أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باهي صالح - احتقان، شغب..و سخط عامّ! (1)















المزيد.....


احتقان، شغب..و سخط عامّ! (1)


باهي صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2719 - 2009 / 7 / 26 - 06:34
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأوّل
احتقان، شغب..و سخط عامّ!

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى
و حنينه أبدا لأوّل منزل

"أبي تمّام "


في مساء الثّاني من تشرين الأوّل ( أكتوبر ) عام 1988 على السّاعة الثّالثة و النّصف تحديدا ركب حافلة وجهتها الجزائر العاصمة، قبل أن يصعد إليها بقي قُرابة نصف ساعة عرضة لتيّارات هوائّية باردة ما فتئت تلسع المناطق العارية من جسمه كالوجه و اليدين و تتسلّل بخبث من أسفل بنطاله الفضفاض إلى ما بين ساقيه و من تحت ملابسه الخفيفة نوعا ما، سرت قشعريرة و تقلّصات لا إراديّة عبر أوصاله و أطرافه على الرّغم من أنّ الطّقس في هذه المنطقة الصّحراويّة النّائية خاصّة أثناء النّهار يمكن اعتباره لطيفا و غير بارد.
كتلة من السّحب الرّماديّة حجبت قرص الشّمس و عبثا حاولت التّسلّل بما بقي من أشعّتها الباهتة إلى الأراضي الممتدّة في كلّ الاتّجاهات ... ابتعدت مدينة تندوف و أبتلعها الأفق، مسح الجهة الّتي توالي جلوسه من خلال زجاج الحافلة و هي تشقّ طريقها عبر الطّريق الصّحراوي بعناد، خلاء و انقطاع و بحار من الرّمال و تكسّرات ما تسلّل من أشعّة الشّمس الأرجوانيّة الصّفراء المحمرّة على مساحات و أسطح أشكال صخريّة غريبة بدت و كأنّها تخصّ تجمّعات لأجناس فضائيّة لا تمتّ للأرض بصلة.
غمره إحساس بالأنس و الألفة لتواجده داخل الحافلة وسط الرّكاب المنصتون- على ما يبدو -بانتشاء و تلذّذ لصوت المحرّك و هو يدندن بلحن رتيب مكتوم يغري من له رغبة أو ميل أو لاقى في يومه نصبا أو تعبا إلى أن يسلم نفسه لنوم عميق أو حتّى إغفاءة سريعة.
سنتان من ربيع الحياة و زهرة الشباب ذهبتا هباء! أمضاهما عاطلا متبطّلا، كان حظّه منهما الفيافي و القفار الموحشة رفقة شبّان مثله منفيّون هناك وسط جبال الرّمال المتحرّكة و العواصف الرّمليّة الهوجاء وسكّانها من الهوامّ و العقارب و الأفاعي، كلّما فكّر في هذه المرحلة من عمره يقفز إلى ذهنه سؤال: ما المغزى من إرساله مئات الكيلومترات بعيدا عن بيته ؟! ما الهدف من إبعاده عن أهله و أسرته و غيابه عنهم عامين و العودة إليهم في النّهاية فارغ الرّأس و اليدين و ليس عنده خطّة أو أدنى فكرة عن المستقبل؟!
انتابه القلق و ركبته الهواجس و المخاوف... هناك من يدفع بالبلاد و يجرّها إلى داخل فوهة بركان يوشك على الأرجح أن ينفجر! منذ شهور و الأجواء مشحونة و مثقلة بغبار اليأس و القلق، اشتاق النّاس إلى التّعبير عن أنفسهم، عن مظالمهم و عن مشاعرهم، تاقوا إلى الانعتاق و الانفلات من أغلالهم الصّدئة الّتي قيّد بها النّظام " الواحد الأحد " أرواحهم و أفكارهم... شيء ما يتبلور و يتّخذ شكلا لم تتّضح معالمه بعد و لعلّ النّاس يحبّذونه هزّة أو زلزالا يشعرهم بوجودهم و يخرجهم من حياة الكبت و الرّتابة القاتلة ليتسنّى لهم إعادة ترتيب أنفسهم و أحوالهم و أشيائهم و ليجرّبوا أفكارا و طرقا جديدة.
