أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - طنجة ..والقصائد وعيون البحر والنساء















المزيد.....



طنجة ..والقصائد وعيون البحر والنساء


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 2690 - 2009 / 6 / 27 - 11:04
المحور: الادب والفن
    


(( لَم تكنِ الأرضُ تَعرفُ هُدنةً
أو تتوالى عليها الجَمراتُ
إلا حينَ آويتُ إلى أحضَانِكِ أحضاني
وناهزتُ حَلاوة أنفاسُكِ
شُقوقَ لِسانيّ...))
الشاعر المغربي صلاح بوسريف
كتاب شهوات العاشق

ليل طنجة ليل قصيدة فقط، سهراتها لا تعرف الصباحات المحددة بمواقيت الساعات، هي تذهب بالليل إلى أقصاه، تؤرشفه بالخمرة وبالشاي وبقهوة الهيل والنعناع. مدينة ترتدي ثوب الخرافة والمطر وقناديل المقاهي والشرفات المزينة بأرابسيك التأريخ كله، وهي تتحنى بدموعها جراء هجر حبيبة لحبيبها، ترتدي النجوم قمصان رغبة أخرى بعشيق ٍجديد. مدينة تولد من ألف رحم وحكاية. وكل رحم موجة من متوسط أو أطلسي، ومرات تكبر هذه الموجة بمرور الزمن لتصبح قصيدة.
لا أعرف لماذا وددت أن أختم رحلتي مع المدينة بالقصيدة، ربما لأن طنجة من المدن التي تخلق الهاجس قبل الرغبة، وحين يصير هذا الهاجس قصيدة شعر، الرغبات تصير نساء لا ينتهي طولهن الفارع إلا عند بوابة برج العذراء.
مدينة مؤسطرة من الخيال ومشحونة بطاقة لا تنتهي من مواددة حميمة بين الشفاه وكأس قدح الشاي الأخضر.
إنها شهوات عاشق جاء إلى طنجة مرتحلاً من أزمنة الألواح ونخيل الآلهة الغافية على أديم فرات المسلات وسلالات الضوء. من سومر، الخليقة الأولى والمركب الذي سار من أهوار العشق والسمك والقصب الأخضر ليرسو في طانجيس كما تقول ذاكرة التأريخ والموروث والناس هنا. في المكان الذي أرادت فيه السفن أن تجمع أحلام السندباد وتحولها لفنار يَهدي الأمم لغة الحوار والراحة ونسيان دموع المدافع وزعيق البوارج وصليل السيوف.
ترتبط الرحلة بهاجس القصيدة ارتباط الخيال برمشِ العين، فالرمش يتحرك ليصنع زوايا النظر في مدينة تتغير أزمنها بتغير رؤى التأريخ الذي يمر عليها، غادرها ابن بطوطة ليدرك العالم الذي بعدها، وآخرون أتوا اليها ليدركوا العالم الذي فيها، وبين عالمين تمشي طنجة على أظلاف بغلة أو عجلات سكة القطار أو طواحين الريح التي تصنع للبحر هاجس قصيدة يومها المتكرر بالغموض ذاته والرغبات المشحونة بمئات من لذات العسل والخبز الأسمر وموسيقى إعلان إغلاق الحانة لمدة دقائق ثم تفتح لنهارها مقاهي لمتعة النظر وأسطورة الذهاب إلى ما خلف الأفق. هناك يدرك المرتحل في ذاكرة وروح طنجة أن السفر في أعماق مدينة كالذي يكتشف في لب النظرة صورة روحه، فالمرئيات في نهارات طنجة تتسابق في مخيلة اللحظة وتتجمع صورة لرغبة نتمناها منذ أزلٍ بعيد، لهذا فنتاج كل نهار في طنجة، قصيدة تحتشد في الليل مع قدح شاي أخضر وعيون امرأة ناعسة.
أستعيد فصول الرحلة. رعدُ عجلات القطار الثقيلة، نعاس المسافرين، تثاؤب الخدود بين أصابع باردة، نقاش عن مدن الضوء في الجنوب السومري، جبال تسابق عتمة الطريق الطويل. فأصل إلى رغبة اختصار المسافة حيث علي أن أغور في ذات لا أعرف طبيعة ما ترتدي من ثياب، لا أدري ما شكل الخواطر التي تسكن فيها، فأنا لا أملك سوى ملاحظات عابرة وكتب كتبها محمد رشدي عن مدينة تخصه. أما اللواتي ـ الطنجاوي ابن بطوطة لم يذكر سوى أنه غادرها مفارقاً وجاء إليها بعد فصل من الترحال ليزور قبر أمه. فيما تعرف من الروائي محمد شكري طنجة وهي ترتدي قميص ثمالتها في أربعينيات وخمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
من هذين الرمزين كان عليَّ أن ابني بيت الرحلة، وفقت أو لم أوفق..؟ لا أدري؟!
ولكن رؤى السفر هي بهجة بكل حال. والبهجة مفتاح القصيدة، ومن القصيدة نعرف العالم. وطنجة المليئة بأبراج الضوء والماء والقمم الخضر بشتى أشجانها هي بعض من العالم الذي لا يُشيد إلا من خلال قصيدة وعيون امرأة تبرقُ بالموسيقى والليل.
يذكرني الخان قبلاي سيد المغول في الصين بكلام عن المدن التي نحاول أن نُلبسها قبعات الشعر واللحظات المتأملة. المدن التي تصنع رحلاتها فينا دون أن نخطو خطوة واحدة. المدن المدهشة والمندهشة، صانعة الرعشة في حقائب المسافرين. مدن تشبهُ طنجة، وجميعها هي.
