أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الإله السباهي - لطلاطة سلمان















المزيد.....



لطلاطة سلمان


عبد الإله السباهي

الحوار المتمدن-العدد: 2720 - 2009 / 7 / 27 - 10:16
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة من خمسة أجزاء

الجزء الأول – اللطلاطة
الجزء الثاني - حيهن
الجزء الثالث - أم عين
الجزء الرابع – تفاح الدورة
الجزء الخامس – بستان أسامه




الجزء الأول

اللطلاطة

سوف أتجاوز المقدمات، والديباجة، وغيرها من أساليب الكتابة المتعارف عليها، والتي لا أتقنها مع الأسف في سردي لأحداث هذه القصة.
أسرد عليكم قصة سلمان بحيادية تامة، فلست متواطأ أو منحازا إلى أي فصل من فصولها، كلما في الأمر، هو إنني أقرب إلى أحداثها.
كنت أنفعل مع أداء أبطالها إلى حد الشهقة، ولكنني ومع الأسف لا أستطيع تبديل الواقع، إنه القدر، و لكون الأقدار تدون بعد الأحداث دائما، لذا أصبح من المتعارف عليه أن الأقدار صادقة تماما ولا تبديل لها إلا بإرادة الله.
قدر سلمان إنه ولد في نهاية القرن التاسع عشر كما يروى. وبالطريقة الروتينية التي تعارف عليها البشر، رجل وامرأة يقتنصان ساعة لذة غير مخطط لها في الغالب، وهكذا أضيف اسم سلمان إلى الملايين الثلاثة التي كانت مجبرة على العيش في بلد اسمه العراق.
لا يغرنكم اسم العراق وعاصمته بغداد دار السلام، وألقابه الرنانة، مثل أرض السواد، وبلاد ما بين النهرين، أو مهد الحضارات، أو موطن الخلافة وغيرها. فهو لم يكن إلا بلدا بائسا و منذ القدم، فبغداد حوصرت واستبيحت وقتل سكانها أكثر من عشر مرات منذ اجتياح المغول لها، ومرورا بدول الأتراك من دول الخروف الأسود، والخروف الأبيض وجيهان شاه والصفويين والعثمانيين والإنكليز وحتى اجتياح جيوش أمريكا لها.
لم تنكب مدينة في العالم مثل نكبات بغداد المتكررة.
ولسوء طالع سلمان، إنه ولد و عاش في أسوأ حقبة في تاريخ هذه الرقعة من الأرض.
كانت الزراعة في تلك الأيام هي المورد الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في قوت يومهم. وعلى الرغم من المساحات الزراعية الواسعة، والأرض الخصبة التي ترويها أنهار خالدة. كان كل ما يزرع في تلك الأرض من حنطة وشعير ورّز وغيرها من المحاصيل، هو جزء صغيرا جدا لا يتعدى سبع الأراضي الخصبة القابلة للزراعة.
يذهب نصف محصول ذلك الزرع إلى المستعمرين العثمانيون، على شكل ضرائب وإتاوات، ثم يتربع الإقطاعيون، مفترشين الأرض لتقاسم النصف الثاني، فيأخذوا ما استطاعوا أخذه من محصول تلك السنة، الذي سقي بعرق الفلاحين، هذا إذا سلم من غزو أسراب الجراد. و بعد ذلك، يرمون بما تبقى من هذا الفتات إلى الملايين الجائعة، والتي كان الموت يلاحقها دائما على شكل جوع وطاعون وجدري وكوليرا، أو على شكل فيضانات لا تنتهي، وإلى آخر وسائل الموت الجماعي.
بعد أن تعب إله الموت من لهوه في قتل الآلاف عبر فيضانه المرعب عام مولد سلمان، والذي لم يقتصر فيه على قتل البشر، وإنما قضى على المزارع والبساتين. وبعد أن قتل ألآلاف من البشر، وأباد مليون نخلة، راح يأخذ قسطا من الراحة.
في هذه الفسحة من الزمن الصعب، يجد سلمان فرصته في الولوج إلى هذا العالم، ليزيد فيه عدد البائسين بائسا آخر.
لا أعرف كيف استطاع مخرج هذه الدراما أن يأتي بسلمان في تلك الفترة الرهيبة بالذات؟
ولم أجد تفسيرا مقنعا في إعطائه فرصة العيش والعمل في الوقت الذي لم يجد فيه الناس ما يقتاتون به. لا بل حتى تعلم القراءة والكتابة.ولم يكن في عموم العراق كله سوى 160 مدرسة، بما فيها المدارس الخاصة والتي استأثرت بها مدينة بغداد والمدن الكبرى .
شب سلمان طويل القامة. قوي البنية. شديد السمار ككل العراقيين الأقحاح. ولما أصبح رجلا غطت وجهه لحية كثة لم تبقي من معالم وجهه، سوى عيون حادة الذكاء وأنف تخطى الحجم المعتاد.
كانت تربية سلمان الدينية صارمة. فقد كان ينزل النهر كل يوم في الصباح الباكر ليرتمس فيه، ثم يتوضأ ويقيم صلاته، ولم يمنعه برد الشتاء القارص ولا صيفه المغري بنوم الضحى من ذلك.
رغم هذا الورع وهذا الزهد، كان سلمان شاعرا غزلا، وفنانا لم يجد فرصته في ذلك الزمن الصعب.
اقترن صاحبنا بفتاة اسمها حيهن. وكانت هي الابنة المدللة الوحيدة لرجل الدين الأكبر في مدينة عربية كان اسمها ومنذ القدم (الحويزة)، قبل أن يبدل الفرس اسمها إلى (دشت ميشان).
كان ذلك في بداية القرن العشرين،لا أحد يعرف بالضبط كم كانت أعمار العروسين عند زفافهما، ولكن ابنتهم البكر ولدت عام 1917 ، وإذا أخذنا بالاعتبار أن زيجات البنات كانت تتم مبكرا في تلك الأيام فإن حيهن ربما ولدت في مطلع القرن العشرين.
كان زواج سلمان بعيد جدا عن غزله ومشاعره المرهفة، وكأنه أراد بتلك الزيجة أن يضمن وسيلة مؤكدة للتقرب بها إلى رب العالمين.
راحت حيهن تنجب له الأطفال بفترات متباعدة. فقد كانت دائمة الخصام معه. لفقر حاله قبل كل شيء، ثم لترحاله الدائم سعيا وراء الرزق، والذي ظل شحيح على الرغم من سعيه ومثابرته وتعدد مواهبه.
لقد تميز سلمان على أقرانه في إجادته الصنعة، فكان صائغا فنانا للحلي الذهبية والفضية. ذلك الفن الذي هو السبب ربما، وراء ذلك الفقر الدائم.
كان يتأنى في صناعة الحلي لتأتي رائعة الجمال، كاملة الصنعة، فينفق الوقت الطويل لأجل ذلك الكمال، ولكن الأجر الذي يتقاضاه عن عمله كان قليلا، ولا يختلف عن ما يتقاضاه غيره. فالفن كان يعّد رفاها في ذلك الزمان. ورغم ذلك ظل سلمان مخلصا لفنه الذي لم يجني منه سوى زعل حيهن. والتي كانت تهرع إلى بيت أبيها كلما وجدت سببا للخصام، وما أكثر تلك الأسباب التي كانت تجدها تلك المرأة المدللة في عيشها مع سلمان.

لوّ كان لي برا و فرضا
لسرت في الأرض طولا وعرضا

ظلت حرفة الصياغة كم كانت من قبل الآف السنين ولم تتطور إلا في أيامنا هذه.
كان الصائغ يصنع معظم أدواته بيده، فالفرن الذي يصهر فيه المعدن، يعدونه من الطين ويسمى ( الكورة) ، والمنفاخ من جلد خروف والفحم غالبيه من القصب ، وكانوا يصنعون سراجا من التنك يضعون في شرائط من القماس تنقع بالنفط داخل السراج فيخرجا منه لهب أسود، يوجهون ذلك اللهب على المعدن الذي يصنعون منه الحلى بأنبوب طويل مستدق الرأس ( بوري)، وغالبية الأدوات الأخرى يصنعونها يدويا مثل ( الرزك) وهو القالب الذي يسكب في المعدن المذاب. ومثل ( الدرزكه) وهو قالب يضعون في الرمل الأسود المطحون جديدا والمخلوط جيدا بقليل من الدبس.وبعد أن يضعون فيه حلية يراد تكراره، يحفر مكانها في ذلك الرمل الخلوط ويرش مسحوق من الرماد ثم تسكب فيه الفضة المصهورة أو الذهب المصهور. وغيرها من الأدوات والعدد.
كان العديد من الصاغة ينتقلون من قرية لأخرى وراء رزقهم وكان سلمان واحدا من هؤلاء.
يبدأ سلمان رحلته السنوية سعيا وراء رزقه فجر يوم الاثنين الأول من شهر آذار. يرافقه ابن أخته الوحيد زهرون. وهو صبي في أول العمر لم يبلغ بعد مبلغ الرجال. أما لماذا يوم الأثنين بالذات، فربما مرد ذلك كون سلمان يتفائل بهذا اليوم أو أن أيام الآحاد تكون عادة مكرسة للمهام الدينية !
كان زهرون شديد التعلق بخاله، وهكذا كان الخال يحنو بدوره على هذا الصبي الذي تيتم صغيرا. فكان يحرص على تعليمه اسرار الصنعة والقراءة والكتابة وأصول دينهم الموغل في القدم. فهم آخر من تبقى من أهل العراق الأوائل. إنهم بقايا السومريين كما يعتقدون ويعتقد ذلك غيرهم.
ترافقهم في سفرهم أتان صغيرة بيضاء تعبت معهم من كثرة الترحال فبرزت أضلاعها. كانت تنقل لهم السنادين والمطارق وموقد الطين الذي يعود تاريخ اختراعه لأيام أجدادهم السومريين، وغيرها من العدد، والتي صنع معظمها سلمان بيده .
كانت حيهن تعد لهم متاع السفر من التمر المدقوق بالجاون .فبعد أن يمزج التمر المهروس بالسمسم المقشر والمطحون مع حبات من الينسون، تصنع منه كرات صغيرة، لا تدخل الفم مرة واحدة وإنما بعدة قضمات، تكون تلك الكرات (فلّ) شهية ومغذية وتظل محافظة على قيمتها الغذائية زمنا طويلا .
وحرصت حيهن على أن تذبح لهم في يوم الأحد الذي يسبق السفر،بطة تكون قد حرصت على علفها طيلة الشتاء ن تعدها بطريق يبقى طعمها طيلة السفر، ربما لتري سلمان مهارتها في الطبخ، أو تترك له مقارنة ما تبدع في إعدادة مع ما تعده الأخريات. تعد البطة بطرقة خاصة أخذ اسمها من مهارة المندائيين( الصبة -كما يسميهم سكان الجنوب-) في إعداد هذا النوع من الطعام ، حيث تعد توابلها بوصفة ظلت سرية حتى أمد قريب. سأكتب لكم تلك الوصفة، قد يدفع الفضول أحدكم لتجربتها بإعداد أطباق الطيور بصورة عامة، وحتما إنه سوف لن يندم. تتكون تلك الخلط من سبعة توابل متوفرة عادة في أغلب الأسواق : 130 غرام من الدارسين، 50 غرام من جوزة الطيب( جوزة بوى)، 75 غرام من الفلفل الأسود، 75غرام من الفلفل الأسود،75 غرام من الفلفل الأبيض، 70 غرام من القرنفل، 70 غرام من الهال، 50 غرام من العرق الحار( الزنجبيل). تطحن جيدا وتخلط جيدا وتوضع كميات مناسبة من تلك الخلطة في ماء القدر الذي يظل يغلي طويلا مع البطة ومحتوياتها الأخرى.
وللمندائيين يوم خاص لدق الفّل وهو تقليد ارتقى إلى أن يكون لديهم أشبه بالعيد. والفلّ خير علاجا للجوع في وقت السفر. ثم تضع لهم كيسا من الخبز وكمية من التمر الخضراوي المكبوس في الحلان من العام الماضي وقربة ماء وبعض الأغطية، ثم تسكب طاسه من الماء خلفهم طردا للشر.
لم أعرف سببا وجيها لسفرهم في كل مرة إلى شمال العمارة. فلم يصادف أن سافروا إلى الجنوب سوى مرة واحدة. وربما كانت هي السبب في سفرهم إلى الشمال دائما .
حدث هذا عند مشارف هورالعمارة.
كان الشيخ فالح من كبار شيوخ عشيرة(البو محمد) قد سمع بسلمان وأراد أن يمتع ضيوفه بأشعاره ونوادره، ويجعل من زواج ابنه البكر فرصة للمباهاة. فاستدعى سلمان لحضور العرس وليصوغ (النيشان) حلي العروس .
جاء وكيل الشيخ المقيم في مدينة العمارة، إلى سلمان في قريته، وأعطاه تسع ليرات ذهبية عثمانية ليصوغ منها نيشان العرس. وأمره بجمع عدته ويسافر فورا إلى مضيف الشيخ وسط الهور. ثم أعطاه بضع ربيات كتقدمة عن جهوده تركها سلمان مع حيهن لتدبر أمرها بتلك النقود.
وجد سلمان في هذه السفرة فرصة مناسبة قد تفتح باب الرزق عليه لما اشتهر به شيوخ تلك المناطق من ثراء فاحش.
لم تتفائل حيهن بهذه السفرة، فقد تطيرت عندما كسر نقار الرحى الطابق الفوقاني من رحة بيت مولى حار بساتين بيت فرعون المجاورة ، وحدث عراك كبير حينها وقد غضب نقار الرحى على القرية وتوعدهم بأن لن يصلح لهم الرحي مرة أخرى وتركهم في حيرة من أمرهم، حتى شاع مثل حينها( نقار كسر الرحى وراح مغتاض)
خاطت له حيهن كيسا من القماش، ليحفظ الليرات في داخله وعلقته في رقبة سلمان بعد أن أحكمت إغلاقه خوفا عليها من الضياع.
راح سلمان يلملم عدة العمل ولوازم السفر الأخرى على عجل. ولم يصطحب ابن أخته معه هذه المرة، والذي كان يتعافى من مرض البلهارزيا المستوطنة في جنوب العراق وبشكل وبائي.
وضع أغراضه على عجل على ظهر رفيقة دربه وسار معها في الطريق إلى الهور حيث مضيف الشيخ فالح.
بعد أن وصل مدينة (مسييعيدة) ترك الأتان هناك تلهو مع أبناء جنسها عند أتباع الشيخ، بعد أن أوصاهم بها خيرا، وأخذ منهم عهدا بأن يطعموها جيدا وأن لا يحملوا عليها أثناء غيابه. واستعار منهم قاربا لرحلته.
كانت القوارب المستخدمة في الأهوار رفيعة ذات مقدمة مرتفعة تسمى(طرادة) ظلت محافظة على شكلها السومري إلى الآن. وكان جماعة سلمان من المندائيين قد اختصوا وبرعوا بصناعتها
انطلق سلمان من الفجر في طرادته يشق طريقه برشاقة بين أعراش القصب الذهبية، وبين مستعمرات البردي متجاوزا مزارع الرز وقطعان الجاموس التي تقضي جل وقتها في الماء، وكأنها ضفادع مهولة الحجم .
كانت الطرادة حديثة الصنع لا تزال تفوح منها رائحة القار، وكان مزاج سلمان رائقا ولم يعكره سوى الضباب الذي يلف عالم الهور حاجبا الرؤيا أمام زواره المتطفلين .
كان سلمان يدفع طرادته بقوة بالمردي وهو عصا طويلة من الخيزران، وكان يحرك ساعديه بتناغم أحيانا بغرافة مصنوعة من الخشب. وكل همه أن يصل في وضح النهار فالشمس هي المرشد في هذه المتاهة.

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

بعد أن توغل سلمان في وسط الهور، اعترض طريقه أربعة لصوص وكأنهم ظهروا من تحت الماء. كان أحدهم مسلح ببندقية من نوع موزر الألمانية الصنع، صوبها نحو سلمان مجبره على رصف طرادته إلى الجزرة الصغيرة التي يقفون عليها.
كانوا يترصدونه وكأنهم على علم بما يحمله من ثروة. ولما لم يجد سلمان وسيلة للخلاص منهم، رمى الليرات الذهبية التسعة على الأرض بعد أن أركن الطرادة إلى الجرف كما أمروه .
راحت الليرات تتدحرج على الأرض كل واحدة منها أخذت تشق لها دربا مختلفة وسط العشب العالي. مما جعل العثور عليها مسألة صعبة. تفرق اللصوص في البحث عن الذهب تاركين حامل البندقية واقفا قرب سلمان يحرسه.
كانت تراود هذا الحارس رغبة جامحة في الانضمام إلى رفاقه للبحث عن الليرات التي لم يراها في حياته قط ، وإنما سمع عنها.
استغل سلمان رغبة حارسه وحثه على الانضمام إلى الباقين قبل أن يسرقوا حصته منها، وتبرع له بأنه سيحمل البندقية بدل عنه لحين عودته مظفرا بإذن الله !
لم يكذب الحارس الخبر، فأعطى البندقية لسلمان شاكرا له نصيحته وراح مع الآخرين يبحث عن الكنز .
وقف سلمان هادئا والبندقية في يده، يرقب اللصوص وهم يعثرون على الليرات واحدة تلو الأخرى .
جهز سلمان البندقية وصوبها نحو اللصوص طالبا إعادة الليرات التسع كاملة له.
فلم يجدوا بدا من إعادتها كلها إليه بعد أن تأكدوا من نيته بالقتل إن امتنعوا والحسرة والندم تكاد تفتك بهم، وبالخصوص بذلك الحارس الأرعن.
قفز سلمان بخفة إلى الطرادة ودفعها عن الجرف والبندقية في يده، فلم يجرأ أحد منهم في اعتراضه أو الاقتراب منه.
أخذ اللصوص يسيرون على الجرف بمحاذاة القارب. يتوسلون إلى سلمان بأن يعيد البندقية لهم، مقسمين بأغلظ الأيمان بأنهم لن يتعرضوا إليه بسوء أبدا طيلة حياتهم.
لم يكن سلمان يود الاحتفاظ بالبندقية، فوعدهم بأنه سيعيدها لهم في مضيف الشيخ فالح. وراح يشق طريقه بين أعواد القصب بعيدا عنهم يترنم بأبيات من الأبوذية كان قد قالها تغزلا بإحدى الجميلات وردت فيها كلمة موزر يقول فيها :

لقاني خفيف الطول ما زرّ
خمل وزرار فوق النهد ما زرّ
بقلبي من لحاظه يثور موزر
نهودك والتفك عمن عليه