تضاعفت أسعار مواد الاستهلاك العام و بالنّتيجة تفاقمت ظاهرة الفقر، قوافل و قوافل من الشّبان تنضمّ يوميّا إلى جيوش العاطلين عن العمل ..!
إلى غاية سنوات الثّمانينات الأولى و خاصّة عامي 1984 و 1985 ارتفعت مداخيل البلاد من العملة الصّعبة إثر تزايد أسعار النّفط الّتي وصلت إلى 43 دولار للبرميل و نَعِمَ النّاس بمرحلة مميّزة من الرّخاء و العيش الرّغيد لم يسبق لها مثيل، حيث عكفت الحكومة على استيراد محموم غير مسبوق للكماليات و المصنوعات الثّانويّة و أدوات الزّينة و غيرها كالآلات الموسيقيّة و لكلّ ما لذّ و طاب كالموز و التفّاح والمصبّرات و الأطعمة المحفوظة... إلخ، و مع بداية العام 1986 تناقص مخزون الدّولة المالي إثر هبوط حادّ و فجائي في أسعار المحروقات، و اضطرّت الحكومة إلى التّراجع عن سيّاسة التّبذير و كثير من الامتيازات السّابقة و من بينها تخفيض المنحة السّنويّة للسّياحة ثمّ إلغائها سنة 1988.
خواطر و هواجس كالحة شوّشت أفكاره و بعثرتها و جعلتها باهتة كئيبة ثمّ غشيتها الظّلمة رويدا رويدا، تثاقلت جفونه و سرقه النّعاس و هو يتّكئ على حافّة النّافذة الزّجاجيّة.
استفاق من نعاسه و أكتشف أنّ غالبيّة الرّكاب يغطّون في النّوم، حدّق في ساعته على ما بقي من أضواء الغروب، أدرك أنّه نام ما يقرب من ساعة كاملة ممّا جعله يستعيد بعض نشاطه، كان ذهنه خاليا و هو يرقب بانبهار انجذاب أشعّة الشّمس إلى ما وراء الآفاق البعيدة في مهرجان من الأضواء و الألوان تدرّجت من الأصفر و البرتقالي الخفيفين إلى الأحمر فالمتوهّج القاني، مشهد غاية في السّحر و الجمال يناقض وحشة و انقطاع تلك البقاع.
سرعان ما أرخى الّليل سدوله، تمعّن في ظلمة السّماء، لا قمر..لا نجوم، لكن هناك على مدّ البصر استطاع أن يميّز أضواء خافتة تظهر و تختفي..بدا له أنّ الحافلة ابتلعتها العتمة... في تقدّمها العنيد إنّما تنشد الإفلات بأسرع ما يمكن.
تذكّر فجأة أنّه أكمل عامه الثّاني و العشرين و أنّه لم يحظى بتعليم عال و بالنّظر إلى الوضع السّيئ الّذي تمرّ به البلاد فإنّ حظوظه في الحصول على وظيفة جدّ ضعيفة بل محض خيال، تذكّر أيضا أنّ أسرته تتكوّن من خمسة أولاد- بما فيهم شخصه- و أختين بالإضافة إلى الأب و الأم، الجميع يضمّهم منزل متواضع لا يكاد يسعهم،سمة يومهم كفاح ضدّ الظّروف المزرية و صعوبة المعيشة و اقتصار اعتمادهم على معاش التّقاعد للوالد!
