أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال البيابي - قصص قصيرة















المزيد.....


قصص قصيرة


نضال البيابي

الحوار المتمدن-العدد: 2737 - 2009 / 8 / 13 - 07:45
المحور: الادب والفن
    


الهذيان
عندما تكتشف فجأة.. إن كل ماكنت مؤمنا به، كان خدعة، مجرد خدعة رخيصة مستهلكة، وإن كل ماكنت تراه خدعة، فمنذ أن خٌدعت عيناك، وأنت غارق في الوهم حتى أذنيك!!
عندما تتيقن ..إنك إذا مت غدا ،أو فنيت، وحزمت حقائب الذكريات،وكتبت الرسالة الأخيرة، وحيدا على فراش مهترئ الغطاء، مغادرا مرسى هذه الغربة الوجودية مستلب الإرادة مشوش الحواس، فاقدا لللإدراك بماهيتك، دون عودة، ودون أن يفتقدك أحد ،أو يشعر بخسارتك أي إنسان، بل لن تجد من يشيعك، فموتك ..كموت أية ذبابة هائمة على وجهها من ملايين الذباب على مر ملايين الحقب.
وستدرك ، متأخرا، بعد فوات الأوان ، أنه لاتوجد ثمة أهداب قد ترتعش لسماع نبإ رحيلك.
كل ما أنت متيقن منه..إن الصحف الرسمية لن تنشر في صفحاتها الرئيسة بالخط الأحمر الفاقع خبر وفاتك، اللهم إلا ذكر اسمك في صفحة الوفيات بين مئات المجهولين المسجلة أسماءهم وفق التسلسل الأبجدي التي نقرأها يوميا ونحن نرتشف قهوة الصباح دون أن يعترينا حزن لرحيل هؤلاء الغرباء.
شيئا فشيئا قد تدرك، وبعد أن بلغت من العمر عتيا،إنك أقرب للموت أكثر من أي وقت مضى ،وإن وجودك الهامشي على سلم الحياة لم يكن يوما ذا أهمية بالنسبة لإنسان آخر يشاركك همومك وهواجسك وأحلامك، ويبدو لك الأمر مستحيلا،أن تلوح الآن في الأفق البعيد بارقة أمل تضئ العتمة في أفاقك السوداوية..لعلك من أجل ذلك الوميض المفاجئ الذي انتظرته طويلا قد تتشبث بأظافرك ونواجذك بأذيال الحياة حتى الرمق الأخير،لعلك تشعرحينذاك،إن لوجودك معنى وأنك لست عبئاً ثقيلا على كاهل الحياة.
وربما أثناء هذا السقوط الحر في الفراغ، قد تجنح بك الآمال وأنت مسكون باليأس والاحباط وتظن حينها عبثا أنك قد تكون سطرا أو حرفا أو نقطة أو فاصلة أو محطة عبور في هذا الكتاب الكوني الضخم، وقد يكون لك دورا خفيا ذا حكمة بالغة في هذا المسرح الكبير.مثلك مثل بقية خلق الله ،كل له دور يؤدية ثم تسدل ستائره،إلا أنت، مازلت تراوح مكانك من مهدك إلى لحدك، وإنْ كان ثمة دور أسند إليك، دون علمك واختيارك، سيكون حتما دورك، أن تحيا محزونا وحيدا، تحمل على ظهرك أثقالا من الهموم ليس لك صلة بمبدإ نشوئها من العدم. لكنك حتما مضطر أنْ تؤدي دورك ، المسند إليك خفية، على أكمل وجه،دون تبرم أو امتعاض ،والحقيقة المحضة التي لالبس فيها ..لادور لك..ولاتأثير، كريشة في مهب الريح،أو في أحسن الأحوال، كصرصار قد تطأه الأقدام دون الإحساس بأهمية وجوده،وقد تطأه بكل رحمة قدم قديس،ولن يتوقف أحد ما ليتساءل عن معنى لوجوده أوعن الحكمة التي قد يشكلها وجود صرصار بيننا أو موت صرصار من ملايين الصراصير.
