح ما أردت تبليغه لحبيب الرحمن، رغم فهم الأخير ما كنت أريد تبليغه. زادته المعلومة وجوما، ولاني ظهره، قال وهو في طريقه الي مكتبه:
ـــ يجب ان نحسن الظن باولياء امور المسلمين.
أيقنت انني كنت اقدم الدرر للخنازير. لحقت به، وجدته يعالج قفل مكتبه، قلت له:
ـــ لو كانوا اولياء امورنا حقا، لكنت الآن في السعودية بدل للنرويج. و لو كانوا أولياء أمورنا حقا لهرب شخص مطارد مثلي الي السعودية لا الى النرويج... قبل ان يفتح فمه تركته و انصرفت. كان ذلك بدء نفوري منه.

قبل وصول القطار الى Alan أقبلت مراقبة تذاكر شابة وهي توزع ابتساماتها يمينا و شمالا الرائع في النرويج انك تجد ــ في أغلب الحالات ـ الموظف المناسب في المكان المناسب، الشغل يختار هنا عن قناعة، ليمارس بما يشبه العبادة. حتى في مركز الشرطة تستقبلك الشرطية بالطريقة التي تستقبلك مضيفة الطائرة. وجدت المدرسين في النرويج اصبر من والدة على ولدها، في مركز اللجوء بساند توشون كان المدرس هرالد الذي لا تفارق الإبتسامة وجهه المغضن يلقن الشاب السيرلينكي و للمرة العاشرة: "هذا الحرف h ننطقه هكذا... هو ...مثلا ... هرالد... اسمي أنا هرالد" فيجيب الشاب السيريلانكي:" خو... خرّالد"! فما يزيد اعوجاج السيريلانكي" خرالد" الا استمتاعا و بهجة!.. في بلادي، الظروف هي التي تجبر أحدنا على الإنخراط في سلك معين قد لا يصلح له إلا كصلوحية جورج بوش كي يكون رئيسا... في بلاد المسلمين تصادف مدرسا له عقلية جلاد، كما تجد طبيبا له عقلية تاجر، كما تعثر عن محام له عقلية مراب." سي عبد العزيز" الرهيب، مدرّسي في الصفّ الرابع الإبتدائي في مدرسة عليّ باش حانبة ببنزرت، كان يملك بنيان سيلفستر ستالون، و ملامحه الخشنة، وابتسامته المروّعة. اذا ابتسم سي عبد العزيز، فتلك اشارة الى بدء عاصفة صحرائه، لا أحد كان يجرؤ على مجرد الإستئذان للذهاب الى دورة المياه، مهما كانت إستعجالية حالته، خصوصا اذا كان من غير النجباء. أحيانا يتبول التلاميذ على انفسهم في الفصل، و احيانا يفعلون أكثر من ذلك ! زميلي لطفي كان من جملة من يفعل ذلك! بلغ الرعب بلطفي حدّ فقدانه القدرة على التلفظ باسمه بشكل مفهوم اذا سئل عن اسمه تردد طويلا ، ثم تلعثم، ليتلفظ به كالآتي" لفشي!" بعد أكثر من اربعين سنة أراه الآن يمثل امامي. طفل رث الهندام، ضعيف البنية، شاحب الوجه، لا يكاد يرفع راسه من الأرض، مع ابتسامة باهتة مرسومة على وجه لا تغادره إلا اذا ولج الفصل.