وراح يغني بتلك الأبوذية على الطور الصبي تاركا اللصوص يلطمون على رؤوسهم بعد أن فقدوا الليرات الذهبية التسع، وفقدوا الأمل باستعادة البندقية .
وصل سلمان مضيف الشيخ فالح عصرا. ولولا قصة اللصوص لوصل عند الغداء الذي كان يمني نفسه به. وهو الوجبة الشهية الأشهر أختص بها أهل الأهوار وتسمى طابق وسمك.
أحدثكم قليلا عن تلك الأكلة، والتي كنت قد جربتها شخصيا ذات مرة، وفي هور العمارة أيضا، في مكان قد يكون قريبا من مضيف الشيخ فالح، ولكن في وقت قريب حيث كنت أبني مشروعا لتصفية مياه الشرب في قرية صغيرة في هور العمارة.والطابق أكلة لم تتغير منذ الآف السنين. وعندها فقط أدركت سبب حرص سلمان على الظفر بتلك الوجبة. إنها وجبة شهية حقا رغم بساطتها.
عندما يأتي ضيف إلى الهور يرحب به بحفاوة. وفي أثناء الترحاب بالضيف من قبل رب الدار(الكوخ) يذهب أحد الشباب أو اليافعين، وإذا لم يوجد أحد منهم تذهب إحدى الفتيات بالطرادة مع الفالة  لصيد سمكة. وحتى مجيء السمكة وشقها وتمليحها. تكون ربة الدار قد أعدت النار من القصب ومخلفات الجاموس المجففة على شكل أقراص(سرجين) تحت صحن من الطين المفخور يشبه دائرة قطرها يقارب المتر. وعندما يصبح الصحن ساخنا، وشديد الحرارة يسكب فوقه طحين الرز المخلوط بالماء والملح، فيسيح الخليط مكونا رغيفا بسمك سنتمتر أو أكثر يغطي مساحة الصحن ويترك على النار إلى أن ينضج .
بعد أن تشوى السمكة يقدم الطابق ساخنا مع بضعة رؤوس من البصل اليابس للضيف، على طبق نسج من سعف النخيل على شكل دائري، ليتناول وجبة شهية مع رب العائلة، والحاضرين من الشباب الذكور.
دخل سلمان مضيف الشيخ فالح بعد وصله مباشرة. وكان المجلس قد التأم من جديد بعد تلك الوجبة، وأخذ كل واحد مكانه حسب مقامه وكبر سنه، متربعا على سجاجيد غزل صوفها محليا وصبغ ونسجت في القرى المجاورة.وكانت مليئة بالزخارف الهندسية الجميلة، والتي ميزتها عن غيرها.
راحت دلال القهوة تدور بين الحاضرين الذين ازدحم به المضيف، المبني من القصب بطراز معماري فريد يختلف عن باقي بيوت القرية.
فالمضيف يشبه برميلا كبيرا طرح طوليا، بعد أن قطع ثلثه الأسفل. ترفع سقفه العالي أعمدة من حزم القصب، جمعت وربطت بحبال مبرومة من شرائح سعف النخيل أو القنب، على شكل دائري تتشابك مع بعضها من الأعلى لتشكل قوسا كبيرا.
يرقد فوقها سقف مكون من حصران القصب المنسوجة بطريقة يتقنها سكان الأهوار، تسمى ( البارية ). أما جدران المضيف فهي مكونة من حزم صغيرة من أعواد القصب تتقاطع مع بعضها مكونة أشكالا رباعية بديعة الشكل، تسمح بمرور الهواء والضوء إلى داخل البناء.
بعد السلام على الشيخ وتقبيل يده جلس سلمان في أحد أركان المجلس.
وبدأ بالسلام على الحاضرين، وبعد ترديد جملة الله بالخير التي راح يرددها الجميع بترتيب تراعى فيه المقامات أيضا.
أعلن سلمان عن نفسه. وهنا عاتبه الشيخ كونه حضر إلى المجلس متأخرا. فطلب سلمان الأذن من الشيخ ليقص على الحضور ما جرى له مع اللصوص، والذين كانوا السبب في قدومه متأخرا .
بعد أن سرد القصة بالتفصيل الممل، وضع سلمان البندقية أمام الشيخ كشاهد على صدق روايته:
( وهذا شاهد حجايتي).
ثارت ثائرة الشيخ فالح عند سماعه أن لصوصا في عشيرته اعتدوا على حرمة ضيفه، ومحاولتهم سرقة أموال تعود للشيخ أصلا، وزاد من غضبه تأييد الحاضرين له ودعوتهم للقصاص بقسوة ممن ارتكب تلك الجريمة بحق الشيخ وضيفه.
أمر الشيخ حراسه وأحد مساعديه بجلب اللصوص بسرعة، وحذرهم من العودة من دونهم .
انطلق الحرس في أثر اللصوص فورا، ولم تكن عملية العثور عليهم صعبة رغم متاهات الهور. فالقليل من الناس من يملك بندقية في تلك الأنحاء.
جاء حرس الشيخ باللصوص الأربعة مريوطي الأيدي، ومقيدين إلى بعضهم بحبال متينة من القنب، ورموهم تحت أقدام الشيخ بطريقة استعراضية، وكأنهم أكياس من الرز، حيث اجتمع المجلس مبكرا في اليوم التالي للنظر في هذا الأمر الجلل.
بعد أن أبدى اللصوص ندمهم على فعلتهم ، رووا القصة كما جرت، وكما رواها سلمان تماما. ثم راحوا يتوسلون بالشيخ وبالحاضرين وبسلمان للعفو عنهم، ومسامحتهم على فعلتهم التي هي من غواية الشيطان الرجيم لعنه الله .
فرض الشيخ غرامة كبيرة على اللصوص الأربعة كونهم اعتدوا على ضيف من ضيوفه، ثم ليكونوا عبرة لغيرهم ممن يتجرأ على التطاول على مقام الشيخ. وأخذ منهم تعهدا بعدم التعرض لسلمان مستقبلا، وترك مسألة استعادة البندقية لتقدير سلمان فهي أصبحت ملكا حلالا له حسب العرف المتبع.
لم يرغب سلمان في الاحتفاظ بالبندقية أصلا، فهو يعتبرها أداة للشر، ودينه يحرم عليه قتل البشر قطعا، وحتى قتل الحيوان محرم عند المندائيين وإن كان لغرض الصيد.
كان قد قرر مع نفسه إعادة البندقية إلى اللصوص، ولكنه أراد العبث بهم والمزاح معهم، معلنا أنه قرر أن يعمل من ماسورتها سيفا لأبن الشيخ كهدية عرس.
وهنا اصفرت وجوه اللصوص بعد أن لمسوا الجد في حديث سلمان، وراحوا يتوسلون بالشيخ لإقناعه بعدم إتلاف البندقية وإعادتها لهم ، وقد نذروا علنا وأمام الحضور بالتضحية بخروف أبيض إن عادت لهم البندقية، مع استعدادهم بدفع تعويضا مناسبا لسلمان عنها .
أعاد سلمان البندقية لهم دون أن يأخذ ثمنا عنها مكتفيا بالنذر. وتصالحا وقضى الجميع سهرة ممتعة استمعوا فيها بشوق لأحداث قصة أبو زيد الهلالي كما رواها سلمان بأسلوبه المشوق.
بعد أن أنجز سلمان عمله في صياغة حلي العرس، استأذن الشيخ فالح، وشكره على ضيافته وكرمه. وعاد إلى أهله بخروف أبيض وبمجموعة من طيور الخضيري التي تشتهر بها الأهوار مع مبلغ من النقود.
وعادت الأتان بأحسن حال بعد شهر من العلف الجيد،والراحة التامة واللهو مع أبناء جنسها.
استقبلت حيهن هذه المرة سلمان بحفاوة، وترحاب كبير، فعيد البنجة على الأبواب وربما هذه المرة الأولى التي تذبح فيها العائلة خروفا للعيد، فالخراف لا يقدر على شراءها إلا الميسورون ، وكان الناس يكتفون بذبح بطة أو دجاجة أو ديك في هذه المناسبة إن توفر ذلك .
بعد الذي جرى له مع اللصوص، عاهد سلمان نفسه بعدم الذهاب إلى تلك النواحي مرة أخرى مهما كلفه الثمن. واكتفى بالسفر إلى الشمال فقط.
عندما تسافر إلى شمال العمارة ترى القرى الصغيرة متناثرة بالقرب من نهر دجلة. تبنى بيوتها من الطين في أحسن الأحوال. أما القرى الكبيرة فكانت تشاد على ضفاف النهر مباشرة. حيث بيوت الإقطاعيين التي كانت واسعة ومميزة وتبنى من الطابوق في الغالب.
معظم القرى الكبيرة كانت تستقبل سلمان كل عام وكأنها على موعد معه. يفرد له شيخ العشيرة التي يحل فيها، كوخا صغيرا قرب المضيف، ليضع فيه عدته وأغراضه، ولينام فيه أيضا مع ابن أخته.
أما الأتان فتكون مدللة في تلك القرى، فهي تسرح حيث تشاء لا أحد يعترضها، أليست هي أيضا في ضيافة الشيخ ؟ وربما تكون تلك الأوقات المستقطعة من عمرها، هي مصدر صبرها على احتمال مصاعب السفر مع سلمان.
ينظف سلمان سكنه الجديد على طريقته ويرتب عدده فيه ويجمعون له عروق الشوك ليصنع الفحم لموقده. وبعد أن يقضي أيام الضيافة الواجبة، يبدأ في إنجاز ما يحتاجه أهل القرية والقرى القريبة من صياغة حجول الفضة والقلائد الذهبية والخواتم والخزامات وهي التي تعلق في الأنف وغيرها من الحلي، مستخدما الفيروز الأيراني الذي كان متوفرا بكثرة في تلك الأيام وكذلك فصوص من الزجاج وغيرا. وفي حالات نادرة وللزبائن المميزين يستخدم الميناء في تجميل النقوش التي يرسمها بآلة من حديد ( قلم نقش) وكذلك إصلاح الحلي القديمة التالفة.
يتم كل ذلك بنظام يتكرر كل عام، تكون فيه الأولوية لعائلة الشيخ، ثم لأولاده وبناته المتزوجات وأسرهم، ثم دور السيد (مومن) القرية والسراكيل، وهناك استثناءات للعرسان، ولكن بموافقة الشيخ ثم لبقية الناس .
يمتد العمل أسابيع وأحيانا شهور، ويظل سلمان طيلة تلك المدة في ضيافة الشيخ وحمايته.
يقضي نهاره في العمل وفي المساء يكون في مضيف الشيخ وقد تحول إلى مجلس أدب وطرب، حيث الأغاني والشعر الشعبي، والأحاجي، والقصص، والأحاديث المختلفة، ولسلمان نصيب كبير في ذلك المجلس.
كان سلمان نجم تلك المجالس من دون منازع بشعره وقصصه المشوقة، التي جعلت الشيوخ يتمسكون به ويترقبون قدومه كل عام، ويشملونه بحمايتهم ويغدقون عليه الهدايا.
سلمان رجل قوي البنية، جريء فلم يكن ليبالي بالمخاطر، أضف إلى ذلك حماية الشيوخ له، فلم يتجرأ عليه أحد من اللصوص يوما .
أما الجن والعفاريت فلم يقتربوا من سلمان لورعه وكثرة تعبده، والذي أضفى عليه هالة من القدسية جنبته الكثير من المشاكل، وتركت له فرصة التغزل بالجميلات دون رقابة أحد.
بعد أن ينجز سلمان أعماله في تلك القرية. يجمع عدده ويحث أتانه لقرية أخرى، ويتكرر المشهد. إلى أن يقترب الشتاء، فيجمع ما قسمه الله ويأخذ أغراضه وأتانه على ظهر أول سفينة نازلة إلى مدينة البصرة، والتي كانت تتوقف عادة في المدن الكبيرة ومنها مدينة العمارة.
فيعود سلمان مع ابن أخته وأغراضهم على ظهر الأتان مشيا إلى قريتهم، محملين بالهدايا من قماش وقهوة وشاي وسكر وغيرها، وبقليل من النقود، والتي لم تعد تسد حاجة أسرته التي أخذت تكبر، وأسرة أخته الأرملة التي تعتمد عليه أيضا، ولحين رحلته القادمة.
لم تستمر حياة سلمان طويلا على هذا المنوال.
فبعد أن رحل الأتراك عن العراق على مضض وبعد قتال ضاري مع الجيش البريطاني، والذي كان الجنود الهنود السيخ والكركة عماده الرئيسي .
تبدلت الطرابيش التركية الحمر بقبعات انكليزية غريبة الشكل لم يعتد العراقيون على تقبل رؤيتها بسهولة ناهيك عن لبسها على الرغم من ترويج الملك والعائلة المالكة لها لاحقا، إلا أن ظلت مرفوضة من قبل الغالبية الساحقة من الشعب.
وبعد ما أحس العراقيون أن عاداتهم وتقاليدهم مهددة، وإن كبرياءهم قد طعنت بعد أن كثرت العيون الزرق حتى وصلت الأهوار. والمحتلون الجدد يعتنقون دينا آخر يعد كفرا عند الطبقات البسيطة من الشعب، ولهم عادات وتقاليد غريبة عن العراق وأهله، وكونهم راحوا يتصرفون مع الناس بعجرفة المحتل ممتهنين كرامة الإنسان العراقي الثائر بطبيعته، فلم يبقى لشيوخ العشائر ورجال الدين والفلاحين من وراؤهم، سوى رفع السلاح بوجه هؤلاء المحتلين في ثورة عارمة.
كانت تلك ثورة العشرين التي اشترك فيها أكثر من مائة وثلاثين ألف من العراقيين، وقد دامت لأكثر من خمسة أشهر وشملت العراق كله، وأظهر فيها الثوار مآثر في البطولة والتضحية.
قمعت تلك الثورة من قبل الانكليز بوحشية لم تعهدها البلاد من قبل. فالحقول دمرت تماما، وقتل الآف من الفلاحين والنساء والأطفال وسويت قرى بكاملها مع الأرض. إضافة إلى القوة والقمع، استخدم المحتل أساليب الحيلة والدعاية وتجنيد العملاء، حتى راحت تروى القصص عن تلك الأساليب منها، أن القوات الغازية أطلقت إشاعة بأن من لم يلقي سلاحة سوف يعدم في حالة العثور على ذلك السلاح ، وسوف لن تنفع عملية إخفاء السلاح الناري، فإن لدى الجيش البريطاني قطط تكتشف السلاح أينما يخبأ. وهكذا أصبحت البنادق مرمية في الطرقات في اليوم التالي للنداء.
انتقل سلمان بعائلته إلى مدينة قلعة صالح القريبة من مدينة العمارة. حيث استأجر غرفة هناك حشروا فيها جميعا.
وفي عام 1921 جلب الإنكليز أميرا من دولة أخرى، ونصبوه ملكا على العراق بطريقة ( ديمقراطية) عن طريق أخذ تواقيع الناس بالموافقة في مضابط نشطت القوات الغازية في إعدادها وجمعها، حتى إن بعضها أصبح محل تندر و سخرية لم يشهدها شعب قبل العراقيين . ففي إحدى المدن لم يستوعب المئول ما المطلوب من بسبب رداءة الإتصالات ، فأعد مضبطتين. الأولى في تواقيع الناس على مبايعة الملك الجديد، والأخرى فيها تواقيع ذات الناس على رفض المبايعة وأرسلت المضبطتين إلى القوات المحتلة لتختار من تشاء منها.
وهكذا أسسوا حكومة من أتباعهم وتعمل تحت إشرافهم. وأخذت الأمور تستقر تدريجيا إلى أن انتهى الانتداب البريطاني على العراق عام 1932.
بعد أن استقر الحكم،أخذت الزراعة تنتعش فتحسنت أمور الناس، ونال سلمان نصيه من هذا التحسن فكف عن السفر، وفتح محلا للصياغة في سوق المدينة الرئيسي، وظل يكافح فيه لسد نفقات الأسرة.
ظل سلمان وطيلة أوائل الثلاثينيات يعيش في الغرفة التي استأجرها في مدينة قلعة صالح.
تقع تلك المدينة على الضفة اليسرى لنهر دجلة، في منتصف الطريق بين مدينة البصرة والعمارة، وإن كانت للأخيرة أقرب وتحسب عليها إداريا.
الطريق المعبدة التي تربط البصرة بالعمارة تقع في الضفة الأخرى من النهر والمدينة من الجهة الثانية. تربط قلعة صالح بالضفة الأخرى عبّارة كبيرة صنعت من صفائح الحديد وكأنها فلكا كبيرا.
ربطت تلك العبارة بأسلاك حديدية من جهتي النهر. وبمعونة تلك الأسلاك والعتلة التي تدار يدويا في وسطها، راحت العبارة تقطع النهر جيئة وذهابا عشرات المرات يوميا .
كانت بلدية المدينة تؤجر هذا الجسر المتحرك سنويا لبعض المتعهدين لقاء أجر محدود، وهؤلاء بدورهم يأخذون أجور من الناس لإيصالهم وأحمالهم إلى الضفة الأخرى.
كان بيت سلمان مطلا على تلك العبارة، والتي أصبحت السبب الرئيسي في تركه العيش في تلك المدينة الحديثة، والتي لم يمضي على بناءها قرن واحد، وقد أخذت اسمها من اسم أحد القادة العثمانيين .ليعيش بعيدا عن تلك العبارة في قرية أو في مجموعة بيوت سيأتي الحديث عنها.
واحد من المجانين سكن في قلعة صالح وكان اسمه (جلوف).
كان جلوف هذا وهو شاب في العقد الثالث من العمر، كان دمثا مسالما وكان عاشقا لتلك العبّارة، يقطع النهر عليها مئات المرات دون ملل، لا يأخذ أحد أجور منه لتنقله الدائم رفقا به قبل كل شيء، وربما تبركا به حتى أصبح جلوف جزء من تلك العبّارة وكأنه عتلة فيها.
وفي ذات يوم عبرت امرأة على تلك العبارة وعلى يدها رضيعها، وصادف عبور سلمان معها إلى الضفة الأخرى لقضاء عمل طارئ. كان رضيعها يصرخ بألم عجزت أثداء الأم عن تهدئته أو إسكاته، فحارت به المسكينة وسط هذا النهر الهادر.
تبرع جلوف وعرض خدماته على الأم متعهدا بإسكات الرضيع. أعطته الأم رضيعها بعد أن عجزت والذين من حولها وحتى سلمان من إسكاته.
وقد أسكته جلوف بالفعل، ولكن إلى الأبد .أخذ جلوف الطفل بين يديه وألقى به إلى الماء تاركا أمه المذهولة تلطم، وتندب حظها، وبعد أن تمالكت نفسها، شدت عباءتها على وسطها وراحت تلطم على طريقة نساء العمارة مرددة أهزوجة ارتجلتها (مو منك هايه يجلوف، جا هايه من الله مودايه ).
لم يستطع سلمان عمل شيئا لإنقاذ الطفل، وكل ما استطاعه الآخرون هو منع هذه الأم الشابة من أن ترمي نفسها وراء رضيعها.
فدجلة كان غاضبا وفي ذروة فيضانه، وهكذا وبكل بساطة ابتلعت أمواج النهر التي كانت تهدر كأنها التنين ذلك الرضيع وكأنه لم يكن.
لم تغادر صورة الطفل خيال ووعي سلمان، وراحت تؤرقه فقرر ترك تلك الدار التي كانت تطل على العبارّة والتي ظلت تذكره بتلك الحادثة الأليمة.
كان سلمان من القلائل الذين يجيدون القراءة والكتابة في المدينة في ذلك الوقت، وبذلك عدّ من المثقفين بمقاييس ذلك الزمان، و أخذت تربطه علاقات طيبة مع موظفي تلك المدينة الصغيرة والذين لم يكونوا أكثر ثقافة منه.
عن طريق تلك العلاقات علم أن (القائم مقام) الجديد ولقبه الصوفي ، ينوي إجراء إصلاحات عصرية في المدينة، من فتح مدارس وشق طرق وإنشاء حدائق عامة، لذا فسوف تتبدل خارطة المدينة.
كانت قلعة صالح تمتد مع دجلة. يفصلها عن النهر شارع أو قل كورنيش. ولكون بساتين النخل الممتدة خلف المدينة تأخذ مياه السقي من دجلة عبر أنهر حفرت عشوائيا، لذا أصبح الكورنيش عبارة عن شارع غير معبد، تقطعه عشرات المعابر التي مدت من جذوع النخيل، تجري من تحتها أنهار اختلف عرضها حسب مساحة البستان الذي ترويه.
قرر (القائم مقام) حفر نهر كبير شمال المدينة ليروي كل تلك البساتين من الخلف، ويعيد بناء طريق الشاطئ بشكل حضاري. وبعد أن أخذ الموافقات من السلطات العليا في بغداد، وضع خطة للمباشرة بتنفيذ مشروعه والذي أسماه نهر المجرية.
بعد أن تم تنفيذ المشروع، ظهرت قطعة أرض كبيرة شمال المدينة تكفي لإقامة قرية صغيرة عليها.
فطلب سلمان وأحد نسباءه وهو رجل الدين المندائي الأعلى مرتبة في المدينة، من (القائم مقام) بيعهم تلك القطعة من الأرض لإقامة حي للمندائيين عليها.
راقت الفكرة للطوخي فقدم طلبا موقعا من قبل سلمان ونسيبه، ورفعه إلى الملك، مع رجاء بمنح تلك الأرض لهذه الطائفة التي تعتنق أقدم الأديان التوحيدية في التاريخ.
هكذا وبعد أخذ الموافقات المطلوبة تم إعطاء تلك الأرض التي أفرزتها ألدوله، والتي تبعد كيلومتر واحد شمال المدينة لهم، وبأسعار رمزية وسجلت بأسمائهم في دوائر الطابو.
قام سلمان بمتابعة الموضوع بكل جدية ونشاط وأقنع إخوته وأخوة زوجته في التعاون فيما بينهم لبناء دور لهم على تلك البقعة الجميلة، والتي تحيطها بساتين النخيل. فتوفر لهم حرية الأرتماس بالنهر وإقامة شعائرهم فيه دون منغصات المدينة.
تحقق لسلمان ما أراد، وتم فرز تلك القطعة إلى أربعة وعشرين بيتا، على عدد حروف الأبجدية المندائية . فقام كل واحد من المالكين الجدد، في تشييد داره حسب رغبته، وحسب إمكانياته المادية. وقد تعاون الجميع على ذلك.
الغني منهم يساعد الفقير، وأن كان لا يوجد بينهم غنيا بمعنى الكلمة، ولكن الفقراء كانوا كثرا.
اتفق الجميع على أن يبدأ البناء في يوم الأحد تبركا بهذا اليوم الذي هو اليوم المبارك عند المندائيين.
جاء يوم الأحد المنشود فترك الجميع أعمالهم وتوجهوا مع نسائهم وأطفالهم إلى أرض " الميعاد " الجديدة.
أخذت أهازيج الرجال ترتفع لتختلط بزغاريد النساء وصراخ الأطفال، الذين لم يفقهوا سببا لكل هذه الضجة، والتي عكرت صفو تلك البقعة الهادئة. حتى طيور الفاخت والتي لم تشهد مثل ذلك الصخب من قبل، راحت تصفق بأجنحتها بعد أن ابتعدت محلقة تاركة أعشاشها. أما كلاب بيت رسن والتي تحرس بساتين النخيل من العابثين واللصوص بشراسة، فولت هاربة بعد أن شاهدت هذا الحشد الكبير، وشعرت أن المسألة جدّ ولا تحتمل الهزار.
خططت البيوت بمساعدة قصبة غليظة وبعض الحبال. ثم أخذت معاول الرجال الأشداء تشق الأرض التي استسلمت لهم بكل دعة.
كبرت الحفر أمام البيوت ونقل إليها الطين الحريّ من جانب النهر على الحمير من شمال القرية .
وانبرت مجموعة من النسوة وفي مقدمتهن حيهن. بعد أن رفعن ثيابهن إلى الركبة وتحزمن عليها بعباءات من الصوف، ورحن يخلطن أعواد التبن الذهبية بالطين في تلك الحفر.
أخذت السيقان البيض تغوص في خميرة الطين في رقصة جماعية بديعة.
الرغبة تظهر الإبداع!
عندما تنظر إلى حيهن، وسط معركة البناء هذه، لا تصدق إنها ذات المرأة المدللة، التي أرهقت سلمان بدلالها. لقد كانت صلبة وقوية ومبدعه، تقود مجموعة النساء في عمل الطين وكأنها تحارب.
بعد أن يتجانس الطين ينقل على شكل كرات كبيرة لتشاد الجدران منها.
كانت هناك قصة وراء نشاط حيهن الغير عادي، ولم يكن هذا النشاط الخلاق مجرد صحوة ضمير،فوراءه حتما قصة أو سبب:
عندما كانوا يعيشون في غرفة في قلعة صالح، وكان رضيعها الصغير نائما في المهد، خرج إليه ثعبان أسود، وراح يلتف على جريد المهد ليصعد إلى الرضيع، فقفزت الأم إلى الطفل وحملته وخرجت به من الدار راكضة، ولكن الثعبان ظل يلاحقها طالبا الطفل، حتى وصلت إلى إحدى ورش يناء الزوارق الخشبية القريبة من النهر. وعند ذلك اجتمع الصناع حولها وبأيدهم الفؤوس فقتلوا الثعبان.
عندها نذرت حيهن إن يبنى لها سلمان بيتا تعيش فيه، سوف تتحزم وتخلط طينه بقدميها وقد وفت بنذرها بكل إخلاص.
أما العجائز اللاتي شهدن معركة البناء تلك، فقد انشغلن بالقدور، والطبخ ومراقبة الصغار.
وهكذا استمر العمل كل يوم حتى أخذت الجدران ترتفع. فظهرت في ساحة البناء، جسور من خشب الجندل وحصران من القصب وشبابيك وأبواب من خشب التوت. كانت تلك الأبواب التي تقفل بمزلاج مصنوع من الخشب أيضا.
بعد أن انتصبت الجدران بأبوابها وشبابيكها ومدت جسور الجندل فوقها بقياس واحد متكرر.
نشرت حصران القصب، أخذت بعض النسوة في رشق تلك السطوح بالطين الحر، وبطبقات عدة لتجعل حبات المطر تنزلق بسهولة ويسر وبانحدار واضح، لتصب في مرازيب صنعت من صفائح التنك التي تطرد المطر بعيدا عن الجدران.
ذلك النشاط المنظم اليومي، والإصرار والأمل، وشمس العراق جعلت من الحلم واقع، فظهرت بعد أسابيع قليلة قرية جميلة تحتضن شلة متحابة من البشر سميت باللطلاطة .
من أطلق هذه التسمية الغريبة؟
لا أحد يجيب.
ربما جاءت التسمية من (لطلاط) ماء دجلة الذي كان يداعب تلك الشواطئ الجميلة.
كانت مياه النهر خجلة عند مداعبتها الجرف العالي، فلا هي تفيض وتغرق المكان، ولا هي تكف عن تلك المداعبة وتترك الجرف وشأنه، فسميت باللطلاطة.
لقد كانت مياه دجلة هي الضرع الذي سقى سكان تلك القرية طيلة عمرها الذي لم يمتد طويلا للأسف.
كان نصيب سلمان من تلك القرية بيت على شاطئ دجلة فيه ثلاث غرف وطارمة مسقفة. والطارمة كانت مسكنا للبقرة الدبسة شتاء، وفي ظهر الدار مساحة من الأرض غرس فيها سلمان بستانا من أجود أنواع النخيل، من قنطار وبرحي وبريم وديري وخضراوي وجبجاب وتبر زل وشكري وحلاوي وغيرها .
زرع سلمان أربعة وعشرين فسيلة نخل، على عدد الدور في تلك القرية وعلى عدد حروف الأبجدية المندائية، التي تبدأ بالألف وتنتهي به ربما تيمنا بتلك الحروف.
كافحت حيهن وابنتها الوحيدة في سقي تلك الفسائل بمشربيات من النحاس تسمى(مصخنة). وكانت عملية زرع بستان وسقيه والاعتناء به، من المهمات الشاقة على النساء، لا تقدر عليها إلا القويات منهن. وهنا ظهر معدن حيهن وابنتها، فقد كن ينقلن المشربيات على الأكتاف مرتين في الأسبوع في البداية، ثم مرة واحدة كل يوم أحد، إلى أن شبت الفسائل متطلعة إلى السماء بسعفها الطري. فازدهر البستان وراح النخل يؤتي ثمارا شهية. عم خيرها على أهل اللطلاطة كلهم. فالرطب كان على موائد الفطار في كل بيت، وحلان الخضراوي فاكهة الشتاء المحببة، ودبس الدمعة المعصور من التمر والذي يجمع قطرة بعد أخرى، بعد أن يوضع فوقه الحلان المنسوج من الخوص المملوء بالتمر المكبوس، والتي شارك في نسجها الجميع حتى الأطفال. كان ذلك الدبس النقي يتبلور(يجرش) شتاء في صفائح التنك، فتنحني في داخله ملاعق الأكل، إن لم تنكسر عند الغرف منه.
والخلال المطبوخ من البريم والجبجاب كان سلوى للجميع في كل الأوقات، خاصة الصغار. لم يكن إعداد الخلال المطبوخ مسألة صعبة . فقد كانت عذوق الخلال تقص وتطبخ وتجفف على السطوح هذا كل شيء.
أما تمر الديري فكان يترك في عذوقه على الشجرة، إلى أن يجف، ثم تقص تلك العذوق وتعلق في الغرف.
وقبل أن يسكن الناس تلك البيوت قامت بلدية المدينة بإيصال الكهرباء إلى الشوارع، فأضاءتها بمصابيح صغيرة ارتفعت عاليا فوق أعمدة من حديد الشيلمان، ولكنها لم تجرأ على دخول الدور!
فبعد أن نقل القائم مقام (الطوخي) إلى مدينة ثانية، أصبح مدير البلدية واسمه "زنيد" يدير أموره قلعة صالح، وكان هو السبب الذي جعل الكهرباء لا تجسر على دخول البيوت الحديثة البناء، فراحت تضاء بالفوانيس و"اللالات" المحلية الصنع.
وعندها قال سلمان شعرا :