وكلما بحثت عن حكمة لوجودك ، وبقدر ماتوحي به الإجابات التي سوف تجدها في الكتب الدينية بالطمأنينة والسكينة لكثير من النفوس البشرية المتعبة، إلا أنها لن تبعث فيك إلا شكوكا وهواجس ستجعلك أسيرا لصخب الاستفهامات الكبرى ، التي تطوق عنقك بكل سادية كأفاعٍ رقطاء ..فكل مايقال عن أن وجودك هو ضمن خطة كونية غيبية ..ستجد أن ذلك الاعتقاد الذي يكاد يكون سائدا في مجتمعك هو مجرد رشوة ومخدر مؤقت لصخب الاستفهامات الكبرى التي يصطخب أوارها في فضاءات العقل عند كل مطبة عصية على الفهم والإدراك في الحياة الواقعية المجردة.
إذاً ...فليس ثمة أمل في أن تكون أكثر من بكرة صدئة لفظتها عجلة الحياة منذ عهد سحيق، فإنْ كنت تبحث عن عزاء لك ، بعد هذه النبوءة المتأخرة جدا ، فلن تجده إلا في الوسيلة السريعة الفعالة للانتقال للمرحلة اليقينية عبر النافذة الأخرى والأخيرة ..دون ألم ودون ندم، فلربما تحمل تلك الرحلة المجانية في جعبتها الإجابات الحاسمة والجلية دونما ضباب أو تمويه أو ألغاز.
ولم لا...قد يكون الموت كالنوم..هدأة وغيبوبة أطول بعض الشيء ..دون ألم ..وسبات تام لأشواك الضمير الوخازة!!
غدا..ستتعفن جثتك في غرفتك القذرة، وحيدا، وستزكم الأنوف رائحتك النتنة، معلنة خبر وفاتك بعد ثلاثة أيام من التعفن والوحدة.ولن يٌشيد لك نصبا تذكاريا كشاهد رخامي يخلد مآثرك العظيمة، كم كنت تأمل، ولن تجد قبضة مرتعشة محزونة تنثر حفنة من تراب على قبرك القذر.
كانت عيناه تتضرعان البحر، ناطقتان بكل مايعالجه داخل نفسه، خلع نعليه..وطفق يمشي على رمال الشاطئ بقدميه الحافيتن المتيبستين دون وجهة معينة،وأصغى لهدير أمواج البحر ووخزت جيوبه الأنفية رائحة البحر النفاذة الغامضة. وعبارة واحدة ماانفك يرددها في نفسه:"من أنا ..وماذا سيكون مصيري ..وماحكمة وجودي؟.."
كانت السفن تبدو هامدة الأضلاع ، صامدة في وجه زوابع التيار، التي عصفت بقوارب البسطاء التي كانت تتأرنح في نزق محموم ..وفد بدا القمر محتضرا بين الغيوم الداكنة، لكن الرياح سرعان ماهدأت عند انبلاج الفجر..و طفت الشمس على سطح البحر باهتة ناعسة وهي تعانق أديم السماء الأرجواني وسطح الماء الذي بدأت زرقته تتكون شيئا فشيئا..ولم يعد يسمع سوى هسيس أجنحة النوارس الخفاقة المحلقة في الأفق الأزرق، الذي بدا كرجع صدى متناغم مع هدير الأمواج.
يتماوج الموج الأزرق المنسكب بتألق تحت أشعة الشمس كقطعة من القماش الأزرق الحريري بين يدي بائع مزهوٍ بحرفيته وخبرته الطويلة في التلاعب بالألوان..يتماوج الموج الأزرق نافثا زبده الأبيض على الكثبان الرملية الساحلية الندية.
وقبل أن تتربص به أشعة الشمس..نفض الرمل عن معطفه الرمادي وقفل عائدا إلى منزله.
عندما وصل إلى مدخل الميناء.. أستعاد ذكريات مغادرة البوارج الحربية وزوارق الإنزال وألسنة اللهب وسحائب الدخان في سماء ذلك اليوم المشئوم، ودوت في أذنيه خطب الزعيم الرنانة وشعاراته البالية الجوفاء التي لاكها نصف قرن حتى لفظها أخيرا وهو يقلد أعلى وسام حربي!
ذلك الزعيم الذي كان يعتقد أن قسوته نعمة يتفضل بها على الشعب المسحوق تحت حذائه ، و ظلمه رحمة بهم!!