يقول قبلاي خان في صدد الرؤية داخل مدينة:
ـ المدن التي نتمناها لتأتي هي مدن مشتهاة بالرغبة المجهولة. مدن تسعى إلينا بشيءٍ من الخيال، ولكنها تتحول إلى حقيقة بلحظة لم نتوقعها. وطنجة مثال لذلك. إنها تأتي الآن كحقيقة عبر رحلتك أيها السومري، لأجل هذا سأضيفها إلى خانة مدن لا تُرى.
ـ وهل المدن خانات؟
ـ نعم .. أ لم ترها في الخرائط مسورة بحجر وأحلام ؟
ولكن في مدن لا ترى لم يضع ماركو بولو حدوداً لم يصفها لك.
ـ نعم هو لم يضع لها حدوداً، ولكني أنا من وضع لها الحدود كي أجتاحها بخيالي، فالغزو هواية الأباطرة، وعلي أن أغزو دائما حتى لو في الخيال، ولكي تغزو عليك أن تغزو أمكنة لها حدود.
ـ هذا يعني أيها الخان العظيم أنك من المتمنين غزو طنجة لو كانت حاضرة بذاكرة ماركو بولو.
ـ نعم سأكون أول الساعين إليها. مدينة مثلها يكون السفر صوبها كشفاً. والعيش بها منادمة. أن تمتلك بحرين في مكان واحد، هذه دهشة لم تألفها جغرافية، وطنجة توفرها بيسر وسحر وعطر.
تغمرني مفردة عطر برائحة البحر، والرمل ومشية فتاة سمراء تتقد شهوة في تعابير خطواتها، تذهب نظراتي إليها من زجاج المقهى، أشتعل حنينا للكلام معها، فيصدني موعد مع مجنون الرصيف، أحضر له عشرة دراهم وأنهض إلى جلسته الأثيرة وفي خاطري رغبة لأعرف منه إن كان يدرك الشعر في روح المدينة أو لنقل يدرك الروح في شعر المدينة.
أنهض لا زال النعناع مسيطرا على رئتي، والنادل يرمي ابتسامة البخشيش وشمس طنجة رغم الظهيرة اللامعة ترسل ضوءاً سيبرياً بارداً.
كانت في جيبي قصيدة جميلة عن طنجة كتبها محمد شكري بخط يده، أهداها لي صديقي الطنجاوي محي الدين إمهاوش قال إنه جلبها من طارق السليكي الذي كان يصمم كتب شكري واستنسخها، وحسب قول إمهاوش فإن القصيدة مؤطرة في مكتب سليكي ومزججة. اسمها عشقيات، عليها توقيع شكري/ طنجة 1998.
(( حبي لكِ أبقى
وكل عشقياتي زوال
قال: وبماذا أجابت ؟
قلت: صفعتني
ثم استكانت في حضني
قال: هذا هو
عشق طنجة في المحال
فقلت ما لم أقل...))
أقرأ القصيدة وأنا أضع البحر إلى جانب خاصرتي، شكري لم يكن شاعراً بمعنى احتراف الشعرية، إنه ناثر جيد وشجاع ومؤثر، ولكنه مع طنجة يمتلك شاعرية جميلة، وهذا يعني أن كل كاتب مهما كانت حرفة الكتابة التي فيه يمتلك في أعماقه شاعراً، والحقيقة أن كل إنسان على البسيطة يملك إنساناً شاعراً فيه، حتى الأخرس هناك شعر في إشارته يصنعه ليفهمنا ما يريد قوله من خلال حركة أصابعه وعينيه ومشاعره.
وقصيدة طنجة التي كتبها هي في مجملها بعض هيام روح الكاتب في مدينة يعتبرها مهداً ولحداً وفراشاً لممارسة الأحلام كلها.
أتشبعُ بالنص، وأمسك رؤى الرحلة وأمشي وقدامي البحر وورائي والهوى وخطوات نساء طولهن يضاهي في القياسات الدقيقة طول شجرة الجوز:
((شجرة الجوز تلبس قميص نوم.
قميص النوم يتوسد البحر.
البحر يشتري من طنجة فستقا.
الفستق ينضج من القبلات في فم المحيط الكبير.
المحيط يسرقه هرقل ويهديه إلى أميرة تسكن في أور الآن))
أكتب هذه القصيدة باشتياق لامع مثل مرآة، أدوس بالرمل الناعم مثلما يدوس الشاعر على مشاعره ليُظهرَ سحر الخطوة التي فيه، الزمن في طنجة يقع تحت تأثير تيارات الخليج المفتوح مثل بئر موسيقى، المطر في الصيف منةٌ من السماء، نزلت قطرات منه، في كل قطرة رأيت فماً ماساً يود الكلام، تمعنت فيه، فم الخان يريدُ الكلام:
يقول قبلاي خان وأنا أحاول أن أطور رؤى الشعر في نص أردت أن أهديه لطنجة مثلما يفعل شكري، وكان الخان كما أراه واقعاً تحت تأثير سحرية إنشادي قدام البحر لمقدمة القصيدة التي كتبتها:
يقول قبلاي خان: ((ملك من سلالة جنكيز خان، حكم الصين بعد الاجتياح المغولي للعالم القديم والذي شمل أجزاء واسعة من العالم انحصرت بين الصين شمالاً والعراق جنوباً)):
ـ الشعر بهجة ورؤية، والمدينة الشاعرة مدينة رائية، والرؤى أثمن من التاج لأنها لا تعرف السأم، وأمراض الملوك نتاج السأم في أغلبها.