غمج يا جلعة جي جسر ما بيج
من غرب الطوخي زنيد حكم بيج

قبل أن ينتهي الخريف كانت البيوت الجديدة قد كنست ونظفت، وجاءت كل أسرة بما تملك من الأثاث، وهو بعض سجاجيد منسوجة يدويا، وصناديق من الخشب صبغت بألوان فاقعة، وبعض القدور وأسرة صنعت من جريد النخل.
انتصبت "التنانير" في كل بيت وجهزت المواقد ومعالف البقر، وتصدرت الدور جرار الفخار، التي كانت تصفي الماء وتبرده. كانت تلك الجرار والتي تسمى ( حب- بالكسرة-) تسع ما يقارب النصف متر من الماء، وكان تحتها وعاء من الفخار أيضا يسمى ( الناقوط) حيت تتساقط حبات الماء الواحدة بعد الأخرى نقية بعد عملية الترشيح في الجرة الكبيرة ويكون الماء في الناقوط صافيا من أية شوائب وباردا ولا ألذ منه وقت الصيف.
كثر ركض الأطفال وزاد صخبهم في المكان الجديد، وكانوا يتجنبون النهر أول مرة، إلى أن اعتادوا على سكنهم الجديد، وما أن جاء الصيف الثاني حتى سكنوا النهر وكأنهم حيوانات برمائية.
قام الكبار بعمل رصيف في النهر ( مسنايه) أمام الدور التي تقع على النهر تسهل النزول إلى النهر للتزود بالماء ولغسل الأواني وللعب الأطفال، لم يكن ماء الشرب يؤخذ من أمام الجرف مباشرة بل من على بعد عدة أمتار، أي من ( لبة ) النهر.
لم يقترب الأطفال من بساتين النخيل التي تحيط باللطلاطة، خوفا من الكلاب الشرسة التي كانت تحرسها، والتي كانت تتجمع في العادة عند الناعور وسط البستان الذي يفصل اللطلاطة عن قلعة صالح.
هذا الناعور الذي كان يدور أبدا بفضل حمار متوسط الحجم ربط إليه معصوب العينين، فلم يعرف إلى أين ستنتهي مسيرته وهل سيتحرر يوما منها؟
ولكون الطريق التي تفصل القرية الجديدة عن المدينة طويلة، إذا ما قيست بخطوات الصغار، ولكونها محفوفة بمخاطر الكلاب، كان الصغار يذهبون للمدرسة جماعات، وكان الأكبر سنا ينضمون معهم في تلك المسيرة اليومية، ولكل منهم هواجسه، فالكل كان يسير بمحاذاة النهر متجنبين الطريق السالكة وسط البستان، وهنا تتعدد الأسباب، الصغار يخشون الكلاب رغم إغراءات الرطب المتساقط من بعض أشجار النخيل، فيفضلون طريق الشاطئ على مضض .
والكبار لهم أيضا ما يخشون منه في طريق البستان فقد تربع الطنطل على السدرة التي توسطت البستان فيعودون مهرولين إلى طريق النهر عندما يصرخ أحدهم طلع الطنطل، أو ذاك الطنطل، وهكذا كل يوم إلى أن تأتي عطلة المدارس، وعندما تظهر نتائج الامتحان فيرجع من كان ناجحا عبر البستان غير مباليا بالكلاب ولا بالطنطل، ليبشر أمه ويحصل على هديته.
أما من فشل فيعود للبيت سالكا طريقا ملتوية تدور حول المدينة ليصل إلى اللطلاطة عبر أرض سبخة خالية من الأشجار، أصبحت لاحقا مقبرة للقرية حيث أخذت شواهد القبور تنمو عليها بتتابع.
أخذ سكان هذه القرية يرتبون حياتهم كما يشتهون، رغم الضائقة الاقتصادية التي تعم البلد، كان الرجال المكلفون بإعالة هذه المجموعة من البشر يعملون في الغالب في الحرف اليدوية. وكانوا ماهرين فيها. فهم الحدادون، وهم صناع الزوارق، وهم الصاغة وهم الأكثر ثقافة بين شرائح مجتمع قلعة صالح فالعديد من المعلمين هم من المندائيين.
بعد أن حصل شبابهم على التعليم، ظهر فيهم لاحقا المدرس والطبيب والمهندس،.وبذلك أصبحت مكانتهم الاجتماعية مهمة ويحظون بتقدير الجميع في قلعة صالح، وحتى في المدن الأخرى مثل العمارة والبصرة، وحتى أصبح لاحقا أول رئيس لجامعة عراقية من المندائيين، وهو الدكتور عبد الجبار عبد الله، عالم الأنواء الجوية البارز، وأحد تلامذة أنشتاين.
أشادت هذه المجموعة معبدا لها في اللطلاطة من الطابوق،وأنارته بشبابيك من الزجاج وأحاطته بالأزهار، فكانت الفرحة يتردد صداها بين جدرانه في أعراسهم، وطقوسهم الدينية الجميلة،
نال هذا المعبد شهرة واسعة بين دارسيالمندائية في أوربا، فأخذ يرتاده الباحثون والمستشرقين الأجانب الذين ينقبون بين الأحياء عن الفرق والأديان القديمة.
كانت مجالس السمر شبه ليلية في صيف اللطلاطة، حيث يفرش شارع النهر بالحصران يتجمع الرجال والنساء والأطفال كل مساء، كان ضوء الفوانيس يرقص فوق الأمواج التي كانت تتكسر على أغصان شجر الصفصاف الذي ترك أغصانه تسبح في دجلة ليل نهار، وعندما يكون القمر بدرا فلا ترى من ضوء الفوانيس إلا بصيصا. فيقضون وطرا من الليل بالقصص والأحاديث المختلفة، والأطفال يغفون في أحضان أمهاتم في العدة قبل أن تنتهي أي من القصص.
بعد أن استقرت الأمور في القرية و كبر الأولاد، ترك سلمان سوق قلعة صالح، فالرزق فيه صار شحيحا، وعاد إلى هوايته القديمة في مطاردة لقمة العيش، مرتحلا بين القرى، وربما تحجج بضنك العيش في قلعة صالح ليعيش حياة الحرية والترحال التي اعتاد عليها.
سافر سلمان بعيدا إلى الغرب هذه المرة. ولم يرجع من تلك السفرة وكأنه استطاب الهواء الغربي فدفن هناك. ولم يرجع إلى اللطلاطة غير نعيه وعدده وبعض المبالغ القليلة التي لا تسد الحاجة، ومع كل هذه الأغراض ديوان من الشعر الشعبي خط في دفتر كبير، تحول مع الوقت إلى ذكرى فلم يعثر عليه إلى اليوم .
ظلت اللطلاطة وأهلها، وإلى وقت طويل يتداولون القصص والأحاديث بإعجاب وفخر، عن سلمان مؤسس هذه القرية التي ارتبطت بذاكرة المندائيين إلى اليوم .




الجزء الثاني

حيهن

إلى الشرق من ميسان حيث هور الحويزة، يصب نهر الكرخة، وعلى منتصفه تقع مدينة الحويزة، التي تبعد حوالي 90 كيلومترا، عن الأحواز شمال غرب مدينة المحمرة.
كانت الحويزة عاصمة الدولة المشعشعية في أيام المغول. أبدل اسمها الإيرانيون اليوم إلى(دشت ميشان).
في هذه المدينة الكبيرة تقاسم بعض المندائيون العيش مع أهلها العرب من عشائر طي، ولكون المندائيون رعايا دين توحيدي قديم، ورد ذكرهم في القران الكريم ، تسامح الجميع معهم، وتركوهم يعيشون يسلام في تلك المدينة. فشيدوا لهم فيها معبدا (مندي)، وكانوا يمارسون طقوسهم في الإرتماس في نهر الكرخة بكل حرية.
كانوا يرددون اسم الله في تلك الطقوس بلغة أخرى غير العربية أو الفارسية هي اللغة المندائية. تلك اللغة التي كانت سائدة في تلك الأصقاع قبل الفي عام عل الأقل .
في تلك المدينة ولدت حيهن في أوآخر القرن التاسع عشر، أو في بدايات القرن العشرين. كان أبو حيهن رجل الدين المندائي الأكبر في تلك الأصقاع، وكان قد أنشأ بعض أولاده على طريقته فأصبحوا رجال دين مرموقين هناك، قبل أن يهربوا منها إلى العراق، بعد أن فشلت ثورة الحويزة ضد الظلم الفارسي عام 1928، وبعد أن تعرضوا للقمع والإبادة، حيث لم يشفع لهم توحيدهم أو مساهمات أجدادهم في بناء الحضارة في تلك الأصقاع.
ربما كان(بار أنوش) أحد الأجداد الأوائل لحيهن، والذي عاش في الأهواز في عهد الملك شابور.
(أشاد بار أنوش، هذا الرجل المندائي جسرا على نهر الكارون طوله 435 ذراع، وعرضه ستة أذرع، وبفتحات بلغت 15 فتحة في مدة لم تتجاوز الثلاث سنين.)
استقدمت حيهن أمها بعد أن مات سلمان وترملت لتعيش معها في دار واحدة في اللطلاطة.
أصبحت تلك المرأة الوافدة(طبيب) اللطلاطة والقرى المجاورة، بما لديها من تجارب في معالجة بعض الأمراض، وبما تملكه من الخرز والأحراز، التي كانت تساعد بها النساء الحوامل وغيرهن. ولكونها محسنة للجميع وتتكلم اللغة الفارسية إضافة إلى العربية أضفى عليها ذلك هاله من التبجيل ذاع صيتها بعيدا.
كان أخوة حيهن وأغلبهم رجال دين، يحيطون بها ويساعدونها في عيشها كأرملة، بعد أن استقروا معها في اللطلاطة.
عند الحديث عن مناخ العراق، كان معلم الجغرافيا يلقن التلاميذ الصغار، كيف أن العراق (حار جاف صيفا وقارص البرد ممطر شتاء ).
نعم الشتاء هناك بارد جدا، وبيوت الطين وإن كانت ممتازة في فصل الصيف، إلا أنها لا تحمي ساكنيها من برد الشتاء. مما يضطر الناس في الليالي الشديدة البرد إلى استخدام (مناقل) الحطب للتدفئة، والنوم تحت أغطية ثقيلة ذات ألوان وزخارف هندسية رائعة كأنها السجاد تسمى الواحدة منها (إزار ركم).
كانت العائلة كلها في بيت سلمان تنام في الغرفة الواقعة على الشارع الموازي للنهر، أو قل كورنيش اللطلاطة، وكانوا يدخلون البقرة (الدبسة) في تلك الغرفة الواسعة لتنام معهم أحيانا، خوفا عليها من البرد، ومن اللصوص اللذين أخذوا يغيرون على القرية من حين لآخر.
كان موقد النار يتوسط تلك الغرفة الواسعة في بيت سلمان، في ليلة شتوية قارصة البرد، وكان حطبه كرب النخيل، وبضعة أغصان من التوت، فأخذت ناره ترسم لوحة بألوان قانية الحمرة بعد أن انقشع الدخان وتوهج الجمر فيها.
غط الأطفال في نوم هادئ، وظلت حيهن وأمها يقلبن الأمور في حديث هادئ، عن مستقبل الأسرة، وكيف سيدبرن أمر إعالة الأطفال بعد أن رحل سلمان دون أن يترك شيئا يساعدهم في عيشهم.
كان للصوص تلك المناطق طريقة خاصة شائعة بينهم في السطو على البيوت، يدخلون الدور من خلال فتحة، يحفرونها في الجدر الطيني بخناجرهم المشحوذة دائما، فيدخل اللص مؤخرته في تلك الفتحة خوفا على رأسه ممن قد يتربص به، ثم يدخل كامل جسمه، وبعد أن يطمأن، يسرق ما يجده في تلك الدار، وما يقدر على حمله ويخرج من الباب الرئيسي، المقفول بمزلاج خشبي يعصى فتحه على الداخلين للدار لا الخارجين منها، وسكان الدار يغطون في النوم تحت تلك الأغطية الثقيلة.
استغرق حديث حيهن وقتا طويلا مع أمها، فالمشاكل معقدة والحديث تشعب، ولم يبقى من الليل إلا الهزيع الأخير.
وعندها سمعت حيهن نقرا على الجدار، ثم تأكد لها أن أحدهم يحفر فيه، فقامت بهدوء وأحضرت محراث التنور، وهو سيخ طويل من الحديد يستخدم في تحريك الجمر داخل التنور لتنضج الأرغفة فيه. وضعته في الموقد، وزادت الحطب عليه واستمرت بالحديث مع أمها التي لم تسمع منه شيئا بعد أن غلبها النوم، وراحت تشخر بصوت مكبوت.
استمر الحفر في الجدار طويلا، فالجدار كان عريضا وطينه مداف بالتبن جيدا فتماسك جدا، وحيهن تنتظر بقلق.
أخذ السيخ يحمّر تحت وهج أغصان التوت الأبيض الذي غطت شجرته وسط دار سلمان.
بعد أن أنجز اللص المرحلة الأولى من عمله، وظهرت فتحته صغيرة في أسفل الجدار، تسللت منها خيوط القمر البيضاء، راح اللص يدس مؤخرته فيها ليلج الدار على عادته، حالما بصيد ثمين.
بعد أن أدخل كل مؤخرته في تلك الحفرة الصغيرة، وقبل أن يدخل باقي جسمه، أخذت حيهن السيخ المحمر، وراحت تكويه على مؤخرته بكل قوة وثبات، أخذ اللص يصرخ من شدة الألم محاولا الفرار.
لم يخرج اللص من تلك الورطة، إلا بعد أن أيقظت رائحة الشواء أم حيهن، واختلط صراخ الصغار المرعوبين بصراخ اللص.
تركت حيهن اللص يهرب ولم توقظ الجيران، وأعادت الأطفال إلى فراشهم، وأغلقت الفتحة بحقيبة حديدية كبيرة كانت تضم بعض أدوات عمل سلمان وكأنها تعاتبه على رحيله.
انتشر الخبر في اليوم التالي في المدينة كلها، ولم يجرأ بعدها أحد من اللصوص بدخول اللطلاطة.
بعد تلك الحادثة عرض عليها أحد إخوتها الانتقال للعيش معه، لكنها أصرت على أن يظل بيت سلمان مفتوحا.
أراد ابنها الكبير قاسم ترك الدراسة، والتي قطع فيها شوطا كبيرا، ليعمل ويعيل العائلة، ولكن حيهن أصرت على إرساله إلى بغداد ليكمل تحصيله في كلية الملكة عالية، والتي ذاع صيتها بعد أن ينهي تعليمه الثانوي.
أخذت حيهن تشتغل هي وابنتها يساعدها الصغار في نسج الأطباق من جريد النخل، وصنع الحصران من سعفه، وبناء التنانير من الطين، وغزل الصوف، وحياكة الهمايين* وخياطة الرسته ، وغيرها من الأعمال التي كانت توفر دخلا شحيحا. لكن الحياة كانت تجري، وبمساعدة البستان والبقرة الدبسة التي كانت قد ساهمت بشكل جدي في توفر الحد الأدنى من العيش لهذه العائلة.
أنهى قاسم المرحلة الثانوية من الدراسة بتفوق، فأصرت حيهن على إرساله إلى بغداد ليحقق طموحه وطموح الأسرة، وليعيد اسم سلمان إلى الواجهة بكل فخر.
كانت تزور مندي اللطلاطة بعد أن ذاع صيته في تلك الأيام، ومن حين إلى آخر مستشرقة وباحثة في الأديان القديمة انكليزية الجنسية، وكانت تقضي الساعات الطوال في متابعة طقوس المندائيين هناك.
تعلمت لغتهم وعاداتهم، فأحبتهم وأحبوها. وخلال زياراتها المتكررة، كانت تسكن في موقع الحامية البريطانية المبنية في الجهة الأخرى من النهر.
كانت الليدي دراوور (وهذا اسمها) تطلب من قاسم أن يجلب لها قنينة حليب من الدبسة كل يوم إلى مقر الحامية، وكانت تغدق عليه العطايا. وتستعين بإنكليزيته البسيطة في التفاهم مع الآخرين في اللطلاطة، قبل أن تتعلم هي العربية.
كتبت هذه الباحثة أهم الكتب عن الدين المندائية وعن هذا الشعب المنسي، وكان الكل هناك يستقبلونها دائما باحترام شديد، فكان يفرد لها كرسي في وسط مندي اللطلاطة، تظلله شجيرات الياسمين، ويحيطه ورد الجوري البري الذي يغرق الجميع بعطره الفواح.
لم يكن العيش سهلا على الرجال في اللطلاطة، فلم تتوفر لهم فرص للعمل في المدينة، عدى بعض الحرف الصعبة كالحدادة ونجارة الزوارق، والقلة منهم وجدت فرصة العمل في مجال التعليم. وهكذا تغرب الغالبية منهم في البصرة، أو في دول الخليج بحثا عن الرزق.
حاول عبد الرزاق وهو أخو قاسم الأصغر، أن يجرب حظه في السفر أيضا. ترك اللطلاطة، قاصدا مدينة البصرة وهو لا يزال غلاما يافعا، ليعمل هناك من أجل أن يشبع بطنه، بعد أن عجزت الأم الأرملة والبقرة الدبسة في إطعام كل الأفواه التي لم تعرف الشبع يوما في ذلك الزمان.
كان عبد الرزاق يضحك في كل الظروف فلم يحزر أحدا قدر ألمه عندما يتألم.
روى لأمه ذات مرة، كيف أن الذين عمل صانع عندهم في البصرة لتعلم مهنة الصياغة، يضعون مائدة الغداء ظهرا بعد ساعات من العمل الشاق، فتمتد العديد من الأيدي القوية إليها مسرعة. أما هو فكان يجد صعوبة في الوصول إلى قلب المائدة التي توسطتها سمكة مشوية" تناهشتها" أيدي الكبار. فيلملم ما كان على الأطراف منها في لقمته.
وقبل أن يشبع بطنه يأمره (الأسطى) بجلب كوب من الماء ليدفع به الغصة. فيعود صاحبنا بالماء، وعندها تكون المائدة أخليت تماما، فيأمرونه برفعها ليتكرر ذلك في اليوم التالي والذي بعده ولم يشبع بطنه أبدا طيلة المدة التي قضاها في تعلم الصنعة، إلى أن هرب من عقاب(تعلم الصنعة).
كان الكبار يعودوا إلى اللطلاطة بالمناسبات محملين بالهدايا، والتي كانت تدخل القرية لأول مرة، فلم تعرف اللطلاطة السجاير مثلا، ولم يكن فيها من يدخنها أصلا، فكانت علب سجاير (بلايرس) المعدنية، والتي يصرّ غالبيتهم على جلبها ربما إعجابا بصورة البحار الملونة التي طبعت على العلبة بإتقان، أو لأنهم يحصلون عليها كهدايا من البحارة الأنكليز.
كانت تلك العلب تفرغ في اللطلاطة من السجاير لتتحول إلى صناديق لبعض الخرز، ولوازم الخياطة من أبر وخيوط وأزرار. أما السجاير فيفرغها الأطفال من التبغ لتتحول إلى فرارات.
الكثير من الهدايا وخاصة المرسلة للعائلات "كصوغة" مع أحد المسافرين، لا يعرف أحد طريقة لاستعمالها، فراحت النساء يلبسن القمصان الداخلية الحريرية فوق الملابس، ليتفاخرن بشرائط الدانتيلا التي تزين حواشيها، أما حمالات الصدر فكانت تستعمل في اللطلاطة، كواقيات لرفع القدور الساخنة، وكان صبغ الأظافر يستعمل في الشعر أو يستعمل كعطر، وعندما ما وصلت حبوب الفاصوليا أول مرة، قامت النساء بطحنها وإطعامها للأبقار.
كان أحدهم قد جلب لأولاده (غراموفون) مع اسطوانات غربية مختلفة، فأصبح مفخرة اللطلاطة الأولى، وراحت الموسيقى تسمع في القرية لأول مرة، ولكن أولاد ذلك الرجل كانوا يمنعون بقية الصبية من الاقتراب من الدار، كي لا يستمعوا إلى الموسيقى. ولكن الحضارة أخذت تقتحم تلك القرية بإصرار مع الأيام.
لم يعد يشغل حيهن وسكان اللطلاطة إلا مسألة الحصول على سندات ملكية الدور( الطابو) بعد أن ازدهرت القرية وأصبحت محط أنظار الجميع.
كانت رسوم التسجيل(الطابو)، تلك الورقة السوداء السحرية باهظة الكلفة في ذلك الوقت، وتتطلب معاملة خاصة في دوائر التسجيل العقاري في مدينة العمارة مركز اللواء.
قام السكان بحملة تقشف مكثفة لتوفير رسوم الطابو لكل الدور، والتي بلغت ثلاثة دنانير وسبعمائة فلس.
و بعد أن جمع المبلغ، كلفت القرية قاسم بإيصال هذا المبلغ إلى أحد المعارف، والذي يسكن مدينة العمارة كونه مسافر قريبا إليها.
بعثوا له مع قاسم الذي سيسافر إلى بغداد، إضافة للمبلغ المالي ( الضخم) ووضع في كيس من القماش خيط بإتقان وعلق في رقبته،أرسلوا رسالة، وحلانة* من التمر النادر، وكيس من الكليجة، وكل الأوراق والوثائق المطلوبة.
بعد أن وصل قاسم بمشقة إلى سوق العمارة، في طريقه إلى بيت أبو علوان، وحلانة التمر قد هدت كتفه وهو يجرجر بحقيبة سفره.
وعند مروره في السوق، وبعد أن أجهدت الحلانة كتف قاسم، وزاد به العطش، استجاب لنداء بائع اللبن الذي افترش الدرب وسط السوق، فوقف بجانه، فكف هذا عن صراخه المنغم في مناداته الغريبة على بضاعته:
(ماي دجلة، ولبن عجله، واليشربه يشيل رجله)، شرب قاسم طاسة من لبن العجلة، وكان نصفها من ماء دجلة، ودفع ثمنها ثم شال حلان التمر، وواصل البحث عن بيت أبي علوان وأدله الصبية على البيت فهذا معلم مشهور في المدينة ولابد أن هؤلاء الصبية طلبته أو بعضهم.
طرق قاسم الباب فاستقبلت الحلانة بترحاب كبير، وحل قاسم عندها ضيفا عزيزا في بيت أبي علوان.
تسامر الرجل مع قاسم مرحبا به، وأخذ منه الدنانير و كيس الكليجة وكافة الأوراق وتعهد له بأن ينجز المعاملة بسرعة، ويوصل السندات لأهلها قريبا بيده مباشرة إن شاء الله .
نام قاسم ليلته تلك على السطح في بيت أبي علوان مطمئنا، فقد انزاحت الحلانة من على كتفه، والنقود وصلت للشخص المطلوب، ولم يبقى له إلا الحلم ببغداد ومباهجها وببنات بغداد.
من الصباح الباكر غادر قاسم العمارة في سفرة طويلة وشاقة على متن حافلة تجر نفسها بصعوبة إلى بغداد. تلك كانت سفرته الأولى إلى خارج حدود العمارة. حشر نفسه بصعوبة في(خانة ألشواذي) ، جنب رجل مسن، اصفرت أسنانه وأصابع يده من سجاير اللف.
في باص صنع هيكله الخشبي محليا، يسع ثمانية عشر راكبا، يحشر عادة فيه خمسة وعشرين راكبا، صفت حقائبهم، فوق سطح السيارة، و رصت جنبها مجموعة من الخراف والنعاج بعد أن ربطت جيدا، فكان رذاذ بولها يتساقط على وجوه بعض الركاب ممن لم يحتمل الحر وتورط بفتح النافذة. إلى أن وصلوا مدينة الكوت وكانت الأمور تجري على ما برام، فارتاح الركاب وتناولوا وجبة الغداء وشربوا الشاي وقضوا حاجاتهم وتوكلوا من جديد إلى بغداد.
أذهلت بغداد قاسم، وأكثر ما أثار إعجابه فيها هو الكلية والجو الطلابي الحميم.
عاد قاسم إلى اللطلاطة بعد عدة شهور، ليقضي عطلته الأولى فيها، بعد فصل دراسي مرهق، قطع الدرب من قلعة صالح إلى اللطلاطة مشيا بين البساتين، وهو سارح يستعيد ذكرى أيام الطفولة، مستذكرا الناعور والطنطل، محاذرا من الكلاب، وعندما وصل القرية تجمع حوله جميع من كان فيها يومئذ، وحتى قبل أن يصل الدار، سائلين قبل كل شيء عن أوراق الطابو، وعن مصير النقود والأوراق التي أرسلت معه منذ عدة أشهر .
وضحت الصورة لقاسم، ووضح سبب هذا الأستقبال الغاضب من سكان القرية له، بعد أن علم من حيهن، أن نقودهم قد تحولت إلى طابوق في واجهة بيت أبي علوان الجديد، في وسط العمارة، ولم يعرف مصير الأوراق بعدها.
سببت تلك الحادثة ألما موجعا لقاسم، وإحراجا كبيرا لحيهن، وظلت اللطلاطة مسجلة في دوائر الطابو باسم أصحابها، ولا يملك أصحابها سندات التمليك إلى اليوم.
لم يستطع قاسم الصمود في بغداد لأكثر من سنة بسبب فقره المدقع، فعاد إلى قلعة صالح ليعمل معلما في مدرستها الوحيدة.
عندها تبدلت الحال وتركت حيهن العمل الشاق واكتفت بحياكة (الهمايين) ولغرض المتعة وتمضية الوقت، وأخذت الأسرة تعتمد على الراتب الشهري الذي يتقاضاه قاسم من مديرية المعارف.
عاد قاسم إلى قلعة صالح وقد غيرته بغداد. فعاد منها محملا بأفكار جديدة كانت هي السبب في هجرهم اللطلاطة والتشرد في القرى النائية، وفي معانتهم القادمة.
ظلت حيهن تنتقل مع قاسم من قرية إلى أخرى حتى سكنت بغداد، بعد أن تزوجت ابنتها هناك، وبعد أن انتقل قاسم إلى بغداد ليدّرس في مدارسها.
وهكذا حرمت حيهن من النعيم والأمن الذي كانت توفره لها اللطلاطة.
لم تستمر أيام السعادة في بغداد طويلا، فقد أعلنت الأحكام العسكرية فيها، بعد مظاهرات صاخبة تحولت إلى وثبة عارمة كادت تطيح بالحكم، وأعتقل قاسم بسبب دوره فيها، وبسبب أفكاره التي ظل يبشر بها أينما حل. لقد كان قاسم أحد الدعاة المزمنين ل(جمهورية افلاطون).
جرت محاكمة قاسم في محاكمة سميت ب( محكمة النعساني)، والتي كانت مهزلة مضحكة وليست بمحكمة.
فبعد أن جلبت مجموعة من المعتقلين وقاسم بينهم إلى تلك المحكمة، راح الحاكم ينطق بالأحكام على صف الشباب الذي اصطف أمامه، وكان فيهم شابا طويل القامة وقف في الوسط،، فتليت الأحكام حتى دون ذكر أسماء المعتقلين، وكانت:
من الطويل وإلى اليمين سبعة أعوام سجن مع الأشغال الشاقة، ومن الطويل وإلى اليسار، عشر سنين سجن مع الأشغال الشاقة، فحار الطويل في أمره، فسأل الحاكم مع من هو؟ فأعطاه القاضي خمسة عشر سنة سجنا مع الأشغال، وكان قاسم يقف على يسار الطويل، فكان نصيبه عشرة سنين، قضاها في سجن نقرة السلمان وسط الصحراء.
وهكذا عادت حيهن إلى الفقر من جديد، وعادت تصارع جوعها، ولكنها كانت الخاسرة في صراعها الجديد، بعد أن تبدل سلاح المعركة ومكانها، فلا حصران ولا همايين في بغداد.
دفعت الثمن غاليا من عوز وجوع، وحرمان صغارها من التعليم، بعد أن دفعتهم للعمل قبل أن يشتد عودهم، فراحوا يذرعون الشوارع بحثا عن لقمة العيش، والتي تطالعهم على خجل.
إنتقلت عدوى الأفكار(الهدامة) إلى أولاد سلمان الواحد بعد الآخر، وظلت حيهن تحمل همومهم إلى أن توفاها الله.


























