أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الخالق السر - الجالية Community بين المفهوم والممارسة، جاليات القرن الافريقي باستراليا نموذجا















المزيد.....

الجالية Community بين المفهوم والممارسة، جاليات القرن الافريقي باستراليا نموذجا


عبد الخالق السر

الحوار المتمدن-العدد: 2670 - 2009 / 6 / 7 - 10:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



الكميونتي كمصطلح:
تواجهنا منذ البداية صعوبة حقيقية لإيجاد لفظ مقابل بالعربية يفي الدقة وشمولية المعنى. ومع أن لفظة "الجالية" تمثل استخداما شائعا إلا أنه في الحقيقة معنى قاصر لا يشمل الأبعاد الأخرى التي يحيط بها المصطلح الإنجليزي في سياق "التطور" الاجتماعي والمؤسسي الذي ألمّ بالمجتمعات الغربية فيما بعد الثورة الصناعية قبل ما يقارب الثلاثة قرون. ومع ذلك يمكن القول بأنه الإطار الجامع لجماعة بشرية ما تحمل فيما بينها خصائص ثقافية-اجتماعية مشتركة تعكس قدرا من هويتها "الجامعة" التي تميزها عن المجتمعات الأخرى، وهو هنا في تعريفه الأولى أقرب إلى مفهوم الاثنية.
وما يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو الاستخدام الشائع للمصطلح في شقه المؤسسي الفاعل والذي هو موضع مقاربتنا في هذه الورقة.


الكميونتي كمفهوم من وجهة نظر ما بعد حداثية:
نجد أننا هنا وفي سياق مقاربتنا للمفهوم في بعده ما بعد الحداثي post-modernism محكومين بالواقع الأسترالي الذي نعيشه والذي من خلاله نستقي ترجمتنا للمصطلح. يمكن القول أنه في الغالب يعني الجسم المؤسسي المدني لجماعة ثقافية ما يتيح للحكومات الإقليمية – كممثلة للنظام الفدرالي- أن تتواصل سياسيا، ثقافيا واقتصاديا مع هذه الجماعات وذلك من واقع كونه القناة الرسمية التي يمر عبرها الدعم الرسمي في شقه البيروقراطي لهذه الاقليات الثقافية حتى يسهل اندماجها في النسيج القومي النازع لابراز التعددية الثقافية كسمة للهوية القومية. وعندما نقول الحكومات الإقليمية أو الفيدراليات فإننا لا نعني بالطبع جسم مركزي واحد بقدر ما أننا نشير إلى المؤسسات الثقافية ، الاجتماعية، السياسية المعقدة والتي تمثل في مجموعها الجهاز الإداري لهذه الفدراليات والتي من خلالها يتم تفاعل الدولة مع مؤسسات الاقليات الثقافية أو كل مؤسسات المجتمع المدني بشكل أشمل.
من هنا يمكن النظر لأهمية هذا الجسم المؤسسي ودوره التفاعلي الخطير في مجتمعات الرفاهية متى ما استوفى مفاهيميا وعمليا الشروط الواجب تحققها حتى يتسنى له الاضطلاع بدوره المهم في تفجير طاقات الجماعة المنتمية إليه وانتفاعها في ذات الوقت بدعم الدولة الفدرالية وبالقدر الذي يتيح لها أن تنهض وتمارس تفاعلا خلاّقا.

