أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ريتا عودة - طائراتٌ مِنْ وَرَق - قصّة ليست قصيرة















المزيد.....

طائراتٌ مِنْ وَرَق - قصّة ليست قصيرة


ريتا عودة

الحوار المتمدن-العدد: 2746 - 2009 / 8 / 22 - 09:04
المحور: الادب والفن
    


لم أتوقّع أن يتحوّل موضوعُ إصدار مجموعتي القصصيّة "أنا جنونك" إلى قضية تشغلني فأقرر أن أكتب عنها وأنا التي أخذتُ على عاتقي أن أفضح القبح وأن اُنْطِقَ الصّمتَ.أخبرتُ موظف البريد أنني بصدد إصدار كتاب عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله، وسألته عن إمكانية إرسال قسط من تكاليفه عبر تقنية الـ " ويسترن يونين " فطلب مني أن أتمهل لكي يقوم بدوره في الاتصال للحصول على موافقة من المسئولين.
أخذنا ننتظر أن يرفع أحدهم السماعة وطال انتظارنا. أعاد الكرّة مرّة أخرى، ثمّ بدأ بالتعريف عن نفسه فذكر رقم محطة البريد خاصته وسأل عن إمكانية تحويل مبلغ إلى رام الله. أصبح صوته أكثر جدية وهو يقول: "مطبوعات ... حسنا". أطبقَ الصمتُ على المكان. عاجلني الموظف بنظرة وهو يقول: ستفحصُ الإمكانية. بعد قليل عادَ إلى الحوار مع المرأة الخفيّة: "لا ليس قريب لها". تجهمَ وجهه وأطبق الصمتُ على المكان ثانية. حدجني بنظرة وهو يعلن بفتور: "رفضوا". أصابتني عدوى التجهم. أخذتُ أطمئنُ نفسي:" لـَمْ يُغلق الهاتف بعد، ربّما هنالك أمل..!!".
شقّ صوتـُهُ حجابَ الصّمت:" خمس مائة دولار..حسنا" . هرع إليَّ قائلاً: "بما أنّ المبلغ أقلّ من خمسة آلاف شاقل فقد منحتني الموظفة الموافقة على إتمام المعاملة". هدأَ طنينُ النحل في خلايا رأسي. رحتُ أ ُمليه اسم المُرسل إليه في رام الله ولسان حالي يقول: "أسْرع لئلا تغيّر رأيها". ناولته المبلغ فعاد يتصل بالمسؤولين من جديد. صار صوته أكثر حدّة وهو يُعلن:" لكنّي حصلتُ على موافقة قبل قليل، اتصلتُ وردتْ عليّ إحدى الموظفات وسمحتْ لي بإتمام المعاملة..!". أغلقَ الهاتفُ وامتدتْ يده إلى المبلغ الذي تقاضاهُ منّي وقام بإعادته لي وهو يقول: "رفضوا إتمام المعاملة". تملكتني الحيرة. بادرته بسؤال: "ألم توافق منذ قليل.!؟". أجابَ بحسرة: " الموظفة الأولى منحتني الموافقة أمّا الثانية فرفضتْ. منذ فترة كانوا يُجيزون لنا تحويل نقود إلى السلطة الفلسطينيّة، لكنهم الآن يرفضون. قوانينهم تتغير باستمرار."

- لكن، كيف سأرسل المبلغ؟ السفر إلى رام الله واقتحام الحاجز الأمني أمرٌ شبه مستحيل. أما من حلّ آخر..؟!

تدخلَ شابٌ كان ينتظر دوره من بعدي فاقترح أن أقوم بإرسال المبلغ إلى أحد الأقرباء في رام الله وهو يُوصل المبلغ إلى بيت الشعر الفلسطيني.
أجبتُ بحسرة: "ليس لي أي أقرباء في رام الله..!".
قالت امرأة كانت تقف خلف الشاب:
* " أرسلي المبلغ إلى القدس".
سألتها حائرةً:
- كيف..؟
قالت شابةٌ ما:
• أرسليهم إلى مكتب بريد القدس.

قالَ كهلٌ وقف في العتمة:

- تعرفون أنّ أبناء رام الله عالقون في مصيدّة،
والانتقال من بلد لأخرى ضمن نطاق السلطة أمر شبه مستحيل
فكل منطقة محاطة بحاجز أمني.

قالت زوجته العجوز:

* لا بُدّ أنَ له قريب أو صديق يثق فيه في القدس.
من يحمل بطاقة الهوية الزرقاء، باستطاعته صرف المبلغ دونما عائق.

قلتُ باصرار:
- حسنا سأتصل برام الله .

*

تنحيتُ جانبا واتصلت ورحت أخبر الموظف كلّ ما حصل إلى الآن. أخذنا نفكر بصوت مرتفع معا. لم يستطع أن يقرر في الأمر. فجأة قال: " أرسلي المبلغ إلى عمّان ."
- لمن وكيف..؟
• أرسليهم إلى عمّان.
- ومن سيستلم المبلغ في عمّان؟
• لا أعرف.
حتما سأجد صديقا يستلم المبلغ ويوصله لي.
- وهل تضمن لي استلام الكتب أيضا
* طبعا
- كيف..؟
* سنرسلهم عن طريق ترابيّة
لن نعبر بهم الحاجز


*

شعرتُ باختناق. ما هذي الدوامة..؟ نظرتُ للسماء فإذا الطيور تتنقل من مكان لمكان دونما مُعوّقات. تمنيتُ لو أنّ لي جناحين فأطير فوق الحواجز الصدئة والصّبّار والعوسج.

