أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جورج كتن - خطاب سياسي عربي، زوبعة في فنجان عراقي















المزيد.....


خطاب سياسي عربي، زوبعة في فنجان عراقي


جورج كتن

الحوار المتمدن-العدد: 834 - 2004 / 5 / 14 - 08:15
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


1
استدعت أحداث العراق منذ أوائل نيسان خطاباً سياسياً عربياً تقليدياً يتعامل مع السياسة بالمنطق القديم الذي يصلح لعقود الخمسينيات حتى السبعينيات المعتمد على شعارات وجمل ثورية، برؤية تسطيحية تكتفي بلونين فقط من ألوان الطيف السياسي، لا تهمها الوقائع والتفاصيل والظواهر وتركيباتها وعلاقاتها البينية وجذورها المجتمعية وأسبابها وأهدافها ونتائجها، رؤية تعميمية لظواهر محدودة تسعى لإثبات مسلمات ذهنية غير قابلة للنقض على مدار الزمان والمكان، فإذا أخذت بوقائع فمجتزأة ومنتقاة بما يفيد وجهة النظر المسبقة.
في الخطاب السياسي العربي هناك شيطان الاحتلال من جهة، وأبطال المقاومة المسلحة الأسطورية من جهة أخرى، ولا شيء بينهما أو إلى جانبهما، والحرب مستمرة والهزيمة لم تقع والعراق لم يستسلم، وما حصل مؤخراً ليس أقل من انتفاضة شعبية شاملة للعراق باجمعه من جنوبه إلى شماله، قليلون هم الذين تواضعوا واعتبروا أنها بداية لانتفاضة شاملة، وحلم آخرون بشكل أوسع- فلا حدود للأحلام- بأن "انتفاضة العراق الموحد ستنضج حركة التحرر الوطني العربي من الخليج إلى المحيط"، وتعود "أمجاد يا عرب أمجاد" للمذيع أحمد سعيد.
معظم المروجون لذلك هم من الذين تحمسوا للمقاومة الباسلة في أم قصر ولبغداد كمقبرة للغزاة، وتابعوا الصحافيات بشغف وأمل بغرق قوات الاحتلال في المستنقع الفيتنامي المأمول، رغم مرور ما يزيد عن عقد منذ انهيار المعسكر الشرقي، فالفئة القليلة المؤمنة تستطيع أن تتغلب على أقوى قوة ضاربة في العالم بوجود الإرادة التي لا تنكسر. ولا يأس مع الحياة طالما أن الموت بداية لحياة جديدة أفضل، والعرب قوم يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة. والدم والنار الرد الوحيد على الهزائم والاحباطات إذا وجدت، المهم ألا يتوقف شلال الدم، ويمكن ببساطة تبرير خطف المدنيين الأجانب وجز رقابهم أمام عدسات الفضائيات، فالأجنبي " جزء من الاحتلال وفي خدمته مقابل اجر"، حتى لو كان من معارضي الحرب، فوجوده في العراق مبرر لقتله، فبين الأسود والأبيض يجب طمس أية ألوان أخرى، مع رفض الاستفادة من التجارب السابقة الفاشلة، من خطف دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران إلى خطف حزب الله لأجانب في الثمانينيات إلى الدروع البشرية للنظام الصدامي إثناء حرب الخليج.
لا يتوقف الخطاب السياسي العربي المتقادم عن وضع أمنياته مكان الوقائع المؤلمة، فقوات التحالف "انفرط عقدها ميدانياً وسياسياً" والاحتلال "فقد السيطرة على الأرض" والعراق دخل "مرحلة دحر الاحتلال" و"أميركا على حافة الهزيمة"، و"المشروع السياسي الاميركي في العراق سقط برمته" وكذلك مشروع الشرق الأوسط الكبير وأي مشروع استعماري آخر سابق أو لاحق، والسياسة الأكثر ثورية هي التي ترفض أي حل وتتمسك بالمقاومة المسلحة الصالحة لكل زمان ومكان، فالتفاوض مرفوض و"القضية المركزية رحيل القوات" و"عن بكرة أبيها".
