أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى شريك - مكانة العربية















المزيد.....


مكانة العربية


مصطفى شريك

الحوار المتمدن-العدد: 2732 - 2009 / 8 / 8 - 02:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



إن أي مجتمع مهما كان له من الخصوصية التي تميزه، ويستأثر بها عن غيره من المجتمعات، مما يجعل من الخصوصية أمرا بالغ الأهمية في تمييز مختلف المجتمعات، ومجمل البيئات، عن بعضها البعض، ذلك أن لكل جماعة أو طائفة طابعها الخاص، فما بالك بالمجتمعات، التي لها ثقافتها الخاصة، وعاداتها وتقاليدها المتواقعة، ومجمل أشكال السلوك المتوافق عليها، والمعاملات المعهودة، وهو سنة الله في الكون لقوله تعالى﴿وَمِنْ آَيَاِتِه خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ (سورة الروم الآية 22)، وهذا الاختلاف هو موروث يتجسد في العادات والتقاليد والأعراف، وحتى طرائق الاتصال، والتي من بينها اللغة، بحيث أن لكل واقع ما يجعل أفراده تتعامل مع البيئة التي يتواجدون فيها تتراوح بين القبول والتحاشي، وعند قراءة تاريخ الأمم والدول نجد أن هناك الكثير من الملامح والسمات التي تميز بينها، وتفرز لكل مجتمع أو أمة "ما" خصائصها على مدار تموقعها في سجل التاريخ، إذ تلعب هذه السمات الدور الأساسي في تحديد مدى قوة هذا المجتمع أو ذاك في إرساء أعمدة البقاء والاستمرارية، أو تحدي أمواج الفناء والتلاشي، وقد لا تلعب لغة القوة وحدها كعنصر أساس في تثبيت صور البقاء ومواجهة الاندثار، بقدر ما تتواجد عناصر أخرى تشد من أحزمة المجتمع وتدفع به إلى إثبات الوجود ومنها عنصري الثقافة والشخصية، ولما كانت اللغة هي واحدة من المميزات التي تتباين فيها المجتمعات البشرية، فإن أمرها يعدو من الأهمية والحيوية ما يدفع إلى اعتبارها أحد مقومات المجتمع، وأبرز أركانه على الإطلاق، كيف لا وهي أداة الاتصال بين مكونات المجتمع من أفراد وجماعات، ويجعل منها حلقة الوصل بينهم، لتصبح بمثابة شريان الحياة الاجتماعية، مما يفسر اعتبارها أساس جميع الظواهر والعمليات والتفاعلات الاجتماعية.
اللغة والمجتمع
إن اللغة هي المطية كما يقول ابن خلدون التي حمل عليها الإنسان أعباء نفسه وهواجسه وأفراحه وتصوراته وإلهاماته وأحقاده ونبله وشراسته وحنوه، وعلومه وفلسفاته واكتشافاته... فضلا عن حمله لها بينه وبين إخوانه وجيرانه وبني جنسه، وإلى الأجيال والأمم من غير بني جنسه، فتسلسلت عبر التاريخ علامات رقيه في كل ميدان، مكونة مسيرة مترابطة الحلقات متراصة الصفوف من الكلمات واللغات واللهجات والمصطلحات والأصوات متنوعة النغمات والأشكال في ظاهرها، ولكنها جميعا موحدة الهدف، وهو التعبير عن الإنسان" (عبد الله شريط، التفكير الأخلاقي عند ابن خلدون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 1975، ص 571)، وبذلك تشكل اللغة الأداة التي من خلالها يتم التواصل بين الأفراد والجماعات، وتوريث ثقافة المجتمع جيلا بعد جيل، حتى يستطيع بذلك المجتمع تحقيق من الاستمرارية والديمومة والبقاء، وكما يقول الأستاذ عبد الله شريط فإنه مهما يكن من أمر فإن اللغة والفكر لا يمكن الفصل بينهما، وكذلك لا يمكن الفصل بين اللغة والعاطفة، وبين اللغة والوسط الاجتماعي، وبين اللغة والمستوى الحضاري، وباختصار بين اللغة والإنسان، واللغة قد تؤدي إلى التآلف بين الأجناس أو إلى تشتت في صفوف الإنسانية