أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - الأرض المحرمة الفصل التاسع















المزيد.....


الأرض المحرمة الفصل التاسع


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2708 - 2009 / 7 / 15 - 08:16
المحور: الادب والفن
    



في وضع لا يحسد عليه استطاعت إيكا أن تتابع عملها في ما تبقى من ذلك اليوم. تلقت اتصالات عن حالات سطو, سرقة دراجات هوائية. ضبطت الأوراق, بحثت بين الأضابير, رتبت كل شيئ ووضعته في مكانه الصحيح قبل أن تأخذ طريق البيت. نجحت أن تبعد صورة ياسرمن ذهنها لأنه واحد من بين آلاف الحالات التي مروا عليها. أرسلت التقريرعبر البريد الإلكتروني مع ملاحظة صغيرة إلى إدارة الرعاية الاجتماعية. عليهم أن يستمروا في متابعة موضوع هذا التقرير, أنه مهم, لقد قدمت ما عندها. ربما ستسأل عن وضع أبو ياسر. ربما ستقرأ خبر وفاته في الصحف, هذا مؤكد. الصحف تحب نشرهذا النوع من الأخبار. لكن إذا مات ولم يكتبوا خبر النعوة, ستحاول أن تتدبرالأمر.
وأخيراً أكملت يومها على خير. الأن تستطيع أن تغادرمكان عملها. لقد أخذت إجازة سنوية تمتد إلى وقت طويل, إلى أسبوعين. ستتمتع بأوقاتها, ستستلقي تحت أشعة الشمس وحرارتها المبهجة. راحت ترسم الخطط في ذهنها, سأسافرإلى جزيرة كوتلاند السويدية لالتقي بأصدقائي, إنني في إجازة الأن, أنا حرة الأن. أستطيع أن أفعل ما يحلولي, لن أبقى في البيت أبداً, سأترك المدينة وأهلها, سأرحل بعد أن أضع القطط في سيارتي, سأخذ طريقها وأمضي. سأترك كل شيئ ورائي وأذهب. يلف البيت في هذا الوقت من السنة صمت وخواء وعزلة وبرودة الجدران الصماء. ستعود القطط من الحدائق الجانبية والخلفية وهي أشد حاجة إلى الحنان والحب والطعام. في المطبخ ينتصب إناء فيه طعام ستقترب منه القطط الصغيرة, ستلحس ما تبقى منه.
تذكرت إيكا على حين غرة المشاهد التي مرت عليها هذا الصباح, أحست بوخزة موجعة في قلبها.
في الهزيع الأخيرمن الليل, بعد الجلوس الطويل أمام التلفزيون, وبالرغم من التعب والإرهاق الكبيرالتي هي به, قادها فكرها إلى شرود, إلى قلق, ليس على والدها, كما ليس على ياسرأيضاً, لم يكن عن شخص لم تلتقي به أو تتخيله, لم يكن عن شخص مزعج ومخيف وغيرمرحب به, لم يكن عن حالة تهديد ووعيد, كما لم يكن عن حالة غش وخداع.
