أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالله تركماني - المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (3)















المزيد.....


المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (3)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 2674 - 2009 / 6 / 11 - 09:55
المحور: المجتمع المدني
    


توصيف عام للمشرق العربي في التاريخ المعاصر
يشكل المشرق العربي وحدة استراتيجية داخل الأمة العربية، بحكم التأثير المباشر لإسرائيل على أقطاره. وهو يمثل المسرح الرئيسي الذي جرت عليه أكثر التفاعلات الصراعية حدة وانتشارا داخل العالم العربي، فبسبب موقعه الاستراتيجي الهام كان هدفا رئيسيا لأبرز محاولات الاختراق الخارجي. وهو امتداد جغرافي كبير من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي والحدود العربية مع إيران وتركيا، أي ما يسمى بالقسم الآسيوي من العالم العربي، وهو يضم منطقتين إقليميتين: أولاهما، إقليم الهلال الخصيب (فلسطين، ولبنان، وسورية، والأردن، والعراق). وثانيتهما، إقليم الخليج والجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، واليمن، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وعمان)، أما مصر فهي المدخل الاستراتيجي للجناحين الآسيوي والأفريقي للعالم العربي. ولكننا، في هذا المبحث، سوف نركز على إقليم الهلال الخصيب بشكل عام، وعلى قطريه الرئيسيين العراق وسورية بشكل خاص.
لقد كانت المقاطعات العربية المشرقية " تشكل وحدة اقتصادية واجتماعية وثقافية متماسكة حتى مطالع القرن التاسع عشر. ولم تكن هناك حدود واضحة بين ولاية وأخرى لأنها تشكلت كمقاطعات داخلية في الدولة المركزية العثمانية قبل أن تؤثر فيها عوامل التفكيك والتجزئة الاستعمارية التي كانت حملة نابليون بونابرت على مصر إحدى بواكيرها الهامة ".
وتمتاز الحركة السكانية في المشرق العربي ببعض السمات التي تحددت بها في القرن التاسع عشر، واتضحت معالمها بعد انهيار الدولة العثمانية. فقد شهدت هذه المرحلة استمرار الروابط المتينة بين سكان المشرق العربي على اختلاف مناطقهم، في ظل وحدة سياسية هـي " الرابطة العثمانية " التي كانت تتآكل من الداخل بمقدار ما تقترب من الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن العشرين.
لقد مر المشرق العربي المعاصر بمرحلتين: الأولى (1919- 1949)، ومثلت عصر الكفاح من أجل الاستقلال الوطني، وهي تشكل الخلفية التاريخية لواقع المشرق العربي المعاصر. والثانية (1950- 1991)، وبدأت بانهيار الحكم المدني وظهور عصر هيمنة العسكر على الحكم، وترسّخ " رأسمالية الدولة الوطنية " في القطرين الرئيسيين في المشرق (سورية والعراق)، وما رافق ذلك من تغييب للحريات الديمقراطية ولدولة الحق والقانون، وانتهت بالغزو العراقي للكويت وتداعياته المدمرة على النظام الإقليمي العربي.
لقد عرفت الدولة الوطنية/القطرية في المشرق العربي، خلال المرحلة الثانية، تحولات أساسية، إذ قامت في سورية والعراق " عصبيات يربطها الانتماء المشترك، الطائفي أو الجهوي أو القبلي، بالسيطرة التدريجية على جهاز الدولة. واستفادت هذه الجماعات، المتميزة بأصولها الريفية، من إنشاء الكيانات الحديثة للانتقال شبه الحر إلى المدينة والإقامة فيها، والتعليم المجاني إجمالا، والانخراط في الأحزاب " الحديثة " وفي القوات المسلحة، من دون أن تتخلى تماما عن عصبيتها الريفية التقليدية. بحيث استطاعت هذه الجماعات أن تستفيد - في الآن معا - من العصبية القديمة المستمرة، ومن المؤسسات الناشئة حديثا، مؤكدة مرة على انتمائها للأولى ومرة أخرى عن تماهيها مع الدولة " الحديثة "، حسب الظروف وحسبما تقتضي المصلحة ".