*
أغلقتُ الهاتف على اتفاقٍ أن يجد هو حلاّ. أخذت أجرّ خطواتي نحو المنزل. يؤلمني هذا الثِقلُ المفاجئ في جسدي. يؤلمني طنينُ النحل في رأسي. في هذه البقعة من الكون، إن لم تكن تفقه شيئا في السياسة، ستضطرك الأحداث أن تفهم ، كما حصل لي عندما التحقت بجامعة حيفا وما أن هممتُ بالدخول من البوابة حتى نظر إليّ الحارس وكأنّي قنبلة بشريّة موقوتة. مدّ يده داخل حقيبتي وبعثر محتوياتها ومدّ يده إلى جسدي بقضيبٍ كهربائي وأخذ يتفحصني وأنا أحدّق بلافتة على الجدار الزجاجيّ من خلفه مرسوم عليها كلب مع إشارة ممنوع الدخول. يده تتفحص أجزاء جسدي من فوق لتحت عائدا لفوق وعينيّ ملتصقتان كالمغناطيس بحديد اللافتة وجسدي يعلن اشمئزازه . ألا يتكرر ذات المشهد كلما عبرنا الحدود الفاصلة بين طابة المصرية وايلات..؟ نرى بأعيننا سيارات اليهود تعبر الحاجز دونما اعتراض ، بينما تأمرنا الفتاة الموظفة بالانتظار خلف الحاجز ويروح الشاب الواقف بالقرب منها يحدج كلّ من في سيارتنا بالنظرات من خلف الزجاج الأسود لنظارته الشمسية ومن خلف زجاج الناظور. وككل ّ مرّة أتساءل: ما الذي ينظر إليه هذا الشاب..؟ تراه ينظر إلى ملامحنا إن كانت تشي أننا فلسطينيون، أم أنّه يحتاج أن يقرر إن كنّا مواطنين صالحين حسب المفهوم الإسرائيلي، فالمواطن الفلسطيني الصالح أو من حمل لقب "عرب 48" هو ذلك المواطن الأبكم أخرس أعمى،أم أنّه يتأكد من ثيابنا فالمرأة المُحَجبّة خطرٌ على أمن الدولة، وكذلك الحامل لأنّ حملها قد يكون خدعة كما حصل مرّة مع أخت زوجي الحامل فاقتادوها الى غرفة خاصة للتأكد من كونها فعلا حاملا.
كلّ مرّة نعبر الحاجز الحدوديّ بين طابة وايلات تقترب الفتاة بزيّ الجنديّة منّا لتسأل إن كنا نجيد العبرية كي تبدأ بالتحقيق معنا حيث تتنقل عيناها من فرد إلى آخر وهي تطرح السؤال تلو السؤال وجواب النفي ذاته يتكرر مع كلّ سؤال: "هل قابلتم أحدا، تكلمتم مع أحد، سمحتم لأحد أن يكون معكم في السيارة، أعطاكم أحد هدية لإيصالها لإسرائيل، معكم سلاح أو لعبة على شكل سلاح؟ هل كانت السيارة في جراج، هل اقتحمت السيارة بهدف السرقة، هل قام أحد بترتيب شنطة سفركم... " وفي نهاية التحقيق تطلب منّا أن ننزل من السيارة فنقوم بنقل جميع حاجياتنا إلى صناديق بلاستيكيّة كبيرة، وككل مرّة يمطرها زوجي بموجة غضب لا تكفل لنا الخلاص من جحيم المرور عبر الحاجز الكهربائي وتمرير كلّ حاجياتنا على الآلة الفاحصة، والويل لنا إن قام الحاجز بإصدار طنين متتابع حاد كما حدث لي بسبب إسوارة ذهبية صارت بعدَ الحمل والولادة أصغر من حجم يدي. حاولتُ أن أتخلص منها لكن هيهات. نادت الفتاة على المسؤول فحدجني بنظرة ثاقبة وأومأ لها بنظرة إلى غرفة صغيرة جدا عن يمينه. اقتادتني الفتاة إليها . خجلتُ أن تطلب مني أن أتعرَّى. شعرتُ بارتياح لأنها لم تطلب ذلك. أخذتْ تمرر تلك الآلة الكهربائية فوق جسدي وفجأة سألتني:
- معك سلاح!
* لا.
عادتْ تمرر الآلة فوق جسدي. وأنا اتأففُ سرّا. ثمّ، طعنتني بسؤال مفاجئ وآلتها تتوقف قرب خاصرتني اليُمنى:
- ماذا يوجد هنا.؟!
• لا شئ.
أسلوب التخويف هذا صار مبتذلا. احتفظتُ برباطة جأشي فحررتني. كانوا لا زالوا بانتظاري وزوجي يمطرهم باحتجاجاته، كان يقول بامتعاظ: "دوما تعلنون لنا أننا مواطنين من الدرجة الثالثة." . اقتربتُ منه وهمستُ في أذنه: "لا فائدة من الحوار معهم".
طلبَ منه الشاب المرتدي زيّ جندي أن يباشر بوضع الشنطتين وبقية الحاجيات فوق الشريط الكهربائي المتحرك. مرّت شنطة ابنتي بسلام ثمَّ مرّت الشنطة الحمراء الكبيرة والتي أحتفظُ فيها بحاجياتي وحاجيات زوجي. فجأة، ترك الشاب شاشة المراقبة أمامه وهرع إلى الشنطة الحمراء التي استقرتْ في قبضة يدي. بادرني بسؤال فيه نكهة التخويف:" أنتِ قمتي بترتيب حاجيات هذي الشنطة..؟!"
لم تعد أساليبهم في التحقيق تخيفني. كانت التمثيلية الفاتنة أن يُوقعني أسيرة الرعب وكأنـّه اكتشف شيئا داخل الشنطة يهدد أمن الدولة. قلت: "نعم أنا. افتح الشنطة وتأكد بنفسك أنها ليست ملغومة. نحن كنا في رحلة استجمام وأنتم أفسدتم علينا استجمامنا. حسنا، هات ورقة الشكوى تلك من على الرّف خلفك، أريد أن أقدّم شكوى". لم ينبس ببنت شفة ولم يأبه لنغمة التهديد في كلامي. كنت منفعلة ً لكن لسان حالي كان يقول: "أنشكو سارقَ الكـَرْم ِ لذاته؟!". هرع إلينا موظف آخر أعلنَ بصرامة: "خذوا شنطكم وانتظروا في الصالة ريثما يتم فحص السيارة".