كانت تفكربالعم سعيد؟
نعم, أنه موجود, لم تكن دياميلا تعرف فيما إذا كان وجود العم سعيد أفضل أوأسوأ لهم. هل كان بوسعهما, هي وياسرأن يتدبرا أمورالبيت وحدهما؟ لقد فعلوها في السابق عندما سافرت أمهم إلى مؤتمرالمعلمين في مدينة مالمو لمدة يومين وتأخر والدهما إلى ما بعد الساعة العاشرة من الليل. كان يتأخرفي المجيئ إلى البيت لعدم قدرته على إيجاد بديل يساعده في حمل عبئ المتجر. كان ذلك قبل عام, لم تكن تتجاوز الثلاثة عشرة من العمرفي ذلك الوقت. لكن الأمور كانت تجري على مايرام. كان ياسر يلزم البيت, كانوا أشبه بعائلة صغيرة متماسكة, يمزحوا ويضحكوا ويتبادلوا الأحاديث مع بعضهم, يقولا لبعضهم, علينا في هذه الأونة أن نستجمع قوانا, نشد عزمنا, خمسة أطفال عدد وافٍ, يمكننا أن نربيهم ونعتني بهم لمدة عشرة أعوام. تعاونوا مع بعضهم, طبخوا, أكلوا وجلوا, كنسوا وغسلوا الثياب, شاهدوا الأفلام, وضعوا الصغار في أسرتهم وقصوا عليهم الحكايات والقصص حتى يغلبهم النعاس ويناموا. لقد مرت تلك الأيام على خيرما يرام. لم يتدخل العم سعيد في تلك الأوقات في حياتهم, لم يخرب عيشهم؟ أمي لا تتوقع أي شيئ, أنها أشبه بظل كائن هذه الأيام, ياسرغادرالبيت بعد مجيئ العم سعيد. أنها مشكلة كبيرة. ياسرلايطيق العم سعيد, كما أن العم سعيد لا يطيق بقاء ياسرأوغيابه. لهذا السبب أصبح شريراً وأحمقاً. لم يخطرعلى بال دياميلا على الأطلاق أن العم سعيد يمكنه أن يضرب. إنه رجل مسن, أكبرمن والدها بسنوات كثيرة, ذي عيون لطيفة ولحية شائبة, مثل بابا نويل, دون بطن كبيرة. لقد أصبح مثل الشيطان, كما قال ياسر. أنه شيطان, هكذا قال. دياميلا تعتقد أن ياسر يبالغ في أقواله عن العم سعيد. الأن هي تعرف على نحوأفضل.
إلى وقت متأخرمن الليل والعمة زورا زوجة العم سعيد تكنس وتلملم البيت. الصغارناموا, متعبون بعد نهاركامل من التخييم في معسكرنهاية الأسبوع. يبدومن حسن حظهم أنهم لا يدركون ما يجري حولهم. قالت لهم دياميلا أن والدهم في المستشفى, ووالدتهم بحاجة إلى رحلة استجمام. كما قالت أن ياسرفي الغالب هو عند أصدقاءه لضيق المكان في البيت. الصغار صدقوا ذلك. ربما يفعل المرء ذلك, يدبرأموره مثل الأطفال, الناس أطفال كبيرة, لا يفكرون كثيراً, لا يرغبون في ذلك لهذا يكررون ذواتهم وأيامهم. يذهب النهار مثلما يأتي, أنها وسيلة جيدة للبقاء على قيد الحياة. ربما يتساءلون في أعماق أعماقهم عن معنى الحياة, لكنهم يفعلون بما هم معتادون عليه, الطعام, التلفزيون, النوم المريح, اللعب واللهو مع الأصدقاء, الحياة تمضي بهم, تمضي في كل الحالات. ربما ينخدعون, ربما يقلقون كثيراً ويحزنون أكثر, وربما يتظاهرون أنهم على ما يرام.
دياميلا ليست على ما يرام. بالرغم من ذلك, فأنها تتظاهرعكس ذلك من أجل صحة الأطفال النفسية. الشخص الوحيد الذي تستطيع أن تبث له همومها هو أخيها. لكن ياسر ليس في البيت. تتمنى في أعماق نفسها أن يقف إلى جانبها, أن يساعدها ويزيل الأعباء الثقيلة عن كاهلها, أن يقودها إلى شاطئ الأمان. لكنه ليس هنا, أنه خارج البيت مرة ثانية, لقد صفع من قبل عمه سعيد وهرب لكنها لا تعرف إلى أين ذهب.
ـ ماما!
صاحت دياميلا بصوت مبحوح, منخفض حتى لا توقظ الصغار. تبكي بصمت, شهيقها يملأ الفضاء حزناً, يخرج من أنفاسها عبردفقات هادئة. الغرفة حارة, الفتيات الثلاثة رموا اللحف بعيداً عن أجسادهن الطرية وبين الحين والآخريتمتموا وهم نيام. بماذا كانوا يحلمون؟ لقد لعبوا طوال النهار, ربتوا على جميع الحيوانات الأليفة التي صادفوها هذا اليوم؟ هل يحلمون في والدتهم, والدهم؟ صوت مخنوق يخرج من حنجرتها في هدأة الليل العميق مثل ترنيمة أغنية حزينة؟
ـ ماما!