لقد شكلت بلاد الشام قطبا أساسيا للانبعاث العربي في القرن التاسع عشر، إذ " مكّنها انفتاحها على البحر الأبيض المتوسط من أن تدرك باكرا الخطر الإمبريالي، لكنّ اقتصاد المشرق العربي بقي في حجر النفوذ العثماني راكدا، فقد فقدت المدن السورية التي خرجت من دائرة التجارة القديمة والاستعمار الحديث الذي انفتحت عليه مصر، فقدت نخبها التي كانت تضمها في الماضي. وكما كان الحال في مصر، قام الانبعاث على أكتاف العناصر شبه الشعبية المتحدرة عن الفئات الوسطى: الحرفيون والمشايخ والأدباء ". كما أنّ فئات بورجوازية تجارية متنورة في دمشق وجبل لبنان لعبت دورا هاما في هذا الانبعاث.
لقد تمخضت الأحداث التي أعقبت " الثورة العربية الكبرى " في العام 1916، بل منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عن شبه إجماع على أنّ الاستقلال، والوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية، هي الأهداف العليا التي يسعى عرب المشرق إلى تحقيقها، والتي تمثل مقومات نهضتهم المنشودة. ولكنّ المتأمل – الآن - في تجربة المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يجد أنّ لا الاستقلال ولا الوحدة ولا الديمقراطية ولا التنمية الشاملة تحققت، بما يتناسب مع الاستثمار والجهد اللذين بُذلا من أجل تحقيقها.
ويبدو أنّ الجانب المأساوي في تجربة المشرق العربي المعاصر هو: أنّ طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها لا يتخذ شكل البحث الموضوعي الذي تتراكم نتائجه وإجاباته عبر تجارب الأجيال المتعاقبة، وإنما يطرح كل جيل هذه الأسئلة في فراغ تاريخي، بمعزل عن تجارب الأجيال التي سبقته. وهذا ما يمكن وصفه، كما أورده الدكتور محمد جابر الأنصاري، على النحو التالي " من الظاهرات المفجعة في الحياة العربية الحديثة أنّ البناء الفكري والاجتماعي لا يتراكم طبقة فوق طبقة، ومرحلة بعد أخرى، ليعلو ويتكامل، بل ترى كل جيل يصاب بالخيبة من قناعات الجيل السابق ويضطر إلى هدمها وإعادة التجربة من نقطة البدء ؟ ثم ما يلبث أن يُفْجَعَ بقناعاته ذاتها، فلا يسلّم شيئا ثابتا للجيل الذي يليه، غير مرارة التجربة ".
والسؤال الآن هو: أين يكمن الخلل ؟ هل في مستوى البنى الداخلية لأقطار المشرق العربـي ؟ أم في مستوى التأثير الخارجي ؟ أم في تداخل المستويين الداخلي والخارجي ؟
إنّ الحقيقة التاريخية الكبرى هي أنّ المشرق العربي يمثل نظاما سياسيا وحضاريا مُخْتَرَقاً من قبل الدول الاستعمارية الكبرى. فهو، من حيث كونه منطقة محيطية تربطه بدول المركز الإمبريالي علاقات غير متكافئة، لا يستطيع تحقيق أهداف العرب العليا، لأنّ تلك العلاقات تعتبر معوقة لمسيرته نحو تلك الأهداف. ذلك أنّ في مقدمة الأهداف الأساسية للاختراق الأوروبي، طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تأتي مسألة تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية للسلطنة العثمانية وولاياتها العربية، ولاسيما في بلاد الشام، لتسهيل الاختراق أولا، وضرب النسيج الوحدوي القائم ثانيا، والتخطيط لإقامة الدويلات القطرية التي تعوّق الوحدة المجتمعية ثالثا، والسعي الدؤوب لبناء المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين لمنع وحدة المشرق العربي رابعا، وربط المشرق ربطا تبعيا بالسوق الرأسمالية العالمية خامسا، وغيرها من الأهداف.
أما النصف الآخر من الحقيقة فيكمن في الأوضاع والقوى الاجتماعية التي سمحت لعلاقات التبعية أن تستمر، فقد دخلت سياسات القوى الخارجية وحساباتها في توجهات القوى المحلية، ودخلت القوى المحلية في مخططات القوى الخارجية.