الجزء الثالث

أم عين






















من مفارقات الزمن العجيبة، أن عراقيي القرن الماضي، و بعد أن خاضوا قتالا عنيفا ضد المستعمرين الانكليز في ثورة العشرين . بدأت خطاهم الأولى في درب الحضارة من البداية، بينما كان أجدادهم الأوائل، وقبل سبعة الآف سنة، هم اللذين رسموا للجنس البشري حضارته الأولى!
وهكذا وفي عشرينيات القرن الماضي، بدأت تظهر المعامل وتفتتح المدارس. فأول مصفاة للنفط في مدينة (بلد) النفط، بنيت في عام 1927 وبنيت معامل للنسيج والسجائر وغيرها.
انتعشت الزراعة في تلك الفترة أيضا، بعد أن تحررت من كابوس الضرائب التركية، وأصبح العراق يصدر الحبوب، وخاصة الشعير إلى دول العالم، منها الهند وهولندا والدانمرك، وكانت صادرات الشعير ضعف صادرات التمور، على الرغم من غابات النخيل التي كانت هي الأكبر في العالم .
لا تأخذكم النشوة ويسحركم الأمل، فالعراقي لم يجن شيئا من تلك الخيرات، فقد تربعت مئة عائلة إقطاعية متعاونة مع المستعمر الجديد في تقاسم تلك الخيرات، وظل الشعب يعاني من الفقر والجهل والمرض والكوارث.
إن تراكم تلك المظالم على مدى السنين، أوجد تربة خصبة لنمو الأفكار الجديدة، والتي كانت تدعوا الشعب للتمرد على واقعه المأساوي. ساهمت في ذلك روح العصر التي راحت تنادي بالاشتراكية والمساواة، بعد أن تغير العالم بسبب الثورة البلشفية في روسيا.
ففي عام 1924 ظهرت أو مجلة تروج للأفكار الاشتراكية والماركسية، أصدرها حسين الرحال. وراحت الشيوعية تنتشر بسرعة بعد أن قام يوسف سلمان بتشكيل خلاياها الأولى في جنوب العراق عام 1932 ،وهكذا أصبح (فهد) الاسم الحركي لذلك الرجل مثالا للشباب المتمرد على الظلم، وخاصة بعد أن أعدمته الحكومة العراقية العميلة للإنكليز في نهاية الأربعينيات. وأصبح الشعار الذي أطلقه فهد(وطن حر وشعب سعيد) يدغدغ مخيلة الفقراء المتعطشين للحرية.
شبّ قاسم وسط تلك الأجواء المشحونة وخاصة عندما كان يدرس في كلية دار المعلمين العالية.
كان حسه المرهف، وما ورثه عن أبوه من فكر متحرر، وثقافة وفن قاده في النهاية إلى التمرد على حياته البائسة، والالتحاق بتلك الجموع الثائرة من الشباب.
لم يستطيع قاسم مواصلة دراسته في بغداد بسبب الفقر المدقع الذي كان فيه. على الرغم من أن المغزل لم يتوقف عن الدوران بيد حيهن ليل نهار، لتوفر له بعض مصروفه، ولكن كلفة الحياة المرتفعة في بغداد كانت أكبر من أن تحتمل.
كان قاسم ممشوق القوام جميل الطلعة مرهف الحس، خاض مغامرته الأولى في بغداد المليئة بالحياة، فكان غرا في العلاقة مع الجنس الآخر.
الجنس الآخر في بغداد وفي تلك الكلية بالذات كان متمرد على عفوية المجتمع. أحبته ميسون بعد أن وجدت فيه الصفات التي وضعتها مسبقا لشريك حياتها. وأحبها هو بخوف كونها كانت ثرية بالنسبة له وجميلة أكثر من طموحه.
سارت الأمور في البداية بينهما بكل يسر، دون أن ينتبه لذلك أحد، فقد كان العديد من الطلبة والطالبات يقصدون قاسم ليساعدهم في دروسهم. و هكذا توطدت العلاقة بينهما. وبعد أن اكتشفت أنه مندائي الديانة قطعت علاقتها به فورا.
وهكذا رغم اجتياز قاسم امتحان السنة الأولى بتفوق إلا أنه عاد إلى قلعة صالح والحسرة تملئ قلبه بعد تجربة الحب الأولى الفاشلة.
عاد إلى مسقط رأسه. وهناك حصل على وظيفة معلم في مدرستها. فراح يعيل أسرته التي أنهكها الفقر وليدفن ذكرياته في أعماق ذلك الريف.
كان قاسم يدرّس اللغة العربية ويدرسّ فن الرسم والأعمال اليدوية في مدرسة قلعة صالح الابتدائية للبنين.
ولكونه كان متحمسا جدا للأفكار الجديدة، وثائرا على المجتمع وعاداته، راح يدرس الصغار الكلمات الكبيرة، فكان يصر على دعوته لعراق جديد يسوده العدل والحرية.
ربما كان يحاول إظهار ما زخر به قاموسه الفكري الذي حمله معه من بغداد متباهيا أمام زملائه المعلمين، والذين كان محور أحاديثهم (عرق مسيح ومرقه المسموطة )، وربما أراد أن يثأر لحبه الفاشل، ولا أعرف كيف صبرت عليه إدارة المدرسة عاما كاملا، ولكن في النهاية، أبعدوه إلى إحدى القرى في عمق الريف وكان يتمنى ذلك ربما، كان اسم تلك القرية(أم عين)، ولا أظنها على خارطة العراق اليوم، ولا أنصحكم في البحث عنها هناك ولا في كتب التاريخ فلم تظهر عليها يوما.
كانت أم عين تقع على مشارف الهور. والطريق الموصلة لها غير معبدة، فلم تطرقها وسائط النقل الحديثة، والتي كانت نادرة في ذلك الوقت. ويظل الطريق النهري هو المنفذ الأفضل للوصول إليها، حيث يتفرع من دجلة، رافد كبير يسمى نهرا المجر الكبير، وهذا الرافد يوصل إليها .
بعد أن اعتمدت العائلة على الراتب الذي كان يتقاضاه قاسم، والذي أخذ يشعره بأنه أصبح رب الأسرة، تخلت حيهن عن قيادة سفينة العائلة، فتركت قاسم يدور بهم من قرية إلى أخرى دون اعتراض أو مقاومة.
لم يكن الانتقال إلى مكان جديد مجهول شيء هين على الجميع، وخاصة على حيهن التي اضطرت إلى التخلي عن(محمل) العرس وعن(الرحة و الجاون )، وعن العديد من الأغراض التي تركتها مع أمها في اللطلاطة، والتي ظلت تعيش اللطلاطة.
ولكن ظهرت هنا مشكلة حقيقية في نقل الدبسة إلى السكن الجديد، فالمشحوف* الذي استأجرته العائلة للسفر فيه إلى أم عين لم يسع العائلة وأغراضها إلا بصعوبة، ولكن كيف ستنقل البقرة؟ وكان قرار حيهن النهائي أن لا تسافر بدون(الدبسة).
لم تنجح كل محاولات قاسم بإقناع أمه بالسفر من دون البقرة، حتى أنه وعدها بأنه سوف يشتري واحدة مثلها، ومن أول راتب يتقاضاه هناك. ولكن دون جدوى.
لم تحل المسألة إلا بعد أن تدخل(مولى)، وهو أحد الحراس في البستان المجاور للطلاطة.
فقد تعهد هذا الرجل بأنه سيأخذ البقرة مشيا على الأقدام إلى أم عين، وعلى مراحل فالمسافة لا تزيد على العشرين كيلومتر، إذا قطعت بخط مستقيم. كان الحل مرضيا للجميعن
ومولى رجل معروف بأمانته وصدقه .
سار مولى مع البقرة عدة مراحل، يسير معها في النهار وينام معها ليلا حتى تعب، وبعد أن اقترب من أم عين، ربضت البقرة هناك ولم تتزحزح من مكانها.
تعب مولى معها دون جدوى، فتارة يجرها من ذيلها، وتارة يرغبهّا بباقة من الحشيش، ولكن كل محاولاته ذهبت سدى، فالبقرة لم تتزحزح من مكانها، فظل حائرا، لا يستطيع تركها في الطريق ولا يستطيع حملها، ولا التخلي عنها. ولم يهدي الله البقرة لتتساهل وتكمل الدرب معه.
وبعد أن عجز من إيجاد حل، ترك البقرة وذهب راكضا لأقرب سلف *، وهناك استجار بشيخ السلف بأن يساعده على حفظ الأمانة التي برقبته من اللصوص والوحوش لحين مراجعة أصحابها.
أجاره الشيخ وأرسل من يحرس البقرة مع بعض العلف والماء. أما مولى فعاد إلى اللطلاطة، وأرسل أحد أقرباء قاسم ليعلمه بخبر البقرة.
اكترى قاسم مجموعة من الفلاحين فجاءوا بالبقرة ولم تهدأ حيهن إلا بعد أن رأت الدبسة وعانقتها واطمأنت عليها .
كانت السفرة بالمشحوف خطرة ومخيفة فاللصوص يتربصون بالمسافرين في كل مكان. ولم يستطع المشحوف الاستمرار في بعض مناطق النهر، وكاد يجنح فيها، مما اضطرهم إلى رمي الكثير من المتاع في وسط النهر، والذي كان أغلبه أغصان التوت الجافة .
وصل المشحوف أخيرا ورسا في أم عين، وكان في استقبال المسافرين قاسم وثلاثة من المنفيين مثله.
تساعد الجميع ممن حضر من سكان القرية، في نقل أغراض المعلم الجديد إلى الدار التي استأجرها.
كانت الدار عبارة عن كوخ كبير احتل قطعة من الأرض في أقصى الساحة الرصاصية اللون والتي لم يفارقها الملح يوما، بعد أن أحاطها بسور من القصب.
بذل قاسم وباقي أفراد الأسرة جهود متواصلة لإصلاح تلك القطعة من الأرض، ولكن لم ينبت فيها إلا بستان من الشوك وبعض شجيرات من الشفلح.
بعد أن استقر السكان الجدد في تلك "الدار" بنا لهم قاسم بيتا للبقرة من القصب، ملاصقا للكوخ الوحيد الذي كانت تستخدمه الأسرة لكل الأغراض، فهو غرفة النوم ، وهو مطبخ العائلة شتاء، وهو غرفة استقبال الضيوف، ومكان الراحة والاستحمام، وكان قد بنا مرحاضا من القصب والحصران في ظهر ذلك الكوخ.
لم يمضي وقت طويل حتى سكنت الدبسة مع الأسرة، بعد تكررت محاولات اللصوص، في السطو عليهم ليلا وبإصرار في محاولات لسرقتها.
ظلت الأسرة تتذكر ولزمن طويل مطاردتها للصوص بالحجارة والتي كان يشارك فيها كل أفراد الأسرة حتى الطفل اسامه، وكيف كانوا في النهار يجمعون الحجارة ليرمون بها اللصوص في الليل من جديد.
المدرسة الوحيدة في القرية مبنية من الطين. وهي غرف متفرقة، يحيط بها سياج من القصب، كانت تلك مدرسة فريدة من نوعها وبإمتياز، فملاكها التدريسي مكون من قاسم واثنان من زملاءه المندائيون، هم من كان يديرها، وهم الذين يدرسون فيها .
قام هؤلاء المعلمون المندائيون الثلاثة، وكلهم من المغضوب عليهم، المنفيين إلى أم عين. قاموا بحملة واسعة بين سكان القرية والأكواخ المجاورة لها من أجل إرسال أولادهم للدراسة فيها.
كانت المدرسة للذكور فقط طبعا، وكانت متكونة من ثلاث صفوف تدرس فيها اللغة العربية، والدين الإسلامي، والحساب والأشياء والصحة، والفن والرياضة.
كان درس الدين الإسلامي هو الدافع الأول للسكان بإرسال أبناء القرية للمدرسة.
كان المعلمون يدرسون الأطفال القران في كتاب جزء عمه وجزء تبارك، ولكن درس الدين عند هؤلاء المدرسين، هو دروسا للغة العربية، والنصح والإرشاد أكثر مما هو دين، فهؤلاء لا يفقهون بالدين الإسلامي شيئا وهم في الأساس ليسوا بمسلمين إنهم مندائيون!
نذر هؤلاء المندائيين الثلاثة أنفسهم في مكافحة الجهل والأمية، ونشر الوعي الصحي والفني بين أبناء الفلاحين في تلك البقعة المنسية، ومن خلال الأطفال الصغار، حاولوا رفع الوعي لدى الفلاحين المعدمين،الذين لم يسكن تلك المناطق المهجورة غيرهم .
حرص قاسم على إظهار مواهبه الفنية في الرسم والنحت وغيرها، ولكنه قد تفاجأ بإبداعات بعض التلاميذ الصغار، فلم يكن يتصور وجودها في ذلك المحيط المعدم. كان الرسم والطين الحري الأحمر هو المادة الأساسية لتنلك الإبداعات .
راح الصغار وبتشجيع قاسم المتحمس لفنه، يصنعون نماذج من الأباريق والمشاحيف والأسماك وغيرا، وكان بعضها يرتقي إلى حد الإتقان، فكانت موضع زهو التلاميذ و أوليائهم.
وهكذا توطدت المدرسة، وأخذ التلاميذ يثابرون على الدوام، وتوطدت العلاقة مع سكان القرية، وأصبح هؤلاء المعلمين الثلاثة موضع ثقة الناس وتقديرهم، ومرجع الأستشارة بأمور الحياة وخاصة الطبية منها.
كبر طموح هؤلاء الشباب الثلاثة، فشكلوا فرقة تمثيل في المدرسة، فكانوا هم عناصرها الأساسية طبعا. ووضعت لتلك التمثيليات نصوص مقتبسة من التراث، مثل مجنون ليلى، وبعض الأعمال الثورية المستمدة من ثورة العشرين مع بعض التورية، ونصوص أخرى تعالج حرية الإنسان وكأنهم ينطلقون براية العراق الحر من تلك القرية المنسية أصلا .
راقت بعض تلك المسرحيات لجمهور الفلاحين، فشجعت فلاحي القرى المجاورة في حضور عروضها المسلية.
كان أحد هؤلاء المعلمين الثلاثة، شاب وسيم، أبيض الوجه ذو عيون زرقاء ظلت سرا مستعصي على الفهم، كان يقوم بدور ليلى في مسرحية مجنون ليلى، وكان يشد الجمهور بحركاته الأنثوية وكأنه ليلى حقيقة سال لها لعاب الكبار.
هكذا قضت أسرة قاسم السنة الدراسية بين سهر الليالي في مطاردة اللصوص، وواجبات قاسم التي لا تنتهي، عادوا بعدها إلى اللطلاطة، بعد أن نقل قاسم مرة ثانية لمدرسة أخرى، وإلى قرية أخرى ثم كان زواج الأخت سببا أساسيا في عودتهم إلى اللطلاطة. فمهرها يجب أن يقام وفق طقوس ومراسيم خاصة ينفرد بها المندائيون.
الأعراس المندائية وطقوسها شيء فريد في المجتمع العراقي، فهي جميلة ومعقدة، وتعقد في الصيف فقط كون طقوسها تتم في الماء الجاري أول الأمر.ثم تأتي الأم بابنتها العروس، بين مجموعة من النساء، وقد ارتدت العروس الملابس الدينية البيضاء، وفوقها عباءة بيضاء، وعلى وجهها برقع أخضر.
تسير أمامالعروس فتاة تحمل بين يديها مرآة لترى فيها العروس هيأتها، وطفل يحمل إبريق من الماء، ومجموعة من الفتيات خلفها يحملن صواني الشموع الموقدة والمليئة بأغصان ألآس، وأغصان الرمان التي ترمز إلى الحياة والخصب وغيرها من الورود و الرياحين .
ثم يحضر العريس بملابسه الدينية البيضاء، ترافقه زفة أيضا، ويجب أن يكون معه مرافق من اليمين ومرافق من اليسار.
يلبس رجال الدين الذين يعقدون المهر وكذلك العروسان ملابس دينية بيضاء خاصة .
بعد أن يقيم رجال الدين شعائر الطهارة في الماء يقومون بغمر العروسين كل على انفراد في ماء النهر ثلاث مرات مع تلاوة العديد من الأدعية والتسابيح، تذهب العروس بعد أن تلف في عباءة إلى مخدعها حيث تحتفل بها النسوة وسط الزغاريد والأغاني، والتي لا تنتهي .
أما العريس فيجلسوه في بيت من القصب، مربع الشكل له 12 عمود كل عمود قصبتان تربطان بخوص سعف النخيل، يوضع فوقه غطاء من القماش الأبيض. ويكون البيت مكشوف الجدران تزينه الزهور و الريحان، وأحيانا توضع عليه قطع ملونة من القماش لغرض الظل والزينة .
يظل رجال الدين مثابرين لساعات على تسبيحهم باسم الله وتلاوة الأدعية والتعليمات باللغة المندائية، والني لا يتقنها إلا القلة، وتحضر أسرة العروس لقمة المهر المكونة من الخبز الفطير (غير مختمر) على شكل أرغفة صغيرة يكون عددها 26 مع الفاكهة والتمر والمكسرات من جوز ولوز وزبيب وغيرها .
يحضر من يمثل العروس في عقد القران في بيت القصب هذا، ويتم عقد القران بعد أن يتعهد الرجل بصون عروسه وإسعادها، ثم تقسم لقمة المهر إلى نصفين يأكل العريس نصها، و يأخذ ممثل العروس النصف الآخر إلى مخدع العروس، والتي تجلس خلف ستارة معطية ظهرها للجالسين على فرش وضعت فوق الأرض مباشرة، وبعد أن تأكل اللقمة يعود ليكمل طقوسه في بيت القصب، الذي يكون مفروشا بحصران من سعف النخيل، وضعت فوقها سلال لملابس العروس مختلطة بملابس العريس .
وبعد أن تنتهي الدعوات والصلوات المخصصة بالزواج، يأخذ رجل الدين العريس إلى مخدع العروس، وبعد أن يتأكد شخصيا من رغبة الفتاة بالزواج من عريسها، يجلسه جنبها معطيا ظهره لها .
وبعد أن تتعهد العروس بالإخلاص وبالحفاظ على إسعاد زوجها وتقاسم الحياة معه حلوها ومرها، يضرب رجل الدين رؤوس العريسين بعضها ببعض بلطف ثلاث مرات إشارة إلى إتمام عقد القران. ثم يزف العروسين إلى البيت الزوجية.
تستمر هناك الأفراح لسبعة أيام، ويجب أن يكون مع العريس حرز خاص من الحديد يسمى(السكين دوله) خلال تلك الأيام السبعة.
وبعد أن تنقضي الأيام السبعة، يذهب العروسان للتعميد في النهر ثانية مع كل الأدوات التي استخدموها، فلا يجوز للآخرين لمس العروسين قبل أن يتطهروا.
وهكذا أقيمت تلك المراسيم في اللطلاطة لأخت قاسم التي أخذها زوجها لتعيش معه في بغداد.
قضى قاسم عدة أشهر في قلعة صالح ثم نقلوه إلى قرية العزير. وهكذا حزمت الأسرة أمتعتها من جديد.
تخلت حيهن هذه المرة عن البقرة الدبسة لأمها وبعد أن شاخت الأم والبقرة.
العزير ناحية صغيرة تقع بين البصرة والعمارة، وقبل أن تصل إليها تطالعك خمس نخلات باسقات كأنهن رأس الفالة وقد أحاطت بشجرة كبيرة من السدر، وشحت بعشرات الخيوط والشرائط الملونة قصت من ثياب مختلفة، وأشجار السدر في العراق تحظى بقدسية معينة لا أعرف مردها، ولكن تلك الأشجار كانت وكما يشاع تأوي الطناطل ليلا.
كان سائق الشاحنة التي أقلت العائلة يؤكد أن تلك السدرة تقسم الطريق بين البصرة والعمارة بمسافة متساوية لحد المتر، وبذلك كان يثير إعجاب راكبيه بتلك المعلومات الدقيقة.
ناحية العزير لا تختلف كثيرا عن غيرها من نواحي جنوب العراق. أكواخ من القصب والطين تحيط بقلعة من الطابوق يقف في بابها شرطي وبيده بندقية ذات حربة طويلة. مرتديا بنطلون من قماش الخاكي ينزل تحت الركبة بعدة أصابع، ويعتمر على رأسه سدارة من نفس اللون تميل ناحية الجنب الأيسر، فتحجب جزأ من جبينه الشديد السمار.
تضم تلك القلعة عادة مركزا للشرطة ودواوين الإدارة، وبجانبها المدرسة ابتدائية والمركز الصحي.
ولكن ما يميز ناحية العزير عن غيرها، هي القبة الخضراء المنتصبة على الجهة الأخرى من النهر. والتي تظلل رفاة النبي العزيز، نبي اليهود الشهير.
يزور ذلك المرقد الكثير من اليهود، رجالا ونساء بين مدة وأخرى، وكانت تلك الزيارات موسم فرح وسعادة لسكان القرية الشباب. فكانت النساء اليهوديات سافرات يكشف عن قدر من الجمال كان يمثل القمة لهؤلاء الشباب.
كانت المدرسة تحتوي على ست صفوف مؤثثة بمساطب ومقاعد يجلس عليها الطلبة ومناضد من الخشب.
استأجر قاسم كوخا من الطين ضم عائلته، التي أخذت تصغر فالأخت انتقلت إلى بغداد، وأخيه عبد الرزاق ترك اللطلاطة، وذهب يبحث عن العمل في مدينه البصرة، وليتعلم الصنعة وليشبع بطنه.و(الدكتورة) أم حيهن فضلت البقاء في اللطلاطة، فلم يبقى معه غير أمه وأخويه الصغيرين.
يقع الكوخ في آخر المدينة، يوصله بها طريق ترابي يتحول عند المطر إلى برك من الطين، وعلى الأطفال اجتياز هذا الطريق مرتين في اليوم على الأقل وهم حفاة طبعا. فعند ذهابهم إلى المدرسة يتركون أقدامهم تجف ليتساقط الطين لوحده، ولكن عند العودة إلى البيت كانت تلك الأقدام التي تحمل الطين تسبب مشكلة لحيهن عانت الكثير منها.
أكتشف أسامة هناك لعبة مبتكرة، شاعت بين تلاميذ الصف الثالث في مدرسة العزير. ففي الصف الثالث كان يدرس أسامة أصغر أخوة قاسم. وكانت اللعبة بسيطة، نبعت فكرتها من واقع الحياة في تلك الناحية، ولا أعرف هل هناك مكان آخر في العراق أو في العالم يمارس فيه الصغار تلك اللعبة، أم إنها حكرا على أطفال العزير؟
اللعبة تبدأ قبل الفصول أو في أثناء الفرص التي بينها، يجتمع الصغار قرب إحدى المناضد ويفتحون أحد الدفتر حيث الورق الأسمر، ثم ينكث كل واحد منهم شعر رأسه فوق الدفتر، فتسقط قملة أو أكثر حتما على تلك الورقة، وكان القمل في تلك النواحي كبير الحجم ذو لون أبيض مع نقطة سوداء في الوسط .
يترك الأطفال القمل يتساقط بحرية، لتسلك كل قملة دربا خاصا بها، فيخط الصغار طريق رحلتها على الصفحة السمراء، ومن كانت قملته ترسم طريقا أطولا ومتشابكا أكثر تنقذ حياتها وترمى من النافذة، وتقتل الباقيات بين أظافر الصغار بكثير من المرح والهرج !
لم تستمر إقامة قاسم أكثر من عام دراسي واحد في العزير، نقل بعدها إلى قرى مختلفة في ريف الجنوب. فضجرت حيهن من كثر الترحال وعادت إلى اللطلاطة تاركة قاسم يدبر حياته لوحده في تلك القرى.
عاش قاسم حياة صعبة وغريبة في تلك النواحي. ومما يرويه عنها:
أن زميلا له كان يدرس اللغة العربية لتلاميذ الصف الخامس، وكان الوقت موسم جمع التمر وكبسه. كانت النساء في تلك القرى هن اللائي يقمن بهذا العمل.
كان زميل قاسم يقف عند النافذة يراقب الفتيات وهن يحملن قفاف التمر على رؤوسهن، وقد تحزمن بعباءات من الصوف، فجسدت حركة أجسامهن، كان أستاذنا الشاب مفتونا بذلك الإيقاع الذي ترسمه مؤخرة النساء عند سيرهّن المتكلف تحت أثقال القفاف، فكان يملي على تلاميذه عبارات تعكس حسرته، ملأت دفاترهم الصغيرة: (فرقاعه، طرقاعة، طلايب، مصايب إلى آخره).
عادت حيهن إلى حياتها الرتيبة في اللطلاطة، بعد أن ضجرت من كثر الترحال وتركت قاسم يجوب الأهوار حاملا في يده مصباح سقراط لينشر ضوءه في ذلك العالم المظلم .
رغم كل الظروف الصعبة التي عاشها قاسم كان يعمل بجد لتطوير مواهبه الفنية، ويهيئ نفسه لتبوء مكانة لائقة في جمهورية التي ظل يحلم بها، فأصبح رساما وخطاطا ممتازا.سأمت منه مديرية المعارف في العمارة وأرادت الخلاص منه بأية طريقة، وأخير جاءها الفرج بعد أن قدم قاسم طلبا لتدريس الرسم والخط في بغداد وقبل طلبه ولكن بشرط أن (تتنازل) عنه الدائرة المرتبط بها في العمارة! وهكذا رحلت العائلة إلى بغداد مودعة اللطلاطة وداعا نهائيا .
نسب قاسم كمعلم للرسم في إحدى المدارس الابتدائية في منطقة الكرادة الشرقية وكانت تعتبر من مناطق بغداد البعيدة في ذلك الزمان. حيث كانت تقع الكلية العسكرية ومعسكرات تدريبها. وكان منظر طلبة الكلية العسكرية بملابسهم البيضاء، وهم في مشيتهم الصباحية العسكرية مرددين نشيد الجيش(الجيش سور للوطن يحميه أيام المحن) مع إيقاع عسكري على الحان المارش، وبخطوات منتظمة تبهر الناظر.
كان هذا الاستعراض اليومي، متعة ما بعدها متعة لأبن التاسعة أسامة، فكان ينهض مبكرا كل صباح، ويهرع إلى الشارع العام ليتابع ذلك المشهد، ثم ينظم إلى صلاح شقيقة ابن الأنثى عشر ربيعا ليذهبا سوية إلى أحد الأفران، كي يستلموا حصة العائلة من الخبز الأسود الذي كان يوزع بالبطاقات التموينية.
انتقلت العائلة إلى سكن جديد بسب العراك اليومي بين صاحبة الدار القديمة وابنها الشاب الذي لا يذهب إلى العمل، ليجلس ساعات بجوار حائط الطين للبيت المجاور، بعد أن حفر ثقبا فيه ليتلصص منه على ابنة الجيران، فيصل إلى ذروة الإثارة عندما ترفع صوتها مترنمة ببعض الأغاني عندما كانت تستحم، عندها يصبح عدوانيا خطرا جدا مستعدا لقتل كل من يعكر نشوته في تلك الساعة.
وكان أسامة يقف أمامه ببلاهة يتابع انفعالاته التي كان يغيب فيها عن هذا العالم.
تنبهت حيهن للموقف وأصرت على الانتقال من تلك الدار، فاستجاب قاسم لطلبها بتذمر.
كانت بغداد على فوهة بركان عندما سعت الحكومة البريطانية في تجديد معاهدة 1930 ، التي استباحت كرامة العراق وثرواته، وبعد إعلان صالح جبر رئيس الوزراء العراقي من بورت سموث، حيث أعدت المعاهدة الجديدة، بأنه سوف يجبر العراقيين على قبولها.
انفجر ذلك البركان الذي كان خامدا لسنين، وراحت جموع العراقيين تجتاح الشوارع كالسيل الجارف، استمرت الوثبة عدة أيام في معارك مع قوات الحكومة، سقط فيها العديد من الشهداء.
وبعد أن سقطت المعاهدة الجديدة بدأت الحكومة العسكرية حملة إرهاب على العراقيين، بعد أن أعلنت الأحكام العرفية. زج المئات من الذين ساهموا في تلك الانتفاضة في السجون. جرت محاكمات صورية للموقوفين كانت مثالا للسخرية. كان نصيب قاسم منها عشر سنين قضى أغلبها في سجن نقرة السلمان وسط صحراء السماوة.
ظل العراق يحكم مرة في ظل أحكام عرفية وأخرى تحت إرهاب قوى الأمن الذي لا ينتهي، فخلال الحكم الوطني الذي دام 38 عام تعاقبت 59 وزارة على حكمة، اشترك فيها 175 وزير خلال تلك الفترة، وأعلنت الأحكام العرفية فيها 16 مرة إلى أن قامت ثورة 1958 فأطلق سراح قاسم.
التصقت هموم قاسم بهموم العراق المبتلى، فلم تعمر ثورة 58 طويلا، لم تصبر شركات النفط الأجنبية على قرارات الثورة، فأطيح بها بانقلاب دموي، استهدف كل منجزاتها، بما فيها الفسحة الضيقة من الدمقراطية،
سالت دماء العراقيين في الشوارع، ولم تعد سجون نوري السعيد تكفي للمعتقلين، فوظفت النوادي والملاعب الرياضية وغيرها من المراكز العامة لهم، ولم يفوت حظ قاسم العاثر هذه الفرصة، فأخذ نصيبه منها سنين سجن أخرى، وهكذا قضى زهرة شبابه بين سجون ملكية وأخرى ثورية، لكن قاسم ظل يبحث عن جمهوريته التي ابتلاه بها أفلاطون وبإخلاص وإلى يومنا هذا.