همساتها ملأ الفضاء نواحاً, مرة بعد أخرى.
ـ ماما!
أننا متعبون, وقتنا ثقيل, تعالي إلينا يا ماما, أننا بحاجة إليك, بابا نائم الأن.
أحست دياميلا أنها تجاوزت المئة سنة من العمر. هذا كثير. أخيها هارب. لم تعد تتذكرماذا قال لها عبرالهاتف الجوال. هل هاتفه معه أم رماه جانباً؟ الوحدة صعبة, لا يمكن تحملها أبداً خاصة في مثل هذه الظروف بالذات. هي بحاجة إلى من يحمل معها هذا العبئ الثقيل, هذا الحمل ثقيل على طفل في مثل سنها. أمها لا تستطيع أن تتصل أوتتحدث. كما لا يوجد من يفهم عليها ويطبطب على كتفيها. لايوجد في ذهنها أية فكرة يخرجها من المأزق الصعب الذي هي فيه.
القت دياميلا أخرنظرة على البنات الصغيرات ثم مضت ماشية على رؤوس أصابعها بهدوء وتأن. ذهبت إلى غرفة الأولاد فرأتهم يغطون في نوم عميق, تركتهم ثم تابعت سيرها إلى أن وصلت إلى حجرتها الصغيرة. من حسن حظها أنها تستطيع أن تتجنب غرفة المعيشة لأن جميع الغرف تقع على نفس النسق. لم تستطع أن تهرب من نظرات سعيد وزورا, نظراتهم المملوءة بالتساؤل والحيرة, محملة برائحة الاعتذاروالرغبة في أن يقولوا لماذا حدث ما حدث. نظرات تتحدث, تقول, إنه ينبغي أن يكون هناك شخص ما ينظم شؤون وشجون العائلة! لم تعد تعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ في هذه المعادلة الدخيلة على حياتهم. هل العم سعيد شيطان كما وصفه ياسرفي ما مضى من الوقت, أم أنه رجل كبيرفي السن يرغب في مساعدة أسرة أخيه الصغيرالمصاب والراقد في المشفى أم يفقد السيطرة عليها عندما يكتشف أنها تسيرعلى غيرما يفكرأو يرغب ويعتقد؟
اتصلت دياميلا بأخيها لكن دون جدوى. بعد قليل تلقت إشارة منه, رسالة يطلب منها أن تترك له تحيات محملة بالشوق. يبدو هذا أقصى ما يستطيع أن يفعله! لكن لماذا لم يرد على هاتفها؟ ربما رمى الهاتف في مكان ما أوأن الشبكة ضعيفة التغطية في المكان المتواجد فيه. بوجود هذا الضعف في التغطية ربما لا يفيد ترك رسالة, لكن مع هذا بعثت له رسالة صوتية واضحة. لا تريد أن تبكي وتترك عنده انطباعاً بتأنيب الضمير. على الأقل أن ما حدث لم يكن خطأه, لقد أجبرته الظروف على الهرب. لقد تعرض للضرب.
ـ ياسر, أخي الكبير, هل لك أن تتصل بي في أقرب فرصة؟ يجب ان نتحدث عما سنفعله. العم سعيد يريد منا أن نذهب معه يوم الأثنين. غداً صباحاً سأذهب إلى المستشفى, هل يمكننا أن نلتقي هناك؟ يمكننا أن نتحدث مع ماما حول هذا الموضوع, مع قبلاتي الحارة لك.
عندما بعثت الرسالة أحست بالوحدة والفراغ, بالقهرينهش قلبها وروحها, لكنها لم ترغب في البكاء. ما الجدوى من ذلك؟ يجب أن تبقى قوية, من أجل هؤلاء الصغار. يمكنها البكاء فيما بعد عندما تتحسن الأمورمرة ثانية.