في الخطاب السياسي العربي مجلس الحكم وأحزابه في مأزق تام إن لم ينضم للموقف "الشعبي المنتفض في عموم العراق"، وهو "ساكت على الدم العراقي المسفوك"، وهو من معارضة سابقة "مفلسة عاجزة منعزلة مجهولة انتهازية.."، ورأى آخرون أن الانتقال – الذي لم يحصل إلا في الفضائيات- للقوى السياسية للمجلس إلى الجانب الآخر هو دليل أن الساعات الأخيرة للاحتلال قد أزفت، فسايغون في لحظاتها الحاسمة قبل أن تتحول إلى مدينة "هوشي منه". ويمكن تنويع الاتهامات فالأحزاب الشيعية في المجلس "عميلة لإيران"، والبيشمركة الكرد شاركوا في معركة الفلوجة، رغم أن من دفنوا في قرى الشمال هم من "أنصار الإسلام" الذين قتلوا داخل الفلوجة ويشكلون الفرع الكردي لتنظيم القاعدة.
بعض الخطاب السياسي العربي رغم دعمه للمقاومة الباسلة ولانتقالها "من مثلث إلى شبه منحرف"، لا يستطيع تجاهل ما رافقها من "مظاهر الفوضى والتعصب والتخلف"، لكنه يفضل دعمها "بخيرها وشرها بقمحها وزوانها"، فالديمقراطية غير ممكنة في العراق دون ديمقراطيين ونخب مقتنعة بها، فالمجتمع المتخلف لا يمكن أن يخرج سوى الديكتاتورية أو الفوضى، فلا فائدة من الدعوة للديمقراطية وإقناع النخب بها طالما أن هناك فئات اجتماعية واسعة مستفيدة من الديكتاتورية، فبديل الديكتاتورية السابقة الفوضى أو ديكتاتورية مثلها، هذا الخطاب يترك فقط خيارين لا ثالث لهما، بين الأسود والأسود الأقل اسوداداً، أي الديكتاتورية، وهذا ليس خياراً متخيلاً، بل هو خيار الذين توهموا أن عودة النظام السابق أهون الشرين.
هكذا يستمر الخطاب السياسي العربي في بعده عن رؤية الواقع على حقيقته، حيث الاحتلال مؤقت وزائل بدعم من الأمم المتحدة وقراراتها الجماعية، وبموافقة من قوات التحالف وسلطته على إنهاء الاحتلال بعد نهوض حكومة عراقية سيادية منتخبة قادرة بقواها الخاصة على ضمان الاستقرار والأمن، وهناك أجندة وبرنامج ترعاه الأمم المتحدة يبدأ من نقل السيادة للعراقيين في حكومة انتقالية أواخر حزيران القادم، تشكل بالتشاور بين كافة القوى السياسية ومجلس الحكم والأمم المتحدة وسلطة التحالف، تحكم لمدة لا تتجاوز ثمانية اشهر وفق قانون مؤقت، يعمل إلى جانبها مجلس استشاري موسع، وتحضر بالتعاون وبإشراف الأمم المتحدة لانتخابات في كانون الثاني 2005 لمجلس وطني يعد مسودة دستور دائم يعرض لاستفتاء شعبي قبل تشرين أول 2005 بحيث تتشكل أول وزارة عراقية منتخبة في كانون الأول من نفس العام. عندها مع تنامي قوة الجيش والشرطة، يصبح الاحتلال نافلاً وغير قابل للاستمرار، وإذا احتاج الأمر يمكن الاستعاضة عنه بقوات متعددة الجنسية تابعة للأمم المتحدة تساعد العراق في استعادة الأمن.