أو تصدعات في بيئة المجتمع الواحد (عبد الله شريط، نفس المرجع، ص 573)، وقد لعبت اللغة دورها الحضاري انطلاقا من أنها تمثل عند الكثير المكون المعقد، والكل المركب، الذي لا يمكن فكه كما هو الحال على حد اعتبار قول رائد اللسانيات الحديثة- فرديناند سوسير- الذي يرى أنها "نظام محكم وقائم على التضامن بين مختلف أجزائه المكونة له، بحيث أن قيمة الجزء الواحد منه لا تظهر أو تتم إلا باقترانه مع الكل" (عبد الجليل مرتاض، اللغة والتواصل، دار هومه، الجزائر، 2000، ص 28)، وأنها كما قال – ابن خلدون- في مقدمته المشهورة هي "عبارة عن المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن قصد لإفادة كلام، فلابد أن تصير الملكة مقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة حسب مصطلحاتها" (ابن خلدون، المقدمة، دار الكتاب، بيروت، ط1، 1943، ص 1052)، وهو في تحليله هنا يتناول اللغة من منظور عضوي، وكأنه أمام عملية تشريح، وأن التعبير باللسان من خلال التبليغ عن طريق اللغة هو استجابة لحاجة عضوية، وهذه الاستجابة تمر بثلاث مراحل كما بينها عبد الله شريط وهي(عبد الله شريط، نفس المرجع، ص578):
- أولا: تصور الحقائق.
- ثانيا: إثبات العوارض الذاتية لهذه الحقائق أو نفيها عنها.
- ثالثا: إذا استقرت الصور العلمية في الضمير فلابد من بيانها والتعبير عنها لصقلها وتصحيحها.
وهنا يؤكد ابن خلدون بأن اللغة هي الأداة للتعبير عما يختلج في فكر الإنسان، وهي التي تساهم في المحافظة على النوع البشري واستمرار بقائه.
وإذا كانت اللغة لا تنبت من فراغ، وإنما هي صورة لأهلها صعودا وانحدارا، تقدما وانحسارا، وأهميتها كبرى، لأنها هي إحدى مقومات الأمة نظرا لدورها في تجذير الشعور بالانتماء إلى مجموعة لها خصوصياتها الثقافية، وهي إحدى العناصر الأساسية للهوية التي لا يقتصر مضمونها على التضامن المكون للذات الجماعية، بل يمتد إلى الفاعلية التاريخية التي تتجلى– عبر اللغة- في المقدرة على المشاركة في الإنتاج الحضاري، أي في الإضافة الفكرية، لأن الهوية بناء تاريخي متجدد، وهذا يعني أن اللغة هي في صلب ديناميكية التطور، وهي ليست مجرد وسيلة للتخاطب، وليست وعاء يختزن أفكارنا، ومشاعرنا، ومعتقداتنا، ورسائلنا فحسب، بل هي قناة الاتصال بجذورنا الموروثة...، تحشد الإمكانات لتحقيق عنصر الجذب ولاستمرار التبعية الفكرية، ومن ثم الحضارية" (عبد الله مليطان، المؤسسة الإعلامية ولغة التواصل العربي، 2003، ص 254)، وهو ما ينطبق على اللغة العربية التي هي أيضا تنبت في الأراضي الخصبة، ولها من الحضوة ما يجعل منها جزءا من الشخصية العربية والإسلامية، والسمة التي تميز الأمة العربية والإسلامية وتجعل منها واحدة من بين الأمم التي تضرب بجذورها في عمق النشء الإنساني، وما قدمته للإنسانية من حضارة كما عبر عن ذلك الأستاذ عبد الكاظم العبودي عن دور العربية الحضاري في قوله "إن الحضارة التي حملتها اللغة العربية تتميز في لا عنصريتها أو انتسابها لعرق معين أو لقوم دون غيرهم، بل اتسمت في بعدها الإنساني وتقبلها من لدن جميع الأمم التي وصلها الإسلام وسطر بها القرآن الكريم وانتقلت إلى أصقاع واسعة من العالم، منها ما استوطن فيها العرب الفاتحون أو المهاجرون من المسلمين من شتى القوميات ناقلين معهم ثقافتهم ولغاتهم دون فرض بالإكراه على الشعوب الأخرى، لقد حافظت كل الشعوب الإسلامية على لغاتها في ظل