الكميونتي كمفهوم سوداني:
كان من الممكن أن نتوسع قليلا ونتحدث بشكل عام عن مفهوم الكميونتي لدى مجتمعات القرن الأفريقي ولكن نفضل هنا التخصص والاكتفاء بالحالة السودانية كنموذج يسهل تعميمه على هذه المجتمعات المتشابهة الخصائص والسمات.
من المهم جدا بداية أن نقول أن هذه الورقة تستند بالأساس على الملاحظة والممارسة العملية السائدة في رؤيتها النقدية لواقع الحال وذلك لضعف أو انعدام المراجع المكتوبة في هذا الصدد. استنادا على هذه الملاحظة والآثار الملموسة للممارسة العملية للكميونتي السوداني بمختلف أطره التنظيمية يمكن القول أن مفهوم الكميونتي لدى الذهنية لم يراوح كثيرا مفهوم اللمة أو الجمعية كما جسدتها تجمعات السودانيين بدول الخليج منذ سبعينات القرن الماضي وذلك في أكثر الأحوال تعقيدا. وهي مفاهيم كما سوف نرى تضيق كثيرا وتنحرف بشكل اكثر عن الهدف المرتجى لهذا الجسم المؤسسي.
ومفهوم اللمة – في تقديري- هو هذا الفعل العفوي الذي يستند بالأساس على شبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم المناسبات الاجتماعية أتراحا وأفراحا والضاربة في جذور الثقافة الغالبة لأهل السودان. وقد يتخلل ذلك أفعال اكثر "تعقيدا" كإنشاء فريق رياضي أو "محاولات" إنشاء فصول دراسية لتعليم اللغة والقرآن أو حتى تنظيم مناسبة متعددة البرامج والغايات، دون أن يخل ذلك بالسياق العام للعفوية والارتجالية كما هي ماثلة في العقل الجمعي. وعندما أشدد هنا على مصطلحات من شاكلة "عفوية" و"ارتجالية" و"محاولات" إنما للدلالة على فقر الفكر والممارسة التي تحكم هذه المشاريع وتقزّم من فائدتها.

ربما يعزى هذا القصور عن بلوغ مرامي الكميونتي كإطار مؤسسي حداثي لاشكالات بنيوية في سياق هويتنا العشائرية، القبلية ، الجهوية والاثنية والمتمظهرة في اكثر أطرنا التنظيمية حداثة وأعني هنا أحزابنا السياسية. وفي حالتنا الراهنة يمكن إثبات ذلك بأقل جهد ممكن حين نشير إلى تشظي الكميونتات إلى وحدات فرعية صغيرة تمثل كل واحدة منها جماعة جهوية أو اثنية. ففي مدينة ملبورن مثلا نجد أن هناك كميونتي "جنوبي" وآخر "غربي" هذا فضلا عن "الشمالي"!!. ومن المهم هنا أن نشير إلى أن هذه التقسيمات المجازية هي وهمية أكثر من كونها تعبيرا عن هوية متصورة Self-image. لأن الشاهد أن هذه الكميونتات مع انقساماتها الجهوية أو الجغرافية إلا أنها مع ذلك تعاني انقسامات داخلية اعمق جعل كل واحد منها يحمل في جوفه كميونتات فرعية تستعلي على بعضها بالتميز العرقي والجهوي أو حتى الديني. والطريف أن كل واحدة من هذه الكميونتات تدعي امتلاكها الحق الحصري لمفهوم السودان مما يذكرنا حقا بمفهوم الفرقة الناجية في أدبيات الفرق الدينية. من المهم هنا التأكيد أن كل هذه الانقسامات والتشظيات لا تحكمها بالضرورة تباينات فكرية أو مفاهيمية أو حتى انقسامات أيدلوجية عميقة بقدر ما أنها خلافات اعتباطية مفتعلة في الغالب يقف خلفها على المستوى الجمعي تاريخ موروث للتطلعات الشخصية ذات الصبغة الأنوية العالية التي لا ترتوي أو تعززها قدرات نوعية أو حتى تجارب حياتية ثرة تمنحها قدرا من المعقولية.