حتى ذلك الوقت فالعراق بحاجة للسلام والحريات وإعادة البناء، والمصلحة العراقية تقتضي وقف العنف المسلح أو التقليل من آثاره على الأجندة السياسية الانتقالية هذه، فاستمراره نكسة للعملية الديمقراطية ولجهود الاعمار وهو ذريعة لاستمرار الاحتلال، فهو استعجال في غير زمانه الصحيح وإهدار للطاقات وتسبب بخسائر بشرية ومادية كبيرة لا داعي لها قبل التأكد من أن المسار السابق سيتم التقيد به وتطبيق بنوده أم لا، فمقاومة سلمية تؤمن ضغطاً سياسياً مستمراً على قوات الاحتلال، تظل كافية حاليا للدفع في اتجاه تحقيق ما تم التعهد به. قبل ذلك فاللجوء للعنف المسلح يجري لمصالح وأهداف لا مصلحة لغالبية الشعب العراقي بها.
يخدم استمرار دوامة العنف أطرافاً داخلية وخارجية، فقد كان مفهوماً استعجال أنصار النظام السابق لحمل السلاح لاستعادة السلطة المفتقدة، فهي الطريقة الوحيدة التي اتبعت لوصول البعث إلى السلطة في الستينيات، كما كانت الأسلوب الوحيد للاستمرار في السلطة لما يزيد عن ثلاث عقود، وكانت السياسة شبه الوحيدة للتعامل مع الجيران بشن الحروب عليهم، وهي الآن الطريقة الوحيدة للعودة للسلطة وامتيازاتها. فالحزب يصدر بيانات عن عمليات جناحه العسكري "وحدات الطلائع" بمناطق انتشارها في الوسط، ويعتبر نقل السيادة للعراقيين مهزلة إن لم تنقل لصاحبها الشرعي، الحزب، الذي لا زال يدين بالولاء لصدام قائده الأوحد، ولو أنه بات أحيانا يفضل التخفي وراء شعار "بالروح والدم نفديك يا إسلام" طالما أن الإسلام السياسي هو الرائج حالياً. وقد شارك في ما سماه "الصولة النيسانية" وشكل أحزاب واجهة منها "حزب العودة" –بالطبع ليس العودة لفلسطين ولكن للسلطة-، وتسللت عناصره لأحزاب ومنظمات أخرى قديمة وجديدة.
إلى جانب البعث وفي منطقة عملياته في الوسط وبغداد وخاصة في الفلوجة والرمادي، تعمل المنظمات الأصولية، ومنها "أنصار السنة" و"الحركة السلفية" و"سرايا المجاهدين العرب" و"أنصار الإسلام" وغيرها، وهي لا تكتفي بالعمل ضد القوات الأميركية بل أيضاً ضد منتسبي الشرطة والجيش الجديد الذين تتهمهم بالارتداد عن الدين وبالتالي استحقاقهم للقتل، أما لدى تنظيم القاعدة فالطيف المستهدف بالقتل أوسع بكثير ويضم الروافض من المذاهب الأخرى، كما حدث في أكثر من تفجير عشوائي في الجنوب. وهي المنظمات المسؤولة عن أعمال خطف المدنيين حيث الغاية الأيديولوجية المتوهمة تبرر أي وسيلة متبعة. وقد صعدت هذه المنظمات أعمالها إلى مستوى الهيمنة على مدينة الفلوجة، وظل الخطاب العربي السياسي يتحدث عن مقاومة "أهالي" المدينة إلى أن استطاع معظمهم الخروج منها، ولم يبق سوى بضع مئات من المسلحين. وبعد أن دخلت إليها قوات لحفظ الأمن سكت الخطاب وتوجه لساحات أخرى بحثاً عن المقاومات والانتصارات. وقد ظلت قوى النظام السابق والقوى الأصولية معزولة داخلياً وغير مقبولة كنهج وكأسلوب للمقاومة من معظم العراقيين فيما عدا الترحيب العام بها في أوساط وأنظمة ونخب عربية، إلى أن ظهرت قوى أخرى في الجنوب بتحول مجموعات السيد الصدر من المعارضة السلمية إلى حمل السلاح والدعوة لانتفاضة شاملة.