" جابر "..!، قد يكون إبداعا أن أُعطي هذا الاسم، الّذي يجمع( في نظره على الأقلّ ) بين الغرابة و القِدم ممّا دفعه ذات يوم إلى توجيه سؤال محدّد بخصوصه لوالده و كانت إجابته بسيطة و دون تحفّظ كونه ( الاسم ) يعجبه و سبق أن أطلقه على ولده الأكبر من زوجته السّابقة ( كلاهما متوفّيان قبل الاستقلال )، عدا ذلك فالمسمّى شابّ عاديّ المظهر و الصّفات لا يميّزه شيء عن أمثاله ( أقصد الشّبان العاديّين ) و لا يمتلك أيّة صفة يمكن أن تؤهّله أو تجعل منه نجما أو بطلا مشابها لأحد أبطال الرّوايات الخياليّة الّلامعين و المتّصفين بالوسامة و القوّة و الذّكاء. متوسّط الطّول أكثر ميلا للنّحافة، لون بشرته ضارب إلى السّمرة، شعره أسود خشن، وجهه خال من أيّ مسحة جماليّة مميّزة تلفت انتباه أيّ شخص لديه فضول زائد نحو مثل هذه الأشياء..، أكثر ما تعكسه ملامح وجهه بصفة عامّة كدر و كآبة أو لعلّه شرود و امتعاض من حياته و قلقه على مستقبله.. و على كلّ فهو أشبه ما يكون بوالدته.
عام 1966 في الخامس من شهر تشرين الثّاني ( نوفمبر ) فاجأ المخاض والدته في الرّبع الأخير من اللّيل، كانت لوحدها و الوالد غائب في عمله كحارس ليليّ في مؤسّسة البريد، اضطرت لوضعه و لا يعلم أحد من أين جاءتها الشّجاعة و القوّة و لا كيف اهتدت إلى الطّريقة الّتي مكّنتها من قطع الحبل السرّي و التّخلّص من غشاء الجنين ثمّ لفّ المولود في قطعة قماش قبل أن تنهار و تخور قواها و تفقد وعيها و إدراكها للعالم.
فزع والده فزعا شديدا و تفطّر قلبه هلعا لدى عودته صباحا لأنّ خاطرا مروّعا خطر بباله و هو أنّّّّّّّّّّّّ زوجته تعرّضت للذّبح، كانت ممدّدة بلا حراك في إحدى زوايا الغرفة قرب السّرير، وجهها في الجهة المعاكسة...كانت مضرّجة في دمائها..!، سرعان ما أكتشف في غمرة اضطرابه و حيرته و هو الّذي عاش أيّام الثّورة و كان أحد جنودها و شهد محنها و ما تفعله الحرب بالنّاس أنّ أنفاس الحياة لم تفارقها بعد! من فوق سرير النّوم بزغ وجه صغير لمولود حديث الولادة عيناه لا زالتا مغمضتان و يداه الصّغيرتين بحجم دمية أطفال بارزتين من خلال قطعة القماش، مزّق صوته الحادّ الأجواء بأغنية الخلق و استمرار النّوع معلنا عن مقدمه للعالم و معبّرا عن انطلاق رحلة الحياة لِـ " جابر سامرين " رأس العنقود و أوّل ذرّية حامد و عانس بعد انتظار امتدّ لأكثر من ثلاث سنوات!
كان ميلاده أهمّ حدث و أكبر فرحة لوالده منذ زواجه بوالدته بعد فقدانه لعائلته الأولى الّتي لم يبقى منها على قيد الحياة سوى ابنته فاطمة ( الآن متزوّجة منذ أكثر من عقدين و نصف و لديها عائلتها الخاصّة ).
بعد ستّة أشهر من ميلاده أقدم الأب على ضرب ممرّض يعمل مناوبا في قسم الاستعجالات الّليلية عندما تلكّأ في إسعاف رضيعه ... جاء يجري به في منتصف الّليل مفزوعا لاهثا يحمله ملفوفا بين يديه و هو بين الحياة و الموت،أصيب الأب المفجوع بالذّعر و هو يكشف عن الوجه الصّغير متفقّدا حرارته و يعرضه لمن وجده أمامه، كان الرّضيع متقطّع الأنفاس عالي الحرارة...و لكنّ اللّه أنفذ إرادته و امتدّ به العمر..؟!
