أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الكاظم العبودي - جذور مخططات تقسيم العراق في ملفات الاستعمار البريطاني















المزيد.....



جذور مخططات تقسيم العراق في ملفات الاستعمار البريطاني


عبد الكاظم العبودي

الحوار المتمدن-العدد: 2713 - 2009 / 7 / 20 - 07:48
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


هل تدرس بريطانيا والولايات المتحدة حقا سحب قواتها من العراق بالكامل ونهائيا؟ كيف؟ ومتى؟؟
عليهما ان تعيدا قراءة الدرس التأريخي من احتلال العراق مرتين وفي قرنين متتاليين. وعلى العراقيين أيضا مراجعة تاريخ احتلال بريطانيا للعراق وهم ينتظرون نهاية احتلال الولايات المتحدة وبريطانيا الآن لوطنهم . ومن خلال مراجعة مثل هذا المختصر عله يفيد من يستسهل خروجهم ويبني قصورا من وهم لاستقلال يأتي من دون مقاومة مسلحة .المفيد إن مأساة شعب العراق على يد هؤلاء مستمرة كما أن مقاومة شعب العراق مستمرة أيضا. المستعمر لم يبدل وجهه القبيح ولم يسترجع دروس هزائمه الا لينتقم بشراسة أكثر. والوقائع التاريخية غالبا ما نحتفل بها بسرعة كلما إقتربت أو حلت ذكراها، كانتصار ثورة العشرين في الثلاثين من حزيران، ولكن التاريخ الاستعماري أبى الا أن يعيد حماقاته مرة أخرى على أرض العراق ؟؟

قبل أكثر من عام ومنذ الاول من تشرين الأول /أكتوبر 2007: نُشرت وكالات الانباء العديد من الاخبار حول النوايا البريطانية المعلنة في العراق، ومنها الخبر التالي الذي كان يخفي العكس تماما لما يراد تنفيذه هذه الايام في العراق : [ يدرس رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون مشروعاً لإنهاء مشاركة بريطانيا في حرب العراق وسحب كامل القوات البريطانية من البلاد ... جاء ذلك ضمن تقرير لصحيفة صنداي تليغراف البريطانية عن نوايا الحكومة البريطانية بتخفيض اسطولها البحري والقوة البحرية البريطانية، ضمن مشروع أوسع لتقليص القوة العسكرية البريطانية لأسباب عدم التمكن من التمويل العسكري المتعاظم في عالم شديد الاضطرابات وفي ظل أزمات اقتصادية ومالية تهزّ الغرب الرأسمالي بشكل عام]. وفي هذا الاسبوع عاد قادة الاستعمار البريطاني الجدد الى السعي نحو توقيع اتفاقية أمنية مع الحكومة العميلة في العراق ومرروا عبر مجلس نواب المنطقة الخضراء اتفاقية التعاون البحري مع بريطانيا تضمن بنودا وفقرات منها معلنة واخرى سرية تسعى من خلالها بريطانيا السيطرة التامة على البصرة والمنافذ البحرية للعراق وتدريب القوات البحرية العراقية وتزويدها بقطعات بحرية.. الخ. وقد صادق مجلس نواب المنطقة الخضراء على المطالب البريطانية وسوف يناقش هذا الاسبوع النسخة الثانية من اتفاقيات الذل والخنوع للارادة البريطانية بتوقيع اتفاقية امنية ثانية خاصة بها تضاف الى اتفاقيتها مع الولايات المتحدة.

العبرة والتاريخ والدرس:
قبل قرابة قرن ، وفي ساعة متأخرة من يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1914 نزل على بر الفاو جنود الحملة البريطانية المرسلة من حكومة ومستعمرة الهند البريطانية، فكانت تلك العملية أول خطوة اتخذتها الحكومة البريطانية لتحقيق أطماعها الاستعمارية الحالمة بضم العراق الى الامبراطورية البريطانية من خلال تنفيذها الفعلي بغزو واحتلال العراق مباشرة. كان الساسة الاستعماريون في تلك الحملة يرون ان العراق كان يجب ان يكون تابعا من توابع الهند الموصوفة آنذاك بـ "درة التاج البريطاني" والحاقه بها نهائيا.
ولم يكن النزول البريطاني في الفاو وليد ظرف، أو خطوة مفاجئة، تمت ونفذت بالصدفة، وفي ذلك التاريخ بالذات من نهاية عام 1914؛ بل جاء كمحصلة ونتيجة لجهد وترقب بريطاني طويل، ومضني، وبعد إنتظار استعماري طويل، إستمر الرصد والتحضير له زهاء ثلاث قرون كاملة قبل الإقدام على غزو أرض العراق.
ظروف وممهدات الاحتلال البريطاني للعراق
كان العراق، ضمن الولايات التابعة للدولة العثمانية تابعا لدولة وصفت على مدى قرنين من الزمن بـ "الرجل المريض". عانى العراقيون من التخلف والعزلة والإهمال والمعاناة بسبب حكم الولاة الاتراك وقساوتهم من جهة، وشل إرادتهم في الثورة على المظالم باستغلال الدين واجهة وإستغلال طاعة أبناء العراق باسم الدين بخضوعهم لدولة الخلافة الاسلامية وتحريم الثورة على ولي أمر المسلمين ودولة الخلافة الاسلامية.
كما ان سياسة التتريك أرادت الإيحاء للعراقيين، كما لو كانت تسعى إلى تفضيل "أهل السنة" على من سواهم من أبناء البلاد الآخرين. لكن تلك السياسات الطائفية لم تفلح سواء بالإستغلال لها من طرف ولاة العثمانيين من جهة، أو من خصومهم الألداء الطامعين باحتلال العراق من الصفويين الإيرانيين من جهة ثانية، وهم الذين سعوا من جهتهم على إذكاء الصراعات الطائفية خلال فترات تناوب الاحتلالين العثماني من جهة والصفوي من جهة ثانية للعراق. تلك الاحتلالات التي دمرت أرض السواد وحولتها الى أقاصي معزولة ومدمرة تتناوبها إجتياحات الامراض والفيضانات وتشريد أبنائها الوطنيين بسبب الصراعات الطائفية التي أججها الغزاة والمحتلين وحكمهم العراق تحت واجهات دينية وطائفية .
الصحوة العربية في العراق
وبالمقابل كانت هناك معالم الصحوة العربية في العراق ضد ألتتريك ألعثماني، وقبلها ضد الفرس، بدأت تتبلور. وبدأ التململ يتصاعد ضد السلطنة العثمانية، ووصلت الدعوات القومية الساعية الى التحرر الوطني والقومي الى بغداد والمدن العراقية الاخرى، عكستها أخبار المطالب الشعبية حول الدستور، وبإحقاق الحقوق القومية والدينية لكل أبناء الشعب من دون تمييز قومي أو طائفي.
حينها كانت أقطار سوريا ولبنان والعراق تتحمل الثقل الأشد قساوة من ممارسات الولاة الاتراك التعسفية. وقد تحمل العراقيون الوزر الاكبر للممارسات التركية من خلال قساوة الولاة الاتراك ومظالمهم . ظنت بريطانيا أنها سوف تستفيد من ظروف العراق ما بعد إخراج الاتراك؛ واقتنعت منذ عام1917 بان استمرار سيطرتها وبقائها في العراق رهن بقدرتها على خلق قوى اجتماعية ثابتة في داخل البلاد تدين لها بالولاء وتستمد منها الدعم والاسناد والسلطة أيضا.
وقد ترسخت تلك القناعة البريطانية بشكل خاص بعد إندلاع الثورة الوطنية العراقية الكبرى في العراق سنة 1920؛ اذ قفزت نباهتها من رؤية الواقع الجديد بأن وطدت علاقاتها ببعض متنفذي شيوخ القبائل ووضعتها عند موقع الاولوية القصوى في مشاغلها لترتيب بقائها في العراق، لذا حظيت المشكلة الزراعية وملكيات الاراضي واستغلالها باهتمامها الكبير، فكان تخطيطها العام، منذ البداية، يتوخى ان يكون العراق بلدا زراعيا يقوم وجوده على العلاقات العشائرية الكفيلة بتوطيد سلطتها واستمرار سطوتها لأطول فترة ممكنة من خلال تحالف الاستعمار والاقطاع العشائري في العراق.
وتلك هي فحوى النصيحة التي ظلت تتردد في مذكرات وتوصيات المس بيل، سكرتيرة الشؤون الشرقية للمندوب السامي البريطاني برسي كوكس وعكستها جميع المذكرات والوثائق البريطانية حول هذا الموضوع.
كما أن الغطاء الديني للتتريك العثماني، والقمع السلطاني وولاته في العراق، لم يحجب الحقيقة عن وجود المذاهب والطوائف في العراق وغيره من البلدان العربية، فكان جراء ذلك أن تنامت المشاعر القومية لكل القوميات معا ساهم فيها دعاة ونشطاء من أبناء العرب والأكراد والتركمان، وفي صدارتهم كانت نخب القومية العربية تنشط في حركة وبلورة الوعي العربي في العراق، حيث بدأ التفجر القومي العربي في سوريا أولا، ثم شمل العراق عموما، وانتشر في جنوب العراق والنجف خاصة لما لها من مكانة دينية وثقافية وموقع العشائر واللغة العربية في الحياة اليومية.
مدن وقادة وخصوصية:
وللنجف هنا خصوصية؛ لكون بغداد كانت مركز الحكم العثماني، وحلقة اتصال سياسي وثقافي مع الأتراك والسلطة وولاتها العثمانيين والادارة التركية، وفيها تركزت المدارس الرسمية التي كانت مهمتها الأولى التتريك وإعداد موظفي السلطنة العثمانية. فقد حافظت النجف على مدارسها الدينية والادبية والفكرية، وحفظت كل ذلك من خلال حفظها وتمسكها بالثقافة العربية ولغتها وكانت حاضنتها الداعمة وجود العشائر العربية الممتدة نحو كل أطراف العراق.
ولم تكن النجف معزولة عن النهوض القومي العربي القادم من سوريا. وبحكم موقعها الديني فقد إتصل علمائها المتفتحون بدعاة الاصلاح والنهضة الاسلامية من أمثال الافغاني والكواكبي ومحمد عبدة. واهتمت دواوينها بتداول اخبار الدستور العثماني وما رافقه من انقلابات وصراعات. وفي تلك الفترة برز في النجف علمان من أعلام النهضة العربية والدينية كرسا القيم البطولية، وهما محمد سعيد الحبوبي و الملا كاظم الخراساني.
وللحبوبي مكانة متفردة في التاريخ الوطني العراقي، فهو إضافة الى مكانته العلمية الرفيعة، كانت له قدرة كبيرة في التأثير في نفوس الناس، وخصوصا الفقراء والطبقات الكادحة والفلاحين وأبناء العشائر. وكان شاعرا ومثقفا ثوريا، قاد حربا شعبية ضد إحتلالين في آن واحد، هما التركي والانجليزي معا. ويكفيه أنه استشهد في محراب صلاته أثناء معركة الشعيبة المشهورة التي كانت السد الاول بوجه زحف القوات البريطانية الساعية لغزو العراق.
اما الشخصية الثانية، فهي الملا كاظم الخراساني الذي لُقب بـ "ابي الاحرار" لدوره في النضال من اجل "المشروطية"، وعلى يديه تخرج الشيخ الشيرازي، الذي أفتى بثورة العشرين، والسيد الامام "ابو الحسن" الذي تذكره الذاكرة العراقية الحميدة انه عاش زاهدا فقيرا لا يمتلك الا قوت يومه، ويصطف مع الناس أمام دكاكين الخبازين. فهو وغيره كانوا النموذج المحتذى به، سواء بطاعة العامة أو من اشتغلوا بالعلوم الدينية. ولكنهم شكلوا بنماذجهم الشخصية نخبة؛ وكانوا من طراز المثقفين الذين التحموا في معركة التحرير، ولم يعيشوا مثل الآخرين من رجال الدين المرفهين باستغلال جباية الخمس والزكاة ، المرتزقين على جبي كنوز الذهب والفضة والمال من فرائض الخمس والزكاة والتبرعات السخية للعتبات المقدسة.
و مثل أؤلئك الرجال الأفذاذ كانوا وحدهم القادرين على رفض مقابلة الملك فيصل الأول، أو طاعة الانجليز ووكلائهم الجدد في الحكومة العراقية التي سينصبها الاحتلال الانجليزي لاحقا. ومقابل هذه المجموعة الرافضة للاحتلال كان هناك العديد ممن إنتظروا مجيئ قوات الاستعمار وتظاهروا بالصمت وعدم المغامرة في المقاومة و"الانتظار حتى تنضج الظروف المواتية للجهاد".
كان قرب سقوط وضعف الدولة العثمانية، قد سهل لبريطانيا ومكنها من الإقدام على فكرة غزو العراق وضمه الى نفوذها، بعد ان استطلعت مصالحها وقنصلياتها وتقارير مخابراتها ووكلائها في المنطقة أحواله، وشخصت مسبقا من سيتعاون مع الاحتلال وأجهزته. كما أنها قد شخصت وتعرفت على ثرواته الكامنة، وادركت اهمية موقعه الجغرافي الممتاز.
إدارة حكم ذاتي براية استقلال مزيف تتكرر:
ظل العراق مسيرا تسييرا عسكريا تحت واجهة بريطانية مموهة سميت أولا "الادارة الملكية"، وهي هيئة مُسيرة تحت إشراف السلطات العسكرية البريطانية، منذ خريف 1914 واستمرت حتى صيف 1930. وتم تسيير البلاد باسلوب عسكري بحت، رغم منح ما سُمي بـ "الاستقلال" ومنح الحكومة الملكية وأعوانها سمة وعنوان "الدولة العراقية" التي ظلت لأكثر من ثلاث عقود تابعة ومنقادة من قبل البريطانيين لتسقط بعدها فجر الرابع عشر من تموز 1958. قبلها لم يتخل العراقيون الاحرار عن حقهم في الحرية والاستقلال الحقيقي. وقد شهد العراق العديد من الثورات والانتفاضات الوطنية في أجزاء منه، أوفي عموم اطراف البلاد؛ الا ان بريطانيا ظلت تحكم من وراء الستار، وعلى المباشر، من خلال تلك الاتفاقيات الامنية والمعاهدات التي مكنتها البقاء والاحتفاظ بالقواعد العسكرية والجوية في الحبانية والشعيبة على التراب العراقي، ومن الخارج ركزت قواتها في الكويت وقواعد الخليج العربي والاردن.