الحضارة الإسلامية وتعايشت وتفاعلت مع اللغة العربية باستمرار، حتى كتب في اللغة العربية كبار العلماء واللغويين من غير العرب مؤلفاتهم دون تعصب أو خوف أو قلق على لغاتهم القومية" (عبد الكاظم العبودي، تأملات في الخطاب الجامعي، منشورات المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر، 2004، ص 14)، وبالتالي اللغة العربية ليست لغة قومية فحسب، بل لغة إنسانية قدمت للحضارة والبشرية ما يجعلها فعلا تمثل الامتداد بالعروق في فواتح التاريخ، وهو قول يؤكد عليه الشيخ البشير الإبراهيمي عندما تحدث عن ميزة العربية "لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران ولم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب- لما استطاع أسلافكم (يخاطب الجزائريين) أن ينقلوا إليها علوم اليونان- وآداب فارس والهند ولا لزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم بتعليم تلك اللغات ولو فعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته. لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون" (آثار الشيخ البشير الإبراهيمي، (الجزء1)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 1978، ص260-261)، أي أنها تتميز بالتميز والتخصص، والعلم والمدنية، ومن ثم فهي تمثل للأمة العربية والإسلامية من السمات التي ترتفع بها وتنزل من دونها، وهي التي كانت في كثير من الأوقات موقع السهم المنطلق من فوهات المناوئين، ومخالب المعادين والمعتدين، مما جعل الأمة العربية والإسلامية عرضة للكثير من الهزات والارتدادات، وخصوصا في التركيز على ضرب شخصيتها وهويتها، ولعل الغيرة التي تملكت –ألبيرو القرطبي- عندما وجد أهله وقومه يتداولون العربية في شتى الأمور من أدب وعلم وثقافة، تملكه الذعر فقام يشكو الشكوى عندما قال "إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردوا عليها وينقضوها، وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلا صحيحا، وأين نجد الآن واحدا من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينية التي كتبت على الأناجيل المقدسة؟ ومن سوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرسل؟ يا للحسرة!! إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها، ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالا طائلة في جمع كتبها، ويفخرون في كل مكان بأن هذه الآداب حقيقة جديرة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم، يا للألم!!.. لقد أنسي النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد في الألف منهم واحدا يستطيع أن يكتب إلى صاحبه كتابا سليما من الخطأ، فأما عن الكتابة في لغة العرب فإنك واجد منهم عددا عظيما يجيدونها في أسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم فنا وجمالا" هذه زفرة محترق ربما ظلت تساور نفوس الأسبان طيلة الحكم العربي حتى قضت عليها محاكم التفتيش، وإن تخفت العربية في ثياب أخرى هنالك، وبعد زوال الفاشية عاد الأسبان مرة أخرى إلى الاعتزاز بالثقافة العربية في الأندلس باعتبارها جزءا مضيئا من تاريخهم، حين كانت قرطبة عاصمة للعالم" (عبد اللطيف عبد الحليم، المستقبل مع العربية الفصحى، مجلة العربي الكويتية، العدد 502، سبتمبر 2000، ص 164)، ألا يدل هذا على أن اللغة العربية كانت واسعة الآفاق والأرجاء، شاملة للصدور والأوطان!.