استغرقت الرّحلة حوالي أربعة عشرة ساعة، توقّفت الحافلة بالمحطّة المركزيّة للجزائر العاصمة يوم الثّالث من تشرين الأوّل( أكتوبر ) على السّاعة التّاسعة و الرّبع صباحا ... السّماء زرقاء صافية و الشّمس تدفئ الأرض بأشعّتها الخريفيّة الحانية ، الدّخان و أبخرة الأطعمة الخفيفة تتصاعد من المداخن و أسطح محلاّت الشّواء بالإضافة إلى عشرات الباعة المتجوّلين الّذين يزدحم و يزخر بهم المكان، الظّاهر أنّ قسما كبيرا منهم شبّان و أطفال يدعون المارّة و يعرضون عليهم سلعهم، المحطّة تغرق في الصّخب و الحركة و تعجّ بالمسافرين و حركة الحافلات و السّيارات في كلّ الاتجاهات، ذهل من ضخامتها و اتساعها و من كثرة المحلاّت التّجاريّة المنتشرة في أرجائها و محيطها و كلّها تبيع و تتاجر بالأطعمة السّريعة و الجاهزة المتنوّعة و الصّحف و الميّاه المعدنيّة و الحلويّات، كان هناك مصلّى،مكتب شرطة و وكالة بريديّة بالإضافة إلى مبولة و مراحيض لقضاء الحاجة.
شعر بالجوع و راح يبحث وسط الحشود و المعروضات و حول الباعة و المحلاّت في محيط المحطّة عن شيء مناسب للأكل و في النّهاية اقتصرت وجبته على نصف رغيف محشوّ بالبطاطا و البيض المقليّ، أجهز عليه و أكله بشهيّة.
المرحلة الثانية من الرّحلة تمتدّّّّّّّّّ لمسافة لا تقلّ عن ستّمائة كلم باتجاه أقصى الشّرق قرب الحدود التّونسيّة، موعد انطلاق الحافلة المعنيّة على السّاعة الحادية عشرة صباحا، لحسن حظّه أنّ استغراقه في التّفكير الّليلة الماضية تخلّله بعض النّعاس قد أثمر لتوّه شعورا بالنّشاط و الحيويّة و..الأمل في غد أفضل.
متّع نظره بمشاهد الأراضي المحروثة حديثا و هي تتوالى على جانب الطّريق بعد أن أمضى وقتا لا يقلّ متعة في متابعة المباني و مظاهر العمران و الحافلة تشقّ طريقها وسط التّجمّعات و الأحياء السّكنيّة الكبرى و تحاول الإفلات من زحمة السّير و حركة المرور... قرى و مدنا مرّوا من خلالها و عَبْرها أو داروا من حولها أو بعيدا عنها قبل أن تتوقّف بهم في إحدى محطّات العبور لينزل ركّاب و يصعد آخرون.
نشب شجار بين السّائق و أحد الصّاعدين و كاد أن يتحوّل التّلاسن إلى تلاكم و تشابك بالأيدي لولا تدخّل بعض الرّكاب و حرصهم على التّفريق بينهما دون أن ينجحوا في كفّ ألسنتهم عن أسوأ ما جاد به الشّارع من شتائم و كلمات بذيئة لم تراعي سامعيها من الرّكاب رجالا و نساء و أطفالا.
ما إن ساد الهدوء و عاد السّائق إلى مقعده و أستقرّ الجميع في مقاعدهم حتّى صعد ثلاث فتية و تقدّموا نحو المقاعد الخلفيّة في صخب و مجون أزعج و أثار الرّكاب و طبع في أذهانهم أشياء مزعجة و غير مريحة عمّا بقي من رحلتهم، شغل الثّلاثة أمكنتهم في الآخر و استمرّوا في عبثهم و صخبهم و قهقهاتهم غير عابئين و لا مكترثين بأحد، ممّا ضاعف الانزعاج و التّململ، وقبل أن تنطلق الحافلة مجدّدا نبّه القابض ثلاثتهم بنبرة حازمة إلى وجوب التزام الهدوء و قواعد الاحترام و إلاّ أضطرّ إلى إنزالهم عند أوّل مركز للشّرطة أو نقطة تفتيش!