ابتسمت.. تذكرت قصيدة شهيرة للشاعر الفرنسي جاك بريفير تقول:
((الكل يموت...
الحمار والملك وأنا
الحمار من الجوع
الملك من السأم
وأنا من الحب))
ذكرتها للخان، ابتسم، تدافع كرشه مثل موجات أمام مقدمة مركب، تحولت ابتسامته إلى قهقهات عالية سمعتها الصين كلها، أهل مراكش سمعوها أيضاً، فيما أهل أور تصوروها صافرة إنذار. قال الخان:
ـ السأم داء الملوك وليس النقرس، المدن المبتهجة والتي نتخيلها ونود ضمها إلى خارطتنا هي كفيلة بإبعاد هذا السأم.
ـ أيها الخان العظيم. أنا أرى في الشعر والمدينة حاجتين لاتضاح ضبابية رؤى نريد إمساكها كي نوجه حياتنا كما نريد.
ـ وهل وجدت هذا في طنجة؟
ـ ليس طنجة وحدها. كل مدينة تحلم جيداً يمكنها أن توفرَ ذلكَ الاشتياق.
ـ كلام حكيم وجيد.
ـ لا حكمة في ذلك ولكني أراه جيداً بعد رحلة لي في جسدِ المدينةِ وروحها.
ـ وهل أمسكت كل شيءٍ فيها ؟
ـ كاذب من يقول لك: أنا أعرف المدينة. أي مدينة كانت على الأرض. ولكن ما ينتج من هذا الترحال أنك تعرف مدينة ولكن في شيء من تأريخها وجغرافيتها، فالمدن لا تظهر للغرباء كل ما فيها ولكنها تدعهم يكتشفون ويذهبون فيها إلى ما شاءوا وفي النهاية تنتهي أعمارهم والترحال داخل المدينة لم ينته، إن الرؤيا في المدن بالنسبة للغرباء ترتبط بهاجس الحس والمشاهدة وهذا ليس كافياً. المعايشة ضرورية فالمدن لا تُقرأ جيداً إلا من خلالِ أُناسها.
ـ في أحيانٍ كثيرة، الأباطرة يعتقدون أن المدينة الجديدة مجرد نزوة.
ـ الشاعر يعتبرها كشفاً. الفيلسوف يعتبرها مرآة. المجنون يظنها التيه الدائم، فيما العاشق يَدركُ في المدينة الجديدة أنهُ وجد شيئاً.
ـ وطنجة الجديدة بالنسبة لك، هل وجدت فيها كل تلك الرؤى؟
ـ لم يتجسد هذا في واقع، ولكنكَ تحس. قرأت أعمال شكري كلها وحصلت على ما لم أحصل عليه بمشاهدةِ الناس ومعاشرتهم. بعض سحر طنجة أنها خيال دائما، والخيال أفضل شيء يصنع الدهشة، ومن دون دهشة كما من دون حب لا يمكن للعالم أن يكون جميلاً.
صمت الخان، غارت عيناه في سدم من الضوء والغيم وفراغ أبيض مرمي كجسد امرأة مشتهاة على فراش السماء.
تحولت أجفانه إلى خيوط ملونة من دهشة عارمة. وربما أدرك مثلي روح الشعر في مدينة، وساح معها بهوى التشكل والتعبُّد وقراءة طلسمها السليماني الأزرق وهو يغسل ضفائر الزمن بمياهٍ عذبة قادمة من ينابيع الشجر وقهقهات الماعز السارح في السفوح المحيطة بالمدينة.
أتذكر هاجس فيثاغورس أمام البحر وهو يبحث عن زاوية محسوبة لمصير الأرض وهي تدور وخلفه ُكان هناك جبل عالي. انتبه وقال: اكتشفت الزاوية بين مسطح وعلو. مد خطين مفترقين إلى الأعلى ولكنهما يبدأن من نقطة واحدة على مسطح. وكذا طنجة. تشرق صوب زاوية النور والرؤى من النقطة ذاتها التي اكتشف فيها فيثاغورس زواياه.
تحتفي المدن بذاكرتها الشعرية كما تحتفي باليوم الذي أسست فيه. لكني في طنجة لم أجد رؤى شعرية، لقد وجدت النثر مهيمناً على تأريخها، وهذا عائد إلى تلون الانتماء الذي تُجبر عليه المدينة في كل زمن. من الإغريق حتى الأسبان والفرنسة والمدافع البرتغالية، عهود تتبدل فيها قراءات المنطقة ويتناوب الحكام والولاة وتتغير طُُرز السفن والبارجات وبزات الجند، لهذا يهيمن الحكي على شفاه طنجة لتروي كل شيء، غير أن روحها الشعرية يكمن في هذا الجمع المتشكل من أزمنة التأريخ، وعليك أنتَ زائر طنجة أن تخرج بحصيلةٍ لقصيدة حتى لو تكتبها ذكرى لعيشك فيها لحظة من زمن سيكون في يوم ما زمنا غابراً ولكنه خالد دوما لأن مدينة كطنجة صانعة ماهرة للحظة الأبدية وتعرف كيف تخلد صورتها حتى في الذاكرة الموهوبة، فالمجنون الذي أزوره بدراهمي على ناصية الشارع قال مرة:
طنجة بهاء يلتصق حتى في أطراف ردائك وأنت تمشي.