وفي الواقع فإنّ الدولة في أقطار المشرق العربي أقامت في داخلها بنى تحول، بذاتها، دون توجه هذه الأقطار نحو الوحدة العربية المنشودة، بل وتخنق القوى التي تتطلع إلى التوجه نحو دولة عربية واحدة، أو تعمل لإقامة دولة كهذه. بكلمات أخرى " لقد دأبت قوى الاستعمار القديم والجديد على خلق تحالف طبقي - سياسي تمنعه مصالحه من السير نحو الوحدة العربية ... بهذه البنية النوعية الخاصة، قامت الدولة بمهمتين متعارضتين تعارضا جذريا مع مهام خلق الأمة: فقد فتتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل الوطنية، بدل أن تميتها. ووضعت حدودا صارمة حيال بقية المناطق التي يوجد فيها الشعب العربي، بدل أن تفتح حدودها الخاصة تجاه أمتها بل قل بدل أن تلغي هذه الحدود، ما دام الاندماج في الأمة هو شرط من شروط وجودها السياسي، بينما فتحت الحدود مع الخارج غير العربي، غير القومي، سواء عبر التجارة، أو التبادل الثقافي، أو العلاقات السياسية ".
إنّ الدارس للمشرق العربي المعاصر لابد من أن يوصّف خصوصياته، فهو " عقدة تلاقي وتقاطع مجموع حضارات وثقافات محلية ومحيطية ". وهو " ساح تعاقب وتلاقي ديانات "، بكل ما تنطوي عليه من طوائف ومذاهب وشيع وفرق. وعلى المستوى الجيو- سياسي فإنّ المنطقة هي عقدة العقد في العالم، القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وقد غدت بذلك " بقعة صراع دائمة للمشاريع السياسية المتباينة والأحلاف المتعارضة والطموحات المتناقضة ". وقد كان المشرق العربي هدفا لأعظم غزوة استيطانية حديثة، هي الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وتحوّله إلى دولة حديثة وقوية، تحمل إلى المنطقة العربية كلها أهدافا ونوايا تقسيمية وتفتيتية واضحة ومعلنة.
وهكذا، فإنّ تحليل الخصوصيات الإثنية والدينية، ذات الصلة بموضوع مبحثنا، تبدو مهمة معرفية ضرورية لا غنى عنها. فالخصوصيات هي مشكلة وإشكالية بسبب طبيعتها أولا، ثم بفعل التوظيف الاستعماري الناجح لها ثانيا.
إنّ المشكلة الإثنية الكبرى في المشرق العربي هي المشكلة الكردية، التي تطال عدة دول شرق أوسطية (تركيا وإيران والعراق وسورية). إلا أنّ ما أصاب العراق الحديث من المشكلة الكردية جاوز ما أصاب الدول المجاورة، فقد شكلت المسألة الكردية مشكلا مزمنا، تقلبت أحواله بين المطالبة الهادئة والثورة العنيفة المسلحة. ورغم الاستعداد الداخلي الموجود دائما، فإنّ هذه التحولات إنما كانت تتم تحت وقع التدخل البريطاني أولا، ثم التركي والإيراني، بل والإسرائيلي أيضا، في محاولة لهز الوحدة الوطنية العراقية، وإضعاف العراق بهدف سلخ المناطق الغنية بالنفط.
ومن الأقليات القومية الأخرى نذكر الأرمن، وهم جماعات متفرقة في سورية والأردن ولبنان وفلسطين والعراق، جاءت إلى المشرق العربي إثر المذابح التركية في أرمينيا سنة 1915. ولما كانت جاليات مهاجرة، لا تقيم كلها في مكان واحد، فإنّ مشكلتها ليست معقدة. كما توجد أقليات أخرى، كالشركس في سورية والأردن، وهم مهاجرون جدد وليسوا من أحفاد المماليك الشراكسة. وكذلك التركمان، وهم مجموعة مقيمة في العراق. وإضافة إلى ذلك، توجد مجموعات إثنية أخرى (الكلدان والسريان والآشوريون)، وهم جماعات تسكن المنطقة منذ القديم، ويعتبرهم معظم المؤرخين من الهجرات السامية القديمة.
أما بالنسبة للتناقضات الدينية والمذهبية، فمن البديهي جدا أن تكون منطقة المشرق العربي منطقة تنوّع ديني واسع، فهي شكلت لفترة طويلة قلب العالم القديم، وشهدت بالتالي تقاطعا هائلا للثقافات والحضارات، كما شهدت ولادة الأديان التوحيدية الكبرى. وهكذا ورثت المجتمعات المشرقية العربية الحديثة هذا الواقع التاريخي، مع كل تعبيراته وانعكاساته السياسية والاجتماعية والثقافية.
