أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور















المزيد.....

في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2745 - 2009 / 8 / 21 - 10:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ربما لم يمر وقت نفر فيه المثقفون العرب من السياسة أكثر من أيامنا هذه. السياسة مخيفة وموردة للمهالك. هذا سبب مهم. لكن السياسة عاهرة لا خلق لها ولا دين. هذا سبب أهم. إعياء العقل أكثر من وهن الإرادة هو جذر الابتعاد عن السياسة. ليس فقط كممارسة بل حتى كتفكير بالشأن العام يرى السياسي ولا يعمى عنه.
الحيرة أكثر حتى من الخوف، والانفعال أكثر من الوعي، سبب الابتعاد عن السياسة. تبدو هذه ساحرة، تجتذب وتقتل، تأسر وتهين، تفتن وتميت. لا نستطيع الابتعاد عنها رغم مرارة القرب منها وقسوته.
وما من مدرك يوحد بين الافتتان والموت في اللغة العربية غير السحر. المسحور مستلب، فاقد السيطرة على نفسه، هو ليس هو. السياسة سحر لأنها تجعلنا غيرنا. تستعبدنا لما يذلنا. تفتننا عن أنفسنا. غير أن مفهوم الفتنة يحمل في العربية دلالة مزدوجة. الجاذبية الآسرة والتنازع العظيم. مثل ذلك ينطبق على مفهوم الأسر. المرأة التي تأسرنا بجاذبيتها هي بمثابة عدو يحولنا إلى سجناء أو محكومين بالإعدام.
في السياسة في عالمنا العربي تلتقي مدركات السحر والفتنة والأسر. الخوف والانجذاب، الافتتان الشديد والصراع الوحشي، الاقتراب اللذيذ والوقوع المميت. السلطة أو الموت.
لكن يبدو أن في تحررنا من الوهم أو، ينبغي أن نقول، من السحر السياسي شيئا سحريا في الغالب. ندير ظهورنا للسياسة بدل أن ننزع غلالاتها السحرية. يحصل أن نتحول إلى الثقافة دون نقد السياسة، بل هذا متواتر جدا. السياسة خطأ والثقافة صح. تتحول الثقافة إلى سحر جديد، إلى حل، "الحل". محصلته تحويل الثقافة إلى سياسة. فالسياسة التي لم تنتقد، لم "تموضع" ولم يتحقق الانفصال عنها، تنتقل بكاملها إلى الثقافة. هذا ينطبق على بعض أكثر المثقفين العرب ثقافة وثقافية. ثقافوية بالأحرى، أي تحويلا للثقافة إلى سياسة بديلة. من دون ذكر أسماء، هناك مثقفون مكرسون جدا يفعلون ذلك، فيمارسون السياسة في الثقافة، أي الإغراض و"العمل" والحساب وبناء المذهب و"تأليف القلوب" ورعاية العصبة، في مجال ما يفترض أن تعريفه ينفر من الغرض والجدوى والعمل والمذهب والعصبة، وينحاز إلى شرح الصدور ضد تأليف القلوب. شرح الصدور عام، أما تأليف القلوب فخاص. يمكن تعريف الثقافة بمفعولها الشارح للصدور كشرط لشرح العالم أو كوجه آخر له، بل يمكن تعريف المثقف بتجربة انشراح الصدر. انشراح الصدر خبرة ذاتية أساسية، يمتنع دونها شرح أي شيء. الصدور الضيقة الحرجة لا تشرح العالم الواسع. وهذا ما يجعلها، تجربة انشراح الصدر، روح الثقافة بما هذه جهد مستمر لتوسيع العالم، لبسطه وشرحه والتمدد فيه والتجوال الحر في رحابه.
والتجربة هذه مستمرة، لا تكسب مرة واحدة وينتهي الأمر. إنها "جهاد أكبر"، الجهاد الأكبر الحق. وهي نفسها التجربة التي يبدو لنا أنها نادرة في ثقافتنا المعاصرة، الأمر الذي يجعل الثقافة ميدانا للحرج والضيق، ويلحقها بالسياسة والحرب و"الجهاد الأصغر".
والسياسة تأليف قلوب (بالجمع دوما) من أجل إقامة سلطة. أو تحصين سلطة قائمة بمن يستحسن تأليف قلوبهم: أهل النفوذ أو السلطة أو المال. "الملأ". تأليف القلوب والسلطة صنوان. أما شرح الصدور فيثمر ثقافة، ويتولد عنها. وبالمناسبة، هذا هو الفارق الجوهري بين مرحلتين من تاريخ الدعوة الإسلامية: مرحلة تشرح الصدور وتضع الأوزار التي تنقض الظهور، فتشرح العالم وتبسطه وتيسره؛ ومرحلة تؤلف قلوبا قلما تتألف، فتبني سلطة/ سلطات.