ذلك الزعيم المسكون بـ"شيفا" الذي ينتصب تمثاله العملاق في الساحة الرئيسة للعاصمة بين الجامع والكنيسة،ورغم إنه أضحى مرتعا للغربان إلا أن صوره مازلت تزين مداخل المدينة ودور العبادة والحوانيت والحدائق العامة وحتى في دورات المياه..
ذلك الزعيم الذي استبدت به الشهوة ذات يوم وقرر أن يعلن ثورته على الحكم الشمولي، واستعمر المدينة في انقلاب عسكري وحشي، استعبد الأهالي واحرق الحرث وحاكم حتى النطف "التي لم تخلق!" وشيد كرسيه الوثير على حطام أضلاع البسطاء والأطفال الذين تساءلت جثثهم المفحمة المكدسة على نواصي الطرقات عن الحكمة الخفية وراء هذا الدمار والسلب والقتل العشوائي وعشرات القرى المحترقة وعشرات المدن التي أبيدت معالمها في طرفة عين،والآف القتلى والجوعى والمشردين وذوي العاهات.
ذلك الانتهاك المتواصل المستشري في الزعيم وزبانيته وأوصيائه، خلف نزوعا لدى الشعب للحرية والرحيل..حتى غدا الشعب مهوسا بالحرية إلى حد الفوضى والتمرد على كل شيء ، بعد أن أصبح كل شيء يشترى ويباع..كل شيء.
عيون مسكونة أبدا بالملح، وقلوب وجلة تسبح صباح مساء للديك الصياح!!
على مد البصر..كانت تترامى بيوت المدينة ..متفاوتة الارتفاعات متباينة الألوان ، ومازالت تختزن ذاكرة جدران بعض تلك البيوت آثارا من طلقات نيران الحرب والثورة.
شوارع المدينة..تنبض بالحياة، باعة متجولون يتهافتون على لقمة العيش منذ ساعات الصباح الأولى والمحلات التجارية والمقاهي والمطاعم بدأت في تسارع محموم فتح أبوابها، وأطفال حفاة بملابس قذرة مهترئة يبيعون أكاليل الزهور لسائقي السيارات، وعند أبواب دور العبادة تتكدس أكوام جثث لذوي العاهات المستديمة والمتسولين وكبار السن فاقدي القدرة على الحركة والكلام..وجوه متجهمة مهمومة تبعث في النفس الأسى والإحباط والتشاؤم والكفر بكل المبادئ!!
حواجز الأمن عند مدخل كل شارع ،وكميات كبيرة من القمامة تتكدس عند مداخل البنايات، والعشب ينمو كثيفا عشوائيا عند كل رصيف.. حيث المياه الراكدة الآسنة، روائح العفن والأتربة تلف المكان ممتزجة مع رائحة الخبز الساخن والفطائر والقهوة والتبغ.
مدينة مسكونة بالجوع والحقد والقسوة والتزمت والإنحلال..تقتات صباح مساء من أفيون الازدواجية،. مدينة متربصة دوما بفرحك ،متلصصة دوما على أسرارك وسقطاتك، أما أن تشبهها أو تقدم رأسك قربانا على مقصلة العادات العريقة. لن تجد الحب فيها..إلا في الدهاليز السرية الخفية التي لايعرف أحد حتى الآن كيفية الوصول إليها.هي مدينة القمع والخوف والشك والذاكرة المثقوبة أبدا بالأحزان.
وصل إلى مدخل بيته الرابض وسط المدينة. كان بيتا شاهقا متداعيا ذا حوائط أقرب ماتكون للون الرمادي من الأصفر الخافت اللون الأصلي ، الذي تم بناؤه قبيل ثلاثة عقود، فناؤه في أغلب الأوقات معتما أو مضاءً إضاءة خافتة ،لذلك ينبغي عليك أنْ تكون حذرا عندما تصعد درجات السلم المتآكلة والزلقة من اخضرار العفونة والرطوبة.