وبتأثير من المفهوم الأوروبي للدولة - الأمة ظهر مصطلح " أقلية " في مجرى القرن التاسع عشر، للإشارة إلى الطوائف المسيحية والمذاهب الإسلامية غير السنية في المشرق العربي، وقد جرى وضع هذه الأقليات في " قلب الألاعيب والمراهنات الدولية والإقليمية ". وفي الواقع سرعان ما انتظم الإدراك الأوروبي للمشرق العربي حول الثنائية القائمة بيـــن " الجمهور المسلم " الموصوف سلبيا بوصفه " جاهلا وأميا "، وبين الطوائف الإثنية والدينية الأخرى " المقهورة والمعذبة ". وفي الحقيقة " ليست المسألة إذن مسألة أقليات، بل هي مسألة ألاعيب جيوبوليتيكية جارية منذ تعميم نموذج الدولة - الأمة في القرن التاسع عشر، تقرض الأسس التاريخية لمجتمعات ذات هوية مركبة ".
ففي سورية ولبنان، رفضت فرنسا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، جمع جبل لبنان في حدوده القديمة، في القرن الثامن عشر(المتضمنة البقاع وولاية صيدا) وسورية في دولة واحدة. بل أعلنت، في سنة 1920، دولة لبنان الكبير، التي تشمل مرفأ طرابلس في الشمال وسهل عكار الخصيب الذي تسكنه أكثرية إسلامية. فيما كانت تتوجه في سورية نحو فيدرالية دويلات هشة، منها دويلتان ذاتا قاعدة طائفية صريحة، دويلة " العلويين " ودويلة " الدروز ".
لقد كانت إحدى الآليات المفضلة للقوى الأوروبية في اختراق المشرق العربي هي استخدام الجماعات الدينية، وتقوية نزاعاتها الطائفية، وتغذية نزاعاتها مع الطوائف الأخرى أو مع الأغلبية. وبذلك " أرسيت البذور المؤسسية الأولى لنوع من الدول، التي ستظهر في المنطقة فيما بعد، وتقوم على أساس مقنن، صراحة أو ضمنا. وسيستمر هذا الخط - لغة الخطاب الطائفي أو الإثني - في الفكر والممارسة، كأحد التصورات السياسية والإيديولوجية لتنظيم المجتمع والمنطقة إجمالا ". وهكذا، فإنّ البذور المؤسسية التي تبلورت، لم ترقَ إلى مستوى إرهاصات دولة مركزية حديثة.
وفي سياق الحديث عن مشكلة الأقليات في المشرق العربي يبدو من المفيد الإشارة إلــى " أنّ علمنة السياسة جزء من عملية عقلنة وتحديث المجتمع "، وهذا يعني أنّ الشرط الأول والحاسم لحل مشكلة الأقليات هو تحديث الفكر عموما وتحديث الإيديولوجيا القومية والحركة القومية خصوصا. وأنّ العلمنة " هي الجانب السياسي من سيرورة عقلنة المجتمع على صعيد الثقافة والفكر والإيديولوجيا. أي أنّ العلمنة تبدأ بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية صعودا إلى المؤسسات السياسية ".
أما بالنسبة لسورية والعراق، فمن المفيد أن نتعرف على مواقف بريطانيا وفرنسا من محاولات توحيدهما في الفترة ما بين الحربين العالميتين. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى اتخذت الاستثمارات الأجنبية، في المنطقة العربية ومنها سورية والعراق، شكلين: أولهما، الاستثمار المباشر في مشاريع المواصلات والنقل لخدمة الاستيراد والتصدير. وثانيهما، الاستثمار غير المباشر. وقد استغل أرباب هذه الاستثمارات ضعف الدولة العثمانية للحصول على الاحتكارات والامتيازات لإنشاء هذه المشاريع بشروط مجحفة.
لقد اعتبرت الحكومة الفرنسية أنّ سورية تشكل الحلقة الرئيسية في بناء المصالح الاقتصادية الفرنسية، وأصبحت الأموال الفرنسية ذات أهمية بالغة في الاقتصاد السوري، وجرى تمويل معظم المشاريع برؤوس أموال فرنسية. بينما كان النفوذ البريطاني مركّزا في العراق، بحيث أصبحت بغداد، في أوائل القرن التاسع عشر، من أهم مراكز النفوذ البريطاني.
لقد حقق إعلان الحرب العالمية الأولى الفرصة للدولتين الاستعماريتين للتدخل في المنطقة بشكل مباشر. ففي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تتقدم داخل الأراضي العراقية، كان رجال السياسة البريطانيون يجرون اتصالات مع الشريف حسين (شريف مكة)، محاولين إيهامه بأنهم سيعملون من أجل استقلال العرب إذا وقفوا إلى جانب الحلفاء في وجه الأتراك وطردوهم من بلادهم، وقد عُرفت هذه الاتصالات بمراسلات حسين - مكماهون (المندوب السامي البريطاني بالقاهرة).