المجتمع الجزائري هو أيضا مرتبط بالعربية ليس كلغة دين، أو لغة عرق فحسب، وإنما عن فطرة، لأنها تمثل لغة الماضي الأغر، والعز التليد، ومجده الغابر، بما يمثله ذلك من ارتباط روحي وعقائدي، وتشابك حقيقي مع فاصل العصور، وتواصل التاريخ، ولأنها كما قال ابن باديس "الرابطة بين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواح أسلافنا وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغر الميامين، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به" (محمد الميلي، ابن باديس وعروبة الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 1980، ص 145)، إنها اللغة العربية التي تمثل واحدة من رموز الهوية الوطنية، الجامعة بين شرائح هذا الوطن الممتد على كافة الأرجاء، وهي السبيل الأوحد لمد جسور الالتفاف حول وحدة هذا الوطن المترانح والمترامي، ولتبقى العامل الأكيد في تأكيد ما للغة من ميزة في جمع الروابط (مصطفى شريك، اللغة العربية وسياسة الفرنسة، مداخلة ألقيت في الملتقى الوطني حول "المشروع الاستعماري الثقافي في الجزائر وتأثيراته المعاصرة" المنعقد بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة أيام 8/ 9/ 10 ماي 2005)، فإذا كان الأجداد استطاعوا أن يوصلوها إلى بلاد الأندلس وكانت غازية للألسن والقلوب، مزحزحة بذلك الكثير من اللغات حتى في أوطانها، فكيف لا نقر لها بالولاء، والذود عنها في شتى الظروف والأوقات.
إن للغة العربية مكانة عليا كأي لغة في موطنها، وربما أكثر قداسة من ذلك، فهي سمة الثقافة الوطنية الممتدة عبر تتالي الأزمنة والعصور، وتمثل الالتئام والتآخي والترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع، مما يجعل من العربية لغة الذات والاجتماع والثقافة والتاريخ والانتماء.
واقع العربية!
لغات البشر تفرعت عن ثلاثة أصول أساسية: من حيث المبنى والمعنى، واللغة العربية تنتمي إلى الأصل الأول الذي هو اللغة السامية، نسبة إلى سام بن نوح (عليهما السلام)، وهي أقدم جميع اللغات المكتشفة على وجه الأرض، وأشهر فروعها من اللغات الحية: العربية، والعبرية، والسريانية، والكلدانية، والحبشية. وأشهر فروعها من اللغات الدائرة: الآشورية، والبابلية، والفينيقية، والحميرية، والنبطية (للإضافة أنظر: محمد بن عبد الكريم الجزائري، الثقافة ومآسي رجالها، شركة الشهاب، الجزائر، (د. ت)، ص 134) واللغة العربية هي من بين اللغات العالمية القديمة التي تمثل كما رأينا أداة التفاعل بين الأفراد والجماعات، وقد ظهرت هذه اللغة عندما كانت وسيلة الاتصال بين القبائل والعشائر العربية، والتي كانت متواجدة على أرض شبه الجزيرة العربية، وكان ذلك كما أورده الدكتور صالح بلعيد في بداية القرن الثاني الميلادي، أين نطقت بها قبائل عربية، وبعده ومن خلال الترحال الذي كان سمة تميز الإنسان العربي الساعي وراء الرعي والتجارة، تولدت عنها مجموعة من اللهجات، تباينت في بعض أصواتها وبعض الدلالات حسب أفخاذ العرب، وحسب الظروف البيئية التي كان ينزل فيها العربي (صالح بلعيد، فقه اللغة العربية، دار هومه، الجزائر، 2003، ص 14).
المتتبع لتاريخ العرب يجد أنه قبل ظهور الإسلام كانت الفترة تسمى بعصر الجاهلية، ويطلق على العرب في ذلك الزمان بمجتمع عرب الجاهلية، وقد كانت اللغة العربية (الفصحى) هي ما كان يعرف بـ(لغة قريش)، وقد كان يتداولها كل سكان الجزيرة العربية من أمثال القحطانيون والعدنانيون كما يذكر- بلعيد- (صالح بلعيد، نفس المرجع، ص 14)، لأن القحطانيون كما يذكر المؤرخون أنشأوا حضارة كبرى كان بها ظهور دول لها من القوة والرقي مثل دولة (معين في حوالي سنة1000 ق. م)، ودولة (سبأ حوالي في سنة 800ق. م)، ودولة (حمير في حوالي سنة115ق. م)، بالإضافة إلى مملكة الحيرة بالعراق ومملكة غسان بالشام ومملكة كندة، أما العدنانيون الذين كان يغلب عليهم طابع البداوة فكانوا معتادي الترحال، وكان عيشهم على طريقة القبائل، وسعيهم للرزق كان عن طريق الإغارة والحروب، وذكر هاتين القبيلتين يقودنا إلى الحديث عن تاريخ اللغة العربية، ذلك أنهما عينتان ساهمتا بالقدر الكافي في بقاء واستمرار اللغة العربية الفصحى، لتصبح فضاءا خصبا للأدب والفكر، نظرا لغنى مفرداتها، وسلاسة أسلوب التلفظ بها، مما حفز على التبحر في مسابح الشعر، التي تصيب الحاكم قبل المحكوم بشعورية الفخر والحماسة وحتى الرثاء، كما كان التفنن في عالم الخطابة لما تجيد به إثارة الحكمة والعبرة من وقع على السامع.