قبلت بريطانيا اولا، في صيف عام 1920 الاضطلاع بشؤون مهمة الانتداب على العراق، وكلفت المس "غيرترود لوثيان سي بي" Miss Gertrude Lothian Bell C. B. E. بمهمات عديدة. وهي التي اشتهرت بالآنسة بيل "المس بيل"، هي شخصية بريطانية، كانت معربة اللسان ، خريجة اوكسفورد، ولها معرفة وإطلاع واسع بالعراق والبلدان العربية، خاصة سوريا آنذاك. و"المس بيل" هي التي أعدت تقريرها المعروف: [استعراض الادارة الملكية في ما بين النهرين]، الذي اقرته الادارة الاستعمارية وطبعته في كانون الاول 1920 من قبل وزارة شؤون الهند. سمي وعُرف ذلك التقرير أيضا بـ " الكتاب الابيض" . كما جاء ذلك في الاشارة اليه في مذكراتها عن هذا الموضوع.
و يعرف العراقيون تاريخ الآنسة بيل "المس بيل"؛ تلك المرأة التي حلت بالبصرة أولا بتاريخ 26/6/1916، وانتقلت مع دائرة المكتب السياسي للحملة البريطانية بمرافقة "بيرسي كوكس" رئيس الحكام السياسيين المرافقين للحملة العسكرية البريطانية على العراق. وظلت تعمل في بغداد حتى لحظة وفاتها في 12/7/1926، مستشارة مع المندوب السامي البريطاني. ودفنت ببغداد في المقبرة المسيحية بالقرب من ساحة الطيران بناء على وصيتها.
كتابات "المس بيل" وغيرها، سواء ما جاء في تقريرها "الكتاب الابيض" أوغيره من العناوين، كانت مليئة بالدس والغموض أحيانا؛ ولكنها ظلت تحمل في توجهاتها الكثير من الخطط والأحابيل التي كادت كيدا خبيثا للشعب العراقي وتطلعاته نحو نيل الحرية والاستقلال ويبدو ان البريطانيين ظلوا أوفياء لمدرسة المس بيل وتوجهاتها وتمسكوا بحلفائها وأصدقائها الى اليوم.
مجمل ما كتبته "المس بيل" منذ ذلك الوقت، ظل ديدن واساس مرتكزات السياسة البريطانية المعتمدة في العراق، التي ظلت تؤكد، في جميع ممارساتها ووثائقها، وتركز في كل فرصة ومناسبة، على "وجود إختلاف بارز بين السنة والشيعة في العراق". وظل هذا الخطاب الاستعماري المتركز على إعادة الحديث، وتكرار ما سمي بـ "الاختلاف البارز بين ابناء العراق" قيد الاهتمام لدى السلطات الاستعمارية في غزوة العراق الاولى1914 وحتى الاخيرة ربيع 2003..
وكما يجري اليوم من إعادة بعث الخطاب الاستعماري في مجال تطبيقه الطائفي ، ظل يتكرر مثل هذا الخطاب في العراق، وتصاحبه عند الحاجة، المبالغات في طرح قضية الخلافات ما بين ابناء شعب العراق، وبما يتناسب مع الحاجة والسياسة البريطانية وتحالفاتها المحلية والاقليمية، وبشكل يستشف منه دائما هو تبييت الغرض السئ، والدس المقصود، الذي بدأته ونفذته بإتقان تلك المستشرقة البريطانية، سيئة الصيت، المسماة "المس بيل" وممارسات الادارة البريطانية وخدمها في العراق في كل العهود.
وتجري العودة الى ذلك الارشيف الاسود للخبث البريطاني وممارساته في العراق كلما ظن الاستعماريون وعملائهم ضرورة الحاجة اليه والارتشاف من منابعه السوداء .
إعتمدت الدعاية البريطانية في العراق أيضا على التركيز في ما يسمى :"وجود اختلاف وتباين كبير بين أبناء العشائر العراقية وأهل المدن... الخ... وعلى تخوف الفريقين أحدهما من الآخر". ولم تخف الدعاية البريطانية أغراضها المعلنة والدفينة عندما تجري إساءة القصد والتشكيك بزعماء البلاد من الوطنيين المخلصين، والعمل على زج علماء الدين في السياسات التي تخدمها، لاثارة الفتن المذهبية والطائفية. وهو ما يجري اليوم تطبيقه في العراق بشكل كامل ولكن بتخطيط بريطاني وتنفيذ أمريكي وتجنيد لعدد من القوى والشخصيات المحلية العراقية لإداء تلك الأدوار.
تستحق مذكرات ورسائل وكتابات "المس بيل" وآخرين من البريطانيين المراجعة والدراسة؛ خصوصا أننا نسكتشف صورة الماضي قبل قرن وهي تتجسد بما ينفذ اليوم على أرض الواقع العراقي المحتل. فالوثائق البريطانية، ظلت تشير الى "إيرانية هذا الفريق، أو تركية الفريق الآخر في أصله وأعماله"، لغرض تكريس الفرقة بين أبناء البلد الواحد. كما ظلت الكتابات البريطانية تتباكى دائما، عندما تشير الى أوضاع الأقليات المسيحية واليهودية والدينية الاخرى، محاولة منها إلى اثارة توجس الاقليات الدينية من الاغلبية المسلمة في العراق.
ولم تخف "المس بيل" تصوراتها، التي وردت بين ملاحق كتاب السير "ارنولد ويلسن" عن العراق، وتطلعاتها في مذكرتين مهمتين عما سمي حينها: "الحكم الذاتي في العراق"، وفي مقالات أخرى لها مثل: " آراء نقيب بغداد السياسية"، وكلها تشكل في الاساس تقارير مخابراتية، كانت ترفعها "المس بيل" الى مرؤوسيها بعد التشاور مع وكلائها المحليين ممن ارتضوا العمالة وقبول التعاون معها، ومن خلالها مع في وزارة المستعمرات وإدارة المندوب السامي البريطاني في العراق.
محميات الخليج العربي عتبات الاحتلال المتكرر للعراق:
ومع مؤشرات قرب سقوط الدولة العثمانية، سارعت بريطانيا الى الإقتراب نحو العراق، ممهدة بتحالفات مع الشيوخ العرب المقيمين على سواحل الخليج العربي، بدء من سلطان مسقط ، الى شيوخ الساحل الغربي من الخليج العربي. ومع قرب إعدادها والشروع بالغزو للعراق، بدأت بوضع مواقع أقدام لها في محميات الخليج العربي الجديدة آنذاك. وهكذا ربطت بريطانيا جزيرة البحرين بمعاهدات مع شيوخها. ووثقت علاقاتها مع إمارة ابن سعود"عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود" عام 1913، المتلهف للاعتراف به من قبل البريطانيين؛ كي يصل بحدود مملكته الى ضفاف الساحل الغربي من الخليج العربي. كما تم تطمين مبارك الصباح، شيخ الكويت، من خوفه تجاه العثمانيين ومن ولاية البصرة التي كانت الكويت تابعة، لها كقضاء مرتبط إداريا بولاية البصرة العراقية.
وما أن أُعلنت الحرب رسميا على الدولة العثمانية في 29/10/1914 ، حتى سارع الشيوخ في محميات الخليج الذين كانوا متمتعين بالحماية البريطانية الى الإعلان عن استعدادهم من خلال الوثيقة التالية: (... للتعاون مع القوات البريطانية والمحافظة على حالة الأمن والسلم في مناطقهم، وأن لا يسمحوا للحمقى من رعاياهم بتعكير صفو الامن في ممتلكاتهم، والاضرار بالمصالح البريطانية).
ومن جانبها طمنت القوات البريطانية هؤلاء الشيوخ بانها : ( ...تسعى الى حمايتهم والاحتفاظ بصداقتهم... الخ.) . وهكذا كان الخليج العربي بمحمياته البريطانية خنجرة الابتزاز بخاصرة أهل العراق على مدى قرنين متواصلين من تاريخنا المعاصر.
الغزو البريطاني والمقاومة وبعدها الثورة الشاملة
وهكذا لم تجد القوات البريطانية المتوجهة نحو العراق أية مصاعب لاحتلال ضفاف الخليج العربي من أقصى جنوبه الى شماله، لتتوجه بسلام ومن دون حرب أو تضحيات بقواتها بعدها الى النزول في الفاو على بر العراق عند مصب شط العرب في الخليج العربي يوم 6 نوفمبر/تشرين ثان من عام 1914 بقوات بريطانية ووحدات هندية بعد التمهيد للإنزال بقصف قلعة الفاو بالمدفعية البحرية بقيادة الجنرال "ديلامين"، يرافقه ويتابعه في الحملة من الهند السير "بيرسي كوكس" بصفته الحاكم السياسي الرئيسي القادم في العراق.
وبعد 5 أيام في 11/11/1914 وصلت طلائع القوة البريطانية الى البصرة فاشتبكت بقوة تركية كانت متألفة من عدة مئات من جنود حامية البصرة، يشاركها أفراد من أبناء العشائر العربية، يصل تعدادهم حوالي 250 من الخيالة يقودهم عجمي السعدون. واستمرت الاشتباكات في الساحل، وكوت الزين يومي 16 و17 نوفمبر انتهت المعركة بانسحاب الاتراك نحو القرنة يوم 17/11/1914 ، وتراجع عجمي السعدون الى الزبير.
وكسائر الغزوات الاستعمارية البريطانية تُركت البصرة الى النهب والفرهود من قبل القتلة والسراق الذين أطلقت اياديهم وشجعتهم، وتواطئت معهم القوات البريطانية، فنُهبت الاسواق، واشعلت النيران في بناية الجمرك، لتقضي على الاخضر واليابس فيه. وبهذا تقدمت القوات البريطانية الى المدينة يوم 22/11/1914.فرفعت علم الاحتلال عليها، بدلا من العلم التركي العثماني.
وبهذه الصورة، بدأت الصفحة السوداء لتأريخ الاحتلالات البريطانية في العراق.
ان كتابات المؤرخين البريطانيين، ومنها كتابات المس بيل نفسها، تعترف بوضوح: (ان القبائل العربية النازلة على طول شط العرب قد ساعدت القوات التركية بشئ من المساعدة إذا لم تكن قد عملت شيئا آخر أيضا). وفي مواقع اخرى من كتاباتها: تشير بنوع من التفصيل الى مقاومة العشائر العربية لتقدم الجيوش البريطانية وفي ما سمته (الحرب المقدسة ضد الكفار). وتقول هناك بما نصه: (تم تحشيد العرب وقيادتهم في الحرب المقدسة ضد الكفار. وقد بذلت جهود حثيثة في جميع انحاء الامبراطورية العثمانية لإثارة العصبية الاسلامية بإعلان الجهاد، فأصابت تلك الجهود بعض النجاح في العراق. ثم عبئت قوات الاسلام الدينية، وألح رؤساء الدين البارزون من الشيعة في النجف وكربلاء على شيخ المحمرة بأن يساهم في مقاتلتنا).
لكنه في العكس من ذلك ؛ فان الشيخ خزعل أعلن إنه يتصرف : (... ان التزاماته، بصفته رجلا من رعايا الدولة الايرانية، تجعله يقف على الحياد). ذلك ما أمن للبريطانيين حماية مصفى النفط، العائد لشركة النفط البريطانية- الايرانية في عبادان، واستمرار عمله، خلال كل فترة الحرب؛ وبذلك أصبحت عبادان واحدة من أهم النقاط الاستراتيجية الواجب حمايتها لإدامة الحرب وتوفير الزيت المجهز والنفط للامبراطورية البريطانية وجيوشها الغازية في العراق ومكنها من التقدم شمالا لاحتلال العاصمة العراقية بغداد.
هكذا كان الحال في الضفة الشرقية من شط العرب، عند الجانب الايراني، اما على الجهة الغربية، وحسب وصف "المس بيل" نفسها فكان العكس : (...غير أن رجال القبائل في الفرات ودجلة، التي إستثارها الامل بكسب الغنائم الوفيرة، أكثر مما استثارها ثواب الآخرة، تواردوا بطريق النهرين ليصدوا تقدمنا على شط العرب، فكانوا جمعا متوحشا، تفرق شمله في اول إشتباك وقع لهم معنا ...)، وهي هنا رغم استهانتها وتشويهها لدوافع مقاومة العشائر العربية لقوات الاحتلال، نجدها تعترف بنفسها وتصف في مكان آخر من كتاباتها ضراوة المعركة بين فلاحين وجيش بريطاني كان الأحدث في العالم ، جاء مدججا بترسانة من السلاح، وعن لسان من ساهم بتلك المعركة من ضباط الانجليز نقرأ شيئا عن ذلك السلاح وجبروته : (...أما مدافع الانجليز، فقد ملئت الجو بقصفها، وحفرت الارض، واقتلعت النخيل).
ومع تقدم الجيوش البريطانية على هذه الصورة في قصف وحرث وحرق كل من يقاومها، يمكن تصور بشاعة ما سمي بعد كل غزو بريطاني للعراق "تحريرا" .
كانت محاولات كسب الشيوخ، وفرض الولاء لهم لقوى المحتل وسلطاته، مقابل المصادقة لهم على منح الاموال والاراضي الاميرية التي تركتها الادارة العثمانية، هي سياستهم الجديدة لتوطيد الاحتلال البريطاني للعراق.
في 9/12/1914 تم الاستيلاء على القرنة، وأمامها إشتدت روح المقاومة والدعوة للجهاد . وجه العلماء أقصى جهد للتعبئة الشعبية في الولايات المجاورة للبصرة، بدءا من لوائي المنتفك والعمارة. سرت عدوى الدعوة عن طريق العشائر الى السكان بجوار مناطق أهوار الحويزة وما جاورها، حتى وصلت الى مناطق شيخ المحمرة نفسه في أراضي الاحواز العربية المحكومة من قبل الشيخ خزعل.
وهكذا اشتعلت الثورة العراقية، والبريطانيون لم يضعوا بعد كامل اقدامهم او تثبيتها على ارض العراق. ثم تصاعدت بعد أن وصلت استغاثة من وجوه أهل البصرة الى سائر المدن العراقية الاخرى، وخاصة الى مدن العتبات المقدسة وإلى بغداد. يقول نداء الاستغاثة ما نصه : (... ثغر البصرة، الكفار محيطون به. الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي مدن الإسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع. ).
ولمثل هذا النداء وغيره، استجاب العلماء والاعيان في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وسامراء ومدن أخرى. وأعلن الافتاء بالجهاد من قبل بعض المراجع، وكتب بمضمونه الى العشائر في سائر أرجاء العراق.