الجزء الرابع
تفاح الدورة

باقة من الزهور الجميلة، لفت بعناية بورق فضي لامع، كانت السبب وراء كتابة هذه السطور.
فقد أثارت تلك الزهور التي قدمت لأسامة تكريما لذكرى أخيه ماجد أحزانا موجعة، عبثا حاول دفنها عميقا في الوجدان والذاكرة.
دعي أسامة في الرابع عشر من شباط عام 2004 إلى الحفل السنوي الذي أقامته منظمة الحزب الشيوعي العراقي في كوبنهاكن عاصمة مملكة الدانمرك، إحياء للذكرى السنوية لرفاق دربهم الذين سقطوا في رحلة النضال من أجل العراق وشعبه .
من أجل مبدأ اقتنعوا به واعتنقوه.
لم يعرف منظميً الحفل تأريخا العديد من تلك الزهور التي اجتثها الطغاة قبل أوانها.
كان أحد أصدقاء أسامة جالسا إلى جانبه في ذلك الحفل. لم يكن يعرف عن قصة صلاح إلا النزر القليل، ومن خلال الصور وأحاديث عابرة عنه. لقد أزاح هذا الصديق بعضا من هم أسامة في تلك الأمسية، خفف عنه بعض أحزانه حينما راح يواسيه قائلا:
لا تحزن يا أخي فإن أخاك هنا قد تحول إلى باقة من ورد كما ترى، بينما هناك الملايين من البشر تأتي وتذهب من هذه الدنيا دون أثر تتركه.
سرح أسامه بعيدا في ذاكرته مع صلاح سلمان، وهذا هو اسم أخيه الذي يكبره بأربع سنين والذي اغتاله طغاة البعث عام 1963 على الرغم من أنه كان سجينا، قابعا في سجن الرمادي يقضي عقوبة التظاهر من أجل نصرة الجزائر!
كان صلاح وسيم الوجه جميل الصوت، فارع الطول لازمته ابتسامة رقيقة طيلة رحلته القصيرة التي قضاها على هذه الأرض والتي لم تدم إلا 30 عاما.
طفولته الأولى وقبل أن يرحلوا إلى بغداد في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، قضاها في قريته الصغيرة، وحتى إنها ليست بقرية بالمعنى المعروف. فلم تكن اللطلاطة إلا بضع بيوت بناها أبوه وأعمامه وأخواله.
في اللطلاطة شارع رئيسي يمتد بمحاذاة دجلة، وعلى هذا الشارع في الثلاثينيات بنا سلمان داره المطلة على النهر،
كان صلاح يحب بستان النخيل الذي زرعه أبوه في اللطلاطة، فحب العراقيين للنخلة وشموخها، ترك أثرا واضحا في سلوك العراقيين, فكلهم عطاء وجلهم عاش ومات بشموخ.
لم يذق الأب ثمار أشجاره، فقد رحل عن هذه الدنيا و عمر صلاح لم يتجاوز السادسة بعد. لم يترك الأب وراءه غير تلك الدار وتلك النخلات، وبقرة سوداء اسمها (الدبسة)، والتي كان لها الفضل الأكبر في بقاء الأسرة على قيد الحياة.
ترك بعده كذلك امرأة قوية عاركت الدنيا من أجل تربية أولادها وتعليمهم ولم يترك لها من إبداعه الفني سوى خزامة من اللؤلؤ احتفظت بها دهرا، ولكنها في النهاية باعتها لتحصل على أجور السفر لمواجهة قاسم في سجن نقرة السلمان، وترك كذلك ديوان من شعره الشعبي ضاع أو أحرق مع كتب قاسم عندما قبضت عليه الشرطة في بغداد.
كانت النسوة في اللطلاطة يرشرشن، ويكنسن شارع " الكورنيش " مساء كل يوم من أيام الصيف اللآهب، ثم يفرشنه بالحصران التي يصنعنها بأيديهن من خوص النخيل.
وفي تلك الأمسيات وبعد وجبة العشاء المتكونة أبدا من الرز الأحمر المطبوخ، واللبن الرائب الذي تجود به أبقار الطلاطة، تجتمع العائلات لسماع قصص وحكايات لا يعرف لها مؤلف. كان الشيوخ يتناوبون على سردها، فبعد إشعال فتائل فوانيس النفط، تروح مشاعلها في رقص لا ينتهي على أمواج دجلة، محتضنة أغصان الصفصاف السابحة في النهر برقة.ّ
فوانيس النفط تلك، اختراع خاص بريف الجنوب العراقي أملته الضرورة، وهو عبارة عن قنينة من الزجاج مليئة بالنفط الأبيض، تغمس بداخلها فتليه مقصوصة من أقمشة قطنية قديمة على شرائط ،يترك جزء صغيرا منها بارز فوق فتحة القنينة، ثم تثبت بالتمر المعجون جيدا، والذي يقوم على الإمساك بتلك الفتيلة ومنع تسرب النار أو الحرارة إلى داخل القنينة.
كانت حيهن تحتفظ بذلك الفانوس وكأنه كنز لا يعوض، ولم يستطع أحد معرفة مصدر تلك القناني الجميلة، ربما كانت قناني لشربت مستورد أفرغت في عرس من الأعراس.
الفوانيس هي دائما سيدة الموقف في تلك الأمسيات، على الرغم من وجود بعض المصابيح الكهربائية التي تضئ الشوارع كل مساء، والتي لم تجرؤ على دخول المنازل لأسباب مجهولة اختعها مسؤول البلدية ( زنيد).
كانت تلك المصابيح صغيرة، وعلى ارتفاع كبير بالنسبة للأطفال فتختلط بالنجوم التي تزين السماء بأروع المصابيح في أمسيات الصيف الصافية.
وإذا كان القمر بدرا في تلك الأمسية فهو وحده الذي يستأثر بكل القصص والأحاديث. التي ألهمت خيال الأطفال وصلاح بشكل خاص.
لقد كان شغوفا في حبه للقمر حتى أنه كانت يغتاظ على أمه إن لم تدعو القمر ليأكل معه "طبيخ وروبه".
كان صلاح شديد الحياء، وذو طيبة لا حدود لها. وحاد الذكاء، متوقد الذهن منذ الصغر، فكان متفوقا في دراسته وكتابة واجباته اليومية، حتى إنه كان يكتب واجبات بعض أقرانه.
كان يصنع قطعا فنية رائعة لدروس الأعمال من الطين الأحمر الذي تجود به شواطئ دجلة، والظاهر أن الفن ينتقل بالوراثة.
في أمسيات اللطلاطة كانت القصص تشد انتباه الأطفال وتنتقل بهم إلى عالم سحري، ولكن وللأسف وقبل أن تنتهي القصة يكون الصغار قد غفوا في أحضان أمهاتهم الدافئة، ثم ينقلون إلى أسرة مصنوعة من جريد النخل، ولم تترك تلك القصص في ذاكرة الأطفال إلا الانطباعات الرائعة عنها.
يخيم السكون في تلك الليالي، والكل ينام حالما بيوم جميل آخر، ويظل نقيق الضفادع وصوت إيقاع مضخة ماء في الجانب الثاني من النهر، وحده ساهر مع أمواج دجلة.
يبدد ذلك السكون أحيانا صوت باخرة صاعدة عكس التيار في رحلة إلى مدينة العمارة، والتي كانت تمثل لأطفال اللطلاطة نهاية العالم. أو تكون نازلة مع التيار إلى البصرة.
كم كانت فرحت الأطفال غامرة بمشاهدة تلك البواخر، وخاصة أضواءها الخضر والحمر، فكانوا يحرصون على رؤية المصباح الخضر أولا فهو لون الجنة. وعندما كانت تلك البواخر تمخر دجلة في النهار، يتبعها الأطفال راكضين معها لمسافات طويلة طمعا بعلب البسكويت التي يرميها لهم طاقمها، وهم في الغالب من الهنود.
كان الكبار يستأثرون دائما بتلك العلب، فلم يذق أسامه طعم ذلك البسكويت إلا مرة واحدة بعد أن انتزع صلاح قطعة منه من يد أحدهم ليدسها في فم أخيه الصغير ليظل طعمها فيه وإلى يومنا هذا.
كانوا مجموعة كبيرة من الصبيان والبنات، يذهبون كل يوم إلى المدرسة الابتدائية في مدينة قلعة صالح، والتي يفصلها عن اللطلاطة بستان بيت فرعون، وبستان بيت رسن بطريق ترابية ضيقة تنتهي بالكازخانة حيث يباع النفط الأسود.
كانت تلك البساتين محروسة بكلاب شرسة، وغالبا ما تحرم الأطفال من المرور عبرها إلا برفقة الكبار.
كم كانوا يحبون السير عبر البساتين، حيث يتساقط الرطب الشهي بكثرة، ولكنهم كانوا مجبرين على سلوك طريق النهر الموازية لتلك البساتين. كان صلاح يضطر لمرافقة أخيه الصغير في سلوك تلك الطريق، فتعاليم ألأم كانت صارمة وخاصة إذا كان الأمر يهم سلامة آخر العنقود الذي هو أسامه.
كان قاسم أخوهم الأكبر قد غادرهم إلى بغداد لإكمال تعليمه العالي هناك، والذي أضطر إلى تركه لاحقا والعودة إلى اللطلاطة ليقوم بدور رب الأسرة، بعد أن ترك الأب ذلك المنصب في رحلته لملاقاة ربه.
لم يرجع قاسم بالشهادة الكبيرة، ولكنه عاد بمهمة لنشر الأفكار الجديدة، والتي تعد الناس بالعيش في سعادة على هذه الأرض! ولهذا الأخ قصص أخرى قد تجدون بعضها في مكان آخر من هذا الكتاب البسيط.
بعد عدة تنقلات من مدرسة إلى أخرى في قرى العمارة استقر قاسم وعائلته ومنهم صلاح في بغداد، في منطقة الكرادة الشرقية وفي بغداد بدأت حياتهم الجديدة .
لقد نزلوا على كوكب آخر أسمه بغداد، فالناس في بغداد غير الناس في العمارة، ففي بغداد لا ينطقوا اللغة العربية كما تنطق في العمارة. فهم لا يلفظون كلمة (جا) في حديثهم أبدا ويتباهون على أهل العمارة بإبدالها بكلمة (لعد) وقد اختلط الأمر على الوافدين الجدد فراحوا يمزجون(الجا باللعد) وهكذا صار السؤال ينطق عندهم ( جالعد شلون ؟) .
بغداد كبيرة، ولم تستوعبها مخيلة أخوة قاسم الصغيرة بعد ، رغم إنهم لم يخرجوا أبعد من "حسين الحمد وإلى البوليس خانه " وهي محطتان يقطعها باص المصلحة بدقائق معدودة .
لقد اكتشفوا أن في بغداد ملك مفدى! ولم يستوعبوا وإلى اليوم ما هو دور الملك، وما هي فائدة الملك أصلا، ولماذا يطلب من الجميع أن يفتدوه بالأرواح ؟ .
التحق أسامة بالمدرسة الابتدائية والتحق صلاح بالمدرسة المتوسطة. لقد كانوا يسكنون بالقرب من نهر دجلة، في غرفتين من الطابوق مع مرافقها، والتي كانت جزء من بيت بني داخل بستان كبير من النخل وغيرها من الأشجار، وكان محرم عليهم تخطي عتبة الباب التي تفصله عن البيت.
لم يكونوا مقتنعين في البداية، أن دجلة بغداد هي ذات الدجلة التي تركوها في اللطلاطة، كانت الدجلة هناك وديعة وصغيرة. كانوا يشربون الماء منها مباشرة وكأنها ضرع البقرة الدبسة، ويسبحون فيها ويصطادون منها السمك، ويقضون أمسيات الصيف بجوارها، تسامرهم وينامون على هدهدة أمواجها. أما هذه التي في بغداد فهي هادرة الموج كبيرة لها رهبة في النفس " جالعد شلون ؟".
كان قاسم أو قل الأب الجديد قد عين معلما في المدرسة الابتدائية التي التحق بها أسامة. وقد اكترى للعائلة تلك الغرف، والتي كانوا يسمونها دارا تقع في محلة السبع قصور، في ناحية الكرادة الشرقية، في بغداد
سارت الحياة أعواما قليلة بيسر وهدوء ولم يكن يعكرها سوى عراك الأخوة الصغار المستمر كل صباح حيث كان على واحد منهم أن يصحو فجرا ليأخذ دوره في الزحام الشديد عند أفران حسين الحمد، ليجلب حصة العائلة من الخبز الأسود المدعوم من وزارة التموين.
أخذتهم إدارة المدرسة ذات يوم بسيارات كبير، لم يبقى في الذاكرة غير لونها الأصفر، أقلتهم إلى وسط بغداد، وهناك وجدوا أن جموعا حاشدة قد سبقتهم وفاض بها شارع الرشيد.
كان الكل يهتف بشعارات غريبة، مثل، " لا تنقهر فيصل فلسطين النه " ولم يفقهوا حينها لماذا ينقهر فيصل؟ ولماذا الكل يحرص على أن لا ينقهر؟ وكيف تكون فلسطين إلنه ليش هيه مال منو؟ كان هذا الحشد الأول في حياتهم التي كانت وادعة وسط بساتين النخيل وزقزقة العصافير، ونواح الفاخت وخاصة في موسم التمر وهكذا اشتركوا مع الجموع بالهتاف فلسطين إلنه، وكانت تجربة فريدة في حياتهم، تبعتها حشود ومظاهرات كانت تفرق بالرصاص والهراوات!
انتهت فترة النعيم التي عاشتاها العائلة في سنين بغداد الأولى، والصغار لم يتجاوزا بعد مراحلهم الدراسية، فكان صلاح في الصف الثالث المتوسط، وكان أسامه في الصف الخامس الابتدائي، عندما ألقت الشرطة القبض على الأخ الأكبر "قاسم".
وهكذا "تيتمت " العائلة من جديد. وهربوا من دارهم في السبع قصور، ومن المدارس التي كانوا فيها خوفا من أن تقبض عليهم الشرطة أيضا.
سجن قاسم عشرة سنين بعد محاكمة مميزة استحقت اسم رئيسها فسميت بمحكمة " النعساني" حيث كانت الأحكام تصدر فيها جزافا، وبالجملة، هكذا كانت ديمقراطية المفدى.
بعد تنقلات في السكن من غرفة إلى غرفة بدور مختلفة ومناطق متفرقة، استقر بهم الأمر وإلى حين في جانب الكرخ في محلة اسمها الدوريين.
وهكذا وفي سن مبكرة جدا أصبح صلاح رب العائلة، وبدأ يخطط لحياة الباقين وكأنه كان قد استعد لذلك.
لا يعرف من أين حصل على عربة صغيرة من الخشب. وكأنها من تلك الصناديق الخشبية التي كان يباع فيها الشاي المستورد من بريطانيا. ثبت في أسفل الصندوق عجلات حديدية صغيرة الحجم ولكن اسمها كان له وقع خاص على المخيلة " بول برنات صجم" وكم كانت تسحر الناظر تلك "البولبرنات "عندما كان يبرمها صلاح بخفة فتظل تدور حول محورها وكأنها عجلة أبدية.
كانا يسابقان الشمس كل يوم، وغالبا ما كان يدركهم فجرها قرب بساتين الدورة، والتي كانت تغطي الأرض جنوب بغداد. كانا يسلكان طريق سكة حديد البصرة.
وذات مرة كاد قطارها الغاضب أبدا أن يقتلهما وذلك بطريق عودتهم والعربة محملة بتفاح بغداد الأبيض.
كانا يدفعان عربة التفاح سوية بكل قوة وبكل طاقتهم ليصلا قبل أن يبرد شاي الصباح وأرغفته الساخنة. ولولا ردة فعل صلاح السريعة لما تجشمتم عناء قراءة هذه السطور.
فقد رمى صلاح بأخيه الصغير وبالعربة خارج السكة، فمّر القطار هادرا دون أن يعير لهما أي اهتمام وكأنهما لم يكونا أصلا. بعد أن التقطا أنفاسهما راحا يلملما التفاح الذي افترش الأرض. فعادا إلى العربة يدفعانها بما جمعاه من التفاح بعد أن فقدا الكثير منه.
قد تعيش الآن في ذلك المكان شجرة تفاح، فإذا مررتم بها اذكروا أبناء سلمان يرحمكم الله .
حمدا الله على السلامة أولا، ثم على العودة بالبضاعة شبه سالمة، فلو كانت بضاعتهم من التوت أو المشمش لضاع رأس المالحتما، والذي لا يعرف من أين دبره صلاح، فلم تكن لديهم محصلات نقود. فالنقود من فئة العشرة فلوس المقرفصة الجوانب كانت تثير فضولهم في تلك الفترة، أما "القران" الصغير الأبيض " عشرون فلسا " فكان لمتعة النظر فقط عندما يصادف أن يروه. ولعادوا فقراء من جديد. فكانا يظنان أنهما أصبحا من تجار الفاكهة !
كان صلاح يذهب كل يوميا ويأخذ أسامة معه ليشتريا الفاكهة من تلك البساتين، والتي كانت تحيط بغداد كغطاء الرأس، والتي تبدأ من القصر الجمهوري اليوم، والذي لم يكن إلا بستانا للنخيل، ولا يعرف أين تنتهي تلك البساتين، ربما مقابل سلمان باك أو أبعد من ذلك؟
كان يشتري ما توفر من فاكهة الموسم على قدر عربته، فتارة تفاحا، وأخرى مشمشا أو "كوجة" أو كمثره وأحيانا تين ونادرا ما يتاجر بالتوت.
يرجع بالفاكهة التي اشتراها إلى البيت فيصنفها حسب جودتها، ويحدد أسعارا لها، وبطريقة عصية على الفهم. ثم يذهب هو بالأنواع الجيدة ويترك لأسامه مهمة بيع الأنواع الرديئة من تلك الفاكهة. وكم كان هذا الأخير يكره تلك القسمة، فتلك الأصناف لا تباع بسهولة. يجوبا كل يوم شوارع الدوريين وعلاوي الحلة وإلى مستشفى العزل "مستشفى الكرامة "اليوم، ثم يعودا إلى مرقه معجون الطماطم والبصل (المحروق إصبعه) هكذا كان اسم وجبة غدائهم الدائمة، والتي لا تتغير إلا ما ندر والتي لا تعرف " الزفر". ثم يعيدا الكرة بعد الظهر حتى تباع البضاعة لآخر تفاحة.
كانت تجارة بيع الفاكهة تسعد العائلة، على الرغم من مدخولها الواطئ جدا، فقد كانت العائلة تأكل فاكهة كل يوم والتي حرمت منها بعد ذلك.
وهكذا أصبح الصغيران يعيلان الأسرة بعد أن انقطعا عن المدرسة تماما، فشبح التحقيقات الجنائية قد سكن مخيلة العائلة. ربما بسبب ذلك الشبح تجد أسامه وإلى اليوم معجب بكتابات كافكا وخاصة قصته المحكمة.
أخذ صلاح يكوّن عالمه الخاص، وراح يبتعد بفكره عن العائلة، ولم يعد يشارك أخاه اللعب، وكأنه قد أصبح رجلا ناضج دفعة واحدة، على الرغم من أنه لم يصل السن القانونية بعد.
أخذت مطالعة الكتب جل وقته، وأغلبها كانت من الكتب ذات العناوين الصعبة، ولم يهتدي أحد إلى مصدرها.
كان يدخل الكتب إلى البيت، وكأنها بضاعة محرمة، ويحرص كل الحرص على أن لا يطلع عليها أحد. ثم أخذ بعد ذلك يتغيب عن البيت كثيرا، وأحيانا يزورهم رجال ظلت صورهم محفورة في الذاكرة رغم نفرت العائلة منهم، لكونهم انتزعوا صلاح منها، وخاصة ذلك الرجل الأزرق العينين، والذي كان يدخن السجائر بنهم، على الرغم من حرصه المتكلف بأن يكون خفيف الدم مع الجميع .
أفترق الأولاد في تجارتهم، وباع صلاح العربة، بعد أن صنع لأخيه بسطة من الخشب، ليعلقها على رقبته، بحيث ترتكز على البطن، كي يسهل حملها، ليعرض فيها ديكه، وحيوانات ملونة مصنوعة من السكر، ومثبتة بعيدان من جريد النخل، يغري الأطفال فيها ليكسب رزقه.
أما هو فراح يشتغل بالأجرة ولا تعرف العائلة أين ؟
في صباح يوم مشرق، ابتعد أسامه ببضاعته عن الشوارع المعتادة، والتي كان يذرعها كل يوم حتى ملّ من برك ماءها الآسن، وكرهت هي أيضا صوته المتشنج، رغم نعومته عندما كان ينادي على تلك الديكة.
سلك هذه المرة دربا قاده إلى حيّ الصالحية ودور السكك، والتي كانت تحجبها عن المستطرقين أشجار الدفلة، المزهرة من كل لون، ورد أبيض، وزهري وأحمر، وما أن عبر شارع علاوي الحلة حيث المتحف الوطني الآن، حتى شاهد منظرا أقشعر له بدنه.
اقترب أكثر بدافع الفضول من ذلك المكان، فتسمرت قدماه ولم تعد تطاوعه، ثم عصفت بيه رعدة راحت تهز ركبه!
شاهد العشرات من رجال الشرطة، استطالت سراويلهم القصيرة لتنزل بضعة أصابع إلى أسفل الركبة محاولة الالتحام بلفافات من القماش الأسمر السميك، لفت بقوة على سيقانهم فغدت وكأنها ملوية سامرا نازلة إلى أسفل القدم، لتلتصق بأحذية سوداء ضخمة لا أظنهم يستطيعون رفعها عن الأرض إلا بمشقة. اعتمرت رؤوسهم سدائر مصنوعة من الصوف بلون الخاكي، وانحرفت كلها بزاوية حادة فوق تلك الرؤوس السمر الحليقة حتى فروتها، وفي أيديهم بنادق طويلة. شكل هذا الجمع الغريب سياجا بشريا لا يفصل بين الواحد منهم عن صاحبه إلا بضع خطوات.
كانت هناك أيضا، سيارات جيب، من مخلفات الجيش البريطاني صغيرة الحجم خاكية اللون، تحمل كل واحدة منها بندقية رشاشة، جلس خلفها شرطي من العيّنة ذاتها وأصابعه مسمرة على زنادها، فشكلت تلك السيارات أبراجا لذلك السياج الرهيب.
كان كل هؤلاء يحرسون رجلا واحدا، علق من رقبته بحبل سميك، وراح يتدلى من فوق عمود خشبي أقيم في وسط الساحة " تحت بوابة المتحف اليوم بين الثورين المجنحين " .
كان الرجل المدلى يرتدي بدله بنية غامقة، وحذاء أحمر لابد إنه أعتنى كثيرا بتلميعه، في ليلته الأخيرة تلك، وقد زادت الشمس في لمعانه، غطيّ وجهه بكيس من القماش ضاع لونه، ونزل إلى تحت الرقبة.
لم يدرك أسامه مغزى تلك الممارسة في حينه. ذكرّته ربما ب (التشابيه) التي كانت تقام في ذكرى استشهاد الحسين، والذي أحبه دون أن يعرف سببا لذلك الحب.
هل يكون هذا الرجل يمثل معسكر الحسين؟ ولكن أين تلك العمائم الخضر؟ قد يكون الشرطة يمثلون معسكر الشمر فكلاهما يمثلان العنف والكراهية، ولكن لماذا كل هذا الحشد من الشرطة والسيارات المسلحة، أتكون كلها مخصصة فقط لحراسة رجلا واحدا معلقا بحبل، لا يمكنه الفرار منه حتى وإن كان حيا؟
راح يبكي بمرارة من شدة الخوف، والذي زاده منظر الشرطي القريب منه والذي نهره طاردا، فعاد أدراجه إلى الدوريين وهو يلتفت خلفه كل عشرة أمتار خوفا من أن يتعقبه أحد. لقد كره تلك الساحة التي شهدت شنق ذلك الرجل !
ظل الخوف محفورا في قلب أسامه منذ صبيحة ذلك اليوم، وإلى يومنا هذا. وعندما وصل إلى البيت، كان في حالة من الهلوسة والهذيان، ازداد رعبه حين علم أن الرجل المشنوق يمت بصلة ما بقاسم وبصلاح أيضا.
افترش أسامه الأرض واستسلم لرجفة الحمى، وكأن شبح الموت يطاردهم هم بالذات دون غيرهم.
لم يقترب من ثريده المحروق إصبعه ذلك اليوم، واعتكف في البيت ولم يخرج منه لعدة أيام، على الرغم من إلحاح أمه وإلحاح صلاح على الخروج، حرصا منهم على مساعدته في تجاوز تلك المحنة، أو ربما خوفا على بوار بضاعته التي وظفت فيها العائلة ما يقارب المائة فلسا.
انتقلت العائلة بعد تلك الحادثة إلى دار في حي الأكراد بجانب الرصافة، ومنها إلى دار ثانية في بني سعيد، وأخرى في حي سكنه فقراء اليهود في أبي سيفين. ودائما كان هناك من يشاركهم السكن في تلك الدور، مرة رجل غارق بين أوراقه، لا يرى خارج غرفته، على الرغم من محاولة الصغار الاختلاط به، ثم جاء آخر غيره، وكان هذا شارد الذهن تبدو عليه أثار النعمة. ثم رحلوا ورحل صلاح معهم. وكان ذلك آخر عهد له بالسكن مع عائلته .
شوهد مرة وهو يشتغل في مخزن لبيع المواد الغذائية في شارع الوصي (شارع النهضة)، وتبين بعد سنين أن هذا المخزن هو لسلام عادل، وهو الرجل الرائع الذي حل محل فهد، بعد أن تعاقب على ذلك المركز رجال عدة، كان من بينهم من شاطر العائلة فقرها في حي الأكراد، وحي بني سعيد وأبو سيفين .
بعد أن تركهم صلاح، راح أسامه يعتمد على نفسه في إعالة حيهن، والتي تعبت من هموم الحياة لكنها لم تستسلم، أخذ أسامه يعمل في إحدى المطابع بأجور يومية مغرية، تقارب المائة فلس يذهب ثلثها للنقل ولوجبة الغداء، التي لم تتغير طيلة عمله في تلك المطبعة (الرابطة). ولم تكن تلك الوجبة سوى رغيفين من الخبز (صمونتان)، وطاسة من اللبن الرائب، مع قطعة من تمر الحلان.
أخذ أسامه بعد أن أتقن الصنعة، يتنقل بين مطابع بغداد غير البعيدة من سكنه في أبو سيفين، والمنتشرة في شارع المتنبي، توفيرا لأجور النقل، وتوفيرا للوقت، بعد أن التحق في إحدى المدارس المسائية، والتي كانت منتشرة في ذلك العهد، أخذ أجره يرتفع شيئا فشيئا فتبدلت وجبة الغداء، دخل فيها الرز والمرق.
لم تعد العائلة نرى صلاح إلا ما ندر.
في ذات يوم زار صلاح أسامه في المطبعة التي يعمل فيها كمساعد طبّاع وقبل دقائق من انتهاء عمله.
لم يعرف أسامه كيف علم صلاح بمكان عمله، كانت فرحته كبيرة برؤية الأخ الغائب، وسرّ جدا بذلك اللقاء فراح يحضنه ويقبله بلهفة. على الرغم من غرابة الموقف أمام العمال الآخرين.
هدأ صلاح من روع أخيه "الصغير"وخرج معه إلى الطريق، بعد أنتهاء العمل، ليرينه "البايسكل" الذي معه، وكان ذو ثلاث عجلات، حيث يتصدره صندوق خشبي يذكر بعربة الفاكهة. أركب أسامه فوق الدراجة وراح يدفعه، وهو ويسير بجانبه.
سأله عن حياتهم وعن صحة أمه، وكان مشتاقا لمعرفة أبسط التفاصيل. ثم أخذ يشرح لأسامه بأن الحزب بحاجة إلى حروف طباعة " والتي كانت من الرصاص تستورد من إنكلترا "، وطلب منه أن يخرج من العمل نهار اليوم التالي بإجازة لمدة ساعتان ليذهب معه إلى إحدى المطابع التي تبيع تلك الحروف، والتي تقع في شارع المستنصر كي يشتريها له.
كان صاحب تلك المطبعة من وكلاء التحقيقات الجنائية " الجهاز الأمني المرعب في تلك الحقبة من تأريخ العراق، والذي أزدهر في كل الحقب اللاحقة حتى شكلّ المرفق الأساسي في أجهزة الدولة العراقية وإلى اليوم ".
جاء أسامة إلى الموعد في اليوم التالي والتقى بصلاح في الوقت المحدد، فطلبات صلاح كانت بمثابة الأوامر بالنسبة له.
وبعد جرعة من المنشطات الحماسية، مذكرً إياه برجولته " والتي لم يختبرها بعد " محذرًا من الارتباك، شرح له كيف تتم عملية شراء تلك الحروف، بحجة كونها للمطبعة التي يعمل فيها أسامه. وكانت كميات الحروف وأنواعها مكتوبة بقائمة دسها في يده.
اشترى أسامه تلك الحروف بعد أن أعطى بعض التفصيلات المشوشة عن المطبعة التي يشتغل فيها، وبعد أن دفع أثمانها ورح ينقلها إلى صندوق الدراجة "البايسكل" ويصفها بهدوء.
وفي الزقاق المجاور كان صلاح يحتسي كوبا "استكان" من الشاي يداري به قلقه. غمرته فرحة عظيمة عند ما شاهد أسامه يدفع البايسكل، فلحق به، وأخذ الدراجة منه بحملها الثمين، وودع أخيه مقبلا واختفى.
لم يظهر صلاح بعدها إلا بعد مرور عدة أشهر، وبمهمة جديدة . كان ينجز المهمات المناطة به بكل جرأة وإبداع .
لم يتغير صلاح رغم تكامل رجولته، وظل الهدوء والحياء أول ما تراه على وجهه، والذي راحت تزينه شوارب شذبها بعناية. كان يبتكر طرقا مثيرة في تنفيذ مهماته الحزبية، وكان ذلك يثير الإعجاب فيدفع أسامه في مشاركته أحيانا في تلك المهمات، على الرغم من تباين دوافعهم.
ولكون قاسم نزيل السجون الدائم، وكان يطاف به من سجن إلى آخر.
نقل هذه المرة من سجن "نقرة السلمان" المرعب إلى سجن بعقوبة الذي بني بإشراف النقطة الرابعة الأمريكية، وكانت حيهن شديدة الحرص على زيارته في كل تلك السجون، ورسائل صلاح الحزبية كانت ترافقها دائما، وبتخطيط ودعم من صلاح ورفاقه.
استعار يوما حذاء أسامه قبل موعد زيارة السجناء المعتادة بيومين، وأعاده له في يوم الزيارة بعد أن خبأ فيه رسالة سرية هامة، وطلب منه إعطاء الحذاء الذي لم ينتعله كثيرا لرفاقه في السجن، وخص له أسم أحدهم.
ذهبت حيهن مع أسامه في اليوم التالي لزيارة سجن بعقوبة، والذي بني في أطراف المدينة. وأثناء الزيارة جاء ذلك الشاب الذي عينه صلاح، فأخذ الحذاء الذي لم تفارقه نظرات أسامه فهو لم "يشبع" من لبسه.
لبس الشاب الحذاء الجديد واختفى ثم عاد ولكن بحذاء غيره.
انتهت الزيارة بسرعة، وهب الناس إلى أحذيتهم التي اختلطت بعضها ببعض لعدم وجود( كشوانجي) ، وبعد أن ذهب كل في دربه، احتار أسامه بالحذاء الصغير الذي جلبوه له، ولم يعرف كيف استطاع أن يحشر قدمه في ذلك الحذاء اللعين، والأهم كيف استطاع السير به عشرات الأمتار دون أن يجلب انتباه الشرطة، فلم يستطع رميه والتخلص منه والعودة حافي القدمين، فهو يعرف أن رسالة مهمة قد زرعت في أحشاء ذلك الحذاء العتيق.
وفي الحافلة العائدة إلى بغداد، رمى الحذاء على كتفه بعد أن ربط شرائطه، فتحررت قدماه من سجنها.
حينما عادا إلى بغداد راح أسامه يروي قصة الحذاء ضاحكا من المفارقة لصلاح. لكن صلاح استشاط غضبا عندما علم بذلك، وأقام الدنيا وأقعدها، وعلى الأقل أمام أسامه.
ظل صلاح بعيدا عن عائلته ناذرا، نفسه وشبابه لأحلام لو تحققت لنزلت جنه الله على أرضنا القفرة الجائرة هذه، ولعاش الناس فيها سعداء.
هل كانت جرأت صلاح تهور وطيش شباب، أم كانت نتيجة إيمان راسخ بقضية عادلة دفعته للتضحية بشبابه من أجلها؟
تصورا في إحدى المرات أخذ رفيق طفولته معه إلى تاجر من تجار الشورجة، وراح يساومه على استئجار خان يعود لذلك التاجر، يقع في سوق الصدرية، وهو واحد من أسواق بغداد الشعبية لاستخدامه كمطبعة، وبعد مساومات مرهقة اتفق مع ذلك التاجر على بدل الأجرة الشهرية لذلك الخان، ثم وقع معه عقدا، ولا أعرف بأي اسم وقعه ثم دفع له النقود المتفق عليها وأستلم المفاتيح.
استأجر شاحنة صغيرة وبعض الحمالين، مع بكرة رافعة وراحوا ينقلون مطبعة الحزب الشيوعي السرية إلى ذلك الخان في وضح النهار، دفع أجور الحمالين والسيارة، وظل هو مع أسامه، منهمكين في تجميع المطبعة المفككة، وإعدادها للعمل وكأنهم في شارع المطابع.
القي القبض على صلاح عام 1957 في وكر لمطبعة الحزب في بغداد في محلة البتاويين. دخل السجن على أثرها، ولم يمكث فيه كثيرا، فقد حررته ورفاقه، ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي يعتز بها العراقيون كثيرا.
عاد صلاح ليعيش مع عائلته، بعد أن التأم شملها، فقد حررت الثورة قاسم أيضا، والذي تزوج بعدها وسكنوا في بيت واحد مطلا على دجلة أيضا، وكانت أيام سعادة لم تدم طويلا.
لم يذق الناس في العراق طعم الحرية إلا سنين قليلة، في ظل ثورة الرابع عشر من تموز، حتى قامت الشرطة بمصادرة تلك الحريات وكأنها سلعة مهربة! فاعتقل صلاح مرة أخرى وكذلك زج قاسم في السجن من جديد، وهذه المرة بحجة اشتراكه في مظاهرة لنصرة الشعب الجزائري! سجنوا بعدها لمدة خمس سنين، ورحّل قاسم إلى سجن الموصل، ورحّل صلاح إلى سجن الرمادي، ولم تلتقي به حيهن بعدها أبدا.
جاءت انقلاب البعث في عام 1963 فأخذوا صلاح من سجنه وعذبوه إلى حد الموت، في واحد من أقبية قصر النهاية بطريقة وحشية.
روى شاهد عيان قصة تعذيبه حيث قال إنهم أي جلاوزة البعث علقوا صلاح من قدميه في المروحة السقفية، وراحوا يلعبون برأسه كرة قدم، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يضعف. وظلت حيهن تنوح عليه حتى لحقت به.
وهكذا قتلوا صلاح بدون محاكمة وبدون اتهام أصلا وبكل وحشية وهو في عز شبابه فلم يكن قد تجاوز الثلاثين من العمر.








