حتى أن العلماء العرب الذين أرادوا بحث نشأة اللغة العربية ومسار تطورها، اضطروا إلى الأخذ بلغة الجاهلية كلغة معيارية من خلال الاستناد إلى الأدب الجاهلي كمرجعية يستند إليها في استخلاص مقومات اللغة المعيارية، إذ اضطر اللغويون القدامى اضطرارا كما قال الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن محمد إلى الأخذ بـ"معيارية اللغة"، بسبب دخول عناصر من أبناء الأمم المفتوحة إلى الحياة العربية، وإحداث تغييرات لغوية واجتماعية وحضارية حادة في المجتمع الإسلامي الوليد، وهو ما كان سببا في معاناة اللغة العربية، من اللحن الذي أخذ يفشو على ألسنة الخاصة والعامة على حد سواء (إبراهيم عبد الرحمن محمد، من مشكلات اللغة العربية، مجلة العربي الكويتية، العدد 502، سبتمبر 2000، ص 167)، وهذا كان القصد منه هو وضع بعض المعايير اللغوية والصرفية التي بها يتم ضبط اللغة العربية، وتصحيح أساليبها، وقياس أبنيتها، ويورد نفس الأستاذ كيف أنه عندما تم الاستناد إلى هذه اللغة المعيارية، حدث اختلال في القصد كان من نتائجه(إبراهيم عبد الرحمن محمد، نفس المرجع، ص 167):
- الأول: تثبيت اللغة العربية، أبنية وأساليب وألفاظا ودلالات، على نحو ما تئول إليه هذه العناصر في اللغة المعيارية، لغة عصر الاحتجاج (عصر الاحتجاج هو الفترة ما بين العصر الجاهلي ومنتصف القرن الأول الهجري على أرجح الآراء كما يقال).
- الثاني: غلبة التنظير والتقعيد على التطبيق والتحليل في دراسة اللغة، وفصل النحو والصرف عن النصوص الإبداعية، ودراستهما مستقلين في ذاتهما ولذاتهما، وتغليب النظر العقلي في التقنين لهما.
- الثالث: الاعتماد في صناعة المعاجم التي تضبط دلالات اللغة، على الشعر الجاهلي، الذي استمدوا من لغته مادة هذه المعاجم، ولغة الشعر بطبيعتها لغة مجازية، تحتمل الألفاظ فيها وجوها متباينة ومختلفة من المعاني التي تطرحها السياقات اللغوية، والأبنية المجازية الشعرية".
