|
كناري الصغيرة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 2708 - 2009 / 7 / 15 - 10:23
المحور:
الادب والفن
وسط ستة مليارات إنسان ، وبين ملايين الجبال والبحور ، وعدد هائل من الكواكب والنجوم ، لدي فقط عصفورة واحدة صغيرة ، أقول لها وحدها قبل نومي : " تصبحين على خير " . أمسك بها في قبضتي لا أضغط عليها بقوة ، ولا أرخي قبضتي خشية أن تهرب . أخبئ رأسي في كتفها الصغير جدا ، في ريشها . أكلمها بصوتي الأجش فتقول : ياعندليب . أرقد تحت الأشجار فتقول : يا سبعي . أستحم في النهر فتطير فوقي تضرب الهواء بجناحيها وتصيح : تمساحي في النهر. ليس عندي غير هذه العصفورة ، فقط . أتحمل نزقها ، وحماقاتها ، وأتحمل تلفتها كثيرا برأسها وأصبر على نظرة عينيها التي تبدو مطمئنة راسخة قبل لحظة من احتراقها بالفزع المفاجئ . لكني أتحملها . تحط على كتفي ، وترفع رأسها للسماء بكبرياء وتقول : الجو اليوم صحو . هيا بنا نطير . تقول هذا بنبرة آمرة . أقول لها : أنا إنسان ثقيل الوزن لا أطير . ترد علي وهي تتطلع إلي المساحات التي ستطير فيها : كف عن هذه السخافات . ينخفض صوتي : افهميني ، أنا لا أستطيع . تلقي كقبطان محنك نظرة متفحصة على الفضاء ولا تعتني بالنظر إلي : هيا . تقبض بمخالبها الصغيرة الدقيقة على ياقة قميصي ، وترتفع . تقوم بدورة كاملة في الجو غير بعيد عني ، تزقزق ، تدخل وتخرج من سحابة إلي أخرى، وتهبط ، وتعلو ، وأنا أتأملها . ثم تحط أخيرا على الأرض حيث أقف وتصيح بنشاط وهمة : ما رأيك ؟ ألم أقل لك إن بوسعك أن تطير ؟ . ثم تعاودها نبرة الكبرياء فتقول : لا تقلق سنكرر ذلك مادام قد أعجبك . تقف على كتفي ، وتنظر حولها في كل الاتجاهات ، ثم كأنما اتخذت قرارا حكيما تقول بثقة : سر بنا إلي اليمين . أمشي . وهي تهز رأسها الدقيق غارقة في ذكريات صغيرة عن الحبوب والأعشاب والمياه العذبة . وفجأة بدون أي منطق تقول لي : الآن انحرف يسارا . وبدون أي سبب تصرخ : اتجه يسارا قلت لك . أمضي بها يسارا بين صفوف الأشجار العالية ، فتتخذ هيئة أنها عصفورة بالغة الأهمية تتذكر الآن شيئا هاما ولا ينبغي لأحد أن يعطلها . رأينا جبلا ، فرفرفت كأنها كانت تبحث عنه وصاحت : جبل ! جبل ! ألم أقل لك ؟ . أقول لها : لم تنطقي بكلمة عن الجبال . تدور أمام وجهي بحنق : بل قلت لك انحرف يسارا لأن هناك جبلا . تعود إلي كتفي : الآن اصعد الجبل . نصعد . وعند قمته ، تعبيء صدرها الصغير جدا بالهواء النقي ، وتلقي نظرة على الغابات تحتنا ، وتقول : الق بنفسك من هنا إلي أسفل . هيا . الق بنفسك ، أريد دليلا أنك تحترمني وتحبني . أنا لا أريد أن أموت لأنني أحب هذه العصفورة وأريد أن أبقى معها طويلا ، أقول لها : سنموت يا عصفورة . ستتحطم ضلوعي عند الصخور ولا يبقي مني شيء . تدور حول وجهي ، وتصيح : أنت جبان . رعديد . لن نموت . هيا . وحتى إذا متنا سيبقى على الأرض حطام الحب ، وينمو من جديد . تضربني بجناحيها على ظهري تدفعني وتصيح : يا جبان . أنظر إلي الفراغ الهائل الذي يفصلني عن الأرض ، وألقي بنفسي من أعلى الجبل وهي خلفي . وما أن يحيط بي الهواء حتى أسمع صرخة مذعورة نحيفة : يا ماما . يا ماما . التقطها في كفي وأواصل الهبوط . ولا أموت . على الأرض تنفض الفزع عن ريش جناحيها وتسترد كبرياءها الصغير قائلة : ألم أقل لك ؟ لن تموت . أنا أعلم . الآن يحل الغروب ، وأنا أريد أن أنام . أبسط لها كتفي ، تنام وهي واقفة ، ترتجف ، لكنها كأي عصفورة لا تنام طويلا ، تستيقظ بعد قليل ، وتأخذ رأسي إلي كتفها . هي كل ما أملك ، وهي من يمكنني أن أقول لها وحدها الآن قبل نومي : " تصبحين على خير " . تسألني وهي تعلم الإجابة : هل ستنام ؟ . أقول : نعم . تقول : نم الآن . لا تخف يا صغيري . لا شيء ولا أحد في الغابة قد يهددك . أنا معك . نم . في هذه اللحظات أدرك مدى ذكاء قلبها ، لأنها ما أن أغمض عيني حتى تحوم بهدوء حولي في الهواء ، وهي ترسل أغنيات صغيرة جدا هادئة من فمها الصغير ، لكي لا تقلق نومي . إنها الآن تحرسني . أحيانا من شدة حبي لها أفتح عيني لكي أراها ، فتنهرني بكبرياء آمرة : نم لا تخف . فيندي كل شيء في داخلي بالحنان مثل بستان في الفجر ، لأنني أعلم أنه ليس لدي هذه العصفورة الصغيرة سواي في هذاالعالم اللانهائي . ... أحمد الخميسي . كاتب مصري [email protected]
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا نعني بترجمة الأدب الإسرائيلي ؟
-
نتنياهو - المهزلة والدراما
-
الضمير المصري يستقبل أوباما بمسرحية - فضيحة أبو غريب -
-
حزب مصري جديد .. معارض للحياة
-
محمد الفضالي .. مبدع جديد
-
الأوبرا المصرية مغلقة أمام سيد درويش مفتوحة للإسرائيليين ؟
-
عداء السامية لنا
-
انتظار - قصة قصيرة
-
المحكمة الدولية واعتقال الرئيس السوداني
-
الحرية لمجدي حسين
-
أنطون تشيخوف الحبيب
-
المثقفون البريطانيون - ينبغي لإسرائيل أن تخسر - !
-
المصريون وغزة
-
الحذاء العراقي الطائر
-
جورج بوش يعتذر عن الأكاذيب بالمزيد منها
-
حيرة - قصة قصيرة
-
منع النشر علينا !
-
بيرسترويكا أمريكية ؟
-
المدارس المصرية .. عذاب الطفولة
-
نحن والقمر جيران .. فكيف سبقتنا الهند إليه ؟
المزيد.....
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
-
حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال
...
-
الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
-
الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم
...
-
الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
-
أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم
...
-
-جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|