الجزء الخامس

بستان أسامة

عندما بدأت أكتب عن لطلاطة سلمان أول مرة، ظل أسامة يزورني من فترة لأخرى فأستعين بذاكرته القوية، ولكنني في هذه المرة سافرت إليه خصيصا، مستفسرا عن بعض الأحداث والتواريخ التي تخصه شخصيا، وبالمناسبة فإن اسم أسامه هو اسم غير حقيقي، وكل الأسماء هنا هي كنية لأناس حقيقيين عاشوا تلك القصة.
أسامة اليوم، رجل في نهايات العمر، أبيض ما تبقى من شعر رأسه، كثير الجدال، لكنه لا يزال يحب الحياة ويحب المرح والنكتة.
عندما عرف أسامه بأنني أحاول الكتابة عن سيرته، أوقفني عن الكتابة وأصر بشدة، بأن يحدثكم هو عن نفسه. ربما خشي أن أبوح ببعض أسراره، وحق له ذلك، فأنا أنسى بعض الحدود عندما أسترسل بالحديث. ولم أجد مبررا آخرا لإصراره الذي اضطرني إلى الاستجابة لطلبه.
سأترككم مع أسامه ليصدع رأسكم بما يسطره لكم هنا، وأنصحكم بالكف عن المتابعة، إذا شعرتم بالتعب والإرهاق، فلا شيء أهم من راحة البال، وحديث أسامه لا ينتهي. وهكذا بدأ حديثه الذي أسجله هنا بأمانة، دون شطب أو إضافة، إلا ما ندر:
قال أسامه، لابد إنك نسيت البشتكة وصول الجعاب؟، فلم تحدث القراء عنها ؟
في آخر صف من بيوت اللطلاطة، والمجاورة للمقبرة، عاشت امرأة فقيرة مع أبنتها العرجاء، نادت عليّ تلك المرأة ذات يوم أثناء لعبنا أمام بيتها، و كنت حينها في الصف الأول الابتدائي، نادتني كي أكتب لها رسالة.
ركضت إلى البيت وجلبت قلم، أو قل نصف قلم، وكان من نوع أبو المساحة، والذي دخل اللطلاطة لأول مرة قبل شهر تقريبا، جاء به خالي من أمريكا، وقد أهداني واحدا من تلك الأقلام، ولكن أبناءه غضبوا من أن يمتلك غيرهم مثل تلك التحفة، فهجموا على أخوك أسامه وكسورا القلم نصفين، احتفظت بالجزء الذي فيه المساحة للمناسبات المهمة، ورحت أستعمل الجزء الثاني، ولا أذكر أيهما استعملت في كتابة تلك الرسالة.
أخذت معي من البيت أيضا ورقة، وكان هذا كرما له ما يبرره، فقد وعدتني المرأة بصول جعاب لم يخلق مثله!.
جلسنا لنكتب، ولم يكن عندها في البيت ما يكتب عليه، فجاءت لي ببشتكه ملساء تختلف عن ما أعرفه، فمساميرها كانت أصغر من تلك التي تستعملها أمي، صفت مساميرها هنا بشكل متقارب وكأنها أسنان المشط. وعندما سألتها عن سبب ذلك، شرحت لي كيف أن خيوط الصوف الرفيعة جدا، والتي تغزل من شعرتين أو ثلاثة لا يمكن غزلها إلا بعد أن يسرح الصوف بمثل تلك البشتكة.
ولكن يا خالة، لماذا يجب أن تكون الخيوط رفيعة إلى هذا الحد، ألا تتعبك تلك الخيوط؟
العيشة يا ولدي، إنني أغزل خيوط الخاجيّات الغالية الرفيعة الخيط،. أكتب وكفاك أسئلة.
لا أذكر محتوى الرسالة وكيف كتبتها، ولمن كتبت، وكيف أرسلت، ولكنني أذكر صول الجعاب الذي كان مكافئتي الأولى لقاء ما تعلمته في المدرسة.
جعلني صول الجعاب العجيب أتغلب على كل أقراني في تلك اللعبة، ولمدة طويلة، إلى أن انتزعه أحدهم مني ذات يوم ورماه في النهر. كان ذلك يوما كارثيا ظل محفورا في ذاكرة اللطلاطة ( أسامه ويضيع صول جعابه ) وحيهن موجودة؟
عزيزي أسامه، الرحمة واجبه، رفقا بنا، ودعك من هذه التفاصيل، حدثنا عن ما هو نافع.
طيب:
لقد قرأت ما كتبته أنت، ولم تبقي الكثير من أسرارنا و أسرار اللطلاطة لأحدثكم عنه، وعلى العموم، فلا أظن أن أحدا يستطيع تصور الحياة فيها، إن لم يكن قد عاش هناك فعلا.
كانت اللطلاطة وكأنها بيت كبير لعائلة كبيرة، بيوتها مثل غرف في دار كبيرة. الكل يحب الكل، يتقاسمون أغلب الأشياء فيما بينهم، يساعد بعضهم بعضا، وإن كانت بعض الحوادث والمشادات تحصل بين هذا وذاك من فترة لأخرى، ولكن السلام هو الميزة الأساسية لهذه القرية. أذكر كيف شدت إحداهن شعر أخرى (تمالخن من الروس)، عندما أراد زوج الأولى أن يقترن بالأخرى، فهجمت على الضرة المرتقبة في عقر دارها مرددة أهزوجة ارتجلتها:
"شنهو دويده وتشاركني ما من سكين أطر بطني"
هل أحدثكم عن العيد الصغير المندائي، وكيف كانوا يتزاورون صباح ذاك العيد ليأكلوا لقمة أو اثنتان من الطبيخ والروبة، ولهمة من المريس ، في كل بيت من بيوتها.
أو عن أهم الأعياد المندائية قاطبة، وهو عيد الكرصة، وكيف كانت تجتمع عائلات عدة في بيت أحدهم، ثم يقفل الباب خلفهم لمدة 36 ساعة لا يفتحون الباب فيها لأي طارق مهما كانت الظروف، يقضون تلك الساعات، باللعب والفرح والغناء، والتمتع بالطعام الذي كان مجهز قبل مغيب الشمس.
كان جيرانهم الإسلام في القرية اللصيقة يفرحون أيضا بهذا العيد، فالمندائيون يودعون عندهم الأبقار طيلة تلك المدة فينتفعون بحليبها، لا بل كانوا يشترطون عليهم أن تجلب لهم البقرة مع غذائها من الحشيش، وبذلك يكون الحليب مجانا مئة في المائة. وكم كانت فرحة الكل مميزة بيوم الطلعة من تلك الكرصة سالمين، أنه مهرجان حقيقي.وعلى ذكر المهرجان، هل أحدث القراء عن سفرتي مع أخي المرحوم صلاح إلى مهرجان الشباب في موسكو قبل خمسين سنة؟
لا دخيل الله، فهذا لا يخص اللطلاطة، أجبته برفق.
لماذا تصر على اللطلاطة وتعرف إنني قد غادرتها وأنا طفل؟ وهل اللطلاطة بيوت ونخيل؟ وما قد تكون، بعد أن غادرها أهلها وتركوا دورهم مأوى للفلاحين الفقراء ونخيلهم ثوابا لكل طارق؟
في تلك القرية كنا سعداء بكل معنى الكلمة. ففي مدينة قلعة صالح شاهدت السينما لأول مرة في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، عندما عرضوا لنا فلما لا أذكر موضوعه أظنه للتوعية الصحية، في الجهة الثانية من النهر، حيث تجمعنا جالسين على الأرض مساء يوم صيفي، وعرض هناك الفلم على شاشة مؤقتة و كانت ماكنة العرض محمولة على سيارة.
في أيام قائم مقام قلعة صالح "الطوخي" زارنا الموسيقي العراقي سعيد شابو في الروضة التي كنا ندرس فيها، وعزف لنا على آلة الكمان، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تلك الآلة الرائعة.
كانت هناك روضة أطفال ومدرسة للبنين وأخرى للبنات في تلك المدينة الصغيرة، كان العراق أكثر حضارة من اليوم، هل لك علم بذلك؟
كفى أسامه، مو أخذك الواهس، دعك من السياسة وحدثنا عن حالة الناس في تلك الأيام.
كانت لأمي صديقة من سكنه الهور رغم كبر سنها فيها مسحة أخاذة من الجمال، لم تحدثنا أمي عن بداية تلك الصداقة، ولكنها بالتأكيد تمتد إلى أيام الوالد رحمه الله.
كانت تلك المرأة والتي أسمها ( شميعه) تزورنا بين آونة وأخرى، وكلما تأتي تجلب لنا عكيد وعنكر من الهور وتلك سيقان وجذور القصب الذي ينبت في الهور وهي حلوة المذاق، وكذلك كانت تجلب لنا الخريّط المطبوخ بالتمر وهو من طلع البردي، ودائما كانت تجلب طير برهان مخصوصا لي، حتى أنها في مرة جلب لنا هدهد، ودفع بعضهم مبلغا ليس بالقليل لأجل الحصول على الهدهد، يقال إنهم يستخدموا عظامه للسحر.
كانت شميعة تقابل قوري الشاي، وتظل تشرب من الصباح إلى المغرب، إدمان! أذكر عصابة رأسها وكأنه تاير سيارة.
هل ترى يا صاحبي تلك الأشكال الفنية المعلقة على الجدار الذي أمامك، حكتها بيدي، أنها على شكل حيوانات وبشر من خوص النخيل، والذي أجلبه في كل مرة من اسبانيا. هل تعرف بدايات هذا الفن الغير مطروقا؟ طيب سأحدثك عنه:
وقبل أن يسمع إجابتي راح يشرح مسترسلا، وكأنني لست موجودا أصلا:
في بستان النخل في بيتنا في اللطلاطة، توجد أصناف من التمر، مثل البريم والجبجاب، تقص أعذاقه قبل نضوجها( خلال) ، ثم تطبخ بقدور كبيرة، وعندما يغلي الماء مرة واحدة تخرج العذوق من القدر، وتجفف على السطح تحت أشعة الشمس، وفيه أنواع أخرى يترك التمر على الأشجار حتى يجف، مثل الديري، أما الباقيات فلكل صنف طعمه ووقت تناوله، منه يؤكل رطبا مثل الشكر والقنطار و الأستعمران ومنه يؤكل ناضجا مثل الحلاوي والدقله والخضراوي وغيرها الكثير، أما البرحي والبريم يؤكل بجميع مراحل النضوج وحتى قبل أن ينضج أي لازال مبسرا ( جمري، طوش).
الرحمة أبو فلان، ما علاقة هذه النشرة المطولة بالأشكال التي تود أن تحدثني عنها؟
الصبر طيب يا أخي طول بالك ودعني أسترسل، واقف بزوري، اتركني أعيش ذكرى الأيام الحلوة !
أتفضل، لا تزعل
كنا نتابع نضوج التمر في ذلك البستان في اللطلاطة، وقبل أن ينتهي موسم كل نوع من تمر النخيل، كنا نحوك (نسّف) حقائب صغيرة"هندال" لا تتعدى العشر سنتمترات من خوص النخيل، ونختار التمرات التي نشتهيها فنقطفها من عذقها مباشرة ونصفها في تلك الحقائب، ثم نخيطها بالخوص أيضا ونعلقها على تلك النخلة. وبعد أن ينتهي موسم التمر، وينشغل الكبار بهموم الدنيا، نكون نحن الصغار قد خزّنا ما نريد من التمر فوق الأشجار للأيام القادمة، وهناك التزام بيننا وبين الكبار، بأن لن يمسوا ذلك المخزون من التمر تحت أي ظرف.
وهنا في غربتي وحنيني لهندال من التمر، رحت أجمع الخوص حيثما أجده، وأصنع منه أشكالا فنية كما ترى من حيوانات وطيور وبشر وفي هيئات مختلفة، ورحت أقيم لها معارض في مدينتنا حازت على الإعجاب.
ضيفي العزيز، لا تلحّ كثيرا على اللطلاطة، فتثير شجوني.
شيصير يا ربي شيصير لو تبدل هل المصير
وأرد باللطلاطة أعيش وأرضه بنعال وحصير