2
اعتمدت القوة الجديدة على رصيد شعبي لشهداء عائلة الصدر، وبرزت بعد حادثة مقتل رجل الدين المعارض عبد المجيد الخوئي، الذي قتل طعناً بالسكاكين ثم سحل إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو ابن الإمام أبو القاسم الخوئي المرجع الأعلى للشيعة في العالم لنصف قرن، ومن أهم مواقفه رفض زج الدين في السياسة ورفض إقامة حكم إسلامي أو حكم ولاية الفقيه. وجندت قيادات من رجال دين صغار خارجين على المرجعية العليا الشيعية رغم استمرار الحديث عن القبول بتوجيهاتها، فمن الصعب على طلاب من مراتب دنيا منافسة المرجعيات العليا، لكنهم يأملون بزعامة سياسية معتمدة على الدين تأتي من موقف متشدد تجاه الاحتلال. و قيل في البداية أن سلطة التحالف لم تتعرض للصدر ليظل قوة تنافس المراجع العليا، حتى أن الصدر أعلن أن "الأميركان ضيوفنا" ودعاهم لدخول الإسلام، إلا أن عدم إشراكه في مجلس الحكم جعله يتخذ مواقف أكثر تشدداً، بعد أن استطاع استقطاب قطاعات من العاطلين عن العمل والمهمشين المستاءين من الأوضاع الجديدة، وعدد من منتسبي الأجهزة البعثية السابقة الجنوبيين الذين وجدوا في صفوف أنصاره ملاذاً مما يمكن أن يتعرضوا له.
وكان أول عمل فاشل لأنصاره في تشرين الأول من العام الماضي محاولة السيطرة على ضريحي العباس والحسين في كربلاء، من أجل النفوذ السياسي في أوساط الطائفة تحت يافطة حماية ألاماكن المقدسة. وكانت خطوته الثانية التي أثارت ضجة محاولة إنشاء ازدواج في السلطة بين مجلس الحكم ووزارة ظل سعى لإعلانها، وبعد الفشل انتقل لتشكيل جيش بقمصان سوداء سماه باسم "المهدي"، مما جعل آية الله منتظري يعتبر أن استخدام اسم الإمام المهدي يعد انحرافاً عن أصول المذهب الجعفري. ويطرح الجيش نفسه كمدافع عن المذهب والدين ويلبس بعض أفراده الأكفان طلباً للشهادة في سبيل ذلك، وهي مظاهر تؤثر على الناس البسطاء ولكنها لا تفيدهم بشيء بالنسبة لأوضاعهم المعيشية المتردية، فيما عدا أنهم يوعدون بحياة أفضل مؤجلة إلى ما بعد مماتهم.
نشر أنصار الصدر برنامجاً يقترب من برنامج طالبان الأفغانية، إذ قدم في مسيراته نساء منقبات نموذج المرأة التي يريدها للعراق، حيث عمل أنصاره على فرض الحجاب قسراً –كما يحدث في إيران- باستعمال ماء النار لبث الرعب في أوساط السافرات حتى لو لم يكن مسلمات، وفرضوا على الرجال إطالة اللحى وقاموا بحملة ضد محلات المشروبات وقتلوا عدد من بائعي الخمور واستولوا على بعض موارد المراقد الدينية لتمويل حركتهم. وسموا مدينة الثورة "مدينة الصدر المنورة"، ونادوا بالنجف عاصمة للعراق، وكفروا العاملين مع أجهزة الشرطة حتى المرورية منها، وحرموا المساهمة في التعليم طالما أن أهدافه ليست إسلامية. وكخطوة أولى لتأسيس دولة دينية، أقاموا محاكم شرعية لاستبدال القضاء العادي بالنسبة لكافة القضايا، في محاولة لتقليد القضاء الإيراني التابع لرجال الدين، مع دعوة لتحويل الحوزة العلمية، إلى مصدر وحيد للتشريع في البلاد، وكانت من أهم "وزاراتهم" وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
معركة الصدر بالأساس مع المرجعيات والأحزاب الشيعية الأخرى، يريد أن يكسبها بطرح نفسه الأكثر جذرية في مقاومة الاحتلال لطرده، طالما أنه وأنصاره يحملون السلاح بينما الباقون يعولون على المقاومة السلمية، وهو بعيد عن القبول بالانتخابات الديمقراطية القادمة كوسيلة للحصول على أكثرية، رغم الشكوى من انعدام الديمقراطية بعد إغلاق جريدته المتهمة بالتحريض على العنف، الذي يهدف بالأساس لاحتكار قيادة الطائفة بعد تحييد المرجعية، تمهيداً لقيادة البلد بعد إسقاط مجلس الحكم، فبرنامجه الانتقال بالعراق من الديكتاتورية الصدامية إلى ديكتاتورية العمائم، فلو كان يقبل بالديمقراطية لانتظر الانتخابات القادمة التي ستجري بإشراف الأمم المتحدة، فإذا حاز أغلبية يمكنه مطالبة قوات الاحتلال بالانسحاب، فإذا لم تقبل، يخوض المعركة ومعه معظم الذين انتخبوه.