كان أبرز المهتمين بحركة الجهاد في مدينة الكاظمية، من لبى النداء ودعى الى الانخراط في الجهاد العلامة السيد مهدي السيد حيدر، الذي خرج فعلا الى الجهاد يوم 12 محرم 1333هـ ، وفي صحبته الشيخ عبد الحميد الكليدار، والشيخ مهدي الخالصي، وحشد كبير من المجاهدين، بينهم عدد كبير من اقارب العلامة الحيدري نفسه، ومنهم أبناؤه الثلاثة، وأبناء أخيه الاربعة، وإثنان من ابناء عمه، استشهد أحدهما في الجهاد.
توارد على الكاظمية العديد من علمائها، بقصد السير تحت راية وقيادة الحيدري، منهم شيخ الشريعة الاصفهاني، والسيد علي الداماد، والسيد مصطفى الكاشاني، والشيخ جعفر الشيخ عبد الحسن النجفي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ حسن علي القطيفي، والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي... وغيرهم كثيرون.
ومن سامراء، أرسل العلامة محمد تقي الشيرازي إبنه الشيخ محمد رضا لينضوي تحت راية السيد الحيدري. تشكلت في الكاظمية جمعية باسم "الجمعية الرشادية". بدأت بجمع التبرعات لاجل دعم ونصرة المجاهدين. واستجابت جميع أرجاء بغداد بكل محلاتها الشعبية وجوامعها ومساجدها، من دون مسميات طائفية ومذهبية فاستمعت الجماهير الى فتاوي العلماء، فانضم عدد كبير من أهاليها الى المجاهدين، وكان أبرز المتطوعين لنصرة الجهاد الحاج داود أبو التمن، جد الشخصية الوطنية المعروفة جعفر ابو التمن.
جهز الحاج داود ابو التمن، حملة خاصة ترأسها وقادها بنفسه. كان قوامها حوالي 400 مجاهد، ومولها من ماله الخاص، وسار بها نحو القرنة، فاشترك في موقعة مزيرعة ، وفيها تم أسره من قبل الانجليز، ومن ثم نقله الى البصرة. وظل أسيرا في سجون الاحتلال الى ان وافاه الاجل رحمه الله شهيدا محتسبا الجهاد في سبيل العراق.
اما على مستوى النجف فقد خرج منها حشد يتقدمه العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ عبد الرزاق الحلو. وكان ممن خرج معهما من الشباب آنذاك والتحق بهم الشخصية الوطنية المعروفة لاحقا، الشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ باقر الشبيبي وغيرهما.
التحق المجاهدون على الجبهات حيث وجود القوات البريطانية، ضمن خطة القائد العثماني سليمان عسكري، التي كانت تستهدف تحرير واسترجاع البصرة؛ انطلاقا من قاعدة الناصرية، وإشغال المحتل في القرنة. كما تعاهد المجاهدون على اشغال جيش العدو الانجليزي وقواته في جبهات اخرى، كالحويزة، وسائر مناطق"عربستان" الاحواز.
اقلت المراكب النهرية العلامة الحيدري وقواته الى العمارة. ومن هناك إشترك المجاهدون بقيادته في جبهة القرنة، وانتصروا في معركة الروطة يوم الاربعاء 5 ربيع الاول .1333 هـ . كان على جبهة الحويزة الشيخ مهدي الخالصي، وبصحبته ابنه الكبير الشيخ محمد الخالصي، والشيخ جعفر الشيخ راضي... وآخرين. وقد وُفق هؤلاء في اشغال قوات الانجليز وإقلاقهم من خلال قطع خط النفط، وهددوا مؤسساته في عبادان. وكان هؤلاء، يتبعون لقيادة محمد فاضل باشا الداغستاني، الذي عهدت اليه قيادة العشائر والمجاهدين المدنيين.
وعلى جبهة الشعيبة، الجبهة الرئيسية للمعركة، فقد انضمت اليها قوة العلامة محمد سعيد الحبوبي، والعشائر، وعلى رأسها الشيخ عجمي السعدون، وابن عمه فالح السعدون. قُدر عدد المجاهدين الذين التحقوا بسليمان عسكري بك حوالي 13000 مقاتل، كان من ضمنهم حوالي 1500 مجاهد من الاكراد الذين كانت تدفع لهم مرتباتهم من الحكومة التركية.
كانت اسلحة القوات التركية بسيطة ، ولا يمكن مقارنتها مع قوة واعتدة جيش الاحتلال البريطاني الأحدث والأكثر فتكا. وكانت تكاليف حملات المجاهدين، التي خرجت من النجف والكاظمية من تمويل الامامين الحبوبي والحيدري يصرفان عليها من مواردهما الخاصة، وقد رفضا ان يستلما أي شئ من القيادة العامة للاتراك تعويضا عن ذلك المال المبذول.
عاد من الجهاد بعد إنكسار الجيش العثماني الامام الحيدري الى الكاظمية يوم28 ذي الحجة 1333هـ . اما الامام الحبوبي، فقد توفي في الناصرية متأثرا بالانتكاسة التي اصيب بها جيش المسلمين في الشعيبة بعد معركة الشعيبة في 12 نيسان، وانتهاء المعارك وانحسارها على جبهة الاحواز، التي قطعت خط النفط على يد القبائل.
تواصلت المعارك التي انتهت نحو احتلال العمارة في يوم 23حزيران ووصول اللواء "غورينج". ويلتحق به في التأييد، شيخا قبيلة البومحمد المدعو محمد العريبي، ومجيد الخليفة، اللذان عادا الى بيوتهما قبل سقوط القرنة وإغتنما الفرصة لمراسلة رئيس الحكام السياسيين البريطانيين. ألم يعيد التاريخ نفسه عندما يتحول أبنائهما وأحفادهما بنفس الموقف الخياني فيصبح احدهما وزيرا للعشائر والآخر رئيسا للمحكمة الجنائية الخاصة خدما لقوات الاحتلال الامريكي بعد غزوة القوات البريطانية والامريكية 2003 للعراق.
باحتلال الشعيبة والقرنة والعمارة تباعا، وباحتلال العمارة والناصرية انتهت واحدة من اهم مراحل الغزو والاحتلال البريطاني للعراق من خلال سعي قوات الاحتلال الى إستكمال احتلال جميع اطراف ولاية البصرة، ووقوعها في قبضة البريطانيين والشروع بتنظيم الادارة فيها.
ركز البريطانيون جهودهم في بادئ ألأمر على خط نهر دجلة لاحتلال كوت العمارة، فوصلت القوات البريطانية إلى ناحية علي الغربي في تموز 1915 . وتعلمت كيف تشتري ولاء الشيوخ، وتغيير ولاءآتهم السابقة نحو الدولة العثمانية بالمال والوعود ومنح الاراضي الاميرية، إضافة الى التهديد بالقوة والسلاح، وهكذا إستولوا على كوت العمارة في ايلول1915. وبذلك المسار، ظن البريطانيون ان الطريق نحو بغداد العاصمة أضحت سالكة ؛ لكنهم فوجئوا بخسائر جسيمة، غير متوقعة في منطقة سلمان باك في تشرين الثاني، أمام قوة فاقتهم عددا، رغم اختلاف موازين ونوعية التسلح، حيث غيرت من موازين القوى والنفوذ عندما عادت القبائل لتقف لتواجه هذا المنتصر البريطاني المتقدم نحو بغداد ، أين اشتدت جذوة المقاومة من جديد وإستمرت العشائر في مهاجمة فلول قطعات البريطانيين، تقتلهم ، وتجردهم من معداتهم، وحتى ملابس قواتهم من القتلى الذين تُركوا في ساحات المعارك.
وهكذا سقطت القوة البريطانية المتقدمة في محنة وحصار في مدينة الكوت في السابع من كانون الاول/ديسمبر1915.
فشلت جميع النجدات والمحاولات العسكرية والإمدادات عن فك الحصار الذي استمر 143 يوما؛ لتجد القوات البريطانية الاشهر الاولى من عام 1916 نفسها وهي تتجرع كأس الهزيمة والجوع والإذلال، مما اجبر الجنرال البريطاني "طاوزند" على الاستسلام ، طالبا من القائد التركي شرطا واحدا، هو ضمان عدم التنكيل بالقبائل والسكان الذين تعاونوا مع البريطانيين خلال فترة الحصار.
لكن القائد التركي، وحال ما دخل المدينة، أعدم العديد من الشيوخ، ومنهم الحاج عباس العلي وولديه علي ومحسن، ومحمد نجيب أبو شويليه رئيس البلدية، وناموس شيخ جصان، وعبد من عبيد الحاج عباس العلي، وعباس ظاهر الجميعي.... والعشرات غيرهم. وتم التنكيل وأسر العديد ممن تعاونوا مع البريطانيين. لقد دُمرت الكوت في كثير من معالمها ومساجدها، وعانت أسواقها من الكساد والخراب، وهُدمت بناية السراي بكاملها . وترك الجنرال"طاوزند" في مقبرة خاصة للبريطانيين من القتلى في فترة الحصار أكثر من 300 قبرا شاهدة على هزيمته المُنكرة.
ولم يكن بوسع الجنرال "مود"، ان يستعيد قوته العسكرية ، ويتوجه الى بغداد الا في نهاية عام 1916 ، بعد ان وصلته الامدادات العسكرية واللوجستية، حيث تمكن من دفع الاتراك ومن يناصرهم من السكان الى التراجع في 24/2/1917 ليتمكن من التقدم واحتلال بغداد في 21 من آذار/مارس 1917.
ان بغداد التي عاشت أخبار تقدم البريطانيين نحو أبوابها من الجنوب، عاشت ما يقارب السنتين من القلق والانتظار الصعب لحسم مصير المعركة . وعندما دخلت قوات الاحتلال البريطانية بغداد أُعيد تنفيذ نفس السيناريو في البصرة. ومثل كل الحالات السابقة فان عمليات النهب والتخريب والسطو طالت العديد من الاسواق ومؤسسات الدولة "التركية".
كما طال التخريب الكثير من المعالم المعمارية والثقافية والاثار البغدادية، ومنها تم نسف واحدة من أهم بوابات التأريخية لبغداد تدعى "باب الطلسم"؛ حيث سبق أن أُتخذ ذلك الموقع، مخزنا للمواد المتفجرة، واضطر الاتراك الى تفجيرها قبل انسحابهم فشمل المكان خرابا مهولا، وانتشرت أحجار البناء في كل جانب، فجمعه السكان، وبنوا فيه بيوتهم وأبنيتهم الخاصة على حساب فقدان ذلك المعلم الحضاري العتيد.
وكعادة الغزاة هنا أيضا، اصدر الجنرال مود بيانه الشهير، مُذكرا السكان، بانه (لم يأت فاتحا ؛ بل محررا) ، وذكر بالعلاقات الطويلة التي مدها البريطانيون بالتجارة مع أهل العراق، والسنوات الطويلة التي انتظرها البريطانيون لكي يصلوا أخيرا الى بغداد. وكعادة كل الغزاة في محاولاتهم تطمين السكان بوعد الجنرال الغازي "مود" أهل البلاد بالاماني والاعمار ورفع الظلم ، وعدد لهم ، مذكرا مظالم من سبقه في حكم البلاد من الاتراك، وتحدث بإطراء عن حليف بريطانيا الشريف حسين، "الثائر في الحجاز عليهم"، وتحدث أيضا عن حرية أُمراء نجد، والكويت، وعسير، ووصفهم بـ "المتحررين من نير الحكم التركي" .
كما وعد الجنرال الغازي لبغداد، العراقيين، من أهل البلاد، بنوايا بريطانيا العظمى الطيبة، في استتباب الامن، وإقامة الادارة الذاتية لتحكم البلاد من قبل أبنائها، وبالطبع يقصد حكمها من قبل عملائه ، بالتعاون والتنسيق مع ممثلي بريطانيا السياسيين المرافقين لجيوش الاحتلال البريطاني. انها نفس الدورة التأريخية التي دار بها غارينغ وبريمر وخليل زاده ونيغروبونتي وكروكر... الخ من الامريكيين المنصبين اليوم كمندوبين ساميين لحكم العراق من خلف وامام الطغم التي قبلت حكم البلاد تحت التسيير الاستعماري وهم لها كواجهة مخزية.
وبعد احتلال بغداد تقدمت الجيوش البريطانية الى الشمال بقيادة "مارشال" بعد ان توفي الجنرال "مود" في بغداد وظلت القوات تتقدم من دون مقاومة تركية الى ان اعلنت الهدنة بين الحلفاء والمحور في 1918 في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية على مشارف الموصل، ورغم الهدنة واصل مارشال تقدمه الى الشمال محتلا الولاية بكاملها. وباحتلال الموصل تكون القوات البريطانية قد هيمنت على العراق بكامله وبدأت تفكر جديا بمستقبل العراق وحكمه ما بين فكرة ضم العراق الى الهند، خاصة المناطق الجنوبية منه، وبين تكوين حكم محلي داخلي برئاسة المندوب السامي البريطاني يتعاون مع مجلس يتمتع باستشارة بريطانية ومن ضمن المقترحات المطروحة ايضا تكوين حكومة محلية عربية استجابة الى ماجاء في التصريح الفرنسي البريطاني المشترك لعام 1918 او استجابة لبعض الوعود البريطانية للعراقيين. استجابت بريطانيا الى مقترح وضعته لجنة بونهام كارتر بتنظيم الحكومة العراقية المؤقتة سنة 1921. واعلان الانتداب البريطاني على العراق من خلال عشرين مادة في مقدمتها انها تعترف بالعراق (دولة مستقلة يشترط عليها قبول المشورة الادارية او المساعدة من قبل منتدب الى ان تصبح قادرة على القيام بنفسها). وبهذه البنود وغيرها ضُمنت سيطرة بريطانية فعلية، اداريا عسكريا وسياسيا وماليا، ولبريطانيا الحق في الاحتفاظ بقوة عسكرية في البلاد "بقصد الدفاع عنها" . كما يمكن استخدام جميع المنافذ والطرق والسكك وتحريك القوات العسكرية حسبما تقتضيه مصلحة الدولة المنتدبة.
كما حصرت العلاقات الخارجية ضمن صلاحيات بريطانيا. ان اعلان الانتداب البريطاني على العراق يعتبر بداية السيطرة الرسمية البريطانية المعترف بها من قبل مجلس عصبة الامم كما ان لائحة الانتداب جاءت مطابقة للمقترحات السابقة الخاصة بمقترح" بونهام كارتر".