تضاد المفهومين وانعكاساته:
مما سبق تبيانه يتضح بجلاء التضاد الكامل بين المفهومين وبالقدر الذي يجعلهم بمنأى عن الالتقاء ومن ثم التفاعل المثمر، والكل في ذلك يتحمل جانبا من المسئولية وما يستتبعها من عواقب.
فالكميونتي من منظوره الحداثي هو إحدى آليات جهاز الدولة البيروقراطي والذي من خلاله ، كما أبنا، تسعى الدولة من خلاله عبر الدعم المادي واللوجستي لتفعيل الاقليات الثقافية الوافدة ليسهل اندماجها فيما بعد وبالشكل الذي يجعلها عنصرا إيجابيا من ضمن نسيج قماشة المجتمع العريض مع استقلالها بخصائصها الثقافية- الاجتماعية وبالقدر الذي يجعل هذه المجتمعات تسهم في إضفاء تعددية ثقافية تبرز على المستوى العميق غناء وحيوية الدولة الأسترالية في نسختها التعددية المرتجاه. هذا على المستوى التجريدي والمثالي ولكن ماذا عن الواقع؟ عمليا نجد أن المعضلة الحقيقية من جانب الدولة يكمن في إصرارها على الانطلاق من مركزية مفاهيمية تفترض سلفا أن هذه الاقليات الوافدة تستبطن ذات المفهوم لما يجب أن يكون عليه الكميونتي دون أدنى مراعاة لسياقات التطور الاجتماعي والموقع الحضاري لهذه الاقليات. وهو كما نرى تصور يرتكز على نزعة رغبوية لا تستند على أسس موضوعية لها جذورها على أرض الواقع. ومع أن هذا التصور لم يتحقق إطلاقا ولا حتى في أدنى أشكاله معقولية ، ناهيك عن المثالي، ومع أن دلائل عجزه وبالتالي فشله لا تحتاج إلى تبيان إلاّ أن عجز الدولة عن الإتيان ببديل عملي مقنع يراعي الفروق المفاهيمية والحضارية أو حتى مراجعته ، كأضعف الإيمان، يعطي مؤشرات بان الأمر لا يعدو أن يكون سوى عودة برنامج الاستيعاب assimilation من الباب الخلفي يتوسد شعارا براقا يتمثل في مفهوم التعددية الثقافية multiculturism. فهذا الوضع المراوح له من الآثار المدمرة ما يفوق الوصف. فمن جهة فهو يجمد وضع هذه الاقليات عمليا في خانة اللاجئين نسبة لعجزهم عن التمتع بكافة الامتيازات التي تتيحها لهم حقوق المواطنة بنص الدستور. ومن جهة ثانية فإنه يترك الباب واسعا لكل مغامر وانتهازي يملك القدرة على المناورة وطرق دروب النظام البيروقراطي ، والذي عادة ما يجد الترحيب من محترفي الفساد داخل هذه الأجهزة نفسها، ليعمق من المأساة، وعلى كل هذا هو السيناريو السائد حتى إشعار آخر.


بالمقابل نجد أن الذهنية التقليدية والمحافظة الرافضة لأي تغيير هي التي تسيطر بشكل عام على مقاليد الأمور في الكميونيتات عبر مسيرة تاريخها القصير. وإذا أخذنا الكميونتي السوداني كنموذج معبر سنجد أن الذين تعاوروا عليه طوال فترته كانوا يعملون ما وسعهم لتأبيد مفهوم "اللمة" أو النادي أو الجمعية أو سمه ما شئت من كافة أنماط التنظيمات الاجتماعية العفوية التي تنتظم حياتنا السودانية. وهو مفهوم كما اتضح عمليا على أرض الواقع لا يلتقي وتطلعات الجهاز البيروقراطي للدولة الأسترالية مما انعكس ذلك وبمرور الزمن على وضع كارثي تعززه الشواهد العملية. واقع أسهم كثيرا في التهميش الجاري وقلص إلى حد مخيف من قدرات أفراده وجعلهم ينزعون إلى الحلول الفردية فيما يعينهم على تصريف شئون حياتهم في واقعهم الجديد. وانعكس هذا كله في تقزيم دعم الدولة للجالية لكي تقوم بدورها في تأهيل أفرادها بالقدر الذي يعينهم على النهوض والانخراط بشكل إيجابي يثمر رفاهية وفرصا حياتية تتسع وتزداد بمدى قدرة الجهاز القيادي للجالية على تفجير هذه الطاقات الكامنة في مجمل الأنشطة الحياتية: ثقافية كانت أم اجتماعية أم إبداعية أو تعليمية.
الشاهد أن هذه الإدارات المتعاقبة لم تحقق أيا من هذه الأهداف بقدر ما عمقت من عزلتها وتهميشها وذلك حين قطعت حبال الوصل فيما بينها والجهاز البيروقراطي الداعم وأحالها هذا الواقع إلى وضع الموات السريري، وبالتالي ليس هناك غرابة أن ينفض سامر الناس عنها لينصرفوا فيما يهمهم على أرض الواقع. تتبدى المفارقة الساخرة في هذا الأمر حين نجد أن موات الكميونتي كإطار تنظيمي جامع لم يمنع هذه الجموع من ممارسة طقوسها الاجتماعية والثقافية التي جبلت عليها، وهذا يمثل أكبر دليل ملموس على أن الكميونتي كمفهوم اكبر وأكثر تعقيدا من كونه مجرد إطار تنظيمي تعمل الجماعة من خلاله لممارسة هذه الطقوس ومن ثم كان يجب منذ الوهلة الأولى الالتفات إلى هذه النقطة والتعامل معها بعقل نقدي مفتوح يعيد صياغة المفهوم على أسس مغايرة. وربما نعزي مثل هذا التجاهل أو الغفلة – إن شئنا الدقة- إلى التكوين الذهني والنفسي للشخصية السودانية فيما يخص مفهوم العمل العام في ظل ممارساته التاريخية. وهو لا يعدو عن كونه مجرد غنيمة مادية ومعنوية تعود على صاحبها في المقام الأول بالمنفعة الشخصية على حساب الصالح العام – على الأقل هذا ما تجسده النسخة المتداولة على أرض الواقع وفي مختلف مناحي الحياة العامة. وهذا ربما يفسر التدافع المحموم الذي نشهده ،وغير المبرر أحيانا، على المناصب دون أدنى اعتبار للقدرات الشخصية والمهارات اللازمة والذي يعصف في كثير من الأحيان بالأسس الأخلاقية والفلسفية التي تنبني عليها المؤسسية نفسها. وفيما يخص الحال بالجالية السودانية بملبورن فقد بلغ التدافع حدا غير معقولا انتج تشظيا راسيا وأفقيا في الجسم المؤسسي الكبير "افتراضا" لتحل محله نتف لا متناهية من الكيانات الصغيرة تتسق تماما وحمى الجو الانتهازي السائد.