في يوم الجمعة على وجه التحديد يعبق الحي بروائع السمك المشوي والغسيل الندي ..وأما بقية أيام الأسبوع ،فالسكان يصحون مبكرا،قرابة الساعة السادسة صباحا،ضجيج الأصوات المتداخلة ووقع الأقدام اللاهثة فوق درجات السلم تشعره بالغثيان. أغلب سكان البيت يعملون في حرف يدوية في المصانع المنتشرة في أرجاء العاصمة،أما حارس البيت، فهو ثمل كل صباح، يشنف الآذان منذ ساعات الصباح الأولى بالعزف على كمانه لحنا غريبا حزينا، لكن صوتا غليظا ينعب من إحدى النوافذ العليا محذرا متوعدا الحارس أن يكف عن عزفه المزعج، وفي العادة يستجيب الحارس لذلك التحذير الصارم دون امتعاض،لكن أحيانا يتملكه كبرياؤه فيأنف بنفسه أن ينصاع لذلك الصوت الغليظ فيواصل عزفه غير مبالٍ بما يحدث من حوله،وعازف الكمان، أو حارس البيت ذي الشارب الكث، إذا لم يكن ثملا-وقلما يحدث ذلك- تجده صموتا ،الحزن يسكن عينيه المهزومتين،وثمة شائعة منتشرة في الحي تقول: إنه كان عازفا بارعا في إحدى الفرق الموسيقية المعروفة، لكن زوجته تخلت عنه من أجل قائد الأوركسترا –أستاذه- فمنذ أن خسر كبرياءه ،لم يعد يحفل بشيء ، ومازال يعزف على أوتار الذكريات الموجعة،يسترجع مامضى من أيام مجده وسعده.
وصل إلى شقته في الطابق الخامس لاهث الأنفاس و ألقى بجسده المتهالك على الفراش وسلم وجعه لأطراف الفراش الدافئة .. تداعت الأجفان وغار الإدراك بعيدا..وتسرب الخدر إلى أطراف القدمين وغاص الرأس الأشيب في الوسادة البيضاء وانسكب في هوة سحيقة وأنتفض بعد برهة مذعورا مبللا بوابل من العرق الساخن من ذلك الإحساس المبهم من السقوط في الفراغ ..مد يده إلى كأس ماء كان قد تركه على المنضدة المجاورة للفراش، شرب حتى الامتلاء واسند رأسه على الوسادة، محاولا عبثا استجداء النعاس الذي بدا مطلبا مستحيلا لوهلة، وتنقلت عيناه بين جدران غرفته باهتة الألوان.. الصورة الكبيرة ذات الإطار الذهبي الذي يبدو فيها بكامل لباسه العسكري وهو منحنٍ للزعيم وهو يقلده أعلى وسام حربي تقديرا لبطولته وتفانيه في خدمة الحزب بعد انتصار الثورة المجيدة،و صورة لزوجته المتوفاة برصاصة طائشة أثناء الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد بعد اندلاع الثورة بعدة شهور، والبندقية ذات الفوهة الصدئة المعلقة على الجدار التي طفق يتأملها طويلا ويستعيد شريط الذكريات.




نجوى

حياتي الزوجية عادية جدا،لادهشة فيها ولااتقاد، كعلاقة أية امرأة مضى على زواجها المدبر خمس سنين، ورغم أن سريرا واحدا يجمعنا يوميا تقريبا إلا أنه أكثر الرجال غموضا، لم نرزق بأبناء، رغم أن كلينا لايعاني من مرض عضوي يحول بيننا وبين الإنجاب، ورغم أمانينا الكبيرة ومحاولاتنا العديدة إلا أن للقدر رأي آخر، علاقتي بأمي قوية ومتينةجدا، فهي بسيطة وطيبة وتقليدية لأبعد الحدود،فقد أنجبتني ولم تتجاوز الخامسة عشر ،والمفارقة التي أقف أمامها دهشة كيف استطاعت هذه القديسة أن تنجب امرأة تحترف البارود والتمرد على كل الموروثات والعادات العريقة التي تشربتها في المهد ولفظتها بعد تسع سنوات عند انفجار الوريد وانسكاب الأحمر القاني.أما أبي فعلاقتي به تشوبها فتور وقطيعة لحد ما.