عملت بريطانيا على اعادة "برسي كوكس" ثانية الى العراق بعد انتدابه الى طهران اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى؛ لما له من علاقات ورصيد ومعارف مع رؤساء العشائر والمتنفذين من اهل المدن. وباشتداد ثورة العشرين عمل "برسي كوكس" على سياسة فرق تسد بتفتيت الوحدة الداخلية. وكان اول عمل قام به هو التركيز على تكوين حكومة عربية مؤقتة تحت اشرافه، واستطاع اقناع رجال الدين ونقيب اشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني بتولي رئاسة الحكومة التي تألفت بشكل طائفي واقليمي. وبعد تنصيب الملك فيصل واعلانه صراحة رفضه للانتداب؛ "لكون القبول به عار على كل امة تريد الحياة"، سارعت بريطانيا الى طرح مشروع اول معاهدة في 1922 كانت صورة مكبرة لمواد الانتداب. ولم تكن معاهدة للتحالف بين دولتين مستقلتين، وكان فيها من التعهدات على الجانب العراقي ما ينسف الاستقلال كلية. وبموازاتها كان الشعور الوطني المعادي لبريطانيا يتنامى مع مرور الايام وبدأت تظهر التشكيلات والاحزاب السياسية المعارضة لبريطانيا والانتداب.
توخى الانجليز من خلق الزمر الجديدة من الاقطاعيين التي اظهروها الى الوجود وامدوها بالدعم، لكي تخدمهم بأمانة واخلاص، وقد نجحوا في مساعيهم الى حد بعيد في تلك المرحلة، فقاموا بتوزيع الاراضي الحكومية والمشاعة على الموالين لهم والمرتبطين بهم من شيوخ القبائل والتجار والمرابين وكبار الموظفين في الدولة. وكان احتلالهم للعراق بعد الدولة العثمانية قد ساعدهم على اتباع هذه السياسة لأن الدولة العثمانية كانت تطبق الشريعة الاسلامية، التي لا تعترف بوجود ملكية خاصة للأراضي بشكل رسمي في العراق. والدولة كانت المالك الشرعي للارض.
منذ 1918 أصدرت الإدارة البريطانية عددا من القوانين التي وضعت قسما كبيرا من الأراضي الزراعية بأيدي الإقطاعيين وعائلات المدن الارستقراطية وكبار التجار. كما انها صادرت اراضي الشيوخ المعارضين للإنجليز ممن شاركوا في ثورة 1920 ورفضوا الخضوع للانجليز.
وكما تمت عمليات شراء ذمم بعض الاعيان وأولادهم والشيوخ الذين أضحوا إقطاعا مفروضا على العباد والارض. كما تم شراء بعض من رجال الدين ومرجعياتهم للتواطؤ مع المحتل والركون الى المساومة والتبرير والصمت إزاء جرائم المحتلين.
إحتلال بغداد لا يعني سقوط العراق المقاوم
كانت معارك التقدم على جبهة نهر دجلة مكلفة للبريطانيين ، ما بين البصرة الى بغداد وطوال ستة اشهر علمت البريطانيين أيضا ان حكم العراق عسكريا سوف لن يكون سهلا وميسرا.، وقبل وصول البريطانيين الى بغداد ، وطدوا قوتهم العسكرية اولا على طول مسار دجلة من البصرة الى سامراء عبر بغداد، ثم واصلوا التقدم الثاني على جبهة الفرات بدء من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1917 حيث واجهوا خلال تقدمهم مقاومة كبيرة، كانت قواتهم تخسر العديد من الجنود والضباط. وتعرضت معسكراتهم الى الهجومات الشرسة طوال تلك الفترة. كانت قبيلة زوبع وغيرها من القبائل العربية قد رفضت قبول الخضوع التام للسلطات البريطانية حتى بعد سقوط الرمادي في ايلول/سبتمبر من العام 1917، وكذلك الحال ظلت مناطق الفرات الاوسط عصية على المحتلين؛ فلم يتمكن جندي بريطاني واحد أن يضع قدمه جنوب سدة الهندية حتى كانون الاول/ديسمبر من العام 1917 .
وحسب تعبير "المس بيل " في مذكراتها أيضا كما وصفت تواجد القوات البريطانية على ضفاف الفرات الثائر : "... كما لم تقع عين القبائل القاطنة في تلك المنطقة على البزة العسكرية البريطانية قط". كما إكتفى الكابتن "غولد سميث"، معاون الحاكم السياسي في الحلة منذ آيار/ماي 1917 بتسيير سلطاته من الحلة، ولم تمتد سلطاته أكثر من ذلك، تاركا لشيوخ العشائر، إضطرارا، الحرية في العمل وفقا لما يروق لهم.
وظلت مناطق جنوب الديوانية، وضفاف شط الحلة، وجنوب الكفل بعيدة عن الاتصال المباشر مع البريطانيين. وظل هذا الموقف حتى نهاية شهر آب/اوت 1917 مستمرا؛ حتى اضطر البريطانيون لإستخدام الطائرات الحربية البريطانية على حسم الموقف عسكريا عن طريق الجو، واستسلام حامية الديوانية، التي كان يقودها ضابط برتبة ملازم جركسي الأصل، يدعى محمد افندي . توقف القتال معه بعد مفاوضات مع البريطانيين انتهت باسره مع ثلاثين من جنوده. ومن ثم تم ارساله الى الهند.
ولم تنته الاضطرابات في حوض الفرات؛ لان القوات البريطانية لم تضع لها موطأ قدم ثابت بعد هناك، خصوصا ان الوكلاء الجدد لسلطات الاحتلال وجدوا أنفسهم يعيشون صراعات مع آخرين، وواجهوا سخطا وتذمرا مع الشيوخ الآخرين.
وكان الانتساب العروبي لهذا الطرف أو ذاك يصطدم بالانتساب الايراني للطرف الاخر ؛ مما كان يثير التمرد والخروج على النظام المطلوب من قبل البريطانيين. وكما انتهت حوادث كربلاء المعروفة حينها، بإنهاء سلطة آل كمونة فيها ونفي الاخوين من ابناء كمونة الى الهند، لكن السلطات البريطانية كانت تحسب توازناتها ايضا، حيث اعادت في الوقت نفسه منصب الكليدارية الى احد افراد الاسرة التي كانت تتمتع به من قبل ممثلا بحميد بن محمد علي كمونة.
ولم تخلوا الاحداث التي عاشتها تلك المدن من لعب بعض الادوار لرجال الدين الشيعة، ووساطاتهم، وتأييدهم، لهذا الطرف أو ذاك، ومنهم السيد محمد كاظم اليزدي في النجف ألذي كثيرا ما كان البعض منهم يلوذ بالأعذار والتبريرات؛ اذا ما طُلب منهم إتخاذ الموقف بالفتوى ضد جواز التعامل مع الانجليز فيكون الرد على شاكلة، ومن مثل القول : "... انه اعتزل عن العلم والافتاء....وانه لا يمكن ان يبدي أي رأي في شؤون الحكومة..... وانه لا ينوي الإفتاء بالجهاد ضد الطيارات أو السيارات"... الخ من الاعذار التي كانت لا تقنع الجميع.
هؤلاء المشايخ أو العلماء، أو رجال الدين، كما يسمونهم، لا يتوانون من التدخل في شؤون الحكومة أو التسيير؛وخصوصا عندما يتعلق الامر بإسناد منصب "الكليدارية" او إدارة الاوقاف، وهي مناصب معروفة تحمل لأصحابها واتباعهم كنوز وخزائن العتبات المقدسة والاوقاف التي توضع تحت إدارتهم وتسييرهم.
تشير مذكرات الشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ، وهو يكتب عن تلك المرحلة عن بعض تلك النماذج والاشارة الصريحة لهم : (بأن بريطانيا لم تكن ترغب التحرش كثيرا بالنجف، وتأخذ النجف حصتها من الزحف البريطاني والاحتلال المباشر كسائر المدن العراقية؛ طالما أن لها هناك ضمانة متمثلة بوجود عدد من شيوخ النجف المتنفذين المستعدين للتعامل معها من أمثال "الزكرت وخصومهم الشمرت"، المتقاسمين للنفوذ على الاطراف الاربعة لمدينة النجف).
وهؤلاء كانوا مشغولين فيما بينهم بالصراعات على المصالح والمنافع الخاصة لهم ولأسرهم وأتباعهم سواء على مستوى النجف او اطراف من مناطق الفرات الاوسط، وهم الذين كانوا ضامنين للمدينة من أي محاولة التمرد والثورة بوجه المحتلين البريطانيين. وقد تبينت وإنكشفت مختلف الادوار الخسيسة للبعض منهم في مواجهة الشهيد البطل "نجم البقال"، ذلك الثائر الوطني، الذي لم يخف تعصبه للعثمانيين، ولكنه كان يكره البريطانيين، ويسميهم بالكفار.
كان الشهيد نجم البقال، و إثنان معه من المسلحين قد اقتحموا المقر الذي إتخذه الحاكم البريطاني المدعو"الكابتن مارشال" قبل حصار النجف. ومقره كان ما يسمى "خان عطية ابو كلل"، يقع خارج اسوار النجف بأمتار معدودات، أي ضمن المباني الواسعة التي شيدها "عطية ابو كلل" في النجف، وكأنها بنيت لتكون لاحقا مقر الحاكمين الغزاة الجدد.
تمكن الشهيد نجم البقال من قتل الحراس، والحاكم البريطاني؛ مما دفع الكتيبة البريطانية وإضطرها أن تزحف لأول مرة نحو النجف لتطوق سورها، وتضرب حصارا عليها. وهنا تعاون الرتل الخامس النجفي، المتواطئ ، مع بعض بيوتات النجف في التحكم بأرزاق الناس، وإخفاء المواد الغذائية، والتجسس على الثوار لصالح عيون ومخابرات الانجليز، كما تم تضييق الخناق على الممرات، والمخارج من وإلى المدينة؛ مما أجبر الثوار على الخروج العلني والمغامرة بحياتهم ، فاستعرضوا ببطولة موقفهم العلني من المحتل بكل كرامة وفروسية مضحين بأنفسهم عندما خرجوا عبر الشوارع والأسواق، نعم خرجوا، وهي يلبسون الأكفان إستعدادا للشهادة، لذا تم للمحتل واعوانه من تشخيصهم، وإعتقالهم بعدها واحدا بعد واحد، ثم قدمهم الى محكمة عسكرية ميدانية خاصة لتحكم على ثلة منهم بالاعدام شنقا حتى الموت، والحكم على آخرين بالنفي او السجن.
وقبل إعدامهم كان يجب الضغط على قوات الاحتلال لانقاذ حياتهم جميعا ومن دون مساومة، لكن الحقائق والشهادات تشير ال تدخل وتدافع البعض، من كبار أئمة ورجال الدين في النجف للتوسط لدى الانجليز لإطلاق سراح معارفهم وأقربائهم، وتركوا الآخرين من أمثال نجم البقال ورفاقه يواجهون مصيرهم المحتوم والموت على يد الانجليز.
وهكذا صعد نجم البقال ورفاقه الابطال على المشانق بكل شجاعة وتحدي في إحدى ساحات الكوفة، وبصعودهما التاريخي كتب العراقيون الاحرار إولى صور البطولة والشهادة في سبيل وطنهم على يد مجرمي الاحتلال الانجليز وتوابعهم الخونة. وهناك كانت وقفة سعد الحاج راضي، شيخ المشراق، وقد شنق الانجليز ولديه أمامه، كان فخورا واقفا وهورافع الرأس بشهادتهم.
وللأسف نسجل هنا، محاولات البعض ممن يزيفون وقائع التأريخ الوطني للعراقيين الشرفاء ، عندما نسب البعض لانفسهم، وبعدهم عدد من ابنائهم وأحفادهم، شرف قيادة ما سمي"انتفاضة وحصار النجف 1919 " الذي دامت شهرا وأظهرت بها مقاومة بطولية ضد الانجليز، هؤلاء منتحلي مواقف التاريخ المشرف، يعرفون اليوم حق المعرفة ، انهم كانوا وعوائلهم بعيدون كل البعد عن تلك المقاومة الباسلة الأولى في تاريخ العراقيين.
كانت دماء نجم البقال ورفاقه ممهدات لاندلاع ثورة العشرين؛ وهي اشد قوة واكثر استمرارا وامتدادا الى المدن العراقية الاخرى. افرزت رجالها بعيدا عن استغلال المستغلين لها . إن أهم درس عن توقف انتفاضة النجف يعلمنا: هو ان التاريخ يكشف في كل مرة، أؤلئك المستثمرين لاحداث التاريخ، لكي يتهافتوا لاحقا على المناصب والمراتب وخلق الزعامات التاريخية على حساب الدماء الغزيرة الطاهرة التي نزفت. كما كشفت لنا الاسماء والبواطن التي ظلت مستترة عن إطلاع شعب العراق في كثير من المراحل الوطنية مدى خسة هؤلاء واستعدادهم للبس الثوب المطلوب منهم على مقاس وتفصيل المستعمرين.
"علماء الحفيز" من كل المذاهب خدم الانجليز:
هكذا سارع، من يطلق عليهم العراقيون آنذاك ، والنجفيون بصورة خاصة، "علماء الحفيز"،(من كلمة أوفيس الانجليزية) أي أؤلئك المعممين الذين كانت تسخرهم السلطة البريطانية لأغراضها الخاصة، وهم من بين رجال وعلماء الدين الى تهنئة التاج البريطاني بالنصر والفتح لبغداد. ورد عليهم ملك بريطانيا، عبر ممثلي سلطات الاحتلال : إنه يريد " انتعاش العراق وسكانه والمحافظة على عتباته المقدسة واستعادة رخائه القديم" الم يحسب العراقيون بالامس القريب، في يوم أسود بعد احتلال بغداد في9 نيسان/أفريل 2003 كم من العمائم البيضاء والسوداء التي ارتضت بالاحتلال الامريكي-البريطاني وسمته "تحريرا" ولهجت بالشكر والدعاء لولي النعمة الجديد بوش. فعلوا ذلك وكرروا نفس الدور، رغم علمهم بما عانته اسرة السيد حسن الصدر والد محمد الصدر الذي اصبح رئيسا للوزراء فيما بعد من تشهير بانها قبضت الاموال من الانجليز لمجرد ان المس بيل قامت بزيارة السيد الصدر الأب في منزله بالكاظمية. لقد ظهرت العمائم على المسرح السياسي العراقي وهي تقبل وجه ورأس بول بريمر وتتسارع بالحفاوة به ومعهم حفنة من " الافندية الجدد" يجلسون في مجالس الملالي ويقبلون اياديهم ويتهافتون الى مقر السيستاني واستشارته في كل كبيرة وصغيرة. هؤلاء الافندية الجدد الذين لقطهم الاحتلال الامريكي ليشكل منهم ادارة وبرلمان وحكومة العراق الجديد.
سارع "السير بيرسي كوكس" الى مصادقة وزيارة السيد النقيب، ليتغير ولاء الطائفة السنية، عبر هذا الموقف من الولاء التركي نحو الولاء البريطاني.