الاندماج integration أم العزلة isolation ؟
هذا سؤال وجودي طال ويطال كل المجتمعات الانتقاليةtransitional societies ولا ينفع معه الهروب والتخفي تحت أي دعوى أو مسمى. والوعي به يعمل كثيرا على تخفيف الآثار السالبة لهذه النقلة الزمانية والمكانية ومن ثم يوطد لرؤى ومفاهيم عملية تعمل جاهدة لتحقيق المعادلة الأصعب ألا وهي (الانتماء والخصوصية). لا شك أن عكس الخصائص الثقافية والاجتماعية للاقليات هي من صميم عمل الكميونتي ولكن الجوهري يبقى هو سعيه الدؤوب والمتواصل في نسف الحواجز والمعوقات التي تعترض طريق منتسبيه في الاندماج مع واقعهم الجديد. وتتمثل هذه المعوقات في الحواجز اللغوية والمهارات المهنية والقدرات التعليمية. وهذا هو الدور المرسوم له كإطار مؤسسي يعمل بالتنسيق مع الجهاز البيروقراطي لتحقيق غاية الاندماج الإيجابي. وهو دور معقد يتطلب مقدرات قيادية نوعية وخبرات عملية ثرة وخيال خصب حتى يترجم إلى خطط فاعلة ومثمرة على أرض الواقع. هذا لسوء الحظ لم يتوفر قط عبر المسيرة التاريخية للتنظيمات المختلفة والمسميات المتنوعة للكيانات السودانية المختلفة وذلك لأسباب عديدة أهمها العقلية المحافظة وضعف القدرات النوعية وضمور الخيال للذين تصدوا لهذه المهمة من قبل. والحال هكذا فإنهم ساهموا بقوة في خلق حواجز نفسية ومادية فيما بينهم والدولة والمجتمع ككل وعمق من عزلة هذه الكيانات ودفعها دفعا للانكفاء على نفسها والسعي لتضخيم ذاتها في مسعى تعويضي مضر. يدهش المرء حين يجد أن إشكالية الحاجز اللغوي Language barriers لا تأخذ حيزا أو اهتماما من قبل الكميونيتات في حين أنها المفتاح السحري الذي بدونه لا يمكن فك مغاليق الواقع الاجتماعي الجديد ومن ثم يصبح الحديث عن تحقيق أية قدر من النهوض الاجتماعي نوعا من انتظار المعجزات. وكما قال عالم الاجتماع الأسترالي Castles في معرض تركيزه على إشكالية الحواجز اللغوية والمهارية في تعويق طموح الأفراد من الاثنيات المختلفة: (لكي نتفهم لماذا بعض الأفراد individuals من مختلف الاقليات بغض النظر عن خلفيتهم الاثنية والثقافية تتقلص فرصهم الحياتية في دولة مثل استراليا علينا أن نلقى نظرة على واقعهم الثقافي- الاجتماعي في استراليا وفي الموطن الأم الذي قدموا منه، وقتها سنجد أن المسألة أكثر تعقيدا من كون أنها تتعلق بكونهم أقلية بقدر ما أنها شيء يتعلق في الأساس بحاجز اللغة الذي يتمثل في ضعف إلمامهم بالإنجليزية الذي قد يحرم المؤهلين منهم في المنافسة هذا إن لم تكن نوعية تعليمهم نفسها متدنية مقارنة بنوعية التعليم هنا..)castle, p. 33. لسنا في حوجة لنقول أن كل هذا قد خلق ضمورا في التواصل وجفف قنوات التواصل lack of communication بين الدولة والاقليات وخلق نوعا من سوء الفهم المتبادل وعزز من سيكولوجية الضحية Victimaztion التي باتت تتقنها مجتمعاتنا وتجد فيها عزائها.