حياتي السريرية مع زوجي آلية جدا، لاحماسة فيها ولانكهة توق، نطفئ الأضواء تماما، وكأننا نتحاشى رؤية بعضنا، لذلك كثيرا ما أبحث عن المتعة من خلال الإستعانة بالخيال، والحقيقة إن الرجال الناجحون في الحياة فاشلون جدا في السرير!
اهتمامات زوجي لاتخرج عن إطار عمله العسكري، فعندما يتواجد في البيت ،أما أن يكون منشغلا بتلميع نياشينه أو حذائه العسكري أو يستغرق ساعات طوال في تأمل بندقيته وتنظيف فوهتها اللماعة، وفي تلك اللحظات تعتريني أمنية شيطانية بأن يكون مصيره مصير همنغواي الذي منعني من قراءة رواياته ،لأنها كتبا إباحية لاتليق بامرأة محترمة في عقدها الثالث على حد تعبيره!
شقيقي صديق زوجي المقرب، فعلاقتهما تمتد قرابة الخمسة عشر عاما. وكثيرا مايتواجد شقيقي مع زوجي في الإجازات الأسبوعية. وكلاهما شغوف بالكرة، فأكثر أوقاتهما يقضيانها في متابعة مباريات كرة القدم. وأكون حينذاك سعيدة جدا عندما أخلو بزوجة شقيقي،فهي مرحة وحاذقة،وجديرة بالثقة،وهي الوحيدة التي تعلم حقيقة علاقتي السرية بمازن. ورغم نفورها في بادئ الأمر من هذه العلاقة الهجينة كما تسميها،إلا أنها تدريجيا بدت متفهمة لطبيعة علاقتنا، واقتصر دورها على إبداء بعض الملاحظات المتحفظة والإصغاء باهتمام لمستجدات لقاءاتي السرية بمازن، وزوجي وشقيقي يتهامسان فيما بينهما ويتناهى لمسمعينا كلاما ذكوريا غريبا إذا ارتفعت أحيانا نبرة صوتيهما،ويصاحب ذلك الهمس ضحكات صاخبة، والحقيقة قلما يستثار اهتمامي بمعرفة مايدور بينهما،لكن صفاء على النقيض تماما، فهي مرتابة وممسوسة بحالة شك مقيتة إزاء هذه الهمس الذكوري السري.
في حفل زفافي، همس لي شقيقي مغتبطا مباركا زواجي من أعز أصدقائه:"لقد تزوجت رجلا جديرا بحبك.. هنيئا للك يا أختاه بهذا الزوج المبارك"
قبل عدة أشهر..فاجأني زوجي بسؤال مباغت،بينما كان مضطجعا فوقي لاهث الأنفاس :"أتحبينني؟!"..نعم أحبك..، احتضنني من الخلف بسعادة غامرة وغاص في سبات عميق.
ويمكنني الجزم أن تلك اللحظة هي أكثر لحظة رومانسية جمعتنا خلال خمس سنوات!!
في منتصف الليالي الماطرة.. إذا شاء الشوق،واشتعلت شظايا الحنين.. يداهمها مازن بحبه وبجوعه المسعور وبسحر كلماته الرقراقة التي تضرم النيران في الرغبات المستترة في مسام جسمها البض عارم الأنوثة، وعندما تغطي النيران مساحة الغابات المهجورة المنسية،يأتي الصباح،ويتسلل مازن خلسة من بين الأدخنة المتصاعدة من فوهة البركان،مخلفا وراءه أنثى مشتعلة بأنوثتها العارمة،من كحلها إلى كاحلها،ولايمكن إطفاء هذه الحرائق المستعرة التي تزداد رغبة في الاشتعال ويستمر أوراها في نزق محموم حتى يأتي المساء الماطر بالدهشة والتوق اللامحدود للاحتراق مجددا.
وتقضي نجوى بقية يومها أسيرة لصهيل الرغبة الضارية شاردة الذهن فاقدة الحواس،تستعيد لحظات الدهشة والانبهار على كرسي الذاكرة المستعر شوقا وجنونا للرجل الوحيد الذي يمكنه أن يشغره عطرا وعشقا.