هذا البهاء هو الأقرب من كل هاجس لروح طنجة الشعرية. الروح التي نسعى لتثوير هاجسها من أجل خلق آخر يطلقُ عليه في عالم الأدب ((القصيدة)).
هكذا الكائن الذي لا يولد إلا وأجنحته معه، يخلق هيام رغبته في الأقاصي الممتعة التي نتمناها أن تسكن فينا ونحن نفاجأ في مدينة لا تزور خيالنا بيوتيبياها، بل نراها حقيقة تظهر ماثلة بصباحات القهوة والحليب والعصفور المغرد رغبة منه بمجاراة إيقاع الموج الذي يرتدي أحذية المسافة إلى ما لا نهاية تقودني إلى قصيدة أود أن أطبعها على خد طنجة قبلة وفاء لرحلة انتهت بسير القدم والتجوال ولكنها لم تنتهِ بسير الذاكرة. إنها مدينة لإيحاءات لم تنته مع سطور ورقة أو موضوع إنشائي أو رواية. هي موضوع طويل، موضوع للذات، للحضارة، لتواريخ مضت وستأتي بعدها أخرى، وعلى الشعر أن يضع له مكاناً في خارطة هذا الوجود الملون، المقاهي، الحانات، الشوارع، البيوت العتيقة وأسوار الطوائف التي سكنت هنا بعربدة السيف والأحكام السلطانية، الجوامع، الحدائق العامة، البازارات، الأمكنة الأثرية والفنادق، المتاحف وقنصليات المستعمر والميناء المدثر بعطاس البحر وصافرات السفن. كل ما في المدينة يمنحك الرؤية لتقول.
الليل، زقزقة الصباح، ظهيرة تأمل حارة، مساء في زحمة البازار والمقهى، شرفة قيلولة في بطن حوت المحيط الأطلسي، بيتٌ من الرمل تصنعه يداك على ساحل المتوسط ولا تهدمه سوى نغمات موسيقى الشعر الذي فيك، بهجة لا تصنعها سوى طنجة، المدينة التي تدركك بِغلَبةِ الحنين إليها لمجرد أنكَ تركب القطار لتبتعد عنها قليلا إلى أصلية أو العرائش أو تطوان. كما في إحساس تائه الرصيف الذي وصف الأمر بصورة مدهشة:
طنجة مدينة شاعرة ولم تمسك القلم، ولكنها تدع الآخر يكتب نيابة عنها كل هواجس الفتنة التي فيها. أهلها مشبعون برؤى الانتماء إليها، أما الغرباء فعليهم كتابة الشعر لينتموا إليها.
أخذت بنصيحة المجنون وهو يتحسس بلذة موسيقية عطيتي إليه وأكتب:
((طنجة الضوء،
المسار الذي ينتهي بفنجان القهوة وفم المرأة وصخب البحر
مشقتي فيك أنك دهشة !
ذلك أمر صعب،
أن تصير المدينة منحى داخل روحك
وكلما أردت أن تمسكه وجدتهُ ثملاً ويتلاشى
كذا طنجة.
مثل أور الجنوب المحنَّى برضابِ الشمس.
تدور حول نفسها لتكتشفَ هاجساً واحداً.
اللحظةُ التي لا تُمسك...))
إذن طنجة وأور لحظتان لا يتم مسكهُما بسهولة، إنهما الرؤية لما لا يُرى، الهاجس الأثري، الذي يرسمهُ الرحالة وشماً على جبين الخرائط ليروي من خلالها جادات المدن. وجادات طنجة تنتهي دائما عند مصب القلب، ومصب القلب قصيدة في كل حال.
هو إذن وتلك هي المدينة.
طنجة.. الرؤية إلى ما سيرى، في عالم تخلقه المدن وصناعتها. المدن التي تولد من الارتحال ومن ثمالة قبلات العشاق وقصائدهم. مدن تغني فينا ونغني فيها لكي نُطلعَ الآخر على المزاوجة والاحتراف في قراءة نص يذهب بنا إلى ميثولوجيا نتخيلها حاضنة أبدية لكل أساطير البحر. مدن الخيال الأبعد وطنجة منها.
يقول مجنون ناصية الشاعر، محب الدراهم القليلة: إن الرؤيا في المدينة تخلق الرائي.
تعجبني هذه الجملة. إنه كلام لا يأتي إلا من رئة متصوف. (الرؤيا في المدينة تخلق الرائي).
إذن هي صانعة ماهرة للحظات لا نستطيع الآتيان بها إلا من خلالِ حس آخر.
الشعر يستطيع أن يفعل ذلك. وطنجة المرتحلة في أخاديد الزمن مدناً بعثرها ابن بطوطة بين طريق الحرير وطريق الحج إلى مكة. مدن صنعتها أخيلة حكاية واحدة تدعى (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار). ولكنها حكاية لشاعرية السفر والمشاهدة والمناظرة وفقه الروح واللسان والثقافة.
مدن تخلق الرؤى من خلال حلم الرائي، هكذا أفهم من جملة الرجل فأشد رحال ناقة الوجد التي تسير بي إلى جمهرة المنظر الذي أمامي، البحر وما يمتد على ساحله، المدينة وما تخبئ في داخلها فأرقد إلى زاوية في مقهى. أتخيل الرجل الساهي على رصيف الشمس، أتخيل ابن بطوطة بجبته المغربية وهو يدخل سوق البصرة أو يجلس حالماً بالضوء المعرفي على دكة متصوف في جامع ببغداد، أتذكر أور وأكد ونينوى ولكش وأريدو وأوما وتللو وبابل والنمرود وكل تلال حمرين المسورة بفخار التأريخ والألواح ووجوه الآلهة المحمرة من خجل العشق لإناث الأرض.