ومن دون تصريحات علنية، او سياسية، قدم السيد النقيب داره القائمة على ضفة دجلة، التي اعتاد سكنها الى السلطات العسكرية البريطانية، من دون ضغط أو إكراه، متعاونا على رؤوس الأشهاد مع السلطات الجديدة، مبررا ذلك، من أجل حماية ضريح جده الشيخ عبد القادر والحفاظ على قدسية الاماكن التابعة لأهل السنة، وعلى إثر موقف السيد النقيب، تتابع وجهاء بغداد، وشيوخ القبائل المجاورة تباعا لاعلان الولاء للمستعمر الجديد والانتفاع بالفرص الجديدة للحكم.
وبطبيعة الحال، وعلى نفس المنوال، تداعى بعض من وجهاء النجف وكربلاء من اهل الشيعة،أيضا، ليباركوا العهد الجديد ، بدء من السيد محمد علي كمونة من كربلاء، والحاج عطية "أبو كلل"، وشيوخ النجف الآخرين، حاصلين على المخصصات والأُعطيات التي اعطتها لهم سلطة الاحتلال الانجليزية، ومعها التخويلات الرسمية، التي تُمكنهم من فرض السلطات لهم ولعوائلهم ولأبنائهم من بعدهم، ولاتباعهم؛ لكي يُسيروا شؤون الملة، ومدنهم بصورة مباشرة بالتعاون مع سلطات الاحتلال الجديدة.
زار بغداد حشد من امثال هؤلاء الاعيان ورجال الدين بمختلف الوان عُقُلهم وطرابيشهم وعمائمهم ، لتقديم فروض وآيات الطاعة لبريطانيا العظمى الغازية" المُحررة" ، ومنهم لم يزر بغداد قطا في حياته ولكن تقديمواجب الولاء للمحتل وللمندوب السامي توجبه الحج الى سراي الحكومة في القشلة البريطانية.
كانت دار ضيافة حكومة الاحتلال، تعج بهم وهم يستلمون منحا مالية صغيرة، اوكبيرة تبعا لحجوم الولاءات، ومنهم حصلوا على أُعطيات شرفية، ووعودا بالحماية والدعم البريطاني لهم.
حسابات المصالح والغدر بالوطن وأحراره
بعد احتلال بغداد، وبغياب القوة العسكرية البريطانية من الفرات الاوسط خلال الاشهر الثمانية ، تمكن الحاج عطية "ابو كلل" أن يسيطر على زملائه في النجف. وسادت صراعات أدت الى الاستنجاد بالمحتل مما أدى إلى تقدم القوة البريطانية للسيطرة المباشرة على النجف. فعين الكابتن بلفور حاكما سياسيا في الشامية، ومن ثم اقترب هذا الضابط من النجف، وسوى بنفسه النزاعات بين شيوخها وبعض أعيانها، كما حاول الضغط على الحاج عطية، وكاظم صبي، مما أدى الى حدوث شغب وتمرد كبيرين حينه اثارها بصورة سرية الحاج عطية ابوكلل حتى هوجمت دائرة الحكومة ثلاث مرات ونهبت من قبل المتجمهرين، التجأ بلفور الى حماية الكليدار السيد عباس الرفيعي القريب من موقع دوائر الحكومة، كما وقعت اضطرابات اخرى مماثلة في الكوفة وابي صخير.؛ مما اضطر الضابط الكابتن بلفور الى اللجوء الى السيد محمد كاظم اليزدي نفسه، طالبا المعونة. فلبى السيد اليزدي مساعدته واستدعى الحاج عطية وكاظم الصبي للتشاور معهما ومن ثم تم اعفائهما، لتعود المدينة تدريجيا الى الهدوء.
تمت السيطرة البريطانية على الشيوخ والسادة الملاكين، وتعزيزالتشكيلات العشائرية والاجتماعية المطلوبة لتسيير ادارة الاحتلال وضبط الناس من خلال استغلال نفوذ "السادة" وتأثيرهم على القبائل، ومن خلال احتواء الشيوخ الكبار، وجعلهم مسؤولين أو الزامهم عن تصرفات وسلوك قبائلهم مقابل وعود تحسين شؤون الري والزراعة.
وهكذا تمت السيطرة على الحلة والشامية والسماوة تباعا. بعدها اصبحت الامور مؤآتية لكي يضع برسي كوكس قوة عسكرية في حامية الكوفة، ويتوجه بعدها الى النجف ويقابل أغلب شيوخها ؛عدا الحاج عطية، الذي تجنب الحضور، خشية الايقاع به، ولكنه حاول مقابلة الحاكم الملكي البريطاني العام عند زيارة قصيرة له في النجف. وأُفهم من قبل الانجليز: ان عليه التوجه الى بغداد لمقابلته هناك.
ورغم الوعود البريطانية له؛ الا ان الحاج عطية لم يذهب الى بغداد، لعدم ثقته بوعود الانجليز، بل توجه بدلا عن ذلك الى هيت للالتقاء بالاتراك. بعدها ظهر على سطح الاحداث حين فوجئت القوة البريطانية في 12/01/1918 بإطلاق النار على وحدة الخيالة الهندية الواصلة حديثا الى الكوفة، كانت الوحدة تقوم بإجراء بعض التمرينات في السهل المجاور للنجف. ويعزى الى مجموعة الحاج عطية التي كانت مؤلفة من 150 رجلا بأنها المسؤولة عن ذلك الحادث، حيث اطلقت النار من سور البلدة فقتلت جندي بريطاني واحد من الخيالة وجرحت آخر؛ مما دفع وحدة الخيالة في الحال الى الزحف على النجف من دون ان تطلق النار. ثم رافق بعض اعيان البلدة الكابتن بلفور الى الكوفة يوم14/12/1918. بعدها أذعن كاظم الصبي لامر حضوره امام الحاكم السياسي للكوفة، في حين اضطر الحاج عطية الى الفرار نحو مضارب عجمي العائد من هيت في البادية. فرض البريطانيون أتاوة على مدينة النجف بغرامة قوامها 500 بندقية أو ما يقابلها بالنقد في النجف وتم دفعها في اليوم المعين.
حينها كلفت سلطات الاحتلال البريطانية الكابتن مارشال بمهمته في النجف، وهو الملم باللغة الفارسية، وكان من أفضل معاوني الحاكم السياسي في العمل في مدينة الكاظمية لقرابة عشرة أشهر، مكنته من ربط العديد من الصداقات في المدينة وبعض أعيانها ومشائخها الدينية، شفعت له صداقاته تلك لدى الطبقة الدهنية في الكاظمية ان يحمل معه الى النجف توصيات الى بعض البيوتات النجفية توصي بالتعاون والثقة به. في الوقت الذي أصبح فيه الحاج عطية بوكلل مطاردا وخارجا عن القانون ومتواجدا في البادية من دون قوة من الاتباع محاولا الحصول على عفو من الحكومة كما تدعي المس بيل في مذكراتها.
ترك الحاج عطية بو كلل اطفاله الثلاث القصر الذين التحقوا وفروا فجأة والتحقوا بعجمي شبه منفيين وعوملوا من قبل سلطات الاحتلال كوالدهم خارجين على القانون. وفي الوقت الذي انشغل به الضباط البريطانيون باعداد افواج من الشرطة بمساعدة رجال العشائر مقابل رواتب كانت تلك الافواج تأتي من بغداد واخرى من الكوت ومن النجف نفسها باشراف الكابتن مارشال الذي وطد علاقاته مع مجموعة من عوائل التجار وبعض العلماء ومع اتباع السيد محمد كاظم اليزدي من خلال تبني بعض المشاريع الخدمية كتوفير الماء الصالح للشرب، في حينكان بعض صغار السادة والنشطاء المعارضين للاحتلال يتناقلون أخبار سقوط هيت وعانة واستيلاء الفرقة الخامسة عشر التركية على هذه المناطق بالتعاون مع ابناء العشائر العربية. ووصلت المعلومات للبريطانيين عن وجود "لجنة للثورة الاسلامية في النجف" كانت حسب تعبير المس بيل "تسعى الى ان تجعل من النجف مركزا لخلق الاضطرابات بين العشائر وكان هنا مائة او اكثر من رجال الدين متورطين فيها... لكنها لم تكن تضم أناسا ذوي أهمية من الدرجة الاولى.. وكان الرئيس من اسرة بحر العلوم وكان نشطا في الدعوة الى الجهاد الى حين سقوط بغداد".
إرهاصات الثورة الكبرى في كل المدن
وحسب هامش للاستاذ جعفر خياط على هذه الاشارة فان الجمعية السرية التي كانت تقصدها المس بيل هي جمعية سرية تسمى: "جمعية النهضة الاسلامية" تشكلت في النجف للاعداد لثورة ضد الانجليز تستعين بعشاء الفرات الاوسط وغيرها من العناصر الاخرى. من اقطابها العلامة السيد محمد علي بحر العلوم، والعلامة الشيخ جواد الجزائري، والشيخ محمد علي الشامي، وعباس الخليلي" فتى الاسلام" ،ومن اعضائها الاخرين كان الحاج نجم البقال، وسعيد حميد الحار، ومحسن غنيم، وعباس الرماحي. كما جرى الاتصال بعدد من شيوخ عشائر مثل مرزوق العواد شيخ العوابد، ووادي آل علي من بني حسن في الشامية، والحاج رابح العطية شيخ الحميدات، وسلمان آل فاضل شيخ الحواتم،"بني حسن"، ومشقوف.
غير ان ظروفا ما دفعت قسما من افراد هذه الجمعية"العصبة" بقيادة الحاج نجم الى تفجير الثورة قبل أوانها وقبل استكمال الترتيبات، دفعت نجم البقال، الرجل المعروف، انه من الاخيار الذي حفزه تقديره وحماسه الوطني البدء بالثورة، بان لبس هو وجماعته البالغين حسب تقديرات الروايات البريطانية 12 بطلا، وهم في لباس "الشبانة" في فجر ليلة الحادث 19 مارس، اثنان منهم من اولاد الحاج سعد، وثلاثة من الشرطة المسرحين، بقيادة الحاج نجم البقال . حيث انسلوا من كوة في سور البلدة في محلة المشراق. ثم كمنوا في المقبرة حتى الفجر، وبعدها دخلوا البناية المشار اليها، بخدعة فقتلوا الكابتن مارشال، كما قتلوا طبيبا ايرلنديا كان معه في الدار، وقتل من المهاجمين رجل واحد وجرح آخر، فحملاه الى الخارج بعد انتهاء المعركة.
كان الشهيد نجم البقال و إثنان معه من المسلحين قد اقتحموا المقر الذي اتخذه الحاكم البريطاني المدعو"الكابتن مارشال" قبل حصار النجف. ومقره كان ما يسمى "خان عطية ابو كلل"، يقع خارج اسوار النجف بأمتار معدودات، أي ضمن المباني الواسعة التي شيدها "عطية ابو كلل" في النجف، وكأنها شيدت لتكون مقرا للحاكمين الغزاة. تمكن الشهيد نجم البقال من قتل الحراس، والحاكم البريطاني الكابتن ماشال؛ مما دفع الكتيبة البريطانية وإضطرها أن تزحف لأول مرة نحو النجف لتطوق سورها، وتضرب حصارا عليها.
لاشك ان هناك شبه اجماع وطني ينصف "ثورة النجف" وابطالها ويعتبرها انها مهدت لاندلاع الثورة العراقية الكبرى في 1920 التي استحصلت للعراق استقلاله وكيانه السياسي الذي اسقطه الاحتلال الامريكي البريطاني بعد حوالي 80 سنة. لم تنجح الدعاية البريطانية في عزل اصداء الثورة ونسبها الى المخابرات الالمانية او بتحريك الاتراك لها. ولا شك حاولت القوات البريطانية عزل العشائر عن الثوار واخبارهم وتحاشت التعرض الى رجال الدين من غير المنفيين، او الهجوم على البلدة، لكنها لجأت الى العقوبات الجماعية بقطع ورود الماء الصالح للشرب وترك السكان لشرب المياه الملوثة وغير المستساغة، باللجوء الى شرب الماء من الابار العديدة الموجودة داخل البلدة. وتقدمت رويدا لاقتحام السور في 7 نيسان من محلة الحويش المشرفة على محلة السيد مهدي السيد سلمان الذي بقي مواليا لحكومة الاحتلال البريطانية وهو الذي وفر الايواء لشرطة الكوت خلال الحركة والهجوم على النجف. من خلال السيطرة اولا على اكوام السواتر الترابية التي تكومت نتيجة تراب السراديب التي حفرت على مدى سنوات واشتهرت بها بلدة النجف ثم تقدمت القوات البريطانية من دون مقاومة، خلالها احتفظت بعلاقات ودية ومستديمة مع السيد محمد كاظم اليزدي. وفي العاشر من نيسان كان الرتل الخامس من داخل المدينة يجبر الثوار الى الظهور العلني ويحاصرهم ويجبرهم على الاستسلام للقوات البريطانية.
كان تعاون الرتل الخامس النجفي، المتواطئ ، واضحا، شاركت فيه اعداد من من بيوتات النجف المعروفة في استثمارها والتحكم بأرزاق الناس، وإخفاء المواد الغذائية، والتجسس على الثوار لصالح عيون ومخابرات الانجليز، كما تم تضييق الخناق على الممرات، والمخارج من وإلى المدينة؛ مما أجبر الثوار على الخروج العلني، فاستعرضوا موقفهم العلني بكل كرامة وفروسية مضحين بأنفسهم في الشوارع والأسواق، خرجوا، وهي يلبسون الاكفان إستعدادا للشهادة، لذا تم للمحتل واعوانه من تشخيصهم، وإعتقالهم بعدها واحدا بعد واحد، ثم قدمهم الى محكمة عسكرية ميدانية خاصة لتحكم على ثلة منهم بالاعدام شنقا حتى الموت، والحكم على آخرين بالنفي او السجن.
اعتقل في اليوم الاول من ماي 102 من مجموع الثوار التي تضمنتهم قائمة السلطات البريطانية من المطلوبين للاعتقال والمقدرة 110 شخص. وفي ذات الوقت هوجم الحاج عطية من قبل جماعة تنتسب الى عشيرة عنزة الموالين للسلطات البريطانية فسلم نفسه في السماوة قبل نهاية نيسان. وفي الرابع من ماي تم رفع الحصار عن النجف. عندها تم تشكيل محكمة عسكرية من ثلاث ضباط. وتمت المحاكمة باللغة العربية، فحكم على ثلاثة عشر من الثوار بالاعدام.