تحتاج نجوى أن ترتدي عدة أقنعة، توارب بها مباغتة الضمير حينا ومتطلبات الحياة الزوجية حينا آخر، وقد تعقد هدنة مؤقتة تكبت فيها صهيل المسام الشبقة وعويل الذكريات ، ريثما تقلع الطائرة حدود الاضطراب، فتخرق الهدنة ويطلق العنان للرغبات المستترة بذلك الحجاب الشفاف حينا والمكثف أحيانا اخرى،حسب مزاجية الأنوثة ومتطلبات الحياة الزوجية.
ورغم أنها تعلم أن عقيدة مازن في الحب تتلخص في مقولة أوسكار وايلد:" ينبغي أن يكون المرء عاشقا دائما،لذلك لاينبغي له أن يتزوج مطلقا" فهذه العقيدة تعريها شيئيا فشيئا أمام حقيقة أن هذا الحب يدنو أجله ببطء..أمام عينيها وهي عاجزة تماما عن تدارك الأمر ، ولايسعها إلا أنْ تراقب بسادية الموات البطئ لحبهما وهي تتفسخ ألما وعجزا.
وتتذكر ردها الحاسم على دعابته.:"إنك تريد إذلالي وامتلاكي في الوقت نفسه..عندما تظن أنني امرأة تزداد تعلقا بالرجل الذي تعتقد أنه في أية لحظة قد يتخلى عنها،وأنا..تخليت عن كل شيء لكي أتفرغ لحبك، وأنت اتخذت مني ملهمة للوحاتك حتى تستطيع مواصلة الرسم، فعندما تكون في حالة قلق إزاء اللوحة البيضاء ، تزداد شوقا إليَ، وقربا مني، وعندما تنتهي من اللوحة تزداد بعدا ..قبل الرسم تريد أن نكون عاشقينِ ،وبعد الرسم صديقينِ.."
لكن مازن رغم ملاحظته انفعالها المتأزم أجاب بهدوء وبعبارة ضبابية ماكرة:"مازلتِ تبالغين في تأويل انفعالاتي..إن مأساة حبنا..إنه بدا كبيرا مدهشا..وأننا استغرقنا وقتا طويلا خارج حسابات الذاكرة في فلسفة الدهشة، ونسينا سرها،حبنا، ...جل ما أخشاه أن ندرك ذات يوم أننا نقف على شفير الهاوية...وأن الدهشة أغرتنا وأغوتنا عن حبنا، حتى غدا عاريا من الدهشة كسراب ليس يطال!... حاولي ياحبيبتي أن تتقبلي أن حبنا قدر ..وقوده الشوق ومقبرته علامات الاستفهام.."
ما أخشاه يامازن أن يقطع حبل الوريد بيننا وأنت تتخذ من التمويه المهذب سلاحا أنيقا لكي تتهرب من إجابة أسئلتي بوضوح وجلاء وتكتفي بتركي أسيرة للحيرة.
أجابها ضاحكا وهويفرك بأصابعه وجنتيها المحمرتين بقسوة شهية:"لن يقطع حبل الوريد بيننا..ياحلوتي مادمتُ قادرا على الرسم!.."
لم تفهم مالذي كان يعنيه على وجه التحديد ولم تكن في مزاج يساعدها على طرح المزيد من الأسئلة..فمازن تحبه حينا وتكره حينا آخر، لكنها تشتهيه بنهم دوما.
...أنت تعلمين ياحلوتي أن مزاجي قد يتقلب أثناء الرسم وأصبح شخصا لايطاق..
قاطعته مبتسمة :"لاشك في ذلك"
نظر إليها مستطلعا لعله يعرف هل هذه سخرية أم حقيقة..واستطرد: وقد يخفت اتقاد الشوق، لكن لايعني ذلك انطفاؤه ،أنما هي هدأة محارب كي يستعيد طاقته التي استنفذتها اللوحة لا أكثر من ذلك.
وقد تجد نجوى عزاءً لها في هذا الاعتراف الذي بدا حينها صادقا، لكنها ما إن تخلو بنفسها حتى تعتقد جازمة أن ذاك الاعتراف كذبة مهذبة قد لجأ لها مازن مراعاة لمشاعرها. وهي تعلم أيضا أن مازن عندما يكون ممسوسا بحبها يجبرها أن تتخذ من الكذب سلاحا أنيقا حتى تحافظ على ألق أنوثتها أمامه،وهي تحاول جاهدة الإجابة عن أسئلته الغامضة التي ليس لها إجابات صريحة وحاسمة إطلاقا.