بعد أن انتقلنا إلى بغداد، تنقلت من عمل إلى آخر منذ الطفولة، وكل عمل ترك أو قل حفر في الوجدان ذكريات لا تمحى. تحدثت أنت عن "عربانة" التفاح وعن بيع" الحامض حلو" في شوارع الدوريين والمطابع وغيرها.
ولكن بعد الصدمة التي تلقيتها من منظر إعدام " فهد"، وجد لي صلاح "عملا" كما سماه لي، وكان عمل من نوع خاص جدا.
أخذني لإحدى الدور في منطقة " الأزروملي" و التي تقع بعد مستشفى العزل ( مستشفى الكرامة اليوم)، وفي تلك الدار كانت تسكن إمرة كردية كبيرة السن، ومعها رجل كان طوال الوقت جالسا في الغرفة الكبيرة لا يبرحها، أمامه كميات من الرسائل والورق ذكرني ببشتكة أم عريفه، ووعاء فيه ماء تعلو سطحه رغوة سوداء لم أتبين ماهيتها، ظننته أول مرة ساحر.
كان عملي هو أن آخذ الرسائل التي يكتبها هذا الرجل، وأضعها في جيبي بكل حرص، وكأنها متفجرات قد تثور في أية لحظة، ثم أوصلها إلى رجال يحدد لي مكانهم وهيئاتهم، وبعد أن يقولوا لي كلمة السر أعطيهم الرسالة وأستلم منهم بالمقابل رسائل، وتكون أيضا ملفوفة وكأنها حرز من الأحراز.
لم يفرحني في ذلك العمل غير كلمة السر وطريقة تبادلها، والتي تتغير في كل مرة.
كان صلاح يوصيني محذرا في كل مرةّ، وذلك الرجل أيضا بأن لا أدل على مكانه إذا ألقت الشرطة القبض عليّ مهما جرى ومهما عذبت.
كنت معتدا بنفسي وأنا أخوض تلك المغامرات والمطاردات مع الشرطة، التي أخذت قاسم منا، ثم إنني سوف لن أخذل صلاح مهما جرى، ولكن ظل هناك سؤال يثقل خاطري، ترى هل سوف يعتبرونني جبانا ومتخاذلا إذا عذبت ورحت أبكي، فسألتهم هل يجوز لي أن أبكي إذا ضربتني الشرطة ؟
كان ذلك الرجل يستلم الرسائل مني، وبعد أن يقرأها يحرقها بعود ثقاب " أبو الثلاث نجوم" ثم يرميها في إناء الماء، وعندما سألته ذات مرة عن محتويات الإناء رد علي مازحا إنه " طبيخ"!
لم أصمد طويلا في هذا العمل، والذي لا أعرف كم هو أجره، فكان صلاح يتقاضاه كما قال لي.
وهكذا عملت مراسل لسكرتير الشيوعي العراقي في ذلك الوقت بهاء الدين نوري دون أن أعرف.
اشتغلت مرة صانع" جايجي " في شارع النهر، كان صاحب العمل يجبرني على غسل الصواني والمواعين والدلال والإستكانات، فجر كل يوم بالماء البار والرمل، حتى تشققت يداي.
أخذت مرة صينية شاي إلى مكتب صاحب معمل للمعكرونة قريب منا، وكان من الأرمن، يدخن "الجروت" وتعلو أنفه نظارات سميكة ( جعب بطل ) كادت خدوده تنفجر من فرط السمنة، و كنت أتصور بأنه سوف يعطيني " بخشيشا" اكرامية. ولكنه طردني خارجا عندما نظر إلى يدي، فأخذت الشاي وجلست على السلمّ خارج مكتبه أبكي خوفا من أن يطردني" إستادي" من العمل، ولكن الجايجي جاء يبحث عني بعد أن كثرت عليه الطلبات، فوجدني أبكي، شرحت له الأمر فطيب خاطري، وعالج المسألة على طريقته، أخذ لهم صينية شاي جديد وأعتذر لهم على الأغلب. أما أنا فطز... كما يقال.
ومرة أوصلت صينية شاي إلى إحدى الغرف في الفندق المقابل وكان اسمه، فندق جبهة النهر، وعند دخولي الغرفة المطلوبة، شاهدت مغنيا معروفا في ذلك الوقت، يعزف على العود وراقصة إيرانية ترقص أمامه بكل حماس على تلك الأنغام، وقفت مشدوها مثل الأبله، وأنا أرى تلك السيقان البيض وهي ترتجف طربا وإثارة، سال لها لعابي رغم صغر سني، أخذت الراقصة تردد" برو برو " وأنا لا أعي ما يدور حولي، حتى أنهم أوقفوا ذلك الطقس المرعب وقادوني من يدي إلى خارج الغرفة!
بعدها اشتغلت لدى بقال في محلة الأزروملي، وذات يوم وأنا أبيع البطيخ أمام المحل، وكنت وحدي، جاءني ظهر ذلك اليوم بدوي شديد السمار ( صلبي)، وراح يساومني على كوم البطيخ الذي افترش الطريق، وكان كله عدى واحدة من صغار الحجم" شمام" ، عدده سبعة عشر بطيخة بالتمام والكمال، وبعد المساومة اشتراها وجلس يأكلها حتى أتى عليها كلها، ثم راح يحك القشور بأسنانه، وإلى الآن وأن لا أصدق ما جرى ومنظر ذلك الرجل ماثل أمامي.
اشتغلت في المطابع وفي معامل الحدادة ولكنني عدت لمهنة أجدادي وأصبح عاملا في ورشة لصياغة الذهب، وظلت تلك مهنتي إلى أن أكملت الدراسة الإعدادية في المدارس المسائية، سافرت بعدها إلى موسكو بزمالة دراسية عدت بعدها إلى العراق مهندس بناء.
لن أكلمك عن حياتي في موسكو، أظن ذلك ليس موضوعنا وهو ذو شجون، والمستقل أمامك إذا بقينا أحياء، ولكن إليك عينة من حياتنا هناك.
بعد وصولنا إلى موسكو، ولكوني أخا لقاسم وصلاح اتصل بي المسئول الحزبي للطلبة العراقيين هناك، ودعاني إلى حضور اجتماع تعارف، وبالمناسبة كان ذلك الطالب عراقي جاء قبلنا إلى موسكو بعام واحد، دفعني الفضول لمعرف الحياة الجديدة وماذا سيقوله هذا الرفيق، فحضرت حسب الموعد وكان الاجتماع في غرفة الرجل الذي دعانا، وبعد استعراض سريع للحياة في موسكو، نصحنا بأن نكون عند حسن الظن، وأن نعمل على رفع سمعة الطلبة العراقيين ونصحنا أن نكون معتدلين في كل شي، وظلت نصيحته لا تفارق مخيلتي وتجعلني أبتسم كلما اقتربت من امرأة، وإليك نص نصيحته:
( على كيفكم يا رفاق بكل شي حتى لو عاشرتم رفيقاتنا السوفيتيات فعلى كيفكم أيضا!) زين هاي شلون ترهم؟
عدت إلى بغداد كما قلت لك، وأنا أحمل الشهادة الكبيرة، وكانت عودتي إلى العراق عن طريق الكويت، وهناك اشترى لي أحد الأصدقاء بنطلون جديد وقمصان جديدة تتلاءم مع وضع العراق وطقسه الحار، فالبنطلونات السوفيتية العريضة لا تصلح هناك كما قال لي.
بعد أن ختم جواز سفري على الحدود في مركز المطلاع، وكان المطلاع هو حدودنا مع دولة الكويت الوقت، ووصلت بغداد وكلي لهفة للقاء الأهل والحزن يملئ قلبي أيضا كونني قد فقدت صلاح وإلى الأبد.
في بغداد بدأت حياتي من جديد وكل شي أصبح غريبا بعد غياب سبع سنين متواصلة. فلم يكن العمل متوفرا في بغداد للمهندسين في تلك الفترة، فذات مرة أعلنت وزارة النفط عن وجدود عشرة وظائف مهندسين شاغرة، فتقدم لطلب العمل ثلاثمائة مهندس، وإذا وضعنا نظام الواسطة في المعادلة، فكم سيكون نصيبي منها؟ وهكذا رحت أناضل من أجل الحصول على أي عمل يسد الرمق دون جدوى، حتى إنني فكرت بالعودة إلى ورش الصياغة، ولكن حتى هذه لم أوفق فيها بعد أن تركتها كل تلك السنين.
وجدت أخيرا وظيفة مترجم من الروسية في معمل لتجميع الساعات، فالتحقت بتلك الوظيفة دون مساومة، وعند نهاية الشهر حصلت على مصرف جيب بسيط وعدد من الساعات كراتب شهري وزعتها هدايا.
و أخيرا وبفضل جهود قاسم وعلاقاته وجدت وظيفة مهندس عن أحد المقاولين. وهكذا تنقلت في العمل من مقاول إلى آخر إلى أن جاءت الخطة الانفجارية في سبعينيات القرن الماضي، عندها رحت أمارس العمل لحسابي الخاص وأخذت مقاولات من الدولة شراكة مع بعض الممولين. لم أذكر ذلك استعراضا لتفاصيل حياتي ولكن لكون لها علاقة باللطلاطة أيضا وسترى ذلك.
تعاقدت مع أحد المقاولين في العمارة على بناء بيوت في المجر، وهناك كونت علاقات واسعة مع المهندسين والمسئولين، فطلبت من أحد المسئولين الحزبيين الكبار أن يتوسط لي لأبحث في سجلات التسجيل العقاري في قلعة صالح، عن سندات الملكية لقرية اللطلاطة.
حصلت على تلك التوصية، واستقبلني مسؤول الطابو في قلعة صالح بكل احترام، ووضع أمامي كل السجلات ومعها استكان شاي. رحت أقلب فيها حتى عثرت على كل مراحل تملك اللطلاطة منذ أن كانت أرض حكومية ( أميرية)، ووجدت أن ملكيتها تعود لأصحابها ومسجلة بأسمائهم ومنهم أبي وأخي قاسم والذي سجل أبي البستان بإسمه.
هممت بألبدء بمعاملة أستخرج سندات ملكية اللطلاطة، ولكن الروتين طويل وكنت مشغولا جدا في انجاز المقاولة فترك الموضوع لفرصة أخرى ولم تسنح تلك الفرصة طبعا.
جعلني العمل في المجر أن أكون قريبا من ناس العمارة وقراها، كان يعمل عندي في البناء أعداد كبير من العمال، وجلهم من سكنه القرى المجاورة، وكان واحدا منهم واسمه(رحيّم) من سكنة القرية التي أنشأت على أنقاض قرية أم عين.
أحببت رحيّم هذا، فكان لمّاحا نشيطا، لا ينقطع عن الدوام في كل الظروف، وذات يوم جئت للعمل فلم أجد رحيّم، سألت عنه قالوا لي لقد تزوج اليوم، فرحت له وأسفت على تركه العمل عندي فكان يساعدني كثيرا.
وفي اليوم التالي وإذا برحيّم مع العمال بانتظاري. ها ولك رحيّم ما الذي أتى بك؟ وكيف تركت عروسك؟ أجابني والحسرة تملئ قلبه، العيشة يا أستاذ، عائلتنا كبيرة وأنا معيلها الوحيد.
طيب رحيّم سوف أعطيك ثلاثة أيام عطلة مدفوعة الأجر إن حدثتني كيف وجدت عروسك.
تململ قليلا ثم أنطلق بعنفوان:
أستاذ هي عمرها ستة عشر سنة،وحلوه كلش أستاذ، وانه هل تشوفني صاير بارود، نزلتلك عليها وجان أعضها من هناك وأشلع صم شعر بسنوني وظل أعلجّ بيه.
لم أتمالك نفسي من الضحك أعطيته هدية عرس بسيطة وأرسلته لعروسه كما وعدته لينجز ما بدأ.
عدت إلى بغداد بعد أن أنجزت المقاولة في وقتها، وهنك فتحت مكتبا للمقاولات، وتوسعت أعمالي، كنت أتعاقد على تنفيذ الأعمال الفنية الصعبة، والتي لا يتنافس فيها المقاولون العاديين، وهم كثر في تلك الفترة بالمئات أن لم نقل بالآلاف.
الوقت أخذنه عزيزي أسامة وأنت"الواين" فتح قريحتك، أزورك مرة أخرى.
باوع إذا ما أخلصّ الحجّي اليوم، تره ماكو مرة أخرى، ها مو تكول.
بت ليلتي تلك عندهم مضطرا، وظل يحدثني طوال الليل، سوف لن أتعبكم بسرد كل ما حدثني به، ولكنني سأختار مقاطع منه، قد لا تكون مترابطة من الناحية القصصية المتعارف عليها، ولكنني أجدها مناسبة لننهي بها الحديث عن تلك العائلة التي بنت اللطلاطة وعاشت فيها.
انغمس أسامه في تنفيذ مشاريع ماء لحساب الدولة بعقود مغرية، وراح يجمع المال، من أجل أن يبني لطلاطته الخاصة به في بغداد.
مرة نفذ مشروعا في قرية صغيرة على مشارف هور العمارة، وهناك راح يبحث عن آثار لسلمان، ولكن دون جدوى طبعا، فقد مرت عشرات السنين على زمن سلمان.
بعد استلامه موقع المشروع من مهندس الحكومة، أخذ ينقل مواد البناء، من حصى ورمل واسمنت وطابوق وغيرها إلى ذلك الموقع، وقد وظف حارسا بأجور شهرية ليحرس الموقع، أسمه جواد ويلقبونه أبو ناجيه، وبعد أيام قليلة سمع أسامة إطلاق رصاص بغزارة، يأتي من ناحية مركز الشرطة، والذي يبعد عن موقع عمله بحوالي كيلومترين.
لم يجد الحارس الذي وظفه في موقعه، وبعد وقف الرصاص تبين أن حارسة ومجموعة من أخوته قد اشبكوا مع رجال شرطة المركز، مستخدمين رشاشات أعطاها لهم تنظيم البعث لمهمات محددة.
ماذا يجري هناك؟ ذهب أسامه ليستعلم وليطمأن على مستقبل مشروعه، وليرضي فضوله، ولب الخبر كما يلي:
للحارس فتاة جميلة، أحبها شاب من منطقة قريبة وبادلته الحب، وعندما جاء لخطبتها من أبوها، طرده أهلها، وأرادوا تزويجها لأبن عمها غصبا عنها.
وفي موعد زفافها هربت من دار أبيها، والتجأت إلى مركز الشرطة، تبعها حبيبها إلى هناك وطلب أن يعقدوا له عليها في مركز الشرطة.
عندما علم الأب بذلك، جمع أخوته محاولين اقتحام المركز، فجرى تبادل لإطلاق النار بين الطرفين. وظل أبو ناجيه وأخوته يحاصرون مركز الشرطة لأكثر من يوم. جاءت لنجدة المركز قوات شرطة بسياراتها من مدينة العمارة، فسيطرت على الموقف، واعتقلوا أبو ناجية .
أخذ ضباط الشرطة الفتى والفتاة في سيارتهم العسكرية إلى العمارة، وبعد عقد قرانهما غادروا العمارة إلى بغداد بعيدا عن مشاكل الثأر، فسكنوا في غرفة في مدينة الثورة.
أخذت الشرطة تعهدات من جواد وإخوته بعدم التعرض للعروسين طيلة حياتهم ثم أطلقوا سراحه.
لم يستطع أبو ناجية العيش في تلك المنطقة بعد العار الذي لحق به، فأرسل أخوه إلى أسامة ليوظفه بدلا عنه، وأغلق داره وأخذ زوجته وسافر من العمارة إلى بغداد.
وككل النازحين من الجنوب إلى بغداد، قصد مدينة الثورة ليعيش فيها، وشاءت الصدف أن يستأجر غرفة في ذات الشارع الذي سكنت فيه ابنته وزوجها، فتدخل شيوخ العشيرة هناك وأصلحوا بينهم.
ومن مشاكل العمل التي مرّت بأسامة، والتي أراها تستحق الذكر:
تعاقد أسامه على بناء محطة تصفية لمياه الشرب في قرية تابعة لمحافظة الناصرية ( ذي قار).
وهذا بالأساس تخصصه وليس هناك ما هو جديد، ولكن موقع العمل المخصص لتلك المحطة يثير الحيرة.
فبعد أن تقطع خمسين كيلومترا، خارج الطريق العام، في شارع لم يكن معبدا، ستصل إلى مدينة الدوايه، ومن هناك تقطع عشرات الكيلومترات في أرض مالحة في صحراء سيد أحمد الرفاعي، وكما علق أسامة ، لو بال الحمار هناك لأنقطع الطريق لشدة الملوحة. وفي وسط هذه الصحراء المالحة، أرادت الدولة أن تبني مشروع لتصفية الماء؟
بعد أن استلم الموقع، عاد أسامة إلى بغداد، وفي ساعات الدوام الصباحية الأولى جلس ينتظر مدير الدائرة المختصة بهذا المشروع.
التقى بذلك المسؤول بعد طول انتظار، وراح يشرح له شكوكه حول صلاحية الموقع المقترح للمشروع المتعاقد عليه ( يدور طلايب)، وكان المسؤول من كبار حزب البعث.
رجع أسامه من تلك المقابلة منزعجا بعد أن تعرض إلى توبيخ شديد وتهديد بالحبس إن عاود الاعتراض على أمور تهم الدولة وحدها فقط !
أمور تخص الدولة فقط ! أليست هي أموال الناس تبدد عبثا؟ راح أسامه يدردم وحده وبصوت غير مسموع.
المهم أنجز المشروع، ولغرض فحص المضخات وصلاحية المشروع، اضطر إلى استئجار صهريجا من الماء، وراح يجرب المشروع أمام اللجنة المكلفة باستلام المشروع.
كل شيء تم على ما يرام، استلمت اللجنة المكلفة المشروع، وقبض أسامه المبالغ المتعاقد عليها، ولكنه لم يجد تفسيرا لبناء مشروع ماء في وسط الصحراء، ليس هناك أي مصدر مائي قريب منه، ولا أي تجمع سكاني على مد النظر؟
بعد سنة عاد إلى ذات المشروع ليجري الصيانة المطلوبة ولكي يستعيد المبالغ المالية المحتجزة كتأمينات صيانة.
كانت سيارات اللاندكروز هبة من الصناعة اليابانية، استقل أسامه واحدة منها فجر يوم صيفي، مع نخبة من المهندسين المكلفين بالأستلام النهائي، وبعد أن تناولوا فطورهم في محلة، "السنك" وكان كاهي وقيمر، انطلقوا قاصدين جزيرة سيد أحمد الرفاعي، وجدوا المشروع كما تركوه في العام المنصرم، عدى التراب الذي غطى كل نوافذه.
ظل هذا اللغز سرا وربما إلى يومنا هذا، وإذا سافر اليوم واحد منكم إلى هناك، ربما سيجد مشروع تصفيه المياه صامدا في وسط الصحراء ينتظر المعجزة، هذا إذا لم يكن قد تحول إلى ضريح ومزار لإحدى بنات الحسن.
جمع أسامة مبالغ كبيرة من تنفيذ مشاريعه العديدة، وودع أيام الفقر وإلى الأبد. أخذ يبحث في بغداد عن أرض يبني بها لطلاطته، ووجد ضالته في قطعة أرض وسط بغداد معزولة عن صخبه وضجيج ناسه وقريبة من وسط المدينة.
بعد أن استتب الحكم للبعث، وراح يغرف من سيل أموال النفط، استقطعت الحكومة العسكرية جزأ من المطار القديم والذي أصبح يمثل وسط بغداد بعد أن توسعت المدينة بجنون، ووزعته بمساحات كبيرة على الضباط الكبار " ضباط القصر كما يطلق عليهم" كأرض سكنية.
أغرى أسامه أحدهم بمبالغ كبيرة واشترى منه أرضا بلغت مساحتها ثمانمائة مترا، بنا فيها دارا صغيرة وراح يزرعها بكل ما لذ وطاب من أشجار الفاكهة.
وهكذا أصبح عنده بستان في وسط المدينة ومعزولا عنها في ذات الوقت، لا يعكر صفوه فيه سوى زقزقة العصافير ونوح الحمام. ولم يكتمل حلمه، فليس هناك بستان حقيقي بدون نخيل، لذا راح أسامة يبحث عن أندر أصناف النخيل في بلد النخيل.
هل سمعتم يوما بنخلة اسمها (أم بلاليز) ؟ أو ( عوينة أيوب) أو الأزرق؟ المهم سافر صاحبنا إلى شثاثة وجاء بفسيلة من أم بلاليز وأخرى من عوينة أيوب وثالثة من الأزرق وزرعها جنب فسيلة أخرى من برحي جمال الدين جاءته هدية من بساتين مديرية الزراعة في مدينة الفاو.