في الطّريق، لوهلة ساد الاعتقاد بأنّ ّ ذلك سيكون كافيا و رادعا لهم و ما إن راحت الحافلة تتلمّس طريقها وسط حركة المرور الخانقة تنشد الابتعاد حتّى عاد الفتية الثّلاثة إلى أسلوب الغمز و اللّمز و الاستهتار و تبادل الإيماءات و الهمسات و الضّحكات العابثة إمعانا في الإزعاج و اللّعب على الأعصاب، قاوم توثّب الإرادة و غليان الدّم في عروقه، في داخله فاض إحساس بالامتهان، أكثر من مرّتين التفت إلى حيث جلس الثّلاثة، أيقن أنّهم متمادون مستخفّون، متحدّون وقحون و أنّه حان الوقت لتلقينهم درسا و إعادتهم للصّواب، حدّث نفسه بالتّوجّه نحوهم و الانقضاض على أحدهم دون حساب النّتائج، لكنّه تريّث و تمهّل إلى أن أحتجّ أحد الرّكاب و أستنكر تصرّفاتهم بصوت مسموع دون أن يجرؤ على مواجهتهم أو حتّى الالتفات نحوهم، أحدهم أشعل سيجارة و راح ينفث دخّانها في كلّ الاتجاهات متحدّيا الجميع، صاح من يطلب و يستنجد بصاحب الحافلة التّدخّل الفوري ووضع الفتية عند حدّهم...ودون أن يشعر نهض و أتّجه بهدوء إلى حيث يجلسون، أخذته قدماه دون إرادته، أحسّ بالأعين ترصّع ظهره و قفاه، لمح تجاهلهم و قلّة اهتمامهم، كان الصّف الخلفيّ من المقاعد يتيح لجالسيه الارتفاع عن باقي الرّاكبين و الممشى الضّيق مقدار نصف متر، خلال ثوان أصبح وجهه أمام وجه أحدهم مباشرة، لفحته أنفاسه الحارّة و رائحة السّجائر، حدّق الشّاب مباشرة في عينيه باستهزاء واستخفاف وتحدّ،إرتشحت فروة رأسه بالعرق و هو يحدّد الهدف و شجاعته تكاد تخذله، تراجع خطوة إلى الخلف، مال قليلا وبحركة خاطفة سدّد صفعة قويّة بملأ كفّ اليد نحو الوجه الّذي أمامه دوّى صوتها فوق الرّؤوس، مال الفتى تحت تأثيرها و أشرف على السّقوط من فوق مقعده، أنقص السّائق من سرعة الحافلة بعد أن ضنّ أنّ أحد الإطارات الخلفيّة قد أنفجر و أضطرّ في النّهاية إلى الخروج بها إلى جانب الطّريق و إيقافها، على ما يبدو فإنّ الشّبان الثّلاثة أُخذوا على حين غرّة، لم يدر بخلد أحدهم أنّ الأمر سيصل حدّ الاعتداء بالضّرب، باغتتهم المبادرة و أبقتهم لبرهة في حالة ذهول وتسمّر لا يدرون ما يفعلون قبل أن يقفز اثنان منهما محاولان اللّحاق به أثناء تراجعه اللاّإرادي إلى مقعده، هبّ عدد من الرّكاب يسدّون الممشى و أوقفوا تقدّمهما، ارتفعت أصوات مستنكرة نافذة الصّبر و أُرغم الفتية الغاضبون على التّراجع إلى مقاعدهم الخلفيّة ملوّحين بأيدهم مهدّدين متوعّدين،تحرّك القابض خلال الممشى صارخا و آمرا الجميع بالجلوس و التزام الهدوء،سرى جوّ من الارتياح و الاستحسان ثمّ خيّم الصّمت و ساد هدوء حذر،و على خلفيّة من الهمس و التّعليقات المتبادلة ظلّت الأعين تبحث عنه و الأعناق تشرأبّ نحوه من وراء المقاعد إعجابا بشجاعته و إكبارا لإقدامه و جسارته،وجّه السّائق شخصيّا من مكانه تهديدا شديد اللّهجة للفتية مقسما أنّّّّّّّه سيرغمهم على النّزول إن هم عادوا إلى عبثهم.