لتتأكد من أن كل شيئ يسيرعلى ما يرام, لم تسمح لعقلها وتفكيرها أن يقودها إلى الأشياء التي تسبب لها القنوط واليأس, غيبوبة أبيها, أمها التي فقدت القدرة على معرفة ما يدورحولها, رحيلهم إلى مدينة أخرى, البقاء عند العم بشكل دائم, كما لم تفكرفي بقاء ياسربعيداً عنهم. تقول لنفسها, كل شيئ سيكون على ما يرام, كل شيئ سيكون على ما يرام, تردده وتعيده في دخيلة نفسها مثل ترنيمة أوأغنية تردد صداها في رأسها وعقلها حتى تذهب في ملكوت النوم. لكن عقلها استيقظ مرة ثانية, أخذها إلى معطف ياسر, هاتفه القريب من قلبه, الضاغط على صدره.
لا.. لا. لم يرن هاتف ياسر, ربما عثروا عليه في بيت أنتي. لا.. لا لم يجده بعد, إنه في قبوأونفق. أنه مقيم في شقة عادية, ربما في ضاحية على أطراف المدينة لم يسبق له أن ذهب إليها من قبل. لا يستطيع أن يرد على نداء تلفونها لأنه مقيم مع هؤلاء الذين يظنون أنه سويدي واسمه ياسي. لا يرد على تلفونها بالرغم من أنه يرى اسمها ورقم تلفونها على شاشة جواله.
سأله أنتي لماذا لا يرد على الهاتف, قال له وابتسامة ساخرة, مخادعة على وجهه, أنها أمي, لا أفكرفي الرد عليها في هذه الأوقات الحلوة. الوالدة! لم يسبق له على الأطلاق أن قال عنها بمثل هذا الكلام. هذا لا يليق. أنه يحب والديه كثيراً, أنهم في القلب مثل الروح, مثل أول نطق, مثل أول أبجدية يلفظها الإنسان في الوجود.
أنه إنسان غريب بينهم, لم يكتشفوه بعد, لم يكتشفوا إنه غيرسويدي الأصل.
لقد بقي بينهم حتى يمررخطته...
لم يكتب رووف اسمه على عنوان الباب لأن هذا الأخيرعلى ما يبدولا يقيم في مكان ما, لكنه في الغالب هناك, قال أنتي.
في ذلك البيت سبعة صبية, يستخدمون ثلاثة أرائك قديمة بجوارالطاولة. أغلب أوقاتهم يضحكون, يقهقهون. أصواتهم عالية جداً. يتركون بقايا البيتزا في كرتونتها على الطاولة مع الكثيرمن علب البيرة الفارغة. البعض منهم يدخن. والبعض الآخريحس برائحة الدخان العالقة في كل مكان منه, في الشعر, الثياب, في مذاق الفم, بالرغم من أنه لا يدخن. كان هناك ياسروأنتي وفرريد, رووف وثلاثة صبية أخرين لم يسبق لياسرأن عرفهم من قبل أوالتقى بهم في مكان ما. أثنان منهم في مثل سن رووف, في الثامنة عشرة من العمروالأخرقريب من عمر ياسرأوأكثرمنه قليلاً, ما بين الخامسة عشرة أوالسادسة عشرة.
كل الدلائل تشيرإلى أن رووف هو من المسيطرعلى المكان ويقرركل مجريات الأمور. أنه يتابع كل شاردة وواردة, كل ما يدور حوله ويراقب الوضع عن كثب. إنه أكثرمن يأكل البيتزا وأكثرمن يشرب البيرة ويتصرف معهم كأنه أب للجميع. يبدو أنه مثل العم سعيد, هكذا خطرفي بال ياسر. رووف هوعمهم سعيد. خطرفي باله أن يبتسم ساخراً من الوضع الذي هو فيه لكنه كتمها في آخرلحظة. فكرأن يحدثهم عن رئيس عصابتهم حتى يذكرهم, يعيد إلى أذهانهم حكاية الرجل العجوز القادم من الجزائر.