الكوكبة الاولى للثوار تسموا بأعناقها
معلقة على حبال مشانق الانجليز
. من اسماء الابطال الذين حكموا شنقا حتى الموت ونفذ بهم حكم الاعدام في الثلاثين من ماي : الحاج نجم البقال رئيس العصبة، وكاظم الصبي الذي ساعد الجمعية ولم يكم من اعضائها، وعباس علي الرماحي مع أخيه علوان، وكريم واحمد ومحسن اولاد سعد الحاج راضي، وعبدهم سعيد، ومحسن البوغنيم أحد قاتلي الكابتن مارشال، ومجيد بن مهدي دعيبل، وجودي ناجي، وقد تم شنقهم في خان علي حمزة النصر الله، في الكوفة يوم 20 شعبان 1336، وأفلت من الشنق عباس الخليلي، شقيق الاستاذ جعفر الخليلي ففر الى ايران. وكان من المنفيين الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم، وسعد الحاج راضي، والحاج عطية او كلل واولاده واقاربه. وقد تدخل المرزا الشيرازي والشيخ خزعل شيخ المحمرة بأمر من الشيخ الجزائري والسيد بحر العلوم فاعفيا وأقاما في المحمرة برعاية الشيخ خزعل. كما تم نفي اكثر من مائة شخص منهم الى الهند كاسرى حرب.
الجدير بالذكر انه وفي نفس يوم تنفيذ احكام الاعدام بحق الشهداء وبعد ظهر يوم الثلاثين من ماي1918 عقد اجتماع في دار كليدار النجف، قدمت فيه الى الحاكم السياسي البريطاني جماعة تمثل رجال الدين "حسب تعبير المس بيل" والاهالي وشيوخ المحلات "سيف شرف" للحاكم السياسي. وبعد عشرة أيام قام القائد العام بزيارة رسمية للنجف، فنحرت له الذبائح عند ابوابها، وكان مشهدا "لم يسبق له مثيل منذ زيارة ناصر الدين شاه ملك ايران" حسب وصف المصادر البريطانية. وفي الحفلة التي اقيمت ترحيبا بالحاكم السياسي البريطاني التي حضرها "العلماء والوجهاء والشيوخ" اعلن الحاكم عن تأسيس بلدية للنجف تتولى شؤون البلدة ووعد بان تلقى قضية تحسين مياه الشرب عناية خاصة من لدنه.
كان اخماد ثورة النجف وبما احرزته السلطات العسكرية من تقدم للسيطرة على المدينة محطة لم يهنأ بعدها البريطانيون حيث تتالت اخبار نقل القوات البريطانية الى ايران لصد ما سمي حينها بالتقدم التركي من ناحية تبريز في خريف 1918 التي اعادت اوضاع المدينة الى المربع الصفر حيث عادت الاجتماعات التي نشطها عدد من العلماء وتصاعدت احتجاجات الطلبة وتنقلهم من طرف الى آخر من المدينة في تعبئة شعبية بدأت تقلق البريطانيين وعاد المجتهدون المتحركون الى استثارة نخوة العشائر من جديد.

الثورة الكبرى كانت تدق أبواب المدن العراقية
من الموصل الى جنوب الفرات

وفي جميع اطراف العراق كان العراق المحتل يواجه ارهاصات المقاومة بالانتقال الى التنظيم والاجتماعات ويرفض تسمية مقاومته للإحتلال انها "مجرد شغب يحركه الاتراك او بقاياهم" ، كما يزعم البريطانيون.لقد تكشفت النوايا البريطانية عند كل طوائف الشعب العراقي في وضوح سياسة الغزاة واختزالهم للعراق وتحويله الى مجرد شذرة ترصع التاج البريطاني ،وادارته باتت واضحة،. وإن ادعاءات الحرب ضد الاتراك وتبريرها لم تعد تقنع احدا. كما تبخرت الوعود بقيام دولة وطنية وحكم وطني وتنصيب ملك في العراق وباتت وعود الاحتلال بعدم توفر المرشح لملئ كرسي عرش العراق اكذوبة، كما ان شروط الهدنة التي توصل اليها البريطانيون مع الاتراك قد خرقت بإبعاد الوطنيين العراقيين ونفيهم الى المنافي البعيدة.
كما ان الوعود التي قطعها البريطانيون باجراء استفتاء حول تشكيل الدولة العربية أضحت مضللة لذا كثرت العرائض الرافضة للاحتلال والمطالبة بالاستقلال وازداد معها عدد حالات الاعتقالات بحق الوطنيين. كما ان الادارة البريطانية التي اقامها الاحتلال احتفظت لنفسها بالوظائف المقررة لتسيير الادارات الحكومية وظلت الحاكمية السياسية منذ نهاية عام1918 تحتفظ بطابعها العسكري ويشرف عليها ضباط ارتباط عسكريون بريطانيون.
وفي شمال العراق لم يكن وضع البريطانيين سهلا، كانت القبائل التي اشتركت في شن الغارات على سكة حديد بغداد – الموصل قد غنمت الكثير من المعدات وقلبت القطار. وفي شهر ماي شنت القبائل هجوما على طريق السكة بين بيجي وحمام العليل فغنمت غنائم اخرى. وتصاعدت الاخبار عن قرب هجوم على الموصل يقوده الضباط العراقيون المعادون للوجود الانجليزي. وفي الثاني من حزيران كان هناك اجتماعا في تلعفر عأقبه دخول الخيالة اليها إيذانا ببدء الثورة. وكان في نية جميل المدفعي القضاء على قوة الدرك الموجودة هناك والقضاء على جميع الضباط والموظفين البريطانيين قبل وصوله الى تلعفر. وهكذا قتل ضابط الدرك الكابتن "ستيوارت" من قبل الضباط التابعين له. قتله ضابط موصلي يدعى الملازم محمد علي الحاج حسين النعلبند واحتجز الموظفين البريطانيين الثلاث الباقين حتى مجيئ جماعة جميل المدفعي وعندئذ قتلهم جميعا بقنبلة في عين المكان. كما قتل الكابتن"بارلو" معاون الحاكم السياسي عند محاولته الهرب .
وهكذا كان سقوط تلعفر ايذانا بقيام الثورة، اشتركت فيها قبائل شمر برئاسة عجيل الياور والجبور بقيادة مسلط باشا الملحم والجحيش بقيادة صالح احمد الخضير والكرية بقيادة سليمان آغا آل سعدون، والبومتيوت، والبوحمد، والحسنيان "عشيرة كردية" برئاسة الحاج عبد العزيز. واشترككذلك العوجان برئاسة سلمو الخليف.
حاول البريطانيون استعادة السيطرة على تلعفر ولكنهم لم يتمكنوا من التحكم في الاوضاع خصوصا ان الحدود كانت مفتوحة للثوار الذين كانوا ينسحبون بعيدا عن الموصل التي ظلت تكمن الجمر تحت الرماد الانجليزي.
بغداد حاضنة الثورة ومركز شمولها الوطني
وهكذا انتقل نشاط الثورة من الموصل وجنوب الفرات وغربه الى بغداد وصارت الدعوة الى الثورة واستعمال السلاح اجتهادا تبنته حتى تلك الجمعيات السياسية ومنها " جمعية العهد" العراقية الى تم تأسيسها قبل الحرب العالمية الاولى، حين قام فريق من الشباب القومي العربي الواعي تأسيسها في اسطمبول برئاسة عزيزعلي المصري دعت الى استقلال البلدان العربية المرتبطة بالدولة العثمانية، وكان معظم اعضائها من الضباط السوريين والعراقيين، ومنهم من غير الضباط.وممن إنتمى اليها من العراقيين ياسين الهاشمي ومولود مخلص وجميل المدفعي ونوري السعيد وطه الهاشمي واسماعيل الصفار وعلي جودت الايوبي وتوفيق السويدي وشريف العمري وابراهيم كمال وعبد الله الدملوجي وثابت عبد النور وامين العمري وتحسين العسكري وعبد الرزاق منير والدكتور حسين حسني. وقد سبق أن إكتشف الاتراك امر هذه الجمعية فقررت في 1914 تشتيتهم والتنكيل بهم.
رغم تشتتهم الا ان العديد منهم واصل العمل في الموصل وبغداد وبقية انحاء العراق ضد البريطانيين عندما نضجت ظروف الحركة الوطنية. وقد نجحوا تماما في تجاوز التشتت الطائفي، وتجاوز ظروف التعصب والمشاركة في الفعاليات المشتركة ببغداد وغيرها من المدن العراقية .
وبعد تصاعد المظاهرات الوطنية اثر الاحتفالات بالمناسبات الدينية التي كانت تقام في المساجد، وكان اطلاق النار من سيارات الجيش البريطاني على المتظاهرين دفع الناس الى الاحتجاج؛ خاصة بعد حادثة دهس سيارة الحاكم العسكري البريطاني بلفور لرجل أخرس كان اسمه عبد الكريم بن رشيد، هاجم إحدى سيارات الدورية البريطانية التي كان في احداهما "بلفور" نفسه فدهسته السيارة فكان تشييع جنازته حدثا حماسيا ببغداد . لتتطور المظاهرات المنددة للاحتلال من قبل الحركة الوطنية في بغداد التي كانت تقودها في البدء، عدا الزعماء المعروفين من امثال جعفر ابي التمن والسيد محمد الصدر ويوسف السويدي وعلي البازركان، جمعيات وكتل مختلفة كانت تعمل بصورة سرية خوفا من بطش قوات الاحتلال، لكن أول من باشر العمل فيها بالاتفاق مع الزعماء المذكورين جمعية العهد العراقي التي كان مقرها العام في الشام وكان لها فرعان مهمان في كل من بغداد والموصل. ومن فرعها ببغداد انشقت جماعة متحمسة للاستقلال في اواخر شباط 1919 اطلقت على نفسها " جمعية حرس الاستقلال" السرية.
هذه الجمعية نشط فيها ودعمها قادة عراقيون عديدون منهم علي البازركان، وتتعاون مع الزعماء مثل محمد الصدر في الكاظمية او جعفر ابو التمن في بغداد، وتحمس للعمل بها جلال بابان وعارف حكمت وباقر الشبيبي وجعفر الشبيبي والحاج محمود رامز وصادق حبه واحمد زكي الخياط وانور النقشلي وسامي النقشلي والحاج محي السهروردي وشاكر محمود والحاج اسماعيل كنة والشيخ احمد الداوود وصادق البصام وصادق الشهربنلي.
المولد النبوي والتعبئة للثورة
من الكاظمية الى الحضرة الكيلانية
وكانت الاحتفالات بذكرى المولد النبوي في جامع الحيدرخانة والسيد سلطان علي والكاظمية وجامع الاحمدية والحضرة الكيلانية وغيرها اماكن التحشد والاحتجاج. وقد اشتهر خطباء وشعراء في تلك الاجتماعات منهم الدكتور محمد مهدي البصير، والسيد عبد الرزاق الهاشمي وعبد الرحمن البنا والملا عثمان الموصلي والسيد محمد عبد الحسين، ومحمد الحداد الكاظمي، وتوفيق المختار.
تبلور حركة الاحتجاج نحو الاستقلال:
تبلورت حركة الاحتجاج نحو المطالبة بالحقوق وانهاء الاحتلال ونيل الاستقلال. وجرى التنسيق والاتصال مع أطراف الحركة الوطنية الثورية التي يضطلع بها قادة سياسيون وعلماء دين، والأعلام بزعامة العلامة محمد تقي الشيرازي، ومن يرتبط به من رؤساء العشائر المعروفة وشبان المدن المقدسة ورجالها البارزين.
ومما يذكر به هنا ان حلقة الوصل بين الحركة الوطنية في بغداد والنشاط الثوري الملتهب في الفرات الاوسط كان هناك الاستاذ باقر الشبيبي واحيانا السيد هادي زوين والشيخ كاطع العوادي الذي كان منتسبا الى جمعية الحرس ورؤوف الامين عن الحلة.
وهكذا نسقت الجهود وتصاعدت الفعاليات حتى تم ربط العراق من اقصاه الى اقصاه حتى اندلعت الثورة العراقية في الفرات وغيره خلال صيف 1920. كانت انسحابات القوات البريطانية المستمرة من كثير من المناطق وتقلص جبهتهم في الفرات الأعلى والهجمات التي شنت على تلعفر وعلى طريق الموصل إيذانا بضعف الوضع العسكري للقوات البريطانية، وبدء عجزها عن الصعود لملاحقة القبائل المتمردة في اعالي الفرات وغربه.
وفي بغداد بدأ طوق الثورة يحاصر البريطانيين. وبدأ البريطانيون يتحدثون لاول مرة عن تقرير المصير ووضع خطة لوضع دستور مؤقت للعراق وتأسيس مجلس دولة يتألف من أعضاء بريطانيين وعرب برئاسة رئيس عربي يعينه المندوب السامي، ومجلس تشريعي ينتخبه الشعب. كل هذه الخطط لم تعلن رسميا؛ لكنها كانت تتسرب الى أسماع العراقيين بمختلف الوسائل وعبر الاوساط . لكن الحركة الوطنية بدورها لم تنتظر منة البريطانيين ولا تنصيب عملائهم فافرزت معارضتها الممثلة باختيار خمسة عشر شخصية عراقية، أُطلق عليهم "المندوبين" عن بغداد والكاظمية من اجل مقاومة الاحتلال والانتداب. بعد المظاهرة التي انطلقت ببغداد ليلة 7 رمضان المصادف ليلة 26 آيار. تم اختيارهم عن طريق الجمهور المحتشد في جامع الحيدرخانة، منهم الحاج محمد جعفر ابو التمن، السيد ابو القاسم الكاشاني، الشيخ احمد الظاهر، السيد عبد الكريم السيد حيدر، يوسف افندي السويدي، فؤاد افندي الدفتري، عبد الوهاب النائب، الشيخ سعيد النقشبندي، السيد محمد مصطفى الخليل، رفعت الجادرجي، علي البازركان، الشيخ احمد الداوود، عبدالرحمن الحيدري، الحاج ياسين الخضيري.
طلب المندوبون مواجهة الحاكم الملكي العام ليعرضوا عليه مطالبهم الشعبية؛ إلا ان الكولونيل "ولسن" رفض الطريقة التي تم بها اختيار المندوبين؛ لكنه قبل مقابلتهم في الثاني من حزيران المصادف 14 رمضان ، وطلب إضافة خمسة وعشرين شخصا آخرين معهم، ممن وصفهم من "وجوه بغداد"، من بينهم عدد من اليهود والمسيحيين. ولم يمثل الاقليات المذكورة احد بين المندوبين. وكان من ضمن قائمة المندوب السامي المضافة كل من : السيد محمود النقيب، عبد القادر الخضيري، الحاج علي الآلوسي، محمود الشابندر، جميل الزهاوي، السيد صالح الملي، الحاج محمد حسن الجوهر، الشيخ شكر الله، السيد جعفر عطيفة، الحاج عبد الحسين الجلبي، محمود الاطرقجي، محمود الاسترابادي، عبد الكريم الجلبي، عبد المجيد الشاوي، مناحيم دانيال، عبد الجبار الخياط، خسرو قيومجيان، ساسون حسقيل، عزره مناحيم دانيل، يهودا زلوف، وقد اعتذر الحاج علي الآلوسي عن الحضور.