أجمع هذه الهواجس في مفردة هذا الساهي وأسأله عن سر أن نرى أجمل الشعر من خلال عيون مدينة.. ولتكن طنجتك مثالا؟
يشرد ذهن الرجل بنظرة غائرة وبعيدة ولا يجيب، غير أنَ الصمت يشتعل كلاماً حين يصبح ذا معنى.
هكذا قال أبي ذات يوم، أردت أن أحرك مشاعره صوب ما أريد فتلوت بعضاً من شجني لطنجة:
((مدينة، بوعي أخضر، تفتح بوابات الأحلام بأصابع الضوء.
مدينة للرؤيا تشتعل بحراً وشهوات نساء من الرمل.
أتخيلها جارية، بخمارٍ من سريالية بريتون
الديكُ فيها زهرة.
وقدح الشاي أفريقي يعلك لباناً من أوسلو
مدينة تنزع خمارها لتضاجع وجهي.
هي أنثى بألف شهقة
وأنا ذكر بدمعةٍ واحدة))
يبتسمُ الساهمُ على رصيف اللازورد تحت الشمس المبرقعة بنهار تموزي لامع. ويقول:
ـ إن طنجة ترى في الذين يدركونَ شهوتها بكلمة عشاقاً من طرازٍ خاص.
ـ وهل أنا منهم ؟
ـ بهذه الرؤية.. نعم.
أفرح (لمفردة نعم)، إنها شهادة قد أتوقعها من مثقف طنجاوي يحاورني بثبات التودد لهوى الوجد في عاطفة مدينة أرتحل إليها مشيا على كلماتي.
يبتسم ويقول: جميل أن يكون المشي على الكلمات وليس على الأقدام. في حلمي للحظة ود مع طنجة أرتحل إليها على الورد، هكذا نحن الساهمون علينا أن نُعبر َعن الذي يمكن أن ينسينا كل الذي فينا، الجوع، التشرد، عدم ثبات الجملة، الخروج عن المألوف.
تعجبت وقلت: كيف لا تثبت فيك الجملة وأنت تحكي كل هذا الحكي!
ـ هم يقولون هكذا.
ـ من ؟
ـ العقلاء الذين يقفون في الصف ليشتروا لزوجاتهم أدوات الزينة.
ابتسمت، وقلت : يا لحكمتك. أنت أجمل منهم بكثير ؟
قال: لأنك لست طنجاوياً تقول ذلك. آه لو تعرف؟!
تلك الآه أعرف سرها، وضعت يدي على رأسه، انحنيت عليه، وقبَّلته. كانت دموعه تذهب في مجرى من الشعر صوب البحر، وكان شهيقه يشبه شهيق ابن بطوطة لحظة انحنائه على قبر أمه إثرَ عودته الأولى إلى طنجة بعد طول ارتحال.
قال: المدن خاصرة كل قصيدة وأجفان المدينة لحظة التفكير بها.
قلت: التفكير بالقصيدة ؟
قال: نعم لأن التفكير بداية الهيجان. والهيجان عود ثقاب المدن.
ـ هذه حداثة في رؤى الشعر والمدينة.
ـ هذا جنون الشعر بالمدينة.
ـ ليس جنوناً لأنه خالٍ من العربدة.
ـ كيف..؟ المدن سرها العربدة.. ولا عربدة أجمل من عربدة الشعر.
سحرني الرد. طنجة المسورة ببحر ونغم يطلق من مقهى بعيد نشيد (أنت عمري) لأم كلثوم.
بدأت أجمع ثمار رحلتي. والرجل قعيد الشمس يشرق برؤاه كمرآة، تعجبني فيه حلاوة الكلام والتفسير للحظة أن تملك مدينة وتقيم معها مودة الشعر، فهو ساع لإيجاد ما لم نجده في كتاب أو في نقاش منتدى أو محفل واع ٍ. هنا يدرك في عينيه المدينة ويعلن الكلام تفاسير سره، ومن السر نكتشف لغة المدينة وروحها، ونتصوره نورساً يهيم في فضاء البحر النائم في صحن السماء الزجاجي، وإليه نهدي قصائدنا عندما نهيم ونشتاق ونُحبّ.
قال الساهمُ في لجة الشمس ومتعتها: الروح في المدينة نظرة وخطوة ومعايشة وقدح ترتشف فيه عيون امرأة وجولة بمتحف تفتش فيه عن إسطرلاب تمشي بهديه دفة المدينة إلى قدرها.
قلت: تلك سعة لا مجال لي لأدركها.
قال: ما يعي الواعي في السير بمدينة سوى هاجس الخطوة. وكل خطوة بمعنى.
قلت: الخطوة في طنجة رحلة ؟
قال: وراحلة الرحلة قصيدة.
قلت: وأنا أفعل ذلك.
ـ افعلْ، للمدن مع الشعر بهجة. وطنجة مبتهجة بك الآن !
هذا الابتهاج يصوغ روحه قلادة ويضعها على جِيدِ خارطة المدينة التي أرتني تواريخ ما أسميه فتنة السياحة في الذاكرة المرتاحة.
راقت له العبارة، قال: السياحة هو أن تجعل الظهيرة شاهداً على عناء مدينة. أنظر إلى طنجة. مزدحمة وتتنفس بصعوبة. وكل شجن من الشعر متنفس لها.
ـ المدن يا صديقي...........
قاطعني بسرعة برق أخضر وتساءل: وهل يُصادق مجنون؟
ـ ولما فعلتها معك ؟
ـ ربما لتُحسنَ إليَّ بصدقة ؟
أحرجني، يكاد الرد أن يتيه، قلت: ما أعطيه إليك، ليس لك، إنما لطنجة.
ربما اقتنع حين قال: قد تكون محقا في هذا، ولكنك أعطيتها في البدء إشفاقا لأنك لم تدرك ما فيك وفيها، وربما تبدل الأمر بعد ذلك.
قلت: الذي فيك ألغى لحظة الإشفاق وجعل الصداقة واجب ؟
ـ هذا عرف جديد.
ـ بل قديم جدا يخلقهُ المنطق.
ـ وطنجة أيضا؟
ـ نعم وطنجة.
قل لي سي (خليل)، ماذا تعرف عن ابن بطوطة؟
ـ ولد هنا، وسافر من هنا.
ـ وهل قرأت رحلته؟
ـ قرأتها، وشاهدت فيها أمماً عاشت لحظتها.
ـ وهل فيها من طنجة ؟
ـ لا شيء سوى في سطورها الأولى، وبعد ذلك تنفتح أرض الله.
أمسك مفردة تنفتح أرض الله، أحيلها إلى ذكريات قراءاتي للرحلة فأهيم في وصف أماكن رآها بأجفان الشعر والجغرافيا، لأعود إلى حقيقة، أن لا جمال في رحلة رحالة دون أنْ يكونَ في رغيف الطريق ملح الشعر.
يقول: سي خليل الساهي ببحر الشمس والاغتراف من غبار الزحمة في مفترق طريق.
كان ابن بطوطة يصف المدينة بدقة المشاهدة والمخالطة. وأنت تفعل مثله. هو يذهب إلى مدن العالم كله. وأنت تذهب إلى مدينة واحدة. رحلتة سهلة. ورحلتك صعبة. أ تدري لماذا؟
ـ لا أدري.
ـ لأن كل مدينة جديدة يذهب إليها تفضح سر سابقتها. أنت من يفضح لك سر طنجة ؟
ـ ربما حكمتك، ومن عرفتهم من أبناء المدينة وأعمال محمد شكري.
ـ هذا لا يكفي ؟
ـ وما الذي يكفي.
ـ أن تشرب ثمالة المدينة كلها.
ـ وإن غبت في سكرتي ؟
ـ ستمتلك المدينة وبهجتها.
ـ وإن امتلكت مدينة ؟
ـ أصبحت قريب المنى.
ـ يقولون: كل منى جنة ؟
ـ هم يقولون، ولكن بعض المنى لوعة.
ـ واللوعة بعض من كشف.
ـ والكشف دنيا.
ـ وبدون دنيا لا تعيش المدن ولا تقام.
هذه القيامة التي ساح بها ابن بطوطة في أرجاء العالم، أدركها بمشهدية الوصف ومفاتيح الخرائط، تضاريس، وبلدان، ومناخات، وزرع، وتقاليد، وديانات، وأجناس. تلك هي رؤى الكتاب، فيما رحلتي هي رؤى واحدة لمكان ٍواحد، ولكن تختلف فيه المكونات وتبدلات الأزمنة وعلى القرن الواحد والعشرين أن يقرأ الأمرَ جيداً، وقرأته بإدراك، إن الكشف يؤدي إلى الوضوح، والوضوح يذهب بكَ إلى ذاكرةِ مدينة.
أما التعامل بالشعرية مع وجود مدينة فهذا أصعب ما يلاقيه رجل الرحلة، لأن قراءة المكان من خلال رؤى القصيدة أمر يخرج خارج نطاق الشيء الملموس، وعليك دوماً أن تعجن المكان بالميتافيزيقيا وهذا ليس بالسهل، ولكن لكل رغبة سعي، وما دمت راغباً بطنجة فعليَّ أن أسعي إليها، وأهيم بذاكرتها من خلال روح القصيدة لأكتشف ما لم يكتشفه غيري، مدينة لا تتضح معالمها إلا في زحمة الضباب واضطراب شهيق البحر.
ربما أول مرة في رؤى رحلة تستقر مقدمة السفينة في عودتها السندبادية على وسادة الشعر.
في ألف ليلة وليلة حين ركن السندباد البصري إلى أريكة التذكر ليقص على جُلاسه حكايات رحلاته السبع العجيبة، كان طيف الشعر يمشي داخل كل رحلة وكل حكاية.
الجزر النائية وهيجان البحر وأناس لا يتعدى طولهم أشباراً وأميرات مصنوعات من ضوء كرستال وجبال من ذهب وفضة وأشجار برتقالها درر، وجني بعين واحدة، وقصور معلقة بالغيم بحبال غليظة... إنها رؤى الشعر في الحكي والارتحال تقودنا إلى إدراك قيمة الشعر في تقوية بناء الرحلة، لأتخيل السندباد في رحلة ثامنة إلى طنجة، يمسح ناظريه بشغاف البحر ويعيش لحظة الوفاق مع روحه، فيما نخل البصرة يهفهف بالسعفِ موسيقى الريح، وموسيقى الريح على نغم أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي تطلق قصائد لا تَمل من الجمال لشاعر البصرة بشار بن برد.
وبين بشار وصوت قيثارة تطلقه شابةٌ جالسة في زاوية مقهى طنجاوية على البحر حيث المدى يقرب النظرة والنظرة تنام على فراشِ التذكر والتَذُكر أن تكون أور معي.
أيامَ كانت سومر تعيش مجد سلالة أور الثالثة، والتي انتعش فيها البناء الحضاري زمن أميرها الشاب أور ـ نمو، أول من بنى معبداً مهيباً يرتقي بسلالمهِ إلى السماء تقربا من إله مدينة أور (ننار) وهو إله القمر. ولا زالت آثار الزقورة قائمة حد هذه اللحظة في الجانب الأيمن من بيت الحكمة السومري، وقريباً بمائة متر من قصر الملك السومري شولكي الذي يعد أول ملك موسيقار في الوجود. كان شاعراً وعازفاً لقيثارةٍ بسبعة أوتار، وكان كاهن معبد.
مجد أور الذهبي في سلالتها الثالثة، وكانت المدينة تدون يومياتها بألواح يسجلها كهنة المعابد وتلاميذ المدارس، حيث حرص السومريون أن يلحقوا بكل معبد فناءً صغيرا بحجرتين هما صفوف للدرس، وكانت هناك أمكنة النغم، وأمكنة الشعر حيث حانة سيدوري الأسطورية، وفيها يطلق الشعر رؤاه لتخيل العالم، هذا التخيل هو من جلب الأسطورة، حيث كانت حانة سيدوري مكاناً لصناعة رؤى ما يفترضه الإنسان في هذا الوجود. وربما مثل السندباد البصري كان هناك سندبادٌ سومري بضاعته التأمل في السماء وصنع حكاية. فخرجت لنا هالة مضيئة من أساطير جميلةٍ ومدهشةٍ ومليئةٍ بالترحال والشعر والمراثي وأيام النصر والمواددة مع الآلهة وأحياناً التحدي الذي صنع المعصية الأولى بين البشر والخالق فدونت بحروف مسمارية وأقلام صوان مدببة من حجر أسود، ويقال إن ملوك سومر كانت أقلامهم مصنوعة من حجر اللازورد الثمين كما ملوك اليوم وهم يوقعون المواثيق والمراسيم أقلامهم من الذهب الخالص.
على ألواح حانة سيدوري المليئة بخيال الشعر والارتحال التي كتبت أسطورة الطوفان والخليقة وجلجامش وآدابا وحلم كوديا وغيرها من أساطير كانت تملك هاجس الشعر اعتقاداً منها بأنه الوحيد الذي يصلح ليكون خيط وصل بين الأرض والسماء. وربما اوتونوبشتم بطل قصة الطوفان حمل قصيدة روحه ورؤاه واستقر هنا في طنجة كما يتداول في الموروث الأسطوري حول افتراضات نشوء المدينة. هذا يعني أن بين أور وطنجة خيط من الضوء محكوم بجدليةِ الزمن وترادف التواريخ وتشابهات لحظة خلق المدن وبعثها إلى الوجود.
كانت سيدوري الحانة التي أرائكها من خشب الصندل وكؤوس نبيذها من فخار مدينة (آرابخا) والتي تعني الجبال العالية وهي اليوم مدينة كركوك حاليا (شمال مدينة بغداد 260كم) الغنية بآبار النفط وفيها أكبر حقل نفطي منتج يدعى (بابا كركر). تعيش مجد اللحظة في ارتحال الذاكرة وربما رحلة جلجامش من أجل الحصول على نبتة الحياة دليل على سعة الخيال في رغبة البشر بصناعة رحلة، وبدء كل رحلة هي مدينة، فكانت أوروك مدينة جلجامش ومنها ساح في هوى البحث عن خلوده، وربما قاده البحر والرغبة الغامضة ليصلَ ساحل طنجة مع خله ورفيقه (أنكيدو) في سفرةٍ ملأى بالمغامرةِ والحكمةِ والبطولة.
افترض سيدوري حانة في طنجة، وأفترض (سي خليل الساهي مع شمس روحه شاعراً) وأفترض نفسي رحالاً، لينشر الضوء عباءته وأنا أجاهد بإقناع سي خليل ليذهب معي إلى حانة سيدوري، واخترت لها مكانا بجانب فندق المنزه الذي بني في (1930).. لم يوافق الرجل أول مرة، لأنهم كانوا يرفضون جلوسه اعتقادا منهم أن الأمكنة الراقية لا تصلح للساهين والمتسولين، لكني قلت له:
ـ أنت ضيفي وسأدفع مشاريبك كلها.
قال: حتى الأركلية بالفريز.
قلت: ولو أردتها بتفاحتين أيضاً.
ابتسم وقال مبتهجاً: على بركة الله إلى المقهى.
في المقهى. النهار عطر من ضوء متشح زرقة وسيقان تمشي وعوادم سيارات. يتأمل الرجل جلسته وهو يدفع بملابس لوَنها تراب الجلوس على الأرصفة، يُعدلُ من وضعه، يطلبُ أركليةً وشاياً أخضر. أطلب مثله، وأتركه ينتشي بالدخان كبحَّار بعد طول مفارقة البحر. أقول له: هل ترى البحر؟ يرد: وأعيشه صادقاً. أقول: وهل تملك شيئا له لتقوله؟
يرد: إنه المعنى، وخاطرة المسافرة، ونظرة العين .