ـ ما الداعي لهذه الابتسامة الساخرة؟
كان رووف أسرع فرد في المجموعة من لاحظ ذلك. تحاشى ياسرنظراته لأنه لا يحبها. كل همه أن يكشف النقاب عن الأسباب التي أدت إلى إطلاق الرصاص على والده, عليه أن يتابع اللعبة إلى الأخر.
ـ نعم.. نعم, فكرت... فكرت منذ الصباح الباكرإنه لن يمرعلى خيرلأنني لم أرد على أمي. قريباً ستتصل الشرطة!
ـ الشرطة! ماذا تقول. في غاية السوء أن الشرطة تواجدت في المكان الذي كنت فيه!
كان ياسرمرعوباً, وقبل أن يستعيد قواه ويفكرفي إجابة شافية تنقذه من الورطة الذي هو فيها جاء أنتي على حين غرة وتدخل في الحال وأنقذه من دون أن يدري.
ـ ياسرإنسان رائع يا رووف! لا يمكنه أن يشيئ بنا. أن ما قام به شيئ رائع, وإلا لكانت الشرطة أخذتنا إلى المخفر, ما رأيك؟
بهذا التاكيد أراد أنتي أن ينفذ بجلده, أن ينقذ نفسه. شعر أنه أخطأ لأنه ساعد شخصاً قبض عليه من قبل الشرطة. مضت الأمورعلى خير, شاطررروف رأي أنتي ظاناً هوالأخرأن ما فعله ياسرهوعين الصواب.
بعد جرعتين من تلك البيرة المقرفة ومضغتين من تلك البيتزا القذرة المرمية على الطاولة استطاع ياسرأن يدقق النظرفي ملامح رووف. هل حقاً هوالذي أطلق النار! هل هو ذاك الذي توارى عن الانظارراكباً دراجته النارية الصغيرة؟ لو بمقدوره أن يتأكد من ذلك. هل هوأم لا؟. لا يستطيع أن يجزم بذلك مئة بالمئة. أنه يحتاج إلى دليل وبرهان حتى يقطع الشك باليقين. يجب أن يعرف من رووف نفسه, ربما ثرثرهذا الأخيرمع أحدهم عن عملية السطو. وغيرهذا, يوجد هناك شاب آخرساعده وربما أثنان أوخمسة؟ واحد من الذين يقفون هنا؟
ـ لا شيئ هناك. تابع ياسرالوضع ببطئ من أجل الحصول على المزيد من المعلومات الصحيحة.
ـ نعم, أسأل رووف أنه يجول معنا كل يوم وسلاحه معه, صاح فرريد, أوأو... ماذا تقول يا رووف؟
ـ إخرس يا غبي! صرخ رووف في وجه فرريد بصوت عالي مما جعل هذا الأخيريخجل ويصغرأمام الجميع. ما هي إلا لحظات حتى غابت تلك الابتسامة العريضة من على وجهه مما حدى بالعيون أن تتجه نحو رووف. ضربه بطارف زنده على قفصه الصدري بقوة فاسقطه أرضاً مما أضفى على الجومزاج مختلف عما كان عليه في السابق.
ـ يا لك من ثرثاريا فرريد! يا للحظ السيئ أن تلقي الشرطة القبض على ياسي بدلاً منك. اللعنة عليك يا أحمق!
عندما رأى حالة الكآبة التي سادت الغرفة أراد أن يغيرهذا الجو المشحون. ضحك مباشرة بعد أن وقع فرريد أرضاً فضحك الجميع فعاد جو المرح يعم المكان.
لا.. لا, لم يرغب رووف أن يتحدث عن عملية السطوأواستخدام السلاح في حضورياسر. هذا شيئ طبيعي لأنه لا يعرفه بشكل جيد, كما أنه في عمريعرف متى يصمت ومتى يتكلم.