استعدى الصدر الكرد برفضه للفيدرالية، واستعدى مجلس الحكم وأحزابه باتهامهم بالعمالة، واستعدى مختلف الطيف القومي والمذهبي العراقي بدعوته لنظام ديني مذهبي محدد، واستعدى المخالفين له بالرأي بالدعوة لاستعمال العنف لإقصائهم، كما لم يستطع إقناع القوى السلفية السنية بتوحيد القوى، فالخشية واسعة من المزيد من توسع نفوذه وهيمنته. ومن المستبعد أن يقيم علاقات تحالف مع قوى البعث المسلحة، أو مع القاعدة رغم أن أتباعه يسرعون بعد أي تفجير عشوائي ضد المدنيين العراقيين لتبرئتها واتهام قوات التحالف بأنها وراء هذه الأعمال، فتنظيم القاعدة "خدعة أميركية لتبرير احتلال الدول الإسلامية".
أبدى أنصار الصدر موافقة على التفاوض مع قوات الاحتلال، بعد أن اضطروا لمواجهتها منعزلين، فقد تزايدت معارضتهم في مدن الجنوب وتحولت إلى مسيرات تطالبهم بالخروج من المدن المقدسة، حتى أنه تشكلت ميليشيات لمواجهتهم، منها: "جيش ذو الفقار" وجماعة "شباب النجف المؤمن" ومنظمة "الانتفاضة الشعبانية" وغيرها، فالمرجعية لم توافق على التحول لحمل السلاح ورفضت إصدار فتوى بإعلان الجهاد مما لا يجعل من يقتل في الاشتباكات الحالية شهيداً، وعارضت فرض أنصار الصدر لقانونهم في المدن، وطالبت بإعادة الشرطة العراقية لمهامها، وهذا ما يحدث فعلاً الآن.
وعلى مستوى الدعم الإيراني فقد تأرجح من إشادة بعض المسؤولين المحافظين بالصدر، وبين محاولة استرضاء جميع القوى السياسية في الساحة الجنوبية، بالتعامل مع مجلس الحكم والأحزاب المشاركة فيه، حتى أن أحد مسؤولي تيار الصدر أبدى انزعاجه من الموقف الإيراني إذ صرح بأن هناك تنسيقاً استخباراتياً بريطانياً- أميركياً- إيرانياً في الجنوب يسعى لتدمير "خط الصدر"، ويحتار المراقبون في التأكد من اتهامات لإيران بأنها تدرب أنصاره وتزودهم بالسلاح والمال للضغط على الأميركيين، مع الاستمرار في العلاقات مع مجلس الحكم والمرجعية من أجل التغطية. أما آية الله الحائري الإيراني المقيم في قم والذي يقلده الصدر وكان يناشده العودة لقيادة العراق، فقد أعلن بطلان قرار الصدر بإعلان الجهاد، وأنه لا ينسق معه.