نهج المغامرين ولعبة الإصحاح السياسي political correctness
هذا الواقع المأزوم يمثل مناخا مثاليا لجماعات الضغط السياسي التي تنتظم عددا من منظمات المجتمع المدني التي تعمل بجد على تجسيد شعارات الحقوق والمساواة واقعا ملموسا في استراليا التعددية الثقافية وبالقدر الذي يدفع الدولة (تخوفا من تهم التحيز) دفعا لتبني مفهوم الإصحاح السياسي والذي في الغالب ما يأتي بنتائج على أرض الواقع لا تتطابق ونبل فكرة الحقوق والمساواة في تجريدها المثالي. فخوف الدولة من الاتهام بالتمييز discriminationيدفع بها إلى حيز التنازلات التي لا تخدم فكرة المساواة في ناتجها الأخير. ويبقى الحرص على حفظ ماء الوجه سياسيا هو الغاية الحقيقية التي تغلف الممارسات اليائسة التي تسم علاقات الدولة مع الاقليات الثقافية – وهنا يعنينا في هذا المقام جاليات القرن الأفريقي- حيث بات الباب مفتوحا على مصراعيه لكل مغامر لأن يسوق الانقسامات العرقية على أنها ميزة وبأن يجعل منها بابا سهلا للتطلعات الشخصية الضيقة، والبعض الآخر لا يتوانى أن ينصب نفسه ومقربيه أوصياء على كل كيانات القرن الأفريقي -رغم أنفهم- وبصلف أبوي رعوي يصبح العام جزء من الخاص للحد الذي يدار بطريقة الحرز العائلي Family buisness دون أن يتصل بالمؤسسية والصالح العام. كل هذا وأكثر يتم دون رقابة أو تمحيص من قبل الدولة وذلك من منظور أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، طالما أنه يظهرها بمظهر الدولة العادلة التي تعمل على تساوي الفرص Fair go ولسنا هنا في حوجة لأن نتطرق للضرر البالغ الذي أصاب ويصيب الأقليات باستمرار ويؤبد من دونيتها وعجزها.