*

جلسنا في الصالة ننتظر، وأعيننا تراقبُ اليهود يعبرون عائدين " للوطن" كما تعبر العصافير من مكان لآخر ونحن هنا محتجزون كأننا قنابل بشرية موقوتة، كلّ حركة محسوبة علينا. أخذنا نشاهد التلفاز ، نتمتع ببرودة المكيّف الهوائي، ونشرب عصيرَ برتقالٍ طازج . بدأت النشرة الإخبارية بخبر عاجل اقترن بصور حيّة من مكان الحَدَث.
ها أطفالٌ يُطلقون ستة ُ آلاف طائرة ٍ ورقيــّة عبّروا بها عن حرمانهم الحريـّة داخل قفص ِعصافير ٍ كبير ٍ إسمُهُ :"غزّة"ِ، وما أكثر أقفاص السلطة الفلسطينيّة. ها هم يُعبّرونَ عن مأساة شعب محاصر بالحواجز الأمنية والمعتقلات . ها أطفالُ غزة بطائراتهم الورقية يحصلون على رقم قياسي في كتابِ "جينيس".
يا للسخرية المريرة!!
يا للسياسات المُزرية!!

شعبٌ محاصر لا يجد منفذا للهواء والماء وكسرة خــُبز
يشغله أن يُدوّن اسمه في كتاب جينيس ؟!


*

ها أنا أشهقُ وأزفرُ وأطلقُ مليونَ صرخة:
" آخ يـــَا زمن ".



30.7.09





#ريتا_عودة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أُغَرِّدُ؛ فَتَحْسِدُنِي الْقُبَّرَاتُ عَلَى عَفَوِيَّةِ الْ ...
- أُغَرِّدُ؛ فَتَحْسِدُنِي الْقُبَّرَاتُ عَلَى عَفَوِيَّةِ الْ ...
- أُغَرِّدُ؛ فَتَحْسِدُنِي الْقُبَّرَاتُ عَلَى عَفَوِيَّةِ الْ ...
- فارسٌ من زمنِ الحنين
- أَنَا الأُنْثَى
- أَنَا كِيَان
- فارسٌ مِنْ زَمَن ِ الحُبّ
- الْحُبُّ يَصْنَعُ الْحِبْرَ .. وَمْضَاتٌ
- هاربة إلى ملاجئ حبّك
- كَمَا تَبْحَثُ إِبْرَةٌ فِي كَوْمَةِ قَشٍّ عَنْ خَلاَصِهَا.. ...
- من قبل ِ أنْ يكونَ نورٌ, كنتُكَ.. كنتنِي..(ومضات)
- سبحان من سوّاني قصيدتك الأخيرة...ومضات
- جديد ريتا عودة عن بيت الشعر الفلسطيني -سأحاولكِ مرّة أخرى-
- النصّ المُناور يتطلَّبُ قارئا مُناورًا -
- مع الشاعرة ريتا عودة --- قبل الاختناق بدمعة ---
- فلسفة ُالحُبّ
- ... يُحِبّنِي بالثلاثة ...
- ...كرياتُ العشق ...
- الساعة المتأخرة للحلم...
- إبنُ الغَجَر


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ريتا عودة - طائراتٌ مِنْ وَرَق - قصّة ليست قصيرة