تزايد الدعم الرسمي أو الشعبي العربي للصدر بعد أحداث نيسان لكنه ما زال محدوداً ومتحفظاً وغير ملموس، إذ يفضل دعم "مقاومة عراقية" دون تحديد مسميات لأطرافها المختلفة، ورغم تهليل نخب وفضائيات وأنظمة "للانتفاضة الشاملة"، فإن ما حصل أقل من ذلك بكثير، فقد فشل السعي لمثل هذه الانتفاضة، فالمزاج العام في الشارع لا زال يراهن على العمل السياسي لإنهاء الاحتلال، وغالبية رؤساء العشائر والتجار ابدوا استيائهم من وجود المسلحين المنفلتين داخل المدن المقدسة التي تحولت إلى مدن شبه ميتة إذ توقفت فيها النشاطات الاجتماعية والتجارية والسياحية والتعليمية. والفضائيات التي شجعت المسلحين على تصديق صورتها الفضائية أكثر من تصديق ما يحدث أمامهم على الأرض، بردت همتها في دعم انتفاضتها، بعد أن لم تعد سوى بضع مسلحين في كل مدينة أهم أعمالهم الرقص في حلقات وهم شاكي السلاح وإطلاق الأهازيج التي تمجد الصدر، أمام أية كاميرا يلتقون بها.
من المستبعد أن يتوافق المسلحون على اختلافهم- البعث والقاعدة والصدر- على برنامج سياسي موحد، فهي أطراف لا تتفق إلا على حمل السلاح واستعجال اللجوء للعنف رغم عدم نضج ظروفه، لعرقلة نقل السيادة وإسقاط الحكومة الانتقالية وإفشال البرنامج الانتخابي ومنع إعادة الاعمار وإبقاء العراق في دائرة التدمير البشري والمادي. العرقلة والانهيار الذي تسعى إليه هذه القوى كل منها على انفراد، لن تؤدي إلا لاستمرار الاحتلال، أو انسحابه وتركه الساحة لأطراف يسعى كل منها لفرض نفسه في أماكن تواجده، أي إقامة سلطة أمراء حرب في الجنوب والوسط والشمال، سلطة جيش الصدر وجيش البعث وجيش ما سلفي زرقاوي ربما، مما سيعني تقسيم واقعي غير معلن يمكن أن يتحول لحرب أهلية إذا سعى أي طرف لطرح نفسه منقذاً للعراق بكامله.
أن صعود العمل المسلح رغم محدوديته، هو بسبب ضعف قوى المشروع الديمقراطي ولكونها في مراحلها الأولية، ففي مجتمع تم تجهيله وإبعاده عن السياسة لعقود طويلة، يتشابه الخطاب الشعبوي المتخلف لمسلحي الصدر والفلوجة مع ما تفكر به قطاعات واسعة مجهلة، لن تستجيب بسرعة لخطاب حداثي ديمقراطي علماني إنساني تطرحه القوى الديمقراطية، وهي لن تقتنع بهذا الخطاب إلا بعد تجارب مؤلمة وهزائم وخيبات وخسائر بشرية ومادية.
وتأتي المخاطر على الديمقراطية العراقية من أطراف ثلاث: بقايا النظام السابق، الأنظمة الإقليمية المتضررة من بناء نظام ديمقراطي عراقي، وقوى داخلية أصولية متطرفة تسعى لاستغلال انخفاض مستوى الوعي الديمقراطي لدى قطاعات واسعة، لتطرح نفسها بديلاً، لا يختلف عن النظام السابق إلا في اعتماده على إيديولوجية دينية كبديل للايديولوجيا القومية للنظام السابق. لكنه بعد انهيار الأفكار القومية الفاشية مع ذهاب نظامها الصدامي، فالحركات الأصولية الحالية تكرر نفس تجارب الحركة القومية للخمسينيات حتى السبعينيات التي فشلت بسبب تأجيلها أو رفضها للديمقراطية وحقوق الإنسان بحجج قومية أو وطنية، فانهيار الديكتاتوريات المتسترة بذرائع قومية أو وطنية، سيليه في السنين المقبلة انهيار الديكتاتوريات أو مشاريعها المستندة لذرائع أيديولوجية دينية.