لكن اضطرار اللغويون إلى هذا الإجراء، بالاستناد إلى الأدب الجاهلي هل يعد خطيئة؟ قد يكون كذلك عند البعض لكنه يصبح مشكلة ثانوية أمام مشكلة أعظم وأخطر، هي المساس بصميم اللغة، وعمقها، عندما تثار مسألة تعدي اللغة الدارجة (العامية) على اللغة الأم أو الأصل (الفصحى)، باعتبار أن الأولى هي مستوى بعيد عن اللهجة أو الفصحى نظرا لوجود الهجين اللغوي فيها، وما يلصق بذلك من احتكاكات جديدة تؤدي تارة إلى التعمية، وتنزل أحيانا إلى لغة السوقة (صالح بلعيد، دروس في اللسانيات التطبيقية، دار هومه، الجزائر، 2003، ص 16)، ولو كانت العامية تمثل اللهجة، لكان الأمر مختلف على اعتبار أن اللهجة هي قريبة من مستوى الفصحى، والفوارق بينهما غير كبيرة، بل هي مستوى من مستويات الفصحى، إن لم نقل إنها المستوى الثاني الذي يلجأ إليه في مواقف الاستئناس (صالح بلعيد، فقه اللغة العربية، مرجع سابق، ص 29)، وهذا التعدي من العامية على الفصحى شكل تجنيا واضحا على واحدة من أشهر وأكبر وربما أخصب اللغات السامية على الإطلاق، ونقصد هنا تولد ما عرف بـ"الازدواجية اللغوية" (ونعني بالازدواجية اللغوية هي عادة ما تستخدم في علم الاجتماع اللغوي من قبل العديد من العلماء والباحثين ومن بينهم بلوم فيلد الذي يرى أنها تعني حيازة الكفاءة اللفظية، كالمتكلم بلغة الأصلية في كل من اللغتين، وهي حسب بيزيه وفان أوفرباك "امتلاك وسيلة مضعفة، أو اختيارية للاتصال الفعال بين عالمين مختلفين أو أكثر بواسطة نظامين لغويين) التي تعاني منها اللغة العربية، وكذا التهجين الذي يسيء إليها، وقد تحدث الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن محمد عن الازدواجية اللغوية المتمثلة في نشوء لغتين هما:
- الأولى: لغة قريبة من اللغة الفصحى، يصح أن نطلق عليها، اصطلاحا: "فصحى العصر الحديث"، تمييزا لها من "اللغة المعيارية" الثابتة التي يدعو إليها اللغويون القدامى والمحدثون.
وقد حققت "فصحى العصر" هذه تطورا محدودا، على الرغم من ملاحقة المحدثين، من حراس المعيارية لها، ولكنها ظلت، مع ذلك عاجزة عن استيعاب ظواهر الحضارة الحديثة بصورة علمية، بسبب دعاوى التحذير من "التغريب"، و"الغزو الثقافي" ورصد الانحرافات اللغوية والأسلوبية عن الصيغ المعيارية الموروثة، ورفع شعارات: قل، ولا تقل!.
- الثانية: لغة عامية فشت على ألسنة العوام والخواص، من المثقفين وغيرهم، وهي لغة قد بنت لنفسها نظاما نحويا وصرفيا وأسلوبيا خاصا، أخذت فيه من اللغة الفصحى، وأضافت إلى ما أخذته عناصر أخرى استقتها من لغات أخرى وافدة.
وقد اتسعت هذه اللغة العامية لكثير من ظواهر الحضارة الحديثة، ولكنها، مع ذلك، لغة مرفوضة ومطاردة وغير مكتوبة، إلا في نماذج محدودة من النصوص الأدبية الشعرية والمسرحية، ولكن هذه اللغة العامية المرفوضة أضحت لغة الحديث والتدريس والحوار في المدارس والمعاهد والجامعات ووسائل الإعلام المسموعة على وجه الخصوص، وتوارت اللغة الفصحى، وأضحت لغة غريبة" (إبراهيم عبد الرحمن محمد، مرجع سابق، ص 168)، وهو ما جعل التحدي يزداد ويكبر، خصوصا عندما تصبح فيه العامية لها من الكثير من المنافذ في الأوساط المجتمعية، وهو ما يتجلى في الاستعمالات في شتى التداولات والتناولات، التي تستدعي فيها الضرورة الاحتكام إلى اللغة العربية الفصحى.
من هنا كانت محاولتنا هذه معالجة قضية صراع العامية والفصحى، وذلك بالوقوف على ملامح هذا الصراع، وكيفية الحفاظ على الفصحى التي هي أساس العربية، وقوامها، وما هي أطر المجابهة التي تفرضها رياح العولمة التي تهب كل حين وما يتبعها من تحديات وأهوال ومكاره.



#مصطفى_شريك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...
- وسائل إعلام: الدفاعات الجوية الإيرانية تتصدى لهجوم صاروخي وا ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع هجوم ...
- فرنسي يروي تجربة 3 سنوات في السجون الإيرانية
- اقتراب بدء أول محاكمة جنائية في التاريخ لرئيس أميركي سابق
- أنباء عن غارات إسرائيلية في إيران وسوريا والعراق
- ??مباشر: سماع دوي انفجارات في إيران وتعليق الرحلات الجوية فو ...
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية الرسمية نقلا عن تقارير: إسرائيل ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى شريك - مكانة العربية