ـ أصيب ياسي بالحساسية! قال فرريد ذلك وراح يضحك ليضفي القليل من المرح على الجو, هل فهمتم؟ لقد أصيب ياسربالحساسية من الغبارالعالق في الكراج عندما كان هناك لهذا لم يستطع أن يركض, لم يكن في مقدوره أن يتنفس! يا لها من مسألة عويصة؟
ضحك الجميع, هزوا رؤوسهم فرحاً. قال أحدهم أن أسوأ شيئ يتعرض له اللص في عملية السطوهو تعرضه للحساسية ثم تأتي في المرتبة الثانية الشرطة. لم يصدق ياسرأن فرريد وأنتي أخذوا روايته على محمل الجد وصدقوا ما قاله لهم. كلهم صدقوا الحكاية الخيالية التي سردها عليهم. أنه سعيد.. سعيد جداً بهذا الخيال الغزيرالجامح الذي لديه. أنه أفضل من يطلق العنان لعقله ليحلق ويطير, يبتدع. لكن ليس دائماً, في حالات كثيرة يخونه خياله, يفقده ثقة الآخرين به مثلما حدث مع إيكا من قبل.
ومضى الوقت. ثمل ياسرمن البيرة التي جرعها بالرغم من أنه لم شرب إلا قليلاً من تلك العلب المقرفة. تظاهرأنه تناول الكثير. رائحة دخان السجائرالكثيفة العابقة في الغرفة دفعت ياسرللخروج. ذهب إلى المرحاض وسط ضحك رفاقه وتمنياتهم له النجاح في مسعاه. بقي في الحمام مدة طويلة, يلفه الغثيان.
حالة من التشنج لفت معدته وبطنه, ضغطت عليه من رأسه على عقبه دون أن تتركه يعود إلى سابق عهده. عندما جلس على حافة البانيوفي الحمام شعربقشعريرة باردة تمرفي كل أنحاء جسده وعرقا باردا يسيل من أعلى رقبته إلى أسفل ظهره. هل هذا لأنه شرب كثيراً حتى ثمل؟ ما هذه المتعة المقرفة؟ شيئ مثيرللاشمئزاز.
بعد برهة خف الدوارفي رأسه لكنه لم يجرؤعلى النهوض من مكانه. لم يشاء الذهاب إلى غرفة الاستقبال حتى لا يتقيأ أمامهم مرة ثانية. أراد أن يقدم لهم صورة أنيقة ومشرفة عن نفسه, مثل الأخرين الذين تناولوا المشروب معه, ليزرع في أذهانهم أن السبب من وراء هذا التقيأ هو الحساسية من الدخان. يجب أن يكون يقظاً لبعض الوقت, أن يأخذ إحدى الزوايا القريبة من رووف ويتظاهرأنه نائم حتى يسمع حديثه عن القضية مع بقية الصبية. هل يفعلها رووف؟ هل يتكلم؟ أم إنه لا يتكلم إطلاقاً عن مثل هذه القضية في حضورالآخرين عندما يشرب البيرة. أم أنه يبقى طوال الوقت يضحك ويفرفش ويصرخ في أوقات عطلة نهاية الأسبوع, في شقق الضواحي البعيدة عن المدينة؟
لم يفهم ياسرأي شيئ. إيكا على حق, لأنه لا يملك خطة واضحة المعالم. كانت الشرطة ستقبض على رووف وبقية الشلة لو أنه وشى بهم
ـ ياسي, أين أنت؟ هل أنت ثمل؟
جاء فرريد ليعتني به. أهتم به فعلاً. وجد ياسرصعوبة في التعامل معه لمزاحه الثقيل وضحكه القبيح وتصرفاته الحمقاء. مع كل ذلك تأثرياسرمن هذا الاهتمام الذي أبداه فرريد. لا يوجد إنسان أحمق لمجرد أنه أحمق, هكذا خطر في بال ياسر. رووف هوالأخرسيهتم به, وفي السابق استطاع أن يطلق النارعلى رأس رجل, أبوه, بدم بارد؟
لا.. لا. على الأغلب.. أكلت بسرعة لأني كنت جائعاً جداً, هذا ما تحسه بطني. ليست البيرة هي السبب, لم أشرب كثيراً, لدي القدرة على التحمل أكثرمن هذا.