نرى أن التيارات الاسلاموية المتشددة لن تستطيع أن تستمر طويلاً في اتجاهها المعاكس للمسيرة العالمية، إذ لم يعد من الممكن الانعزال عن عالم يسعى لسيادة المفاهيم الإنسانية والديمقراطية، فكما اقتنع الشعب الجزائري بعد مجازر الجماعات الإسلامية المسلحة المنبثقة عن جبهة الإنقاذ، بأن الأصولية الإسلامية التي أعطاها أصواته في انتخابات 1991 ليست هي الحل ، فان الشعوب الأخرى ستسير على نفس المنوال، إذ لا يمكن مواجهة الحداثة والعولمة بأفكار ظلامية من القرون الوسطى.
أما الخطاب السياسي العربي المؤيد للمسلحين العراقيين بصرف النظر عن تركيباتهم وأفكارهم وأهدافهم وبرامجهم وأساليبهم، وبالاعتماد على عمليات لهم ضد قوات الاحتلال، فربما ينزلق لتبرير أعمال بن لادن بصفته مقاتلاً صامداً ومقاوماً للهيمنة الأميركية. لكننا نأمل أن التفاصيل والوقائع والنتائج قد تهز الصورة الزاهية في أذهان قدماء الوطنيين والقوميين وأنصار الكفاح المسلح في كل الحالات، والراديكاليين اليساريين، المعتادين على العناوين والايديولوجيا والحقوق العارية والنصوص والثوابت الراسخة على مدى الدهور، ولا بد من التفاؤل بقدرة الوقائع على شق طريقها لفتح نوافذ تدخل أشعة الشمس للعقول لطرد الأوهام، فالنظريات تظل دائماً رمادية أما الحياة فخضراء ومشرقة.



#جورج_كتن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لكي لا تنزلق الحركات الأصولية للفشل والانهيار
- قراءة في المبادرات نحو شرق أوسط أفضل
- نثمن تخلي رياض الترك عن الأمانة العامة
- حزب ديمقراطي كنموذج مصغر لنظام ديمقراطي قادم
- مزيد من الحوار حول المسألة الكردية العراقية
- حلاً إنسانيا للمسألة الكردية العراقية
- نحو قطع آخر خيوط أوهام الأيديولوجيا وجهة نظر حول مشروع موضوع ...
- هل نشهد نهاية الديمقراطية الإسلامية؟
- تفكيك السياسة الخارجية الأميركية
- أولوية النصوص على الوقائع! ماذا تبقى من الماركسية؟
- نحو أحزاب ديمقراطية تزيح حزب -ما العمل- المركزي والشمولي
- المخاض العسير- لعراق ديمقراطي عقبات وحلول
- وثيقة جنيف والنخب العدمية
- أممية شعبية قيد التشكيل


المزيد.....




- في بيان لـCNN.. الجيش الإسرائيلي يوضح حقيقة فيديو -قتل فلسطي ...
- -إصابات مباشرة وإطلاق صواريخ متنوعة-.. -حزب الله- ينشر ملخص ...
- روبوت على هيئة ذئب أو ثعلب لإبعاد الحيوانات عن مدارج مطار أل ...
- دمشق وموسكو تنددان بغارات -إسرائيلية- داخل سوريا
- ترامب يستأنف ضد رفض المحكمة عزل المدعية العامة من قضيته
- زيلينسكي يعترف بأن القوات الأوكرانية ستستمر في الانسحاب والت ...
- -يا له من عار-.. بدلات ماكرون تسافر إلى غويانا على درجة رجال ...
- -واشنطن بوست-: إدارة بايدن وافقت على تقديم طائرات وقنابل لإس ...
- عباس يؤكد على ضرورة استلام دولة فلسطين مهامها في غزة كما هو ...
- فرنسا تطلب دعما عسكريا وشرطيا دوليا لتأمين الألعاب الأولمبية ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جورج كتن - خطاب سياسي عربي، زوبعة في فنجان عراقي