وأم بلاليز نخلة نادرة جدا، لا تنضج ثمارها إلا بعد أن ينتهي موسم قطاف التمر. أما عوينة أيوب، فتمرها يجف وهو على الشجرة ويكون رقيق السمك فيتكسر تحت الأسنان أثناء قضمه" يقرقش" وأما الأزرق فهو تمر ينتقى فردة فرده، فليس كل ما في العذق هو من نفس الجودة، ويكون لين القضم كالعلكة أما جمال الدين ، فإنه نوع نادر وممتاز من تمر البرحي.
أختار أسامه أجود منطقة في حديقة الدار خلف نافذة غرفة نومه، ليتطلع إليها كل صباح. فحفر هناك إلى عمق كبير ووضع تربة خاصة وسماد طبيعي كوسادة تحت تلك الفسائل.
زرعها صباح يوم ربيعي مشمس بكل تأني. فراحت الفسائل تنمو بسرعة حتى أن سعفة من فسيلة الأزرق أخذت تنقر على زجاج نافذته كلما هب نسيم. وعندما كان يسافر يسأل عنها تلفونيا. وهنا تذكر نكتة بالمنسابة فجاءت عرضا في حديثه وكأنها جملة اعتراضية، تقول النكتة:
( كان عريف الشرطة " دويج" قد أتعب أهل العمارة ومراكز الشرطة فيها بمشاكله، فكان مرتشيا ويخلق المشاكل بأية طريق ليبتز الناس. كان كلما عوقب أو طرد من الخدمة، يسافر إلى بغداد ثم يأتي برسالة من أعلى المراجع في وزارة الداخلية فيعيدونه إلى الخدمة من جديد، أو يرفعون العقوبة عنه، حتى جاء مدير شرطة قوي الشخصية وراح ينظم العمارة بنزاهة وعدل، وأول عمل قام به هو، تعيين العريف دويج بستانيا في بيته وتحت رقابته وأشرافه مباشرة ليخلص من مشاكله.
أوكل إليه مهمة واحدة فقط، هي رعاية فسيلة نخل نادرة جاءته هدية وزرعها في حديقة داره. حذر مدير الشرطة العريف دويج من أن يهمل رعاية تلك الفسيلة، وتوعده بأقسى أنواع العقاب إن ماتت .
فكان المسكين "دويج" يراقب الفسيلة لحظة بلحظه، يسقيها كلما عطش هو، وكل يوم يسأله رئيسه عن " فرخ النخل".
وذات يوم مرض ابن مدير الشرطة الوحيد مرضا شديدا، فظل مشغول الفكر أثناء دوامه وقلق على حياة ابنه.
جاء الشرطي صباح ذلك اليوم النحس إلى فرخ النخل، وهز السعف الذي في قلب الفسيلة ليتأكد منها، فسقط السعف في يده، لقد تعفنت الفسيلة من كثرة السقي.
ذهب إلى مركز الشرطة وهو يلط خده باكيا، استقبله مدير الشرطة صارخ مات؟
أجابه الشرطي وهو يلطم ويبكي بكل حرقة، مات يا سيدي،
فراح الأب المنكوب يبكي ويصرخ مثله.
اجتمع ضباط الشرطة حوله وتجمهر الأنفار، وكل واحد منهم يزايد الآخر في إبداء حزنه وصراخه مشاركة لرئيسهم،
تجمع الناس حول مقر المديرية، وكان يوما مشهودا في مدينة العمارة.
ولك دويج كيف مات صرخ الأب مستفسرا؟
فأجاب الشرطي هززت اللبة فجاءت في يدي،
من الذي مات يا منكود؟
فرخ النخل يا سيدي
من؟
فرخ النخل يا سيدي،
وهنا تحول المنظر إلى مسرحية فكاهية، وأصبحت حديث الناس مدة طويلة).
المهم، أخذت فسائل النخل في بستان أسامة تشب، وراحت تبشر بطلع قريب.
دخل العراق الحرب مع إيران، وكان القتال سجالا على الجبهات، حتى تطورت الحرب إلى حرب مدن، فتارة تغير طائراتهم علينا، وتنطلق صفارات الإنذار بنذير الشؤم، فيركض الجميع إلى إطفاء الأنوار، وتارة نغير عليهم، فتهزج أناشيد "النصر"
ثم تطورت الحرب إلى حرب صواريخ أخذت تدك الدور على ساكنيها.
كانت موسكو قد علمت أسامه النوم عريانا في الليالي، وكان قد أطلق لحية فأضاعت معالم وجهه، وتماشيا مع المودة علق سلسالا من الذهب فوق صدره.
كانت زوجته وبناتهم ينمن أثناء الحرب في غرفة أخرى مجاورة لغرفة سلمان، خوفا على الطفلتين، أما ابنه الشاب فكان ينام في غرفة في الطابق الثاني من الدار لوحده.
كان الفصل خريفا، والوقت فجرا عندما اهتزت الدار أثر صوت انفجار مدوي، وكأنهم في مطب هوائي شديد في رحلة فوق المحيط. شعر أسامه وكأنه يحوم فوق جسده الممدد فوق السرير، لا يستطيع تحريك أطرافه، أخذ يصرخ بصوت غير مسموع ربما، مناديا على زوجته والبنات، ولا من مجيب.
كم استغرقت هذه الحالة ؟ لا يدري ولكن في النهاية استطاع أن يعود لوعيه، وبعد أن لسعه هواء بارد نهض يبحث عن ملابسه التي تركها ليلة أمس فوق السرير، ولكن أين السرير؟ لقد وجد نفسه على الأرض مباشرة، فقد أنهد السرير به، وقف على طوله وراح يتلمس دولاب الملابس، ولكن هذا لم يعد في مكانه أيضا، سار في الظلمة حافي القدمين متحديا شظايا زجاج النافذة الذي غطى أرض الغرفة.
غير مباليا بوخز الشظايا وبالدم الذي راح يسيل من قدميه، وبالصدفة عثر على بدلة رسمية كان قد اشتراها حديثا من أسواق فرانكفورت الألمانية ذات "السراوين"، لبسها مباشرة على جسمه العاري، وقد نكثت لحيته التي غطاها الغبار، ورائحة البارود تزكم أنفه إلى حد القيء فكان منظره وكأنه واحدا من شيوخ الجان، غريب ومرعب، تفقد أسرته على عجل فوجد الكل معافى، ولكن الشظايا كانت قد مزقت أغطيتهم الثقيلة.
راح يتفقد الدار فلم يجد بعض جدرانها، وكأن الغرف قد أصبحت امتدادا للحديقة أو العكس.
بعد أن اطمأن على أسرته, هب أسامه ، من نصف السلم، كون النصف الثاني من السلم جثم على الأرض، تبعه ابنه بعد أن قفز راكضا لتفقد جيرانه والذين ربطتهم علاقة حميمة به .
كان المنظر مرعبا، فقد سقط صاروخ إيراني على الدار التي تحدهم من الخلف، فهدّ تلك الدار على ساكنيها وترك حفرة يصل قطرها عدة أمتار، ولم ينجو أحد من السكان.
أما في الدار التي على الجنب، فكان الموقف أكثر مأساوية ربما، وقف عبد الرزاق وفي يده عصا صغيرة بنبش بها أكداس من الكونكريت محاولا أخراج أطفاله من تحتها، ويا حسرتي على أطفاله ، كانوا ورود يانعة، لم يكن الرجل في تلك اللحظة في كامل قواه العقلية، فقد تبلد فكره وغارت عيونه وكأنه في عالم آخر. وهكذا كان حال الدور المجاورة الأخرى.
لم يهب أحدا لنجدة المنكوبين في البداية، غير عمال أجانب أظنهم من اليوغسلاف، كانوا يشيدون مباني في المطار لا يعرف أحد سرها.
جاء أحد هؤلاء يسوق حفارّة وراح يفتح بها طريقا لنجدة الضحايا وليرفع أكداس الجدران والسقوف المهدمة.
لم يكن هناك طريقا غير بستان أسامة للوصول إلى البيوت المهدمة، وبعد أن أزاحوا السياج الذي يفصل البيوت عن المطار، أخذوا يزيحون الأشجار عن الطريق، كان في بستان أسامه سبعون شجرة مثمرة من تفاح وأجاص ورمان وتين وغيرها.
لم يأبه أسامه لذلك، بل كان يساعدهم، ولكن عندما جاء دور النخيل راح يبكي ويلطم مع من يلطم على صغاره. بعد أن شاهد فسائله مرمية مع أكداس الكونكريت.
ارتفعت الشمس في السماء، عندها جاءت فرق من الدفاع المدني والشرطة لتطوق المكان، وأسامه وغيره من الأحياء يبحثون بين الأنقاض عن كل ما هو عزيز.
وبينما كان أسامه يفكر في عظم المصيبة التي حلت بهم، حانقا على من جر العراق لهذه الحرب العبثية، اقترب منه مسؤول أمن المنطقة" والأمن في العراق يعني الشرطة السرية سيئة الصيت" اقترب منه سائلا عن أخبار قاسم الذي غادر العراق منذ سنين عدة، مذكرا إياه بوجوب الحضور لدائرة الأمن لرفع تقريرا عن قاسم!
لم يتمالك أسامه أعصابه فهرع، إلى قنينة الغاز وكانت تزن ربما عشرين كيلوغراما، كان الانفجار قد ألقى بها من المطبخ إلى وسط الحديقة. رفع أسامة تلك القنينة إلى الأعلى دون أن يشعر بثقل وزنها، وأراد أن يهوي بها على رأس ذلك الوغد الذي لم يهزه منظر الأطفال القتلى تحت الأنقاض، ولا البيوت المهدمة ، فراح يمارس إرهابه للناس حتى في أسوأ المواقف، لكنه وفي اللحظة الأخيرة زاغ من قنينة الغاز قبل أن تحطم رأسه .
بعد أن فقد أسامه بيته وبستانه وأمنه، وبعد أن قتلوا نخلاته وقتلوا معها أحلامه، قرر الرحيل عن وطن حاول جاهدا أن يبنيه ويزرع به الخير، وراح يبحث وطن جديد قد تصان فيه كرامة الإنسان قبل كل شيء.
ففي عام 1996 قصد اللطلاطة مودعا، رافقه في زيارته تلك صديقا له كان قد تملكه فضول لا يقاوم في رؤية اللطلاطة ، من كثرة أحاديث أسامة عنها. وتلك كانت آخر زيارة لها.
بعد أن قطعت المارسدس الحمراء الطريق الذي يربط قلعة طالح بتلك القرية بصعوبة، حيث لا طريق مبلط هناك ولا حتى طريق ترابي بالمعنى المتعارف عليه. وصلوا إلى هناك وهم غير متأكدين من أنهم قد وصلوا فعلا إلى المكان الصحيح.
لم يجد أسامة في ملاعب طفولته غير أرض منبسطة تناثرت فوقها ظلال النخيل، تعرّف إلى كل نخلة في بستان سلمان، ولم يجد الدور والمندي وغيرها. لم يجد سوى قبر خاله، رجل الدين الوقور، وربما عصي على السرّاق هدم ذلك القبر، أو ربما خافوا من أن يصيبهم سوء من ذلك.
سرح أسامة بخياله بعيدا، وغاص في الزمن السحيق، يوم كانت اللطلاطة عامرة بأهلها.
تصور أن اللطلاطة لازالت قائمة هناك، فراح يدخل بيوتها بيتا بيتا.
أول بيت دخله في تلك الساعة بيت عمه عاصم، تفقد الأسرة وراح يحيي أفرادها فردا فردا، تذكر كيف زار عمه وعدد من الأطفال في العيد الكبير، في محله الصغير في سوق قلعة صالح، وكيف ظل هذا الرجل الطيب يبحث في كل مكان عن نقود ليعطيها (عيدية) للأطفال فلم يجد غير فلسا كان يستعمله في الميزان كوحدة وزن، فالفلس العراقي كان يزن نصف مثقال.
وتذكر كيف كانت فرحة الصغار عارمة بهذا الكنز، فلم يكونوا قد عرفوا النقود بعد و الفس في ذاك الزمان كان يمكن شراء بعض الحلويات فيه.
تذكر كيف أن ابنة عمه الكبيرة كانت ترعاه أثناء غياب حيهن، وكيف سقته ذات مرة ماء كانت قد استعملت قبل ساعة لغسل أقدامه من الطين، فراح يلعنها ويلقي عليها اللوم في الأمراض التي أصابت معدته عندما أصبح رجلا!
ترك بيت عمه ودخل في بيت عمه الثاني والذي كان قد اقترن بامرأتين، وتذكر كانت زوجاته وهن يتنافسن على إرضاءه، وتذكر ذلك الصحن النحاسي الذي كن يضعن فيه الرز المطبوخ والذي "يفرقع" بزبدة ذائبة وصحن من الحليب الرائب، وكيف كان المرحوم يضع اللبن فوق الرز ويخلطه ويقسم ما فيه إلى أربعة أقسام ليصبح كل قسم لقمة وهكذا تنتهي وجبة العشاء بأربعة لقم!
تذكر أسامه كيف كان هذا الرجل مضرب المثل في القوة الجسدية، فكان يقيم الرهان مع صحبه ويتحدى أشدائهم في سحب خوصة يقطعها من سعفة النخلة، ويضعها بين إليته. فلم يقدر أحد على سحبها بعد أن يصك عليها.
تذكر الموقد الذي كان يحتل باب دار سمير الحداد، وكيف كان ذاك الشاب المفتول العضل، يضع القصب فيه فيتحول إلى فحم يستخدمه في موقده في المدينة حيث يصنع الفؤوس والمناجل وغيرها من أعمال الحدادة الشاقة.
ثم عرجّ إلى بيت عبد الرزاق وتذكر ( الهاون) الأحمر المصنوع من الحجر والذي يطحنون فيه حبوب البن بعد أن يقلبوها طويلا في مقلات على نار من أغصان التوت أو كرب النخيل. وتذكر كيف حدثت هناك مشادة ذات يوم، فضرب أحدهم ذلك الرجل بيد الهاون فكسر أنفه وراح دمه يسيل، ولم تنتهي المشكلة إلا بعد أن تدخل الشيوخ وأجبروا المعتدي على تعويض المتضرر بأن يزوجه إحدى بناتهم.
دخل بيتا آخر وراح يبحث في ذاكرته عن ذلك الجدار الطيني الذي قسم مراح البقرة إلى قسمين ليخبئوا في أحدها ما غلى ثمنه، بعد أن سمعوا بأن القرية ستتعرض للتفتيش والنهب. وكيف راحت سميرة تركض خلف دجاجاتها الثلاث، وبعد جهد جهيد أمسكت بها وأرادت أن يحفظوها لها في تلك الغرفة السرية، فهن أغلى ما تملك. وكيف جاءت كل عائلة بقطعة تضنها هي الأثمن والأهم . فهذه جلبت ( كاروك الطفل) والأخرى خافت على ( المصخنة ) وهلم جرى. وظهر لاحقا أن التفتيش هو حملة للتطعيم ضد الكوليرا. فهدموا الجدار ثانية و استرجعت كل عائلة كنزها.
استعاد في ذاكرته مهرجان ( السبيتي) :
كان الأطفال واليافعين من الأولاد والبنات يقيمون مهرجان لا يذكر مناسبته، ولكنه تذكر كيف يختارون أحدهم على أن تكون بطنه كبيرة. فيغطون رأسه بعباءة، ويرسمون على بطنه وجها فيه فم وعيون وأنف ببسخام القدور، ويدورون معه من بيت إلى بيت يهزجون ويصفقون مرددين:
سبيتي يمه .. يمه
عنده بطن حقه قطن
سبيتي يمه .. يمه
..........................
ثم ذهب إلى حيث كان المندي عامرا بالأفراح، يبحث بمخيلته عن شجرة الرازقي التي كانت تمتد من الطارمة وحتى ديوانية المندي. حتى أنه راح يستنشق عطر زهورها البيضاء. باحثا عن ورد الجوري العطر الذي اشتهرت به العمارة والذي كان يحيط بحوض الصباغة.
وتذكر خاله المدفون أمامه كيف كان يستنسخ الكتب الدينية على خشبة قسمها بخيوط من القطن بشكل أفقي متساوي كي تأتي السطور متساوية أيضا. وراح يستذكر الحبر الذي كان يعده خاله خصيصا لكتابة تلك الكتب الدينية وكان حبرا أسودا لماعا( ديوثا) فكان يمزج الغراء المستخرج من السمك بماء النهر ويتركه إلى أن يذوب، ثم يتركه يغلي إلى درجة التبخر ولمدة ستة أيام. وفي اليوم السابع يسحقه ويخلطه بمسحوق الفحم بنسبة مثقال واحد من الفحم بخمسة وعشرين مثقالا من الغراء ويتركه لمدة أربعة أو خمسة أيام، ثم يمزجه بالماء إلى أن يصبح عجينة لينة ناعمة فيغليه على النار مرة أخرى ليصير على شكل بلورات، تمزج بماء النهر ( يردنه) عند الأستعمال، ثم يتلوا على ما كتب صلاة التسليم( أسوثه ملكه).
تذكر ابن خاله إبراهيم والذي لم ينجو أحد من مقالبه. تذكر كيف أن إبراهيم ألبس ذات مرة إبن عمه الأعرج عباءة نسائية وخبأه في البستان وراح يدعو أبناء عمومة الشباب للتحرش بها.
أفاق أسامة من ذهوله على صوت صديقه وهو يخاطب مجموعة من الشباب أحاطت بهم.
توجه أسامة إلى أحدهم مشيرا بيده إلى نخلة باسقة كانت تجاور النهر، سائلا إياه:
ألا تكون هذه النخلة من نوع الديري؟ أجاب الشاب باستغراب نعم، وهذه أليست ديرية أيضا؟ وتلك ديرية كذلك، وهذه حلاوية وتلك شكرة وهذه بريم وتلك برحي حتى ذكر أسماء النخلات كلها، وذاك الشاب في حيرة مما يسمع، كيف عرف هذا الحضري تلك النخلات ولم يغلط بواحدة منهن وهو ليس موسم التمر ليميز بينها؟
وليرضي فضوله، سأل الشاب أسامة كيف عرفت أنواع انخل؟
بعد أن أجابه أسامه بأنه ساهم في زراعتها وجني ثمارها قبل نصف قرن. صرخ الشاب إنها من نخيلنا وقد اشتريتها من أبنك!
أي ابن يا هذا، على الأقل اذكروا أصحابها بالخير وترحموا على موتاهم بعد أن تركوها لكم وهي ملك صرف لهم مسجلة في دوائر الطابو؟ متى تتبدل أخلاق البداوة في هذا الشعب؟
صور أسامة تلك الآثار وودعتها وفي قلبه حسرة على فراقها، حتى وبعد أن أصبحت أرضا بور.
ومثلما ودع قبور المندائيين في مقبرة اللطلاطة، عاد إلى بغداد ليودع قبورهم في أبو غريب ومنها قبر صلاح أخيه الشاب وقبر أمه حيهن.
وها أنت تراه الآن ينوح على وطن ضاع، وضاع معه حلم العودة لأيام الصبا، وللطلاطة ضاعت وظل نخيلها يبحث عن من يلقح طلعه.
وضاعت أيضا لطلاطته في بغداد فلا يعرف ماذا حلّ ببستانه فيها ومن يسكن داره اليوم، وأية مليشيا تحتله.


هذه الصفحات، سردا لأحداث قد جرت فعلا، وقد تجد فيها بعض المعلومات التاريخية التي تخص العراق، فهي معلومات موثوقة، نقلت من مصادر تاريخية.
شخوص هذه الأحداث، أناس عاشوها فعلا في تلك الحقبة، ولكن لم تستخدم أسماء بعضهم الحقيقية، فتلك حقوق شخصية.
إنه موضوع للكتابة عن المندائيين، وهم فئة عاشت في العراق منذ نشأته، ساهموا في تطوير حضارته، وبناء تاريخه، دون أن يشار لهم في أدب وتاريخ العراق.
قد تسهم هذه المحاولة في تأسيس أدب مندائي، وإن كتب باللغة العربية، فالعربية هي لغة هؤلاء العراقيين منذ قرون طويلة حتى أنها أصبحت لغتهم الأم. أرجو أن أكون قد وفقت في ذلك.



#عبد_الإله_السباهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصدفة
- خروف البنجة
- جذور واهية...قصة قصيرة
- الخل والخمرة والصديق
- دردشة عجائز مغتربات
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(4)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(3)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(2)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار
- أولاد المهرجان
- هكذا تسقط الأنظمة
- لعبة في الطبعة الأخيرة


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الإله السباهي - لطلاطة سلمان