وعلى أساس هذه المراسلات تم إعلان الثورة العربية الكبرى في يونيو/حزيران عام 1916، وتقدمت قوات الثورة متعقبة القوات التركية في بلاد الشام والعراق، حتى أُعلنت الهدنة يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918. وقد لعبت بريطانيا دورا كبيرا لمنع تواصل طرفي الحركة العربية القومية في بلاد الشام والعراق، وكان هذا الدور تعبيرا عن سياستهم الهادفة إلى منع تأثير الحركة القومية في الأوساط العراقية، خدمة لمصالحهم الاستعمارية الرامية إلى فصل العراق عن محيطه العربي. وقد عبّر عن هذه السياسة – بوضوح - الخبراء البريطانيون، وكان أرنولد ولسون، الحاكم الملكي العام في العراق، أكثرهم وضوحا، حيث قال " إنّ التشابه بين العراق وبقية بلاد العرب على الأغلب مفقود ... من الناحية السياسية والعرقية وغيرها من الروابط ... وإنّ تقدمه من الناحيتين الخلقية والمادية مضمون تحت رعاية بريطانيا ... كما يجب أن يبقى العراق منفصلا عن هذه البلدان قدر الإمكان، ولكنه يبقى خاضعا لبريطانيا ".
وفي الوقت الذي كان فيه هنري مكماهون ينجز صفقته مع الشريف حسين، كانت وزارة الخارجية البريطانية تجري مباحثات مع الحكومة الفرنسية، بهدف الاتفاق بينهما على تقاسم النفوذ في المنطقة. وقد أسفرت هذه المفاوضات عن توقيع اتفاقية سايكس- بيكو يوم 16 مايو/أيار عام 1916، التي تعتبر بداية لتفتيت المشرق العربي وخلق كيانات وطنية/قطرية، أثرت سلبيا في مسار حركة الوحدة العربية، خاصة في سورية والعراق.
وإزاء وضوح خطط الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في المشرق العربي، اجتمع الوطنيون السوريون والعراقيون في دمشق، في الفترة من 6- 8 مارس/آذار عام 1920، وطالبوا باستقلال سورية الكبرى المتحدة والعراق، على أن يكون بين القطرين اتحاد سياسي واقتصادي. ولكنّ الحكومتين الفرنسية والبريطانية رفضتا الاعتراف بشرعية قرارات المؤتمرين السوري والعراقي، بل اتفقتا على وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين وشرقي الأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني.
وبعد تخلص الفرنسيين من الحكومة العربية في دمشق بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، توّجه البريطانيون ملكا على العراق في شهر أوغسطس/آب 1921، مما أثار استياء الفرنسيين لاعتقادهم أنّ فيصل يتطلع للحصول على عرش سورية، لذا أخذوا يعملون، بالتعاون مع حلفائهم البريطانيين، على ترسيم الحدود بين سورية والعراق لتصبح حقيقة قائمة لاحقا في عام 1933.
وبشكل عام، فقد تميز موقف الدولتين الاستعماريتين بالتخوف الفعلي من أي لقاء بين سورية والعراق، فبعد توقف الثورة السورية الكبرى لعام 1925 قام ملك العراق فيصل بزيارة باريس في العام 1927، وطرح على الحكومة الفرنسية فكرة توحيد سورية والعراق، إلا أنّ الحكومتين الفرنسية والبريطانية رفضتا المشروع، واعتبرتا أنّ القضيتين السورية والعراقية منفصلتان عن بعضهما تماما. وقد تكرر الموقف نفسه خلال عقد الثلاثينات إلى أن طرح هربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين، عام 1937 مشروعا يقضي بتشكيل اتحاد عربي يضم السعودية والعراق والأردن وسورية وفلسطين، لتخفيف الانتقادات العربية لبريطانيا المؤيدة للحركة الصهيونية في فلسطين، والعمل على إشراك العرب مجتمعين في تنفيذ " وعد بلفور ". إلا أنّ هذا المشروع لم يلقَ تجاوبا من مكتب المستعمرات البريطاني، الذي كان يؤكد دائما على سياسة التجزئة. كما أنّ الحكومة الفرنسية رفضت المشروع لمعارضتها انضمام سورية لأي اتحاد عربي.