لاحظ ياسرأن كنزته الخضراء, التي استعارها من توفا بقيت عليه ثلاثة أيام. يجب أن تبقى عليه مدة طويلة حتى تبقى قريبة من قلبه هذا ما ردده في حضرتها. لقد توسخت هذه الكنزة بعد حالة الغثيان التي تعرض لها. يجب أن ينزعها من على صدره ويضعها في حوض الغسيل, مدة طويلة. أن يستخدم صابون الدش الذي ينثررائحة منعشة, رائحة الفراولة في غسلها. عادت به الذاكرة إلى البيت عندما كان يتحمم بهذا الصابون مرات كثيرة. الأن هو وحيد. كم كان رائعاً ذاك الدش الأخيرقبل ثلاثة أوأربعة أيام في البيت, وجوده في بيت إيكا عندما كان متعباً, في ذلك الهزيع الأخير من الليل, ظاناً أنه سيذهب من بيتها إلى بيته في اليوم التالي ويبدل ثيابه. في بيت أنتي لم يكن ممكناً غسل الكنزة بالماء الحار. أحس نفسه للحظات مثل أولاد الشوارع. تملكه الغضب والحزن سرعت ذاكرته في العودة إلى عمه سعيد المسبب في فراره من البيت.
ـ أتمنى أن تعود حياتي الطبيعية إلى سابق عهدها, تمتم ياسرمع نفسه وهو ينظر إلى المرآة ويغتسل. لقد فقد الكثيرمن النشاط والحيوية على أثرحالة الغثيان الذي تعرض لها. لو يتجرأ ويستعيرمنهم فرشاة الأسنان حتى يتخلص من المذاق الكريه الذي علق في فمه. خطر له أن يأخذ فرشاة رووف, لكنه أحس أنها أكثرمن حالة صعبة. حتى الحمام أكثرمن قذر. بعد تفكيرراح يكتشف الأشياء بوضوح. حوض الحمام, البانيومن المنتصف وإلى القاع رمادي اللون من الوسخ, المرآة مغطاة بالبصاق ورذاذ معجون الأسنان. يمكنك أن ترى الأوساخ متناثرة في كل مكان وكل شيئ غير مرتب وغيرموضب مما دفعه إحساسه أن يهرب من هذا الحمام الكريه بالسرعة التي دخل فيها. خرج عاري الصدرمن هناك بأتجاه الصالون مرة ثانية وفي يده كنزته. أثنان من الصبية كانا نائمان على الأريكة, أنتي في طريقه إلى النوم, لكن فرريد ما يزال مستيقظاً يتمتم مع رووف. ما أن دخل ياسرحتى رفعوا رؤوسهم.
ـ ما هو اسمك بالكامل؟
ـ ياسي.. ياسبار. يانسون. ياسبار يانسون!
ـ في أي مكان تقيم؟ لم أرك من قبل. هل أنت من هنا؟
ـ اسكن في روسينهيل. هل تعرفه؟ أنه حي جميل. جئنا في الربيع الماضي من الكويت.
ـ وتلتقي مع أنتي وفرريد؟
قال ياسرفي نفسه, هذا أسوأ استجواب تلقاه في حياته, لهذا فالهجوم خير وسيلة للدفاع. عند الشرطة كنت هادئاً. ثم من ماذا أنا خائف؟
ـ إذا كنت عديم الخبرة لكانت الشرطة هنا الأن, أليس كذلك؟
نظررووف إلى ياسربذهول. لم يكن معتاداً أن يقول أحدهم رأيه أمامه. لهذا فعل ما فعله فرريد من قبل, وبدلاًمن أن يتابع الاستجواب راح يمزح ويطلق النكات. تغيرت الأمزجة بعد هذا الكلام. قال رووف لياسرأنه يستطيع أن يأخذ أي مكان في البيت وينام هذا إذا رغب في البقاء أما إذا أراد أن يذهب فليس هناك من مشكلة.