انطلقت بهم الحافلة من جديد.. شوّش الصّمت السّائد خشخشة معدنيّة لا تخطئها أذن بشريّة قادمة من جهة اليسار على بعد صفّين من الكراسي أمامه، مدّ عنقه و أطلّ حيث جلست امرأة تجمع أطراف ملاءتها السّوداء و تحجب وهج مجموعة معتبرة من الحلي حول رقبتها و في معصميها، مالت الرؤوس و انجذبت الأنظار بتأثير قوّة و سحر الذّهب نحوها كلّما تحرّكت أو حرّكت إحدى يديها بطرف الملاءة على رأسها أو لتغطّي ما كُشف من صدرها و جيدها أو لكفّ شقاوة طفلتها الّتي في حجرها، جلس إلى جانبها رجل أشهب نصف نائم و لعلّه أصغر سنّا ممّا يبدو عليه،الطّفلة لا تتجاوز ( في نظره ) الثّالثة أو الرّابعة عشرة من عمرها تجمع على وجهها مزيجا متجانسا من ملامح كلا الاثنين ممّا يؤكّد أنّ ثلاثتهم يكوّنون أو ينتمون إلى عائلة واحدة.
تساءل عن السّبب الّذي دفع المرأة إلى المخاطرة بلبس حليّها أثناء سفرها ؟!
خصّه الجالس بجانبه بعبارات الشّكر و التّأييد و مضى يمتدحه و يثني على شجاعته و شهامته معبّرا عن فرحته و تفاؤله مؤكّدا أنّ البلاد لم و لن تعدم أبناءها الخيّرين و أنّ الخير باق في أمّة محمّد ( صلّى الّله عليه و سلّم ) إلى يوم القيامة و استرسل مستمتعا بالحديث عن شبّان اليوم و الّذي لم يتورّع عن وصفهم بالبذاءة و سوء الأخلاق كما استنكر عزوفهم عن الدّراسة و قلّة اهتمامهم بالمدارس على عكس الفتيات!
اكتفى بالتّصديق على ما يقول إمّا بقول " نعم " أو بإشارات و إيماءات من رأسه أو عينيه إلى أن تعب المتحدّث وأصابه الملل بعد أن لمس قلّة الاهتمام و ضعف الحماس لكلامه.
وصلت الحافلة محطّتها الأخيرة و بدأت الشّمس تغرق في الأفق و تلملم ما بقي من خيوط أشعّتها المتورّدة..، نزل و على كتفه علّق حقيبة سفره واضعا يديه في جيبيه، استشعر الهواء البارد و قاوم الإعياء و تخدّر القدمين و السّاقين من طول الجلوس، سرعان ما لفّ الظّلام الحالك المنطقة و هو يسير و يلتفت يمنة و يسرة باحثا عن سيّارة أجرة. وفّر سطوع ما تبقّى من مصابيح الإنارة العامّة و أضواء المحلاّت و المقاهي المتواجدة هناك بعض الضّوء لقلّة من المارّة ( أغلبهم نازلون لتوّهم من نفس الحافلة )، لفت انتباهه و هو يقف و يمدّ بصره على طول الشّارع وقوف ثلاث أشباح بشريّة في حرف الزّقاق المؤدّي إلى الحيّ الواقع في تخوم المنطقة، توقّفت سيّارتان أو ثلاثة و أقلّوا ما وجدوه على الطّريق و الرّصيف بينما انشغل صاحبنا بمراقبة من بدوا و كأنّهم يتهامسون فيما بينهم بشكل يدفع على الرّيبة و الشّك، لم يلبث أن تعرّف على أصدقائه الثّلاثة، الفتية المشاغبون ؟!، ساورته الشّكوك حول سرّ تلكّئهم و بقائهم هناك ؟!، عرّج بسرعة إلى مقهى قريبة و جلس حيث أمكنه مراقبتهم أينما تحرّكوا دون أن يروه، وضع حقيبة سفره أمامه فوق الطّاولة لمزيد من التّعمية و التّضليل.