وبعد فشل مشروع هربرت صموئيل جرى الحديث عن اتحاد فيدرالي يضم أجزاء سورية الكبرى. ففي صيف العام 1938 بدأت الحكومة البريطانية بالتحرك لتحقيق هذا الاتحاد، إلا أنّ الحكومة الفرنسية عارضت كعادتها، وذُكر حينذاك أنّ فرنسا غير مستعدة لتعريض وضعها في سورية للخطر مقابل مساعدة بريطانيا على حل مشاكلها في فلسطين.
لكنّ الرفض الفرنسي لمشروع الاتحاد لم يوقف المحاولات البريطانية، خاصة وأنها تدرك أنّ فرنسا بحاجة إليها من أجل تنسيق مواقفهما في أوروبا والمنطقة العربية عشية الوضع الدولي المتأزم. وقد بدأ رئيس وزراء العراق نوري السعيد التحرك من أجل الاتحاد بين سورية والعراق، فتقدم في سنة 1943 بما عُرف بـ " مشروع الهلال الخصيب " الذي نص على أربعة بنود رئيسية هي:
(أ)- توحيد سورية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين في دولة واحدة (سورية الكبرى).
(ب)- إنشاء عصبة عربية تضم العراق وسورية الكبرى هذه وأية دولة عربية أخرى ترغب في ذلك.
(ج)- إنشاء مجلس دائم للعصبة العربية يتولى شؤون الدفاع والخارجية والعملة والمواصلات والجمارك وحماية حقوق الأقليات والتعليم.
(د)- إقامة إدارة ذاتية لليهود في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية.
ويبدو واضحا أنّ العالم المديني للهلال الخصيب كان قوميا ووحدويا بتصميم، وقد بقي في مواجهة الخطر الإمبريالي متقربا من الدولة العثمانية، وقوميته تتردد بين جامعة إسلامية وعثمانية وعربية. وبعد خيبة أمله من العثمانية، خاصة بعد أن اتضحت توجهات حركـــة " تركيا الفتاة " منذ سنة 1908 نحو قومية تركية، التفت ذلك العالم المديني نحو القومية العربية باحثا عن التحالفات الخارجية التي يُحتمل أن تدعمه.
إنّ التوصيف السابق للمشرق العربي المعاصر يبين أنه نظام مخترَق/تابع اقتصاديا للدول الإمبريالية، والسؤال هو: ما هي أهم العوامل التي أدت إلى استمرار هذه الحالة المعوِّقة لتحقيق الأهداف القومية وديمومتها ؟ وما هي المتغيّرات المسؤولة عن إعادة إنتاجها بأشكال مختلفة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة ؟
إنّ إحدى السمات الأساسية في المشرق العربي المعاصر تكمن في بروز تبدلات جذرية في البنى الاقتصادية والاجتماعية، دون أن تترافق تلك التبدلات مع تغيير نوعي في البنى السياسية التي حافظت على الكثير من مظاهر الجمود والتحجر. مما يستوجب إعادة قراءة تفاصيل المشروع القومي، وتجديد مضمونه وشكله، على ضوء التحديات الراهنة.



#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (2)
- المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (1)
- أي لبنان بعد الانتخابات ؟
- اليمن ليس سعيداً
- جدل العلاقة بين التنمية والديمقراطية
- انتصار الأنموذج الديمقراطي الكويتي
- زمن حقيقة العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية
- العرب والحاجة إلى التنمية الشاملة
- الصحراء الغربية على طريق إجراءات الثقة
- إنجازات رجل مثابر
- الديمقراطية والمسألة الاجتماعية في سورية
- المجتمع المدني في العالم العربي - الواقع والمعوّقات والآفاق
- سؤال الهوية في دول الخليج العربي ؟
- معوّقات الحداثة في العالم العربي
- الإطار الاستراتيجي للعلاقات الأمريكية - الروسية
- مؤشرات الانتخابات البلدية في تركيا
- تساؤلات بشأن التحول الديمقراطي في العالم العربي ؟
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (6)
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (5)
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (4)


المزيد.....




- تأييدًا لغزة.. طلاب وأساتذة يتظاهرون في جامعة سيدني
- شبح المجاعة لا يغيب.. غزيون يشتكون شح السلع وغلاءها
- الحكم على مغنٍ إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- الإعدام لـ11 شخصا في العراق أدينوا -بجرائم إرهابية-
- تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت ورئيس ...
-  البيت الأبيض: بايدن يدعم حرية التعبير في الجامعات الأميركية ...
- احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا ...
- الخارجية الروسية: واشنطن ترفض منح تأشيرات دخول لمقر الأمم ال ...
- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عبدالله تركماني - المكان العربي وتفاعلاته في القرن العشرين (3)