شعرياسرأن لا بد من الخروج من هذا المكان, سيختنق! المسألة لا تتعلق بالدخان وحده أو تلوث الهواء أو اللعب. لم يكن في مقدوره أن يكون ذلك الشخص, الآخر, مدة أطول.
عليه أن ينسى الخطة! أن يعود إلى البيت حتى لولم يكن هناك مكان. الأن وبدون أي تأخيرعليه أن يذهب! أن يتجه إلى البيت, إلى الوطن الآخر, إلى الأرض المحرمة. إلى أي مكان من هذا العالم. بعيداً عن هذا المكان. أن يعود إلى اسمه الحقيقي, ياسرعبد القادروليس ياسبيريانسون.
يريد اسمه الحقيقي...
تماماً مثل إيكا الذي اسمها تينا إيكا.
اللعنة.
أين هووطنها؟ تقول أن وطنها, هوالمكان الذي تتواجد فيه قططها؟
أما بيته فقد تولى شؤونه أحد الشياطين.
الشيطان سعيد, سيأخذ أخوته ويذهب بهم بعيداً.
بابا مات, ماما تذبل وتضمحل وتضيع.
ربما دياميلا تستطيع أن تتابع وربما لا تستطيع.
خرج ياسرمن ذلك البيت الكريه وهرب.
نزل إلى الشارع. هواء الصيف الدافئ لفح جسده النحيف العاري من جزءه العلوي وكنزة توفا الخضراء الرطبة فوق كتفيه.
في ساعة متأخرة جداً من الليل بقي ياسريسيروحيداً, تاركاً وراءه الشمس المرتفعة في قبة السماء تناطح البنايات العالية/ الليل السويدي قصيرجداً في الصيف, يصل إلى ثلاثة ساعات ونصف, يمتد من الحادية عشرة والنصف ليلاً وإلى الثالثة صباحاً/. المسافة طويلة جداً إلى المدينة. لقد وصلوا إلى بيت رووف بالباص. المشي في الليل هو أقصى ما يمكن أن يفعله ياسرالأن. لقد ترك وراءه تلك الشقة القذرة, الروائح الكريهة, الإزعاج والمعاناة والقرف.
رائع! قالها بصوت نصف مرتفع للطرق والشوارع المهجورة. رائع! دياميلا, ترنم باسمها طويلاً, توقف تفكيره وعقله عندها. الهاتف الجوال! أنه في جيب الجينز, يا للحظ السعيد, الرسالة الصوتية تعطي إشارات, صوت دياميلا الرقيق الهادئ, صوتها القلق وكلماتها الخجولة, مرة أخرى. يسيروعبقات النسيم تلفح وجهه. إحساس غامربالحرية رفعت روحه إلى السماء عززه ذلك الليل الجميل وهواءه العليل. دياميلا بانتظاره, تحتاج إليه, إلى مساعدته, عليه أن يقطع المسافات, أن يسرع الخطا.
ماذا تفعل؟
مرة أخرى
إيكا.
يتبع ـ






#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرض المحرمة الفصل الثامن
- الأرض المحرمة 6
- الأرض المحرمة الفصل السابع
- الأرض المحرمة الفصل السادس
- الأرض المحرمة 5
- الأرض المحرمة الفصل الخامس
- الأرض المحرمة 4
- الأرض المحرمة الفصل الثالث
- الأرض المحرمة 3
- الأرض المحرمة الفصل الثاني
- الأرض المحرمة
- من أجل أن يحاكم البشير
- عن النظام الدولي ونحن
- الذئب يشم ويطارد 6
- الذئب يشم ويطارد 5
- المدينة المحترقة
- كيف نقطع الوقت في سجن تدمر
- عن الفعل السياسي في الحاضر والمستقبل
- الذئب يشم ويطارد 4
- الذئب يشم ويطارد 3


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - الأرض المحرمة الفصل التاسع