لا أمان من وعود المحتل
افتتح المندوب السامي الاجتماع بخطاب فيه من الوعود والوعيد، من إثارة الاضطربات، ووعد بالاقتراحات الدستورية المعروضة على ملك بريطانيا، وتعهد بنقل مطالب المندوبين، وبالمقابل رفع المندوبون بصفتهم نوابا عن أهالي بغداد والكاظمية مذكرة طالبوا فيها ثلاث مطالب أساسية هي: الاسراع بتأليف مؤتمر يمثل الامة العراقية ويقرر مصيرها وشكل ادارتها في الداخل، ونوع علاقاتها بالخارج. والمطالبة بحرية المطبوعات ليتمكن الشعب من الإفصاح عن رغائبه وافكاره. ورفع الحواجز الموضوعة في طريق البريد والبرق بين انحاء العراق اولا، وبينه وبين الاقطار المجاورة والممالك الخارجية ثانيا.
القبضة الحديدية تشتد رغم الايهام بالتراجع
وهكذا استمرت المطالب، وعليها الردود البريطانية التي حاولت الإلتفاف على المطالب لكسب الوقت وتفريق وحدة الوطنيين ومصادرة الحريات واعتقال ومحاكمة النشطاء منهم ونفيهم الى خارج العراق . كما تم منع احتفالات المولد النبوي والتجمعات الاحتجاجية المترافقة مع تنظيم الاحتفالات الدينية، وجرى تلفيق التهم على قادة الحركة الوطنية وزجهم في السجون.
وفي كل الحالات كانت صدور ابناء الشعب العراقي تواجه عسف الرصاص البريطاني خلال المداهمات للبيوت وللنشطاء من الوطنيين. فقد حوكم عبد المجيد كنه من أهالي بغداد في محكمة عسكرية يوم 16 أيلول ، بتهمة ارتكاب جرائم ضد السلطات العسكرية البريطانية، ومناهضته للاحتلال . وصدر ضده حكم الاعدام شنقا حتى الموت، ونفذ الاعدام ليلة السبت 25 من ايلول 1920.
الشعور الوطني الموحد ضمانة الانتصار
انتشر الشعور الوطني العارم ضد الاحتلال والسلطات البريطانية وانخرط فيها جميع فئات الشعب العراقي تصدرهم العلماء وكانت وفاة السيد محمد كاظم اليزدي فرصة لانتقال الزعامة الدينية الى المرزا محمد تقي الشيرازي، الذي اصدر فتوى يحرم فيها قبول توظيف المسلمين والتعاون مع الادارة البريطانية، وقد وصل الامر ان رفض الناس قبول دفن والصلاة على من تعاون مع الادارة البريطانية؛ مما دفع بالكثير من تقديم الاستقالات من خدمة الادارة البريطانية. وعندما نضجت ظروف التنسيق بين قادة الحركة الوطنية في بغداد مع الوطنيين في المدن المقدسة وصلت الى القبائل وسكان المدن نصوص فتاوى قرب اعلان الجهاد وتشجيع المظاهرات السلمية والتعريف بالجهود السياسية التي قام بها المندوبون بالتعريف بالحقوق الوطنية تمت التوصية بالوحدة والحفاظ على الممتلكات العمومية واحترام حقوق جميع الملل والنحل وقعها محمد تقي الحائري الشيرازي في التاسع من رمضان 1338.
وفي نهاية شهر رمضان كانت المنشورات تدعو الى الى الثورة على البريطانين وطردهم وإجبارهم على الرحيل من العراق. كان الوضع يزداد حراجة مع تصاعد حملة السلطات البريطانية وقيامها باعتقالات واسعة شملت توقيف المرزا محمد رضا، ابن اية الله المرزا محمد تقي الشيرازي مع تسعة من أتباعه في كربلاء في 22 حزيران ونفيهم الى هنجام في الهند، ومن هناك تم اطلاق سراحه وسفره الى ايران وسلم في 28 تموز الى نائب بندر عباس بعد تدخل الحكومة الايرانية.
الشرارة التي انتظرتها الثورة الكبرى
وكانت الشرارة التي اشعلت العراق كله بدأـ عندما استدعى معاون الحاكم السياسي المعروف عن مؤرخي الثورة العراقية الميجر "دايلي" بإسم الحاكم السياسي في الديوانية مجموعة من شيوخ العشائر في الثاني من تموز وحملهم بالاكراه على توقيع مضبطة يطلبون فيها وصاية بريطانيا العظمى على العراق. وقد بعث بها الى الحاكم الملكي العام الذي اتخذها وسيلة يكيد بها لزعماء الثورة. ومن بين اؤلئك الشيوخ المرحوم الشيخ شعلان ابو الجون الذي تأخر عن دفع دين زراعي للسلطات البريطانية للسنة الفائتة، فأبدى الشيخ كثيرا من الكبرياء والشراسة بحيث دفع بمعاون الحاكم السياسي البريطاني الى احتجازه وتوقيفه في السراي بقصدارساله مخفورا الى الديوانية. مما ادى الى ان هاجم ابناء قبيلة الظوالم السراي فأطلقوا سراحه مبتدئين بذلكب الثورة التي امتدت الى المناطق المجاورة ومنها قطعت سكة الحديد في ثلاثة اماكن أي جنوب السماوة وفي شمال الرميثة وجنوبها. وعندما ارسلت القوات البريطانية قطارا أُرسل من الديوانية لإسعاف وحداتها في الرميثة هاجمه الثوار فأُسر وتم حرقه. فوجدت سرية المشاة البريطانية التي جاءت لنجدة الاخري نفسها محاصرة مع موظفي السكك ودائرة معاون الحاكم السياسي.
وهكذا بدأت القوات البريطانية تتقهقر أمام ضربات الثوار، أظهر فيها الثوار دراية عسكرية والتمكن من فنون القتال فاجأت البريطانيين أنفسهم. توقع البريطانيون وجود ضباط سابقين في صفوف الثوار، والحقائق المسجلة عن هذا الموضوع تؤكد فعلا التحاق عدد من الضباط بالثوار، ومنهم حسين علوان، الحاج محمود رامز، اسماعيل الأغا، الحاج طالب العزاوي، جميل رمزي قبطان، عبد الحميد" كرخي" ، شاكر محمود ، سامي النقشلي... وآخرون.
موقعة الرارنجية والانهيار البريطاني رغم الطيران
وكان كل يوم يمر يكلف البريطانيين موقفا صعبا، حيث زحفت قبائل المشخاب في 13 تموز بقيادة عبد الواحد سكر على ابي صخير الواقعة جنوبي الكوفة. وفي اليوم التالي نزل بنو حسن الجنوبيون الى الميدان بقيادة علوان الحاج سعدون.
ويذكر السر ارنولد ولسون: ان الرميثة بعد ان حاصرتها القبائل الثائرة، وعزلتها عن سائر المدن بقطع سكك الحديد، تم انجادها بقوات عسكرية ولثلاث مرات فلم تتمكن القوات البريطانية من فك الحصار عنها، وانما حوصرت قوات النجدة نفسها في الداخل ايضا بعد ان انضمت الى قوة الرميثة الاولى. بلغ تعداد القوة البريطانية المحاصرة في حامية الرميثة من البريطانيين اربعة ضباط انجليز، وثلاثمئة جندي هندي، ومئتي هندي غير محارب، يعود اكثرهم من العاملين في السكك الحديدية.
ولم يتم فك الحصار عنها، وقد انهكها الجوع والاعياء، الا بعد العشرين من تموز بعد ان وصلت اليها نجدات من بغداد بقيادة امير اللواء "كونينغام". وبعد قتال عنيف استعملت فيه القوات البريطانية المدفعية والرشاشات، خسروا فيها 35 قتيلا و 150 جريحا، كانت حامية الرميثة قد خسرت وحدها ثلث تعدادها ايضا، وفي 21 من تموز اضطرت القوة البريطانية بأجمعها الانسحاب الى الديوانية، ولم تستطع القوات البريطانية من نجدتها الا في 25 تموز، لأنها كانت تواجه معارك ضارية مع الثوار الذين اشتبكوا معها في معارك ضارية.
والى الشمال من تلك الجبهة اضطرت القوات البريطانية الانسحاب في 24 تموز من السدة والمسيب وانتكست ثلاث سرايا من فوج مانجستر تائها بين الكوفة والكفل فنضب منه الماء وأنهكته حرارة الشمس، فاضطر الى التقهقر في وجه هجوم للثوار كبدهم نصف اعدادهم كأسرى.
وهذه هي موقعة الرارنجية المشهورة التي انتصر بها الثوار انتصارا مشهودا. وعنها كتب السر ارنولد ويلسن : بان رتلا من الجيش البريطاني كان مؤلفا من ثلاث سرايا، مصحوبا ببطارية واحدة من مدفعية الميدان تم تجريده من قبل القبائل التي قطعت عليه الطريق بعد ان بلغتها اخبار انتصارات الرميثة. وقد سار الرتل من الحلة في جو حار وشمس محرقة فوصل الى معسكره في الرارنجية قبيل الساعة الواحدة ظهرا، وهومنهك القوى، فهاجمه الثوار بعد ظهر اليوم نفسه في معسكره ، وتقهقرت صفوفه الى انهيار وهزيمة ولم يستطع العودة الى الحلة الا في صباح اليوم التالي بعدان فقد نصف تعداده بين اسير وقتيل.
وقد كبدت تلك الواقعة 180 قتيلا وحوالي 160 أسيرا، مع خسائر فادحة في المعدات ووسائط النقل من عربات وحيوانات.عامل الثوار الأسرى البريطانيين معاملة حسنة ولم يسجل سوى موت اسير واحد. والمعروف من تلك المعرفة ان مدفع الميدان غنمه الثوار واستفادوا منه باستعماله في إغراق الزورق المسلح " فاير فلاي" الذي كان يحمي بنيرانه من النهر الحامية الانجليزية المحاصرة في بناية كانت تطل عليه.
كانت العشائر التي اشتركت في الهجوم من بني حسن وآل فتلة والعوابد. اما الرارنجية فهي تقع في موقع يقع في مقاطعة الرستمية الكائنة بين الحلة والكفل في طريق الحلة – النجف.
الجدير بالذكر هنا ان القوات البريطانية استخدمت الطائرات لتخفيف ضغط الثوار على حامية الكوفة، فقصفت من الجو مسجد الكوفة المشهور في 8 ذي القعدة1338 وهو مكتظ بالناس فقتلت جملة من الابرياء من النساء والاطفال، تجاوز عددهم العشرين ضحية .كما تم تخريب المقام المعروف، وحول تلك الجريمة اصدر الثوار بيانا الى العالم المتمدن فضحوا به جريمة حكومة الاحتلال التي ازهقت ارواح المدنيين والعزل واطلقت يدها الاجرامية لارغام الامة العراقية. وقد ردت السلطات البريطانية على ذلك البيان اعترفت بجريمتها وتمادت في كذبها باتهام الثوار اطلاقهم النار على الطائرات من داخل مسجد الكوفة.
مأثرةالشيخ ضاري المحمود وجبهة الفرات الوسطى
وعلى جبهة الفرات الوسطى حيث كانت مأثرة المرحوم الشيخ ضاري المحمود شيخ قبيلة زوبع، الذي أجهز على الكولونيل "ليجمان" بعد ان اسمعه كلاما جارحا، أبت عليه كرامته الشخصية والوطنية إلا الاجهاز عليه، لذا يظل اسم الشيخ ضاري واحدا من ابطال الثورة العراقية.
كل جبهات العراق مشتعلة
جبهة ديالى وشمال الوطن تنتفض بالسلاح
اما في ديالى فان رجال القبائل من الثوار من رجال القبائل فقد قطعت خط السكك الحديد واغارت على بعقوبة. ويفهم من كتاب "ارنولد ولسون" والمراجع المحلية الاخرى حول الموضوع، أن عشائر العزة ، بقيادة الشيخ حبيب الخيزران، وبني تميم برئاسة حميد الحسن والكرخية برئاسة الشيخ مخيبر، هي التي قطعت سكة الحديد وهاجمت بعقوبة فحررتها من الاحتلال الانجليزي.
لقد تم أسر الكابتن لويد ومعه المستر ستراخن ضابط الري، حيث ابقاهم الشيخ حبيب الخيزران عنده في دلي عباس. وقد بدأت الحرة في يوم 6 أب/اوت 1920 ، وفي 12 منه قطعت سكة الحديد بينها وبين المقدادية "شهربان آنذاك" فثار أهالي المقدادية، وفي اليوم التالي، استولت العشائر على البلدة. وقد قتل من كان في المقدادية من الانجليز، وهم الكابتن "ريكلي" معاون الحاكم السياسي والكابتن "برادفيلد" قائد الشبانة- وكان عددهم 50- ومدربا الشبانة "نيوتن" و"نسبيت"، والكابتن "بوكانان" ضابط الري، الذي نجت زوجته "المسز بوكانان" من الموت بعد ان أُصيبت بجرح طفيف. وبادر احد الملاكين الى حمايتها في بيته، وابقاها عنده الى غاية 9 أيلول، حينما اعيد احتلال المقدادية.
وكان هناك بالاضافة الى هؤلاء "المستر جون بينز" مدير المزرعة العسكرية الذي جرح جرحا خطيرا، والقي عليه القبض، لكنه لم يقتل. ونفس الحال في كفري حيث هاجم فريق من ابناء عشيرة الدلو يقودهم ويس بك وابراهيم خان، فاحتلها في 24 آب 1920، وفي 28 منه قتل الحاكم السياسي الكابتن "سالمون" الذي كان مودعا في السجن منذ يوم22 أب على إثر القبض عليه أثناء تداوله مع رجال الحركة في خارج البلدة، لكن الاهالي أنقذوا زوجته "المسز سالمون" وأوصلوها الى اقرب معسكر بريطاني.