تتألف القلوب من أجل قضية، فتتشكل سلطة تحرس القضية من أجل أن تبقى مماثلة لذاتها، تأتلف حولها القلوب، أي من أجل التعبئة. التعبئة تعني تفريغ الناس من قلوبهم الخاصة، ليكونوا قلبا واحدا. ويدا واحدة. في المحصلة سلطة ولا شيء آخر. القضية تزول. فليس التماثل مع الذات الذي تحرسه السلطة غير الموت، موت الفكرة. ألم تكن السلطة العارية هي مآل تأليف القلوب الإسلامي؟ ألم ترد السلطة هذه الدين إلى "قدر" كافل للتماثل والائتلاف، ومانع من الاختلاف؟
هذا غير أن تأليف القلوب "فعل" لازم، يلزم المال أو السلطة التي يجري التألف بهما، ولا يتعدى إلى الفكرة أو القضية. هذه ترتد أداة أو ذريعة لإحراز "الدنيا"، لجلبها إلى الرؤساء على قول أعمى المعرة.
.. أما شرح الصدور فيفتحها. ولا تتشكل عصبة حول المفتوح. ولا سلطة. وامتلاء الصدور المشروحة هو مزيد من الانشراح. فهي لا تقبل التعبئة.
**********
تجربة متكررة، قلنا: التحرر من السحر السياسي دون تحرر. تُهجر السياسة دون أن تنتقد، فتمارس السياسة في الثقافة. نقد السياسة يعني تقديم شرح الصدور على تأليف القلوب. يعني ربما قبل ذلك شرح أنفسنا، وبمصطلح عصري نقدها وتفحص ضميرها، "تحليلها نفسيا". لا بالمعنى التقني للتعبير، بل بمفعوله المفترض، التصالح مع الذات، شرحها لنفسها. توسيعها لترتاح لنفسها ومع نفسها. ومع العالم.
ثمة تجربة ممكنة: نترك تأليف القلوب منشرحي الصدور. ولا نرضى بغير "جمعية" قلوب منشرحة. نعترض على السياسة كإجراء صغير متمحور حول السلطة ويغلب أن يكون متناقضا، كي ننفتح على السياسة كمعنى، سياسة شرح العالم. الشرح ليس فعل معرفة سلبيا، بقدر ما هو بسط وإنارة واسترخاء. لا أقول محبة، بل فعل كرم وأريحية. ترحيب. حين الترحيب يعني التوسيع ويعني الاستضافة السخية. لا نرحب بالعالم دون أن تكون أنفسنا فسيحة رحبة، تتسع للعالم. ولا نشرح العالم دون أن تكون صدورنا منشرحة للعالم.
شرح العالم بهذا المعنى فعل تغيير بحد ذاته. العالم المشروح هو عالم مفتوح وكريم. مضياف. عالم لا تحده سلطة، لا ينغلق حول سلطة. لا ينضبط بتجنيد أو تعبئة. المركز المفترض للقلوب المؤلفة، "وحيا" أو "وعيا"، خارج عن كل منها، تصبح قلوبا متماثلة بأن يكف كل منها عن كونه قلبا. أما انشراح الصدر فيلغي فكرة المركز ذاتها. ما يمنع قيام سلطة. انشراح الصدر يعني انفتاحه على العالم وانفتاح العالم عليه. انحلال في العالم وحلول العالم في صدورنا. تتجاوز تجربة الانشراح، لذلك، تقابل الذات والموضوع. الصدر المنشرح للعالم ليس ذاتا، والعالم المشروح ليس موضوعا. ثنائية الذات والموضوع سياسة وعمل، "قهر" للطبيعة، "سيادة" عليها و"تملك" لها على قول ديكارت، و"سيطرة" على العالم. الاستعمار ومشكلات البيئة مدونان سلفا في هذا الأفق.
شأن الانشراح والترحيب مختلف. يحيل المدركان إلى أنسنة العالم و"تعليم" الإنسان، إلى الاتصال بينهما لا إلى الانفصال. إلى ثقافة جديدة. وسياسة جديدة أيضا.
**********
نقد السياسة هو هذا: التشكك حيال تأليف القلوب. حيال السلطات والعصبيات والأحزاب والهويات، كل "نحن" معطاة. الامتناع عن التجند. نقض "العضوية" بجميع معاني الكلمة، بما فيها الثقافة العضوية والمثقف العضوي. أما محتواه الموجب فهو الإقبال المنفتح على العالم. السياسة هنا ربما تكون تعاونا بين أنداد. انفلات من أية أطر سياسية تراتبية مغلقة.
بأطر ليس مفتوحة الآن وهنا لن تنفتح لنا أية آفاق. بأدوات السلطة لن نحصل إلا على سلطة تشبه أدواتنا.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحداثة كخير عام، كوني وضروري
- في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
- فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
- منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
- تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي ...
- في أصول صناعة التشاؤم العربية
- بصدد العنف والنخبوية
- ملحوظات أولية في نقد السياسة
- ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
- موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
- من خرافة سياسية إلى أخرى..
- عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
- -الحل- غير موجود... أين هو؟
- في بئري الدين والدولة
- في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج ...
- الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
- عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
- بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
- تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال ...
- نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور