أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟















المزيد.....



اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 2687 - 2009 / 6 / 24 - 09:55
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ليس من السهل التعميم في الحديث عن وضع اليسار في قارة بمجملها، وخاصة قارة كالقارة الأوروبية، متعددة الثقافات واللغات والقوميات والإثنيات والأديان والمعتقدات، وزاخرة بالتجارب التاريخية المتنوعة وبالنزاعات والحروب طوال معظم تاريخها، وفي الوقت ذاته غنية بالإسهامات الفكرية والعلمية والثقافية والفنية في شتى المجالات.
ولكننا سنحاول، رغم ذلك، رسم صورة، ولو تقريبية وأولية، للتطورات الأخيرة في وضع اليسار في هذه القارة، مركّزين على بلدان الإتحاد الأوروبي، الذي يضم غالبية سكان القارة، ومستعينين بنتائج إنتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الأسبوع الأول من شهر حزيران/يونيو في الدول السبع والعشرين العضوة في الإتحاد، دون تجاهل كون هذه الإنتخابات لها سماتها الخاصة المختلفة عن الإنتخابات الداخلية في كل بلد، وهو ما أظهره، على أية حال، ضعف الإهتمام الشعبي بها في معظم بلدان الإتحاد، كما أظهرت ذلك النسبة المتدنية للمشاركة فيها، حوالي 43 بالمئة من الناخبين المفترضين.
***
ولا بد من التذكير هنا بأن تعبير "اليسار" هو أوروبي المنشأ، وكذلك مفهوم "الإشتراكية" والعديد من المفاهيم والمصطلحات اليسارية الأخرى، التي أصبحت مألوفة ودارجة في عالمنا. كما ان أوروبا هي قارة المنشأ للفكر اليساري المعاصر، الذي تبلور في مرحلة متقدمة من النمو الرأسمالي الذي بدأ في هذه القارة. كما ان أوروبا هي، من جانب آخر، قارة المنشأ للفكر القومي المعاصر، الذي انتشر في أنحائها بشكل واسع خلال القرن التاسع عشر، ومنها انتقل الى العديد من مناطق العالم الأخرى.
وقبل ذلك كله، كانت أوروبا مسرحاً، في العصور الوسطى وفي مراحل الخروج الأولى منها، لكل أشكال التطرف الديني والتصفيات والصراعات الدموية على خلفية دينية ومذهبية وإثنية. ولاحقاً، خلال القرن الماضي، كانت هذه القارة مصدر اندلاع أكبر حربين في تاريخ البشرية وأكثرها دموية وتدميراً، حربين امتدتا لتشملا مناطق واسعة أخرى في أنحاء العالم.
***
ولكننا لن نتحدث هنا طبعاً عن كل هذه التيارات والخلفيات التاريخية، وسنقصر حديثنا عن الوضع الراهن لليسار في أوروبا. ونترك على حدة وبشكل مقصود، في حديثنا هذا، بلداً هاماً مثل روسيا، هو في الواقع أوروبي وآسيوي في آن واحد، وله سماته الخاصة المتميزة عن بلدان أوروبا الأخرى وتراثه السياسي والإجتماعي مختلف كثيراً عن تراث وتاريخ معظم بلدان القارة الأخرى. وتطور وضع اليسار فيه، بعد زهاء العقدين على انهيار التجربة السوفييتية، هو موضوع مهم بالتأكيد، ويحتاج الى تناول خاص في مجال آخر.
وجدير بالتذكير أن الثورة الفرنسية، التي انطلقت في العام 1789، هي التي شهدت نشوء تعبيري "اليسار" و"اليمين" كتوصيفين سياسيين، كما شهدت بدايات تشكل أنوية وحركات يسارية جذرية، ستعطي في العقود اللاحقة أفكاراً وحركات حفرت عميقاً في مسيرة البشرية المعاصرة. فبعد أقل من نصف قرن على هذه الثورة، بدأت أفكار اليسار الجذري المعاصر في التبلور، وبرز من بينها، بشكل خاص ولكن ليس حصرياً، فكر ومساهمات كارل ماركس وفريدريش إنغلز، الألمانيي المولد. وهي أفكار ستترك بصمات عميقة على تاريخ أوروبا المعاصر منذ أواسط القرن التاسع عشر، ومن ثمّ على تاريخ العالم كله طوال القرن العشرين.
وبالرغم من كل ما تركه انهيار التجربة السوفييتية من تراجع لحضور هذا الفكر وقوته على الأرض، إلا ان مظاهر عدة في بدايات هذا القرن الجديد تشير الى استمرارية الخيار اليسار الجذري كخيار مطروح على جدول أعمال عدد من التجارب الراهنة في العالم، وخاصة في السنوات الأخيرة في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، وبعض البلدان الأخرى في مناطق العالم المختلفة. هذا، علاوة على كون الأزمة الإقتصادية العالمية، التي اندلعت بجانبها العلني الصاخب في النصف الثاني من العام المنصرم، أعادت الإهتمام بأدبيات اليسار الجذري، وتحديداً كتابات كارل ماركس حول النظام الرأسمالي، كما أشّرت لذلك ظاهرة لفتت الإنتباه في موطن ماركس نفسه، ألمانيا، أكثف بلدان القارة سكاناً خارج روسيا، حيث تزايد الإهتمام بمؤلفاته، بما في ذلك مؤلفه الأهم "رأس المال"، كما نقلت وسائل الإعلام الواسعة في حينه.
ولكننا لن ندخل هنا في سجال حول هذا الجانب المتعلق بدور ومكانة الفكر الماركسي تحديداً في عالم ما بعد انهيار التجربة السوفييتية، حيث سبق وتناولناه في مجالات أخرى، وسنكتفي بالحديث عن وضع اليسار راهناً في القارة الأوروبية.
ومن المفيد أن نشير هنا الى أننا نستعمل تعبير "اليسار" بالمفهوم الذي يُستخدم فيه في القارة الأوروبية، مميّزين بين ما سنطلق عليه تعبير "اليسار الجذري"، الذي يتمسك بالدعوة والعمل من أجل تجاوز النظام الرأسمالي واستبداله بنظام إقتصادي إجتماعي آخر، وبين تلاوين أخرى من "اليسار"، تُوصف أحياناً بـ"يسار الوسط"، هي أقل طموحاً وأكثر نزوعاً للتأقلم مع النظام الرأسمالي والتعاطي معه من داخله، والمراهنة، بدرجات متفاوتة بين تيار وآخر، على إجراء إصلاحات فيه.
وفي هذا السياق، فإن مفهوم "اليسار" ليس مقتصراً على التيارات ذات المرجعية الفكرية الماركسية، حتى بالنسبة لـ"اليسار الجذري". وقد أوضحنا ذلك في مؤلف صدر لنا سابقاً، ولن نعود الى هذا الموضوع في سياق حديثنا هنا عن تطورات أخيرة متعلقة بوضع اليسار في أوروبا في السنوات الأخيرة، وعلى أرضية وخلفية انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت مؤخراً، كما سبق وأشرنا.

انعكاسات سلبية لانهيار التجربة السوفييتية... وعوامل أخرى للتراجع

ومن المفيد أن نعيد الإشارة هنا الى انه، بالرغم من الحيوية السياسية والفكرية التي استمرت في العديد من البلدان الأوروبية، الغربية خاصةً، طوال عمر التجربة السوفييتية (1917-1991)، إلا ان من الواضح الآن أن انهيار التجربة السوفييتية في أواخر القرن الماضي قد أثّّر سلباً على القوى اليسارية عامةً في أوروبا، كما، وبأشكال أخرى، وأحياناً على نطاق أوسع، في غيرها من مناطق العالم، مرةً أخرى باستثناء منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي.
وهذا التأثير السلبي لم يكن مقتصراً على تلك القوى اليسارية الأوروبية التي كانت قريبة من الحزب الشيوعي السوفييتي ومتشاركة معه في أطر جماعية أو علاقات تحالفية، بل هو شمل أيضاً قوى يسارية أقل قرباً من الحزب الذي كان حاكماً في الإتحاد السوفييتي حتى تفككه في العام 1991. وإشارتنا الأخيرة هذه تتناول، بشكل خاص، مسار الحزب الشيوعي الإيطالي، أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى أواخر الثمانينيات الماضية، سواء من حيث عدد الأعضاء أو الوزن الإنتخابي. ومعروف أن هذا الحزب حافظ على استقلالية فكرية وسياسية تجاه الحزب الشيوعي السوفييتي في العقود الأخيرة من التجربة السوفييتية خاصةً، ووصل الى حد الإفصاح العلني عن وجود مسافة اختلاف بينه وبين الحزب الشيوعي السوفييتي قبل عقدين على الأقل من انهيار الإتحاد السوفييتي.
ورغم ذلك، كما سنرى، لم يكن هذا الحزب، والمجموعات اليسارية المختلفة التي انبثقت عنه بعد الإعلان عن حلّه رسمياً في العام 1991، بمنأى عن التأثيرات السلبية لانهيار التجربة السوفييتية للتحول الإشتراكي. فيما كانت مثل هذه التأثيرات منطقية، طبعاً، بالنسبة لأحزاب وقوى كانت أقرب الى الحزب الشيوعي السوفييتي في غربي القارة الأوروبية، وهو ما ينطبق على عدد من الأحزاب الشيوعية في بلدان تلك المنطقة. والأمر غالباً ادهى بالنسبة لتلك الأحزاب التي كانت حاكمة في بلدان أوروبا الشرقية التي كانت منضوية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية تحت لواء التجربة السوفييتية والإتحاد السوفييتي، وحتى بالنسبة لتجربتي كلٍ من ألبانيا ويوغسلافيا اللتين حافظتا على مسافة واحتفظتا بهامش من الخلاف والإختلاف عن التجربة السوفييتية وقياداتها. وشمل التراجع طبعاً تلك القوى والأحزاب التي كانت جزءً من الحزب الشيوعي السوفييتي قبل تفككه في العام 1991، وتحوّل جمهورياته الخمس عشرة، الأوروبية منها والآسيوية، الى دول مستقلة ومتفاوتة السمات والصلة بالماضي الفكري والسياسي.
***
ولنبدأ بالحديث عن عدد من أكبر الأحزاب الشيوعية في بلدان أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، مثل الحزبين الشيوعيين في إيطاليا وفرنسا، اللذين نجحا في تحقيق حضور قوي وبارز لهما في الخارطة السياسية للبلدين بعد الحرب، خاصةً بفعل دورهما المميّز في مقاومة الفاشية والإحتلال النازي الألماني.
كما كان للحزب الشيوعي في اليونان، البلد الواقع في الجنوب الشرقي للقارة الأوروبية، دور بارز أيضاً في المقاومة التي خيضت ابان الحرب العالمية، التي تعرضت خلالها اليونان لمحاولة الإحتلال من قبل قوات إيطاليا الفاشية ثم قوات ألمانيا النازية. ولكن هذا الحزب واجه بعد الحرب مباشرةً تدخلاً خارجياً مباشراً من قبل بريطانيا أولاً، ولاحقاً من قبل الولايات المتحدة، لمنع وصول اليسار الى السلطة في هذا البلد ولإسناد النظام الملكي الضعيف واليمين اليوناني. وهو تطور نتج عنه منع الحزب الشيوعي اليوناني من العمل العلني في البلد لعدة عقود، خاصة إثر ما عُرف باسم "الحرب الأهلية اليونانية" التي دارت في أواخر الأربعينيات الماضية، وشكّلت، في حينه، إحدى الجبهات الساخنة من "الحرب الباردة"، التي أطلقها الأميركيون والبريطانيون، بشكل خاص، في العامين 1946- 1947 على الإتحاد السوفييتي والقوى الشيوعية واليسارية في العالم، واستمرت حتى انهيار الإتحاد السوفييتي.
بالمقابل، في الجناح الغربي من جنوب القارة الأوروبية، تعرّض اليسار في إسبانيا منذ أواسط الثلاثينيات الماضية لقمع شديد اتخذ طابعاً دموياً ابان ما عُرف أيضاً باسم الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، واستمر هذا القمع طوال أربعة عقود، بعد انتصار قوى اليمين والتيار الفاشي في هذه الحرب، بقيادة الجنرال فرانثيسكو فرانكو، الذي سيطر على الحكم في إسبانيا منذ العام 1939 وألغى الحريات الديمقراطية فيها، وهو وضع استمر حتى وفاته في العام 1975، حين بدأت عملية انفتاح متدرج، ما لبثت أن أفسحت المجال مجدداً أمام التعددية الحزبية وأعادت الإعتبار للحريات الرئيسية.
وعاش البرتغال، البلد المجاور لإسبانيا والواقع في أقصى جنوب غرب القارة الأوروبية، وضعاً شبيهاً في ظل نظام فاشي استمر زهاء نصف القرن، منذ العشرينيات الماضية وحتى تمت الإطاحة به في العام 1974 بثورة قادها ضباط يساريون في الجيش البرتغالي وعُرفت باسم "ثورة القرنفل". وقد فتحت هذه الثورة الباب أمام التعددية السياسية وحرية التنظيم اللذين كانا مفقودين حتى ذلك الحين في البلد.
وفي كلا البلدين، إسبانيا والبرتغال، كان لليسار الجذري بعد انهيار النظامين الفاشيين حضور قوي ومرئي في العمليات الإنتخابية، كما في الشارع. وكان الحزبان الشيوعيان في البلدين يحصلان على نسبة عالية من الأصوات، الى جانب قوى يسارية أخرى كان لها حضور في البلدين.
***
كل هذه الأحزاب الشيوعية، وغالبية القوى اليسارية الجذرية في القارة الأوروبية، شهدت تراجعاً في نفوذها الشعبي خلال العقدين الأخيرين خاصة، وإن كان التراجع بدأ، بالنسبة لبعضها قبل ذلك بسنوات، مع هجمة قوى اليمين الرأسمالي على قوى اليسار والتنظيمات النقابية في مرحلة العولمة الجديدة، التي بدأت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ومع تطبيقات "الليبرالية الجديدة" في مجال خصخصة القطاع العام والتراجع عن بعض الضمانات والمكتسبات الإجتماعية في عدد من البلدان الأوروبية. وهي تطبيقات جرت أحياناً على أيدي أحزاب يسار الوسط، أي التيار الإجتماعي الديمقراطي، أو تيار الأحزاب المنتمية لـ"الدولية الإشتراكية"، المعروفة في القاموس اليساري باسم "الأممية الثانية". وهو ما جرى، مثلاً، في بلد مثل فرنسا في ظل حكم "الحزب الإشتراكي" ورئيسه آنذاك فرانسوا ميتيران، في مطلع الثمانينيات الماضية، وجرى لاحقاً في بلدان أوروبية أخرى. كل هذه التطورات وجملة أخرى من العوامل الخاصة بكل بلد وحزب أدت الى تراجع نفوذ وحضور العديد من هذه الأحزاب، حتى قبل انهيار التجربة السوفييتية.
***
إنتخابات البرلمان الأوروبي: نتائج غير مريحة لليسار في معظم البلدان

وفي عودة الى الإنتخابات الأوروبية الأخيرة ونتائج قوى اليسار فيها، نبدأ بالقول أن التيار اليساري الجذري في إيطاليا لم ينجح في تحقيق أي تمثيل له في البرلمان الأوروبي، لأول مرة منذ بدء انتخابات البرلمان الأوروبي في العام 1979، حيث حصل إئتلاف تشكّل من عدد من أحزاب هذه الحركة على أقل من 4 بالمئة من الأصوات، مما لم يعطهم أي مقعد. وهي نتيجة مشابهة لما جرى في الإنتخابات النيابية التي جرت في إيطاليا نفسها في نيسان/أبريل 2008، حيث لم يتمكن إئتلاف يساري من أربعة تنظيمات تنتمي الى اليسار والى مجال الدفاع عن البيئة، وأُطلق على نفسه اسم "اليسار - قوس قزح"، من الحصول على أي مقعد في مجلس النواب الإيطالي، وهو ما اعتبره اليمين الإيطالي المنتصر في تلك الإنتخابات ورئيس حكومته سيلفيو بيرلوسكوني إنجازاً كبيراً، تمثّل في غياب كامل لـ"الشيوعيين" عن مجلس النواب الإيطالي للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وجدير بالتذكير أن الحزب الشيوعي الإيطالي التاريخي تأسس في العام 1921، وكان القائد النقابي والمفكر البارز أنطونيو غرامشي أحد أبرز قادته في سنواته الأولى وحتى وفاته في العام 1937، ووصل الحزب الى أوج نفوذه الإنتخابي وحضوره في الشارع في أواسط السبعينيات الماضية وأوائل الثمانينيات، حين اقترب عدد أعضائه من المليوني عضو وتجاوز رصيده الإنتخابي ثلث القاعدة الأنتخابية، أي أكثر من 34 بالمئة من أصوات المقترعين، الى أن تم الإعلان عن حله رسمياً في مطلع العام 1991، كما سبق وذكرنا. حيث تحولت غالبية الحزب بعد ذلك الى مواقع يسار الوسط، مواقع "الدولية الإشتراكية"، فأصبحت عضواً فعلياً فيها، وحمل هذا التيار في البداية اسم "حزب اليسار الديمقراطي"، ثم "ديمقراطيي اليسار"، ومؤخراً تشارك مع أطراف أخرى في تشكيل حزب أوسع إطاراً حمل اسم "الحزب الديمقراطي".
وعموماً، حتى هذا الحزب الأخير، الذي بات الآن الحزب الثاني في إيطاليا من حيث الوزن الإنتخابي، لم يحقق نتيجة مُرضية في الإنتخابات الأوروبية الأخيرة، حيث حصل على حوالي 26 بالمئة من الأصوات، مقابل أكثر من 35 بالمئة لحزب بيرلوسكوني اليميني، وهي نتيجة متقاربة مع تلك التي تحققت في الإنتخابات الأخيرة لمجلس النواب الإيطالي في ربيع العام 2008، والتي فازت فيها قوى اليمين، الحاكمة حالياً في هذا البلد، كما سبق وذكرنا.
وبالمقابل، في فرنسا، تمكّن الحزب الشيوعي الفرنسي، متحالفاً مع تنظيمين يساريين جديدين صغيرين، أحدهما انشق عن الحزب الإشتراكي، وحمل هذا التحالف اسم "جبهة اليسار"، من الحصول على حوالي 6،5 بالمئة من الأصوات و5 مقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة. في حين لم يتمكن حزب يساري آخر حمل اسم "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية"، تشكّل هو أيضاً في مطلع العام الحالي، بقيادة المرشح الشاب في الإنتخابات الرئاسية للعامين 2002 و2007، أوليفييه بيزانسونو (من مواليد العام 1974)، من الدخول الى البرلمان الأوروبي، مع انه حصل على نسبة أصوات 4،88 بالمئة، تُعتبر جيدة بالنسبة لحزب حديث مثله، وإن كان قادته كانوا يطمحون الى أكثر من ذلك، حيث كانت استطلاعات الرأي تعطيهم ضعف هذا الرقم تقريباً بعد تشكل الحزب مباشرة في شباط/فبراير الماضي.
من جانب آخر، شهدت هذه الإنتخابات صعوداً مثيراً لتكتل جديد حمل عنواناً مرتبطاً بالبيئة في القارة (أوروبا- إيكولوجيا)، وجمع في صفوفه تيارات متنوعة من أنصار البيئة والحركات الإجتماعية والحركات المناهضة للعولمة الرأسمالية، بقيادة شخصية كاريزمية تاريخية مثيرة للجدل، هو دانييل كون بنديت، الألماني الأصل والفرنسي المولد، والذي كان أبرز قادة الحركة الطلابية التي أشعلت انتفاضة أيار/مايو 1968 الشهيرة في فرنسا. فقد حصل هذا التكتل المتنوع على أكثر من 16 بالمئة من الأصوات، وجاء في المرتبة الثالثة بين القوائم الحزبية الفرنسية، بعد الحزب اليميني الحاكم، حزب الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، والحزب الإشتراكي الفرنسي، حزب المعارضة الرئيسي، الذي حقق نتيجة تُعتبر من أضعف النتائج في تاريخه المعاصر، حوالي 16،5 بالمئة، مما كاد يهدد بفقدانه لموقعه الثاني لصالح التكتل البيئوي المشار إليه. فقد حصل هذا التكتل البيئوي، في نهاية المطاف، على نفس عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب الإشتراكي في البرلمان الأوروبي، 14 مقعداً. ومن الصعب تصنيف هذا التكتل البيئوي في خانة اليسار، خاصةً وأن آراء زعيمه دانييل كون بنديت غير تقليدية بالنسبة للعديد من القضايا. ولكن عدداً من رموز هذا التكتل مرتبطة تاريخياً باليسار وبمناهضة العولمة الرأسمالية، مثل القائد النقابي المدافع عن قضايا الريف ضد غزو الشركات الكبرى، جوزيه بوفيه، والذي كان قد قام في السنوات الماضية بعدة زيارات تضامنية للمناطق الفلسطينية المحتلة، وشارك في عدد من المواجهات التي جرت مع قوات الإحتلال الإسرائيلي.
وفي إسبانيا، لم تتمكن قائمة "اليسار" المتشكلة من 6 أحزاب وكتل، من بينها "اليسار الموحد" الذي يشكّل الحزب الشيوعي الإسباني الثقل الرئيسي فيه، من تحقيق أكثر من 3،73 بالمئة من الأصوات، مما أعطاها مقعدين في البرلمان الأوروبي، من أصل 50 مقعداً مخصصاً لإسبانيا فيه. في حين حصل إئتلاف واسع آخر من أحزاب يسارية تمثّل قوميات مختلفة في البلد وأحزاب مدافعة عن البيئة على أقل من 3 بالمئة من الأصوات وعلى مقعد واحد في البرلمان. وكان "اليسار الموحد" بقيادة الحزب الشيوعي قد حصل على نتائج مماثلة في الإنتخابات النيابية الأخيرة في إسبانيا في العام 2008، حيث حصل على أقل من 4 بالمئة من الأصوات ومقعدين في المجلس النيابي الإسباني، في حين كان الحزب الشيوعي و"اليسار الموحد" في فترات سابقة يتجاوزان الـ 10 بالمئة من الأصوات.
أما في البرتغال، البلد المجاور لإسبانيا، فقد حقق فيه اليسار الجذري نتائج متقدمة نسبياً. حيث حصلت كل من كتلة اليسار، وإئتلاف الوحدة الديمقراطية، والأخير يتشكل بشكل رئيسي من الحزب الشيوعي البرتغالي وحزب الخضر، على حوالي 10،7 بالمئة من الأصوات لكل منهما، مع فارق ضئيل في حجم الأصوات لصالح الكتلة الأولى، مما أعطاها 3 مقاعد مقابل مقعدين للكتلة الثانية، وذلك من أصل 22 مقعداً مخصصاً للبرتغال في البرلمان الأوروبي. علماً بأن الحزب الإشتراكي الحاكم في البلد حصل على 7 مقاعد فيما حصل حزب اليمين المعارض، الحزب الإجتماعي الديمقراطي، على 8، وتكتل يميني آخر حصل على المقعدين المتبقيين.
كما يمكن الإشارة، في السياق ذاته، الى حزب يساري في جمهورية التشيك يحمل اسم الحزب الشيوعي لبوهيميا ومورافيا، وهما المنطقتان الكبيرتان اللتان تتشكل منهما هذه الجمهورية، التي كانت قبل العام 1993 جزءً من جمهورية تشيكوسلوفاكيا، قبل أن ينفصل طرفا الجمهورية بالتراضي في مطلع ذلك العام ليشكّلا جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا. وقد دأب الحزب الشيوعي لبوهيميا ومورافيا منذ مطلع القرن الجديد على تحقيق نتائج إنتخابية متقدمة، حيث حصل في الإنتخابات النيابية التشيكية في العام 2002 على 18،5 بالمئة من الأصوات، وفي الإنتخابات الأوروبية ما قبل الأخيرة في العام 2004 على المرتبة الثانية بين الأحزاب التشيكية، مما أعطاه ربع المقاعد المخصصة للتشيك في البرلمان الأوروبي. وفي الإنتخابات النيابية التي جرت في العام 2006 حصل على 12،8 بالمئة من الأصوات، وجاء في المرتبة الثالثة بعد حزب اليمين الرئيسي، الحزب المدني الديمقراطي، وحزب يسار الوسط، الحزب الإجتماعي الديمقراطي، على التوالي. وفي الإنتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، التي نحن بصددها، جاء هذا الحزب اليساري أيضاً في المرتبة الثالثة بعد حزب اليمين وحزب يسار الوسط، وحصل على حوالي 14،2 من الأصوات و4 مقاعد من أصل 22 مقعداً مخصصة لجمهورية التشيك. وجدير بالإشارة أن هذا الحزب، الذي لديه أكثر من 80 ألف عضو، وهو رقم متقدم في بلد خرج من تجربة تحوّل إشتراكي، يتعرض لجملة من القيود من قبل الأطراف اليمينية في البلد التي تسعى الى تقييد مجال عمله وبرنامجه السياسي. وبعض هذه الأطراف سعى حتى الى منع الحزب، ولكن دون جدوى حتى الآن.
أما في ألمانيا، فقد حصل حزب "اليسار"، الذي كان قد عقد مؤتمره التأسيسي في أواسط العام 2007، على نسبة 7،5 بالمئة من الأصوات في الإنتخابات الأوروبية، وهي نسبة أقل مما حصل عليه الحزب في الإنتخابات النيابية الألمانية الأخيرة التي جرت في العام 2005، حين حصل على 8،7 بالمئة من الأصوات وجاء في المرتبة الرابعة بين أحزاب البرلمان الألماني، البوندستاغ، قبل حزب الخضر، في حين جاء في الإنتخابات الأوروبية في المرتبة الخامسة حيث تجاوزه حزب الخضر، الذي جاء فيها في المرتبة الثالثة بين الأحزاب الألمانية، في حين جاء الحزب الليبرالي، "الديمقراطي الحر"، في المرتبة الرابعة. وجاء إئتلاف يمين الوسط بزعامة أنغيلا ميركيل، المستشارة الحالية لألمانيا في المرتبة الأولى، بينما جاء حزب يسار الوسط، الحزب الإجتماعي الديمقراطي، المشارك في الحكومة الإئتلافية الحالية في ألمانيا، في المرتبة الثانية، بمسافة عن الحزب الأول.
وجدير بالإشارة أن ألمانيا ستشهد انتخابات نيابية خاصة جديدة في أيلول/سبتمبر القادم، ويجري التنافس على موقع المستشار فيها بين كل من أنغيلا ميركيل ومرشح حزب يسار الوسط للمستشارية فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية الحالي. وتتوقع استطلاعات الرأي حتى الآن نجاح ميركل بشكل واضح، بحيث تتمكن من تشكيل إئتلاف يميني- وسطي صرف، أي بدون الحزب الإجتماعي الديمقراطي، المشارك، كما ذكرنا، في الحكومة الحالية منذ انتخابات العام 2005. حيث من المتوقع أن يتحالف حزب ميركل، بعد الإنتخابات الألمانية القادمة، مع الحزب الديمقراطي الحر، الذي يتبنى الليبرالية الإقتصادية ومواقف سياسية واجتماعية قريبة من مواقف حزب ميركيل، وهو الحزب الذي جاء في المرتبة الرابعة في الإنتخابات الأوروبية على صعيد ألمانيا، كما ذكرنا.
***

اليمين التقليدي يتفوق على يسار الوسط... واليمين المتطرف يتقدم

وعلى أية حال، كان واضحاً في هذه العملية الإنتخابية الأوروبية أن قوى اليمين التقليدي، أو يمين الوسط، حققت نتائج متقدمة في هذه الإنتخابات، حيث حققت تقدماً على القوى الأخرى في دول تحكمها هذه الأحزاب اليمينية، مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبولندا والدانمرك، وحتى في دول تحكمها أحزاب تنتمي الى تيار يسار الوسط، مثل إسبانيا والبرتغال وبريطانيا والمجر.
وبشكل عام، أشّرت هذه الإنتخابات الى تراجع تيار يسار الوسط في مجمل الإتحاد الأوروبي، علماً بأن هذا التيار لا يقود حالياً سوى 8 فقط من الحكومات الـ27 لدول الإتحاد. وهناك استثناء بارز لهذه السمة العامة، هو حالة اليونان، حيث تقدم حزب يسار الوسط، الحركة الإشتراكية لعموم اليونان، المعروف بالأحرف الأولى اليونانية لاسمه "باسوك"، وهو بقيادة جورج باباندريو، ابن رئيس الحكومة الأسبق، أندرياس باباندريو، وحفيد رئيس وزراء أسبق آخر يحمل نفس اسمه، أي جورج، على حزب اليمين الحاكم، حزب الديمقراطية الجديدة، في الإنتخابات الأوروبية.
وحزب "باسوك"، على أية حال، يتصدر استطلاعات الرأي منذ عدة أشهر، وخاصة منذ انفجار التظاهرات الطلابية والصدامات في شوارع اليونان في الشهر الأخير من العام الماضي 2008 إثر مقتل طالب مدرسة برصاص الشرطة اليونانية.
وعلى يسار "باسوك"، حقق كل من الحزب الشيوعي اليوناني وتحالف اليسار الراديكالي نتائج متقدمة نسبياً، حيث جاء الحزب الشيوعي في المرتبة الثالثة من أحزاب البلد بنسبة أصوات اقتربت من 8،4 بالمئة، مما أعطاه مقعدين في البرلمان الأوروبي، من أصل 20 مقعداً لليونان. فيما حصل تحالف اليسار الراديكالي على 4،7 بالمئة من الأصوات وعلى مقعد واحد. وكذلك حصل حزب الخضر على مقعد واحد. وهو ما يجعل الخارطة السياسية اليونانية، خلافاً لمعظم الدول الأوروبية، تميل في غالبيتها الى اليسار، بتلاوينه الجذرية واليسار- وسطية.
ويمكن أن نعتبر قبرص الصغيرة حالة قريبة الى حد ما. حيث حقق حزب اليسار الرئيسي في البلد، وهو الحزب المعروف بالأحرف الأولى لاسمه باليونانية "أكيل"، الحزب التقدمي للشعب العامل، نتيجة تلتقي مع وزنه التقليدي في البلد، حيث حصل على 34،9 بالمئة من الأصوات ومقعدين من المقاعد الستة المخصصة لقبرص في البرلمان. فيما حصلت الحركة من أجل ديمقراطية إجتماعية، المعروفة بأحرفها الأولى "إيديك"، ويمكن تصنيفها ضمن يسار الوسط، على 9،9 بالمئة من الأصوات وعلى مقعد واحد، وتوزعت المقاعد الثلاثة الأخرى على حزبين ينتميان الى اليمين ويمين الوسط. وجدير بالذكر أن رئيس جمهورية قبرص الحالي، ديميتريس خريستوفياس، كان الأمين العام لحزب "أكيل" اليساري بين العامين 1988 ومطلع العام الحالي 2009، وقد جرى انتخابه رئيساً لقبرص في شباط/فبراير 2008، ليكون بذلك أول رئيس لقبرص ينتمي الى هذا الحزب اليساري، مع العلم بأن عدداً من الرؤساء السابقين لقبرص تم انتخابهم بفضل دعم "أكيل" لهم، دون أن يكونوا أعضاء في الحزب.
***
وهنا، لا بد من الإشارة الى ظاهرة لفتت الإنتباه في الإنتخابات الأوروبية الأخيرة، وهي ظاهرة تنامي حضور أحزاب اليمين المتطرف، الأحزاب القومية المتشددة والمناهضة للمهاجرين الأجانب عادةً، وأحياناً للمسلمين منهم بشكل خاص، كما هو حال "حزب الحرية" في هولندا، الذي حصل على 17 بالمئة من الأصوات وجاء في المرتبة الثانية بين أحزاب هولندا. وحقق حزبان يمينيان متطرفان في النمسا ما مجموعه 17 بالمئة من الأصوات. في حين حقق حزب شعبوي جديد في بريطانيا يدعو الى خروج البلد من الإتحاد الأوروبي، ويحمل اسم "حزب استقلال المملكة المتحدة"، نتيجة مفاجئة حين جاء في المرتبة الثانية من أحزاب البلد، بعد حزب المحافظين، وقبل حزب العمال الحاكم. في حين تمكّن حزب يميني متطرف يحمل اسم "الحزب القومي البريطاني" من الدخول لأول مرة الى البرلمان الأوروبي بحصوله على مقعدين وعلى أكثر من 6 بالمئة من الأصوات.
وشهدت المجر ورومانيا أيضاً نجاح نواب من اليمين القومي المتطرف في البلدين. وحدها فرنسا شذت عن قاعدة تنامي قوة اليمين المتطرف، حيث تراجع الرصيد الإنتخابي لليمين المتطرف التاريخي فيها، "الجبهة القومية"، عن وزنه التقليدي، وذلك يعود على الأغلب لكون حزب اليمين الحاكم بزعامة نيكولا ساركوزي قد تمكّن، بشعاراته القومية وخطابه المحافظ، من سحب جزء لا بأس به من قاعدة اليمين القومي المتطرف في البلد، وهو ما ظهر حتى قبل ذلك، في انتخابات الرئاسة والبرلمان الفرنسي التي جرت في ربيع العام 2007.
***
وجدير بالتذكير أن البرلمان الأوروبي يتشكل من 736 نائباً منتخباً، موزعين على الدول الأعضاء الـ27 حسب وزنها السكاني بشكل تقريبي، بحيث تحوز ألمانيا، البلد الأكبر سكاناً، على الحصة الأكبر من التمثيل، 99 نائباً، وتأتي كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا في المرتبة التالية بحصة 72 مقعداً لكل منها، ثم إسبانيا وبولندا بحصة 50 مقعداً لكل منهما، وصولاً الى 6 مقاعد لبلد صغير مثل قبرص، و5 مقاعد للبلد الأصغر في الإتحاد الأوروبي، جزيرة مالطا.
وإثر إنتهاء هذه الإنتخابات والإعلان عن نتائجها في كل بلدان الإتحاد الأوروبي، بات البرلمان الأوروبي يتشكل من أغلبية يمينية، حيث تضم كتلة يمين الوسط الأوروبي في البرلمان والمسماة "حزب الشعب الأوروبي" 277 نائباً، وكتلة يسار الوسط المسماة "حزب الإشتراكيين الأوروبيين" 218 نائباً، وتأتي كتلة "تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا"، من يمين الوسط أيضاً، في المرتبة الثالثة من كتل البرلمان، بما مجموعه 106 مقاعد، وكتلة "الخضر والتحالف الأوروبي الحر" في المرتبة الرابعة بما مجموعه 53 نائباً، وكتلة "اليسار الأوروبي الموحد- واليسار الأخضر لشمال أوروبا" في المرتبة الخامسة مع 34 نائباً. علماً بأن مجمل أحزاب اليمين المتطرف، إذا ما انضوت في إطار كتلة واحدة، يمكن أن تحتل موقعاً متقدماً على كتلة اليسار، ولكن بعض قواها فضلت أن تبقى خارج التكتلات المعروفة في البرلمان، وتبقى في إطار ما يُسمّى بـ"غير المسجّلين"، أي غير المنتمين الى الكتل المعترف بها في البرلمان.
***
ولا شك أن التصويت في كل من هذه البلدان الـ27 للإتحاد في انتخابات البرلمان الأوروبي لا يعكس، بالضرورة، بدقة الخارطة السياسية الخاصة بكل بلد. خاصةً وأن نسبة المشاركة في هذه الإنتخابات كانت، بالمعدّل العام في الإتحاد، محدودة، بالكاد 43 بالمئة من الناخبين المسجلين في عموم البلدان الـ27، وهي أقل نسبة مشاركة في تاريخ البرلمان الأوروبي منذ أول إنتخابات له، في العام 1979. وإن تراوحت نسبة المشاركة بين بلد وآخر، فبلغت 91 بالمئة من الناخبين المفترضين في بلجيكا وفي لوكسمبورغ، وحوالي 79 بالمئة في جزيرة مالطا، مقابل أقل من 30 بالمئة في كلٍ من جمهورية التشيك وبولندا وليثوانيا ورومانيا وسلوفينيا، وحتى أقل من 20 بالمئة في سلوفاكيا.
ولكن، وبالرغم من كون الممتنعين عن المشاركة في الإقتراع هم بذلك "الحزب الأكبر في أوروبا"، كما جاء في بعض التعليقات التي وردت إثر العملية الإنتخابية، وبالرغم من التعاطي المختلف للمواطن الأوروبي مع البرلمان الخاص ببلده ومع البرلمان الأوروبي، الذي لا زال دوره غير واضح التأثير على حياته اليومية نظراً لمحدودية صلاحياته، حتى إشعار آخر، فإن النتائج العامة للإنتخابات الأوروبية تعطي، في معظم الأحوال، كما رأينا أعلاه في مقارنة بين نتائج الإنتخابات الأوروبية والإنتخابات النيابية الخاصة ببعض البلدان، مؤشرات تساعد على قراءة تطورات الخارطة السياسية الأوروبية، وخاصة في ما يعنينا هنا تطورات وضع اليسار الأوروبي، وإن بشكل تقريبي وأولي.
ولا بد من الإشارة هنا الى أن النظام الإنتخابي للمجالس النيابية الخاصة بكل بلد يختلف من بلد أوروبي الى آخر. وكذلك الأمر بالنسبة لانتخابات البرلمان الأوروبي، وإن كان هناك اعتماد، كقاعدة عامة، لصيغة القوائم والتمثيل النسبي في الإنتخابات الأوروبية. فعلى سبيل المثال، تجري الإنتخابات الخاصة بالبرلمان الفرنسي، المعروف في فرنسا باسم الجمعية الوطنية، وفق نظام الدائرة للمقعد الواحد والدورتين في حال عدم تحقيق أي مرشح في الدورة الأولى لأغلبية الأصوات، بينما تجري الإنتخابات للبرلمان الأوروبي في فرنسا وفق نظام التمثيل النسبي في كل من الدوائر السبع التي تقسم إليها فرنسا، بالإضافة الى الدائرة الثامنة التي تتشكل من كافة المستعمرات والجزر والمناطق البعيدة التابعة لفرنسا في أنحاء العالم.
ومن هذه الزاوية، فإن الإنتخابات الأوروبية تعكس أحياناً بشكل أفضل خارطة القوى والتيارات السياسية الموجودة في البلد المعني أكثر من عدد المقاعد في البرلمانات الخاصة بكل بلد، والناجمة أحياناً عن الإنتخابات القائمة على أساس الدوائر، سواء أكان وفق النظام الفرنسي المشار إليه، أو وفق نظام الدائرة الفردية والأغلبية النسبية المتبع في بريطانيا، والذي يجعل بعض الأحزاب غير ممثلة في مجلس العموم البريطاني أو ضعيفة التمثيل مقارنة بنسبة الأصوات التي تحصل عليها في عموم البلد، أو في المناطق التي تتقدم بالترشيح فيها. وهو، مثلاً، حال الحزب الثالث في بريطانيا، الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي حصل في الإنتخابات النيابية البريطانية في العام 2005 على أكثر من 22 بالمئة من الأصوات، ولكن المقاعد التي حصل عليها في مجلس العموم البريطاني تقل عن 10 بالمئة من مقاعد المجلس. في حين أن هذا الحزب حصل على 11 مقعداً في البرلمان الأوروبي، من أصل 72 لبريطانيا، حيث جاء في المرتبة الرابعة في الإنتخابات الأوروبية، مباشرة بعد حزب العمال، الحاكم حالياً في بريطانيا، الذي جاء في المرتبة الثالثة، وحصل فقط على 13 مقعداً.
***
وإذا كان صعود اليمين واليمين المتطرف لافتاً في هذه الإنتخابات الأخيرة، فذلك يحتاج الى تفسير في مجال لاحق، يتناول أيضاً انعكاسات الأزمة الإقتصادية على القارة الأوروبية، وعلى نظرة المواطن الأوروبي لخيارات التعاطي معها لإمكانية الخروج منها في أقرب زمن ممكن.
أما اليسار الأوروبي، اليسار الجذري الذي من المفترض أن يشكّل بديلاً مفترضاً لليمين، المسؤول الأساسي عن هذه الأزمة الإقتصادية وعن تردي الأوضاع المعيشية لقطاعات واسعة من المواطنين، فيبدو أنه ما زال في مرحلة البحث عن صيغ تنظيمية ملائمة، وعن برامج وطرائق عمل جديدة، تستعيد ثقة القطاعات الشعبية الواسعة بطروحات اليسار وبقدرته على شق الطريق لتحقيقها على الأرض.





#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
- على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... ...
- من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق ...
- حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم ...
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...
- -اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما ...
- 90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف ...
- حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
- القرن 21 سيكون قرناً آسيوياً؟
- صعود الصين وتنامي استقلالية روسيا...يؤشران لتوازنات عالمية ج ...
- ملاحظات على هامش إنتخابات الرئاسة في فرنسا
- اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل
- تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