في مطلع أول سنة دراسية لعينة، و في ظل صمت رهيب عمّ الفصل المكتظ بخمسين تلميذا مرعوبا. تطلع الينا سي عبد العزيز بعيون قلقة، رأيناه يفتح محفظته الجلدية، ثم يخرج منها مجموعة كبيرة من مساطر بلاستيكية مسطحة، انتظرنا كي توزع علينا، خاب ظننا سريعا حين رأيناه يدسّها في خزانة حجرية ذات بابين خشبيين جعلت وراء مكتبه... اكتفى سي عبد العزيز بواحدة وضعها أمام مكتبه الملوث بالطباشير، اتخذ سي عبد العزيز من تلك الأدوات التعليمية وسائل تعذيب رهيبة، كان نصيب من أخطأ الإجابة منا، ضربة بتلك المسطرة تنهال عليه بعنف من الجانب غير السطح فتترك على راسه نتوءا ت اصغرها في حجم حبة الحمّص.. رغم حصولي على الترتيب الأول، كان راسي لا يخلو من آثار تلك المساطر الرهيبة. كما كان يحلو لسي عبد العزيز أيضا ضربنا بمساطر قصيرة بعد ان يامرنا بضم اناملنا لتنهال عليها بقوة. و كلما ابعد التلميذ يده في آخر لحظة لتجنب تلك الضربات، زادت شراسة سي عبد العزيز و تضاعف غضبه .. تتضاعف الماساة اذا كان ذلك الضرب يتم شتاء حيث يصل التلامذة الى الفصل و قد احمرت أصابعهم و تورمت من اثر الصقيع. هناك وسيلة اخرى من ابتكارات سي عبد العزيز، و تتمثل في اجبار التلميذ على فتح فمه، و قبول ملعقة كبيرة من الملح يتم مصّها رويدا رويدا خلال الحصة. يقع ذلك في صورة اخفاق المغضوب عليه في الإجابه الصحيحة ( الشغب داخل الفصل غير وارد أصلا) .. أما "سي عليّ"، فقد استغني بالفلقة على جميع الوسائل الأخرى، كان يستعين باكبر التلاميذ بنية لطرح التلميذ المعذب على ظهره، ثم ادخال رجليه بين حبل و عصا غليظة يتم ادارتها على الحبل، حتى تحصر قدماه فتكونا هدفا ثابتا لضربات سي علي ...
الآن تغير الأمر تماما في تونس، فقد أعطي التلميذ، و على غرار النرويج، صلاحية التمرد على المدرّس الذي لم يعد يستعمل قبضته إلا دفاعا عن النفس!