ظهر الرّجل يحمل حقيبة سفره الجلديّة برفقة المرأة صاحبة الملاءة و بينهما طفلتهما، ساروا في طريقهم غافلين غير شاعرين بما يخطّط و يراد بهم، تحفّز الفتية لرؤيتهم مقبلين عليهم و اختفوا وراء المنعطف ؟! اتّضحت الصّورة لديه و أدرك أنّ هذه الأسرة الصّغيرة مستهدفة من قبل أولئك المشاغبين المزعجين و أنّهم طامعون عاقدون العزم على سلبهم و تجريدهم ممّا يملكون!
انتظر حتّى تواروا جميعا عن أنظاره ثمّ وقف و انطلق يعدو بأقصى سرعته و قبل أن يصل إليهم تناهى إلى أسماعه صراخ المرأة و بكاء الطّفلة؟! حاصروهم تحت عمود إنارة في زاوية معزولة عن الشّارع و المارّة، اثنان منهم أمسكا الأشهب و منعاه من الحركة و المقاومة و الثّالث راح يصيح مهتاجا ملوّحا بسكّين في وجه المرأة المرعوبة المتشبّثة بطرف ملاءتها و هي تصرخ و تحاول استثارة عطفه و إقناعه بأن يرحمها و يخلي سبيلها،هدّدها و توعّدها و أمرها أن تجرّد نفسها ممّا تزيّنت به من حليّ و أن تضعه كلّه بين يديه و لمّا همّت بالرّضوخ لوعيده و تهديده فاجأه جابر من الخلف و ركله بعنف في إحدى كليتيه جعلته يسقط أرضا و هو يتلوّى و يتمرّغ و يصرخ ألما و بسرعة غير متوقّعة هوجم بقسوة من الإثنين الآخرين بعد أن تركا الرّجل لحاله و صاح أحدهما: إليك به إنّه صاحبنا؟! و قبل أن يتسنّى لجابر الاستدارة للتّصدّي لهما و الدّفاع عن نفسه انهارت عليه الّلكمات و الرّكلات من كلّ جانب لتصطدم بقوّة و بلا رحمة و لا شفقة بكلّ مكان من جسمه دون تمييز بين الرّأس و الوجه و الجذع و البطن... لكنّه صمد و في غمرة ذوده عن وجهه و محاولة التّملّص و تجنّب ما أمكن نجح بتوجيه لكمة قويّة مباشرة إلى أنف أحدهما أسالت دمه، في الوقت ذاته استعاد حامل السّكين نشاطه و وعيه و انضمّ إلى المهاجمين و راوغه و حاول طعنه بالسّكين فزاغ عنها إلى الجهة المعاكسة غير أنّ السّكين لحقت ذراعه الأيمن و شقّته طوليّا و أدرك حينها أنّه في ورطة حقيقيّة و خيّل له أنّ المكان بمبانيه يدور من حوله و أنّ مصباح عمود الإنارة انطفأ و إذا به يغرق في ظلام دامس و يخذله وعيه و يرميه في غياهبه!






#باهي_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدّمة رواية كرة الثلج الصّادرة في سنة 2006
- تُرى هل العين حقّ أم مجرّد خرافة و ظاهرة غباء و تخلّف...؟!


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باهي صالح - احتقان، شغب..و سخط عامّ! (1)