أردت أن أعي منه سر الارتحال. فكان يدلهم بالنظر صوب مفقود يظهر أمام ناظريه. أسأله، فيطيل النظر. ثم يهجس بكلام، هو ما وددت أن أستكمل فيه رؤيا السفر من مغامرة السياحة في روح المدينة. فحسبت الأمر شرودا، لكنه أفتى بمحبته للحظته الجديدة وقال: الشعر في الارتحال وصال. ومن يرحل، زاده لغته قبل رغيف جوعه، وكل رؤى ناظرة لمدينة حاضرة لا تشع إلا مع قصيدة حائرة..... قلت: ولمَ الحيرة؟ قال: لأنها تدلنا على القصد. قلت: ومن يدرك في الدلالة رؤياه؟ قال: الذي يبحث عن مدينته في الخرائط التي لا تُرى. وقلت: وما الذي لا يُرى؟ قال: غيب المدن. قلت: وهل طنجة منها؟ قال: منها وفيها. قلت: وأين الشعر من هذا؟ قال: في اللب تماماً، ادنُ وستراه. مدَّ أصابعه إلى أفق بعيد، المدينة وأسوارها، أبراج المآذن والكنائس، الثياب المنشاة على السطوح، أقواس بيوت من معمار قوطي، شجر يتسلق حافة الشوارع، امرأة تهز وركيها من نافذة بعيدة، لقلق على برج يلقي بعطاسه على المارة، شيخ يجرعربة يبيع بها قواقع مسلوقة وحارة. طفل يحمل رغيفا بحجم صحن طائر. المدينة تصنع لحظتها. أسمع من بعيد أجراسا تغني وهي معلقة في رقبة بغلة. أحدهم قال بالاسبانية: إنه ابن بطوطة عاد ثانية إلى المدينة مع بغلته..!
والآن.. رؤاي تكبرُ، والمسافة بين القصيدة والمدينة كتاب سفر. أطعت رؤاي ومشيت على حافة التذكر والتبصر ومراجعة التأريخ لأمسك من جسد المدينة شيئا. أحفر بأخاديد يومها، أعيد أجمل اللحظات والأمكنة، حانات شكري ومقاهيه، خواطر طارق بن زياد وملاحظات جان جينيه وفكرة بول بوولز عن أهل طنجة. رؤى الخان العظيم ودهشة الكلام عند سي خليل، وغبار أزمنة طنجة في مكتبة (علي بودرار)، همسة الوجد لنوافذ مملوءة برائحة النساء عبر النافذة العريضة في غرفتي بفندق أطلس في شارع موسى بن نصير. الخبز الحافي والقراءة التي تؤدلج روح البحث، التجوال في المدينة وصناعة قيظ من دموع البحر. السفر إلى اصيلة، العرائش، تطوان. تناول أكلات طبخت بطاجين مصنوع من فخار أحمر ومزخرف بحروفٍ أمازيغية وبيوت شعر من موشحات أندلسية. أشياء أخرى ألفتها قدماي في أزقة طنجة القديمة، وزيارات قليلة للمقبرة التي حوت قبر شكري وسيد الرحلة الأسطورية. كل شيء كان يضيء بلحظة مشاهدة واستدراك لتحصل على اشتياق يرتقي بك للحظة تخلد مدينة من خلال رائية الشعر وبها يكتمل ترحال من نوع آخر. اكتمال يرتقي فيه هاجس التوصل إلى شيء. شيء يجعلنا نعي ونفهم معنى السفر وهو يقرأ أجساد المدن وما فيها من حياة.
لقد كانت طنجة جزءاً من بهجة صنعتها صدفة قدر، وعلي أن أهدي التحية لأولئك الذين صنعوا بهجة مدينة من خلال ترحالهم معي في كل جغرافيات التذكر والمشاهدة قُدام البحر وصنع الميتافيزيقيا الطيبة التي أحاول بها أن أضع طنجة جنباً إلى جنب مع دلمون وما تخيله الأمير النحيف أور ـ نمو وهو يدفع بزقورته السومرية باتجاه السماء. لقد صار وعي القصيدة في رحلة كهذه وعي المدينة. مدينة تبدأ ولا تنتهي. وحين تتعاكس معها الأقدار. تنتهي وتبدأ في ذات لحظة الانتهاء، إنها من المدن التي لا ترضى أن تتحول رماداً أو تنام في قاع النسيان كما اطلنطس. ولذا فإن بهجة الرحلة ليست فقط قراءة روحية في جغرافية مدينة إسمها طنجة، بل إنها قراءة لأبعاد شتى في وجود مدينة، مدينة ولدت بإسطورة وظلت تعيش في الحقيقة والمخيلة كما الأسطورة دائما....

طنجة 13/ يوليو/ 2006



#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معزوفات تحت أجفان المطر
- خواطر طارق بن زياد في طنجة
- قصص قصيرة لجدتي الخطيرة ...
- المرأة ، الرجل ( المسافة بينهما )...!
- طنجة ...وصناعة فردوس متخيل كقصيدة
- رائحة المكان الأول ...
- وردة الكاريبي بموسيقى معسكر التاجي()
- الروحاني الذاهب إلى عينيك
- داخل الوردة... خارج الشكل
- قصائد إلى نساء الهنود الخضر ..
- قصيدة حب إلى شيخ المندائيين...
- طنجة وغرباؤها ، جان جينيه وبول بوولز أنموذجان
- صوفية المكان السومري ..
- دع الوردة تنبت بين شفتيك...
- شيء عن مدينة العمارة العراقية...
- الماركسي الطيب ، ( هل أصبح أسطورة الأولين )..!
- رائعة كافافيس : ( جسد ذكوري بعطر النعناع ) ...
- السياب ورؤيا البلاد ..
- اليونسكو ...دمع أور ، يُسفح مرة أخرى .....................!
- الفنان أحمد الجاسم ..صباح أور ..صباح برلين*


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - طنجة ..والقصائد وعيون البحر والنساء