حين وصلت مراقبة التذاكر الي صاحب جريدة "الندوة" وجدته غافيا، نادته مرتين لكنه لم يجب، حين لمسته من مرفقه هبّ صائحا وهو يستر وجهه بيديه، كان في هيئة من يصدّ هجوما...كان ذعر مراقبة التذاكر أشد من ذعره... لكنها استجمعت قواها بسرعة و اخذت تهدى من روعه ... حين سكن روعه نظرالي الحضور ثم وزع عليهم ابتسامة معتذرة... رغم ذلك بقي في حالة ارتباك و حرج، لم يدر فيها ماذا يصنع بنفسه ، كان من آثار ارتباكه أن قدم لي نفسه.
ـــ رشيد.... من الجزائر.
ـــ أهلا أنا سامي، من تونس .
.. دون ان يغادره تجهمه:
ـــ رايتك في المركز الثقافي... ظننت انك من العراق .
أصبح الطفل النرويجي يجلس على يسارنا كان بين ذراعي والده بعد ان هده التعب .
حين وصلنا الى محطة Grorud صعد من الباب الأيسر للعربة شاب صومالي، كان يعتمر قبعة بيضاء رايناه من اماكننا وهو يحاول جاهدا اصعاد عربة اطفال ظهر في اسفلها كيس بصل كبير وأكياس عديدة من الطحين. في الجزء العلوي من العربة، برز راس طفل حديث الولادة ...في تلك اللحظة، افلت الصبي النرويجي من حضن ابيه متجها نحو امه... حين وصل الي مستوى الحاجز الزجاجي الفاصل بين جزئي عربة القطار، كانت العربة التي يدفعها الصومالي، قد استقرت على ارضية القطار وحالت بين الطفل النرويجي وبين اكمال شوطه المعتاد ..لأجل ذلك توقف حائرا، لكن حيرته لم تدم طويلا، فقد وجد الفرصة مناسبة ليقترب اكثر من العربة ثم ليلامس الصبي الأسود... في هاته الأثناء، وصلت سيدة مديدة القامة ترتدي جلبابا داكن السواد و قد لفت راسها بنقاب اسود واستقبلتنا بوجه تولت نظارة سوداء سميكة إغلاق جميع منافذه... كانت تمثل فزّاعة حقيقية ... حال رؤيتي لها اصبت باكتئاب مفاجئ. في حين تمتم رشيد :
ـــ إنا لله و انا اليه راجعون.
كان الطفل النرويجي قد انهمك تماما في ملاعبة نظيره الأسود، حين شرعت المراة المنقبة في تبادل حوار غير ودي مع زوجها. لم يلبث الحوار ان تصاعدت لهجته. مما حمل المرأة على الإستعانة بيديها المغطاتين بقفازين أسودين... كتعبير عن غضبها دفعت المراة العربة قليلا الى جهة اليسار بشكل أوقع الطفل النرويجي بين الزاوية الزجاجية لعربة القطار وعربة الطفل فبقي محاصرا في مكانه.. داهمني احساس بان كارثة ستحصل...كان والد الطفل النرويجي مترددا بين النهوض أو الجلوس. كان تـتنازعه رغبة و امل، رغبة في تخليص ولده، و أمل في تفطن الزوجين لوضعية طفله الذي طفق يبحث عن مسلك للخروج، حين رفع الصبي راسه الى المرأة التي كثر زعيقها وتضاعفت حركات يديها أندفع يصرخ بشكل هستيري كانه راى شبحا حقيقيا... رغم مسارعة والده الي انتشاله من موقع حصاره لم يكفّ الصبيّ عن الصّراخ و النظر الى المرأة المنقّبة التي زاد صراخها إرتفاعا، بعد محاولة زوجها انتزاع النظارة من فوق عينيها، حين قدّر انها السبب في رعب الصبي. و قد توافق ذلك الصراع الزوجي مع شروع الرضيع الأسود بالصراخ، مما أكثر تعليقات الركاب وضاعف تبرمهم.
فجأة، هبّ رشيد من مقعده، ثم جلس بعد ذلك اخذ يضرب الكرسي بيده وهو يصيح:
ـــ آش هالعذاب يا ربي .. آش هالميزيريا( التعاسة) قبل 14 قرنا مرا مسلمة تقود الجيوش، وهذه مرا مسلمة في القرن العشرين تغطي في وجهها كانها عفريت ..يا ربي آش هالعذاب؟
كان توقف القطار في محطةHaugenstua بمثابة اعلان إدارة سكك الحديد عن توقف العرض البائس. فقد سارع الزوجان بالهبوط . شكرت الله ثم انصرفت الى تهدئة الكهل الجزائري الذي دس راسه بين يديه و انخرط في نشيج مسموع .
لم يكن في امكاني ترك رشيد في ذلك الوضع البائس، لأجل ذلك قررت أول الأمر تجاهل محطتى Haybroten التي اشرفت على القرب منها ،سألته:
ـــ أخ رشيد ما هي وجهتك ؟
بعد ان مسح عينيه بطرف كمه :
ـــ في الواقع ليست لي وجهة معينة، سوء حظى فقط هو الذي حملني على ركوب هذا القطار اللعين. تذكرتى ستفقد صلوحيتها هذا المساء، أردت استغلالها للتعرف على ضواحي أوسلو .
قلت له وكأنني اخاطب صديقا قديما :
ــ ذكرني اجتهادك الذي ورطك في رحلة تعيسة، ببخيل احتاج ذات مرة الي زجاجة فارغة ولما كانت لديه زجاجة فيها بقية سائل لعلاج الجروح، جرح اصبعه ثم لطخه ببقية ذلك السائل حتى لا يذهب هدرا. لأول مرة رايته يبتسم. مسح شاربه الكث ثم قال:
ـــ يبدو ان الجرح الذي أحدثته لنفسي كان اعمق بكثير من جرحه .
لم أشا أن أقول له " دون شك، و الدليل على ذلك، أنك بكيت كما يبكي طفل صغير!" لكني لزمت الصمت.
كان القطار قد خفّف من سرعته استعدادا للتوقف في Haybroten . حين اقترحت على رشيد مصاحبتي الي بيتي كبديل عن مرافقته التي قدرت انها ضرورية، لم يتح لي تردده في قبول دعوتي ، أي خيار سوى جرّه الى الخارج عنوة، خصوصا و قد صفرت مراقبة التذاكر معلنة عن انطلاق القطار من جديد.
ـــ لو كنت حاكما مسلما لمنعت النساء من تغطية وجوههن .
قلت ضاحكا :
ــ شخصيا لا أوافقك على هذا القرار الرئاسي... مالفرق إذن بينك و بين أي دكتاتور؟!
بعد قليل اضفت :
ـــ لو كنت حاكما لتركت النساء يلبسن النقاب بعد قسمهن باعلام كل من سأل عن ذلك الزي الغريب بانه مجرّد تقليد ليست له صلة بالإسلام.
حين سألت رشيد :
ــــ من تصاحب في هذه البلاد؟ اجابني على البديهة:
ــــ من أبصق في وجهه دون أن يغضب منيّ!
ضحكت كثيرا، لم اسأله عن ذلك الصديق الصّبور. كنت اعلم انه يصاحب حيطان بيته!الطرفة معروفة في التراث العربي...فيما بعد، أخبرني رشيد أن حسن حظه هو الذي حمله على الركوب في تلك العربة كي يتعرف عليّ بشكل جدّي.