المقاومة والخيارات المطروحة وطعنة الخيانة للعراق :
استمر الحصار الامريكي على العراق منذ(1991-2003) ، اثنا عشر عاما مرت، ولم تحسم خلالها النخب الدينية والفكرية والاجتماعية وحتى السياسية من داخل سلطة البعث وخارجه موقفها الوطني الموحد إزاء العوان الثلاثيني على العراق وما تبعته فترة حصار قاس ومدمر لكل البنيات الاجتماعية والسياسية ودفع الكثير منها الى اليأس او الهجرة او التفرج او الشماتة. كل ذلك لعب دوره في تحطيم امكانيات الصمود والخروج من الحصارات الداخلية والحصار الخارجي وبالتالي صار العراق هدفا سهلا للغزو ومن ثم الاحتلال. لقد تخاذلت قوى عديدة من داخل النظام الحاكم امام الهجوم ليئسها من احراز نصر. وتواطئت قوى أكثر مع المحتل أملا في التغيير. فخسر الجميع العراق. وعندما حل الاحتلال وصار واقعا بعد 2003 استغل الامريكيون خبرة البريطانيين بخبث واجرام قلما مر على تجارب الشعوب. فالمقاومة خرجت الى الساحة بتعداد فصائلها وتشتتها وتصارعها احيانا وتراخت الروح الوطنية لدى الكثير من العراقيين وتفاقمت النزاعات وظهرت الى العلن حقيقة المفاسد السياسية والاجتماعية ومررت سلطات الاحتلال دستورا وانتخابات وسلطت اربعة حكومات متتالية جرت الى اللعبة السياسية العديد من المنتظرين على التل حتى يصفوا المشهد لهم.
ان الوضع في العراق غداة 30 حزيران2009 باعلان الامريكيين نيتهم الانسحاب من العراق يشبه الربع الاخير من عام 1920 بالنسبة للبريطانيين الذين أيقنوا ان هزيمتهم ستكون منكرة وتاريخية لكنهم عملوا على استباق ذلك من خلال وعود الطاولات الخفية التي رتبت تقاسم المغانم والتراجع عن الطرد النهائي للمحتل البريطاني. فزعماء الثورة تراجعوا عن تحقيق مطالبهم بالانسحاب النهائي للغزاة البريطانيين، وتراخوا عن العمل على اصدار دستور وتنظيم انتخابات وانشاء حكم وطني منتخب بارادة شعبية ، وقبلوا الجلوس وتقاسم المصالح مع من التحقوا مبكرا بعجلة الاحتلال وادارته وقبول فرض الملك فيصل ملكا على العراق. لكن ساحة المجتمع العراقي بدأت تتبلور الى طوائف وفئات واحزاب تتهالك على فتات المناصب التي وزعتها الادارة البريطانية للاحتلال. اما الجماهير التائهة وراء لهاث قادتها فقد ركنت الى الاحلام والطاعة. وتكررت نفس أخطاء المرجعيات الشيعية في اغتيال المقاومة او تدجينها ، فبعد ان حشرت نفسها في الدعوة الى دستور وبعده انتخابات وتأسيس جمعية وطنية تستلم الحكم من المحتلين كما جاء في بيانات السيستاني وغيره نراهم قد قبلوا التعايش مع المحتل وتركه يضع الدستور ويشكل الحكومة ويكرس الطائفية ويقود الحرب الاهلية وخصوصا بعد حادثة سامراء ثم يفرض اتفاقية امنية تكرس احتلال وحكم العراق لآماد بعيدة.
وفي عام 1919 عندما أصدر آية الله العظمى محمد تقي الشيرازي مبادرته السياسية الراديكالية من كربلاء" قبل توليه المرجعية، كان الرجل الثاني في المرجعية الشيعية" داعيا الى تنصيب ملك عربي ورافضا اية تسوية مع الانجليز، في حين كان هناك كاظم اليزدي مرجعا اعلى في النجف ، ضعيفا ومهزوزا أمام البريطانيين . وكانت النجف تعيش تحت تأثير تيار المجتهدين من عرب وفرس وهنود [كان هناك، مثلا منهم ثلاثة من كبار المجتهدين هم من اصول هندية خالصة مثل محمود الهندي، ومحمد مهدي الكشميري، وهاشم الهندي، وبعضهم كان لا يزال يحتفظ بالجنسية البريطانية].وفي ذلك الوقت شهدت النجف وكربلاء ظاهرة غريبة لا تختلف عما نسمعه اليوم من بعض الاصوات ؛ إذ قام سادن الروضة العلوية السيد هادي الرفيعي بجمع تواقيع 21 شخصية من وجهاء المدينة موجهة الى الحاكم البريطاني تطالب بالحكم البريطاني المباشر للعراق كحل أفضل للشيعة من العيش تحت الادارة السنية حسب نص تلك الوثيقة. ان ماكان يطرح من قضية المظلومية عند الشيعة بسبب سياسات الولاة الاتراك لم يعد ما يبررها عندما صار العدو المشترك للمسلمين هو الجيش البريطاني. لقد تواطئت ايران القاجارية على غزو العراق وقبل الشيخ خزعل المساومة والتواطؤ بحماية انابيب النفط البريطانية وتسهيل احتلال البصرة مما عكس ذلك الموقف اخطارا على وحدة العلم الاسلامي وسهل للانجليز احتلال العراق. ومع ذلك الشرخ في العالم الاسلامي بتحالف الشريف حسين مع الانجليز ضد العثمانيين لكن الجماهير بثورة العشرين تجاوزت الخلافات الطائفية وتعاونت مع الضباط الاتراك وعلماء السنة من دون حاجة الى فتاوى. وقبلها بعشر سنوات كانت دعوات السلطان عبد الحميد ومبادراته التصالحية بين السنة والشيعة تجد آذانا صاغية لدى المرجعيات الشيعية العربية ولم تجد صدى لها في الوسط الفارسي؛ بل ان بعض رجال الدين الشيعة من الفرس كان يجاهرون بصداقتهم للانجليز، وبلغ الغلو عندهم ان رفعوا تلك المذكرة والعرائض التي تطالب ببقاء الحكم البريطاني. وعلى العكس منهم انفرد الشيرازي بمبادراته الاحتجاجية الثورية ضد البريطانيين، وكان على خلاف صامت مع المرجع الاعلى آية الله كاظم اليزدي الذي عامله ونظر اليه البريطانيون كصديق. وبالفعل تخاذل اليزدي ولم يدعم المطالب الشعبية في معركتها من اجل الاستقلال بل تهاون وسكت إزاء اعمال القمع والتنكيل والجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال. ولم ينظر العرب اتجاه قيادة الشيرازي بأي موقف رغم انه كان فارسيا وظهر في اعين الشيعة العرب انه قائد صلب ولهذا لم يخب الظن به ، فبعد عامين على احتلال بغداد رفع رجال الدين في كربلاء مذكرة تدعو الى تنصيب ملك عربي في العراق تخضع اعماله لإشراف مجلس وطني ونظام سياسي منتخب وهو موقف كان يتعارض مع موقف المرجع الاعلى كاظم اليزدي الذي اتصفت مواقفه بالذعر والتردد والتوجس من تصاعد الروح الثورية لدى العراقيين. لقد تم تحريم المطالب الدستورية ودفعت الاراء تلك الى انشقاق إزاء استفتاء 1919؛ بل تجسد الموقف بظهور تيار شيعي يقوده رجال دين فرس يدعو علنا بالولاء الى الانجليز والابقاء على الحكم البريطاني(من بينهم جعفر بحر العلوم) ووقف معهم ايضا عميد اسرة آل كاشف الغطاء العربية علي بن محمد كاشف الغطاء، وكان واحدا من المجتهدين البارزين الذين يحملون الجنسية الفارسية وله نفوذ قوي في الكاظمية خصوصا، جاهر بموقفه علنا ونادى دون تردد بالولاء للانجليز. لهذا صار الباب مفتوحا على مصراعيه للانجليز واعوانهم من مسألة صياغة الدستور عمليا.
ان محاولة السيستاني في المعارضة الشكلية لصياغة بريمر لدستور العراق وموقفه من المقاومة وتقاسم النفوذ والمغانم والسلطات لاتباعه تحت واجهة دستور طائفي وقبولهم المشاركة بجلس الحكم بعمائمهم وعناوينهم وبمباركة المرجعية انما يستردون تقاليد الوفاء للمحتل بل ممارسة الخيانة بذاتها لمصالح الشعب العراقي وحقه بدولة ديمقراطية مستقلة.
الاتفاقيات الامنية بدل المعاهدات مع المحتل
تكشفت نوايا الاحتلالين البريطاني في عشرينيات القرن الماضي والامريكي وحليفه البريطانية في العشرية الاولى للالفية الثالثة. وقد كشف الغزو ان الاكتفاء بقواعد جوية واخرى للدعم اللوجستي يدعم بقاء حكومة عميلة يثبت نفوذ الغزاة فكان لابد من اتفاقيات مع عملاء الاحتلال. وقد وقعت الحكومات العراقية المتعاقبة مابين (1922-1948) العديد من لوائح الخضوع وبما ماسمي بالمعاهدات مع بريطانيا. فبريطانيا الغازية للعراق كرست احتلالها شرعيا وقانونيا بما سمي بمعاهدة 1930. قبلها كانت الحكومات المتعاقبة في الفترة الاولى من العشرينيات كحالها اليوم لا تملك من زمام امورها بيدها بل تعتمد في كل شئ على بريطانيا بما فيها المنحة المالية التي تدفع للحكام ومرتباتهم قبل ظهور النفط العراقي سنة 1927. ان اولى النقاط التي ركزت عليها معاهدات بريطانيا مع حكومات الملكية هي قضايا مد انابيب النفط والقواعد الجوية في الحبانية والشعيبة وغرب الفرات. وكما طبل للاتفاقية الامنية باعتبارها طريقا لاستعادة السيادة العراقية والخروج من البند السابع ، دعيت معاهدة 1930 بمعاهدة الاستقلال وعلى ضوئها قبل العراق عضوا في عصبة الامم سنة 1932. لكن ذلك لم يمنع من تحكم بريطانيا بكل النفوذ السياسي في العراق مما ادى الى اول انقلاب عسكري حيث اصبح الجيش والقادة العسكريون يسيطرون على بعض النواحي السياسية الداخلية. وخلال فترة التنافس الالماني البريطاني عندما كانت بريطانيا تركز نفسها بواسطة رئيس الوزراء حكمت سليمان كان الالمان قد اختاروا قائد الانقلاب بكر صدقي وبعد هذه الفترة لوحظ ان نوري السعيد قد ادى دورا كبيرا في تركيز تدخل الجيش فاصبحت السلطة مجال زاع بين طرفين وهكذا دشنت الانقلابات العسكرية التي دشنها بكر صدقي وانتهت ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية اثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني بسبب الاختلاف بتفسير نصوص معاهدة 1930 والتي ادت الى اول حرب عراقية بريطانية انتهت باحتلال بريطاني كامل للعراق كانت الكفة لمن يمتلك القواعد الجوية والطيران والسيطرة على منافذ البحر الجنوبية في الخليج. كانت محاولات الوطنيون وبعض الساسة العراقيون من اجل اجلاء القوات البريطانية مستمرة لم تسفر من شئ في تعديل بنود معاهدة 1930 من خلال ماسمي باتفاقية بورتسموث اين تم التفاوض حول امكانية مشاركة القوات البريطانية مع القوات العراقية في القواعد الجوية الداخلية؛ الا ان هذه الاتفاقية لم تر النور واسقطتها وثبة كانون1948 . وبعد انتصار ثورة يوليو المصرية 1952 والتوصل الى اتفاقية الجلاء للقوات البريطانية من مصر شجع الساسة العراقيون على مطلب مماثل عام 1955 بعقد ماسمي الاتفاق الخاص بموجبه تم جلاء القوات البريطانية. لكنه يتضمن بندا يسمح بحق عودة القوات البريطانية الى المنطقة في حالة الحرب او التهديد به لمنطقة الشرق الاوسط.
لم ينته الاحتلال والانتداب البريطاني على العراق وكل معاهداته مع الحكومات العميلة الا ببزوغ فجر ثورة 14 تموز 1958 التي انهت والى الابد تبعية العراق وارتهانه للنفوذ البريطاني. خرجت بريطانيا من العراق واحتفظت بجزء منه أي من الكويت مشيخة تحت الحماية البريطانية، ثم منحتها استقلالا، واستخدمته قاعدة لغزو العراق والتدخل في شؤونه الداخلية. بريطانيا لم تكف عن التدخل بشؤون العراق على مدى نصف قرن، عادت بعده الى اعادة احتلال العراق انطلاقا من جزئه المحتل الكويت، وبمشاركة الولايات المتحدة تم احتلال بغداد في 2003 وهاهي تعيد التاريخ لتفرض اتفاقيات امنية بديلا عن تلك الاتفاقيات والمعاهدات الجائرة التي حكمت بها العراق اكثر من 38 سنة من القرن الماضي. واذا قيل لنا ان بريطانيا قد انسحبت من البصرة فاننا نجدها في الكويت تحضر لغزو جديد.
ملاحظة: للدراسة العديد من الاحالات والمراجع والمصادر العربية والاجنبية



#عبد_الكاظم_العبودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطن هم ثقافي أم منفى وجداني للحنين
- ذكرى ابي الطيب عبد الرحيم محمود
- صحوة كولن باول هل جاءت متأخرة
- النوبليون ومحنة شعب العراق
- -اسرائيل تحضر لضربة نووية محدودة في المنطقة
- البعد الايديولوجي لليسار الاوربي التقليدي
- دارفور الشجرة التي تخفي ورائها كل ضباع الغابة الافريقية
- منظمات المجتمع المدني مساحيق بشعة على وجه ديمقراطي امريكي زا ...
- تقاطعات الرحيل الى الازهر الغافي والمرجع المتعافي لا يصلح ال ...
- رمضان وتكريس البغض الطائفي في العراق
- بوش في الانبار يعيد لي ذكرى حكاية جدتي
- القادمون على ظهر الدبابات الامريكية لا تمنحوهم -شرفا-... او ...


المزيد.....




- ماذا كشف أسلوب تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابي ...
- لماذا يتخذ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إجراءات ضد تيك ...
- الاستخبارات الأمريكية: سكان إفريقيا وأمريكا الجنوبية يدعمون ...
- الكرملين يعلق على تزويد واشنطن كييف سرا بصواريخ -ATACMS-
- أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية ب ...
- سفن من الفلبين والولايات المتحدة وفرنسا تدخل بحر الصين الجنو ...
- رسالة تدمي القلب من أب سعودي لمدرسة نجله الراحل تثير تفاعلا ...
- ماكرون يدعو للدفاع عن الأفكار الأوروبية -من لشبونة إلى أوديس ...
- الجامعة العربية تشارك لأول مرة في اجتماع المسؤولين الأمنيين ...
- نيبينزيا: نشعر بخيبة أمل لأن واشنطن لم تجد في نفسها القوة لإ ...


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الكاظم العبودي - جذور مخططات تقسيم العراق في ملفات الاستعمار البريطاني