الخلاصة:
نحت هذه الورقة لمقاربة الكميونتي كمفهوم وممارسة وتبيان الخلط الفادح في ترجمة المصطلح وبالتالي استحقاقاته وما استتبع ذلك من ممارسة شائهة على ارض الواقع ألقت بظلالها السالبة على الواقع الراهن لاقليات القرن الأفريقي. ويعتقد الكاتب أن غياب مفهوم المؤسسية وسيادة نزعة التطلعات الشخصية التي لا تراعي المصلحة العامة كما هي مجسدة في ثقافة المجتمعات البطريركية قد أسهمت بشكل فعال في إجهاض كل محاولات الاندماج الإيجابي في المجتمع الأسترالي وبالتالي عمقت من أزمة هذه الكميونيتات ودفعتها إلى اختيار طريق العزلة والتمترس داخل قضبان الذات. هذا دون إغفال أن الحكومة الأسترالية ممثلة في مؤسساتها البيروقراطية كانت وما زالت تلعب دورا كبيرا في تأبيد هذه الأزمة بتجاهلها لسياق التطور الثقافي-الاجتماعي لهذه الاقليات ووقوفه عقبة في سبيل الانتفاع بخدماتها وتحقيق الرفاهية لمنتسبيها. هذا الواقع البائس والذي بحكم طبيعة الأشياء لا يعرف الفراغ كان لا بد بالمقابل أن ينتج فعلا شائها وممارسة معوجة تعمل على تعميق الأزمة وإفراز نوع من الانتهازية الواعية التي بالتراكم كادت أن تكون ثقافة كاملة تبعث بإشارات اليأس والقنوط من أية إمكانية في الإصلاح أو التجاوز.

ختاما يرى كاتب هذه الورقة أن أية بارقة أمل للخروج من هذه الوهدة يكمن في التعامل بجذرية مع الاشكالات البنيوية التي تطال التعارض بين المفهومين والسعي بمعرفة ووعي عميقين لتجاوز مطباتهم المفاهيمية والرؤيوية والتصالح فيما بينهم لتحقيق معادلة الانتماء للواقع الجديد عقلا وروحا مع الاحتفاظ بحق الخصوصية الوجدانية في أبعادها الثقافية كدافع خلاّق نحو المساهمة الإيجابية. أو على حد تعبير عالم الاجتماع Marshal p.36:(لابد للكميونتي أن يعمل على توجيه الديناميكية التي بداخله لتكون باعثة على التوازن ما بين التطلعات الفردية وتفجير الطاقات وما بين المصلحة الجمعية حتى لا يتحول بمرور الزمن إلى سجن طقوسي رتيب).

مراجع:
Castles, S. (1989) Ethnicity and Socialisation. In T. Jagtenberg and P. D alton (eds) Four Dimensional Social Space, Sydney: Harper and Row

Marshall, T.H. (1983) Citizenship and Social Class in D. Held (ed) States and Societies, Oxford: Martin Robertson


Muslims in Western Europe
Jorgan S. Nielsen
Second Edition
Edinburgh University Press, 1995

Understanding Foucault
Geoff Danaher, Tony Schirato and Jen Webb
St. Leonards, N.S.W. Allen 8 Unwin 2000.




#عبد_الخالق_السر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا انتقلت حركات المقاومة من الروح الوطنية إلى حضن الطائفي ...
- المرأة -الاسلاموية- والتسلق على أكتاف منجزات المرأة المعاصرة
- محنة سودان ما بعد الدولة الدينية: هل بات طريق العودة إلى الد ...
- مفهوم -الامتثال- للإرادة الإلهية كمدخل للاضطهاد الاجتماعي وا ...
- القطط واللحمة، ومأزق ممفتي المسلمين بأستراليا!
- حماس 000 سلطة سياسية أم ورطة لا هوتية؟!!0
- في بلد مؤسس على التطرف... هل يحل مقتل -العوفي- أزمة الارهاب ...
- انفجارات لندن وتداعياتها 000و ذلك -الارهابي- الكامن داخل كل ...
- السلام الاجتماعي المفقود00 أو الحقيقية العارية كما جسدتها ال ...
- حكم -الحجاب- من منظور تجريدي إلى واقع متكامل من القهر المعنو ...
- على هامش مأساة أبليس 000 ما مصير جماعات الاسلام السياسي في ح ...
- العمالة الاجنبية في السعودية بين مطرقةالدولة وسندان المجتمع
- بعض من أزمات الفقة المعاصر ... -ركاكة فتاوى المرأة-. ابن باز ...
- تداعيات ثقافة الفقر وأثرها على سلوك مجتمعات القرن الإفريقي ب ...
- مآلات دولة -الطهارة الفرعونية ... وظاهرة الوهابية كافراز حتم ...


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الخالق السر - الجالية Community بين المفهوم والممارسة، جاليات القرن الافريقي باستراليا نموذجا