توطدت علاقتي برشيد بعد لقاءاتي به في فنتانا هيسا ... المؤسسة النرويجية التي يديرها اناس
رائعون نذروا أنفسهم لرعاية المكتئبين... كنت اتردد على تلك المؤسسة منذ خمس سنوات قبل ان يلتحق بي رشيد و يسجل عضويته فيها.

في الحقيقة كنت محتاجا الى رشيد بقدر ما كان يحتاج الي .
و لكن هيهات. لا رشيد بعد اليوم .


يتبع



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اكتشاف موت رشيد ( مآذن خرساء 28/48)
- في طريق المطار ( مآذن خرساء 27/48)
- حديث عن السنة و الشيعة ( مآذن خرساء 26/48)
- ايها الغرب الدامي لا حاجة لنا بالمقرحي
- مع جواد، جاري الشيعيّ ( مآذن خرساء 25/48)
- تزويج نونجة (مآذن خرساء 24/48)
- عمل المرأة ( مآذن خرساء 23/48)
- عماد مبلّغا (مآذن خرساء 22/48)
- صديقي المضحك جدّا توفيق الجبالي. (مآذن خرساء 21/48)
- شيبوب قصّة حياة شابّ مهاجر (مآذن خرساء.20/48)
- السلفية ( مآذن خرساء 19/48)
- نونجة المغربية - جرح في الذاكرة- (مآذن خرساء 18/48)
- ذات مرّة، بورقيبة و ملك النرويج ( مآذن خرساء 17/48)
- الشرق شرق و الغرب غرب (مآذن خرساء 16/48)
- شقاء زوجي (مآذن خرساء 15/48)
- شقاء زوجي (مآذن خرساء 15/48)
- البهتان (مآذن خرساء 14/48)
- شريف، قصّة فتى ملوّث ( مآذن خرساء 13/48)
- ملامح شخصية الطفل رشيد ( مآذن خرساء 12/48)
- طفولة شقيّة ( مآذن خرساء 11/48)


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - ظروف معرفتي برشيد (مآذن خرساء 29/48).