بدأت علاقتها بمازن عندما كانت في أوائل الرابعة عشر ، فعند كل مساء أربعاء تسلمها الخادمة "حميدة" خلسة رسائل مازن السرية، وحميدة مرسولة الغرام بينهما،ورغما تزمتها الظاهر وسذاجتها الوراثية،إلا أنها كانت متحمسة دوما لهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر ،التي قد تكون سببا لوفضح أمرها في خسارة عملها وتلطيخ سمعتها،لكنها كانت رغم هذه المحاذير، مزهوةً بالمشاركة في امتداد حبل الوريد بين نجوى ومازن.
في ذلك المساء، من يوم الأربعاء، تكون نجوى متكورة في فراشها ،تقضمها الهواجس ويشفها الشوق والحنين تجمد على شفتيها المرتعشتين، في تلك الساعات الطوال من الانتظار المرهق على محطات الأرق ، حيث يغدو الزمان ثقيلا هرما.. تتهادى حميدة بمشيتها السلحفائية، تجر ساقيها السمينتين في تثاقل نحو سيدتها المكلومة بعشقها، ويكسو وجهها الرغيفي ابتسامة الانتصار..تقفل الباب وتقترب من سيدتها ببطء وتخرج الرسالة المبتلة بالعرق الساخن من صدرها العارم المتدلي على بطنها، تقدمها سعيدة مزهوة بهذا الإنجاز العظيم ،المساهمة فيه خلسة بتفانٍ وإخلاص كبيرين، تحتضن نجوى الرسالة لبرهة وتغلي الدماء في عروقها الثلجية ويرفرف القلب في الجوانح المتحشرجة.. تقرأها عشرات المرات وتستظل بفئ كل عبارة..وعند كل كلمة وتغفو عند كل فاصلة..تجتر منها بعض العبارات ضحكات هستيرية صاخبة حينا ودمعات سعيدة حينا آخر.
مازالت نجوى تحتفظ بتلك الصور التي التقطها مازن في عشية عيد ميلادها السابع عشر،حيث يبدو أنفها منتفخا وعيناها زائغتين وخجل فاضح حط مراكبه في صفحتي الوجنتين المحمرتين.
ها أنذي أقف على مشارف أبواب عقدي الثالث بكل مخاوفي وقلقلي..وقلبي يلهث وذاكرتي تعرق وتعرق في محاولة يائسة في تذكر ملامحك دون جدوى.
كان لقاؤنا الأخير..باردا صامتا..عناقنا ثلجي وقبلاتنا مفتعلة..لافرح يعترينا ولاحزن..كلانا ممتلئ بالخواء حتى الغثيان، لم ترتعش الأهداب ونسي القلب كيفية الرفرفة. وعندما توسدت صدرك العاري لم أعد أشعر بتلك اللفحات الساخنة التي تجعلني أترنح بنشوة غامرة. رغم أنني مافتئتُ عند كل زيارة من نثر رذاذ الملح على عتبات مخبئنا أو كما تسميه "صومعة حبنا" وقد جنحت بي الآمال فنثرت علبة الملح بأكملها..وسكبتُ ذلك السائل الداكن النتن كما أوصتني أم محمود،إلا أن كل ذلك راح هباءً إزاء إرادة القدر.
ها أنتَ مجددا تحاول ترميم مايمكن ترميمه في سور وصالنا المحطم،وها أنا أنصاع لتوسلاتك ويعتريني الدوار مجددا وينبض وخز شهي تحت الجلد ،..وأخضب غدائري باللون الكستنائي الذي تحب وأحدد محيط عيني بالكحل كما كنت تحب، وأرسم بالحناء على راحتي يدي زهورا سريالية متشابكة كما علمتني، وأضع على عنقي قلادة الخرز الأزرق،وأزخ جسدي بعطرك المفضل"الغانتيل سان" وأرتدي الفستان الذي تحب، وأنتظرك والشوق يمزقني والهواجس القديمة تقضمني.. والعوسج ينزف في رئتي لكن دموعي السوداء تفضح خيبات أملي بعد ساعتين من الانتظار.

[email protected]



#نضال_البيابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال البيابي - قصص قصيرة