أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب















المزيد.....

الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2670 - 2009 / 6 / 7 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


كانت مقابلتي معه ورسوخ تفاصيل عام كامل بالقرب من عالمه في ذاكرتي شيئاً أشبه بالقدر ومضيئا. عندما أرسلت له صورا لأعمالي مع خطاب بطلب الالتحاق بالدراسة في مرسمه بأكاديمية الفن في دوسلدورف، سرعان ما تلقيت منه ردا دافئا بخط يده مرحباً بي و"بالعمل سويا" حسب تعبيره اللطيف. أدركت، أنا القادم من مصر ولا أزال محمّلا تراكمات كثيرة دخيلة علي كياني، أن جوا أنقى ينتظرني، إذ لا وجود لتلك المسافة المفتعلة الباهتة بين الأستاذ وتلميذه، خصوصا أننا في عالم الفن. كما لا وجود لألفاظ محنطة: "يا دكتور، يا أستاذ..." لكن هناك تواصلا فنيا إنسانيا. بالأحرى، إنسانيا فنيا.

كان بيته ومكان عمله عبارة عن مصنع ضخم قديم تستطيع التجول داخله بسيارة، يقع علي طرف مدينة كولونيا عند نهاية أحد خطوط الترام، يصلها الترام وهو فارغ تقريبا من ركّابه. بعد عبور مساحة من الأرض اندفنت فيها بقايا سكة حديد قديمة، وفيها من رائحة المصانع أكثر من رائحة الأرض، ترى تلك الورشة التي لا تلفت النظر من الخارج والتي لا يمكن الظن أن بداخلها جنة صغيرة تتفجر فيها الألوان في احتفالية مجونية مجانية بالحياة وكأنها عيد سرّي متواصل يحتوي تناقضاتها ومآسيها ليصب في بحيرة بريئة اسمها الفن، أو أن إله الخمر باخوس هبط متخفيا في ذلك المكان ليرقص ويلعب بالأشياء والمهملات وينفخ فيها من روحه ثم يتركها كأثر ويختفي.

منذ اللحظة الأولي وكأنه الإلهام، خاطبته باسمه المجرد. هل كان هذا بسبب من حميمية عالمه، أم أنها بساطته كشخص، أم كان إيحاءً منه لي وتخاطرا! عرفت فيما بعد أن هذه هي الحال مع جميع طلابه، الكل يخاطبونه كصديق وليس كأستاذ. كم كان جميلا عندما يأتي ساعةً في كل أسبوع فيطلب قهوة لجميع طلبته وينظر في أعمالهم. يستمع أكثر مما يتكلم. يوحي، بنظرة أو إشارة. مجرد حضوره كان يملأ المكان طاقةً تشحن بطاريات طلابه.

ذات صباح، فوجئت بفردة حذاء قديمة معلقة علي لوحة كنت أعمل عليها، هاج الفلاح داخلي لكرامته الفنية، وضحك الزملاء وقالوا إن ميخائيل كان هنا في الصباح وهو الذي علق الحذاء، فنزعته وأنا أسب وألعن، وسط ضحكهم الأخوي. كان على سنواتٍ أن تمر عليّ، وأن أمر بتجارب وأزمات كثيرة، عبر ترحالات خارجية وأخرى داخلية، لتدهمني فجأة ذكري هذا الرجل الذي انقطعت عني أخباره وأنا في متاهة البحث عن طريقي التي سحبت الأرض من تحت قدمي وعصفت بكل قناعاتي الفنية وثقتي في نفسي. تسلّطت عليّ فجأة ولفترة طويلة كل التفاصيل التي عشتها معه، وبدأ فهمي له كإنسان، ولعمله ذي الخفة والشاعرية يأخذ حيزه داخلي، بعد أن كان جانبا من عمله، بسبب محدودية خبرتي وقتذاك، يقبع في ركن مهمل من حجرة التقييم الفني في محكمة دماغي!
أذكر أنه كان كلما رآني قال لي:
Komm nach Köln
أو: تعال نأكل كسكس! وفي الطريق، في حي المغاربة بالمدينة، يشتري كل ما تقع عليه عينه حتى تتكدس السيارة: مقشات، أواني ذات أشكال غريبة، كومة الورود كلها من المرأة التي كانت ستتجمد بالتأكيد طوال اليوم من البرد حتى تبيعها، دمى أطفال… بعد أيام أجد تلك الأشياء وقد تخلّت عن هويتها الوظيفية لتسبح في مدارات الجمال الحر: المقشة تصبح وجبة ألوان شهية في عيد اللوحة. الريشة تخرج من القوقعة في همس مرهف رامز إلي اتحاد الأرضي بالسماوي، الحسي بالروحي. قطعة نسيج من مفرش مائدة تطير إلي مكانها المنمنم داخل اللوحة لتصبح وكأنها تقاسيم علي آلة سنطور في موال فارسي. صورة المرأة، المقصوصة من جريدة تفقد اسمها وتاريخها في ذلك الركن هناك وقد تحولت إلى رمز يتأرجح بين الكينونة والامحاء، ناشرةً عبقا أنثويا وسط غنائية من أشكال وألوان.
لوحة داخل لوحة. شمع. ذهب يتماهي في الشمع. ريش مغروس في الشمع. كرسي مكبل بالحبال يغوص في الشمع. أبواب محترقة تتحول بضربة لون واحدة إلي مداخلَ للجنة. تنقيط لانهائي يرمز صراحة إلي النجوم. أيادٍ تدفع عنها همجية العالم. صور قديسين ملصوقة وملطوخة بعلامة إكس. لحم بشري، منزوع من مجلات رخيصة، مرشوق بسهام الفن والشبق. انشطار يتأرجح بين التعبير وبين اللعب. ألوان ألوان ألوان... ودائما الذهبى، لون الشمس والحقيقة.

قلت انشطار؟ نعم، كانت أعماله تذهب في اتجاهين متعاكسين يكمّل أحدهما الآخر ويؤكده: اللعب العفوي ذو الجمالية الخالصة والبهجة؛ والتعبير المأسوي، الزاهد في اللون، بتناوله أشياء شائكة محترقة تسمع منها دبيبا جنائزيا تتجاوب معه أوتار القلب الغليظة لحقيقيتها وواقعيتها. كانت تلك المرثيات أقرب إلىّ من غنائياته بحكم تركيبتي المصرية النزّاعة إلي جمالية المأساة، والمسكونة بهاجس الموت. هل كان بوته في أعماقه شرقيا وهو الألماني ابن الشمال، أم أن هذا الهاجس همّ وجودي مشترك عند كل الفنانين؟ أم تراه وجد في انشطار الشرق وتناقضاته، مرآةً لانشطاره وتناقضاته هو نفسه ولهذا أحب الشرق وكان ثمن هذا الحب تجاهل المؤسسات الفنية الكبرى له، في أمريكا بشكل خاص؟

أذكر اندفاعاته الغاضبة وهو يتكلم عن بربرية إسرائيل وادعاءات أمريكا- كان ذلك بعد شهور من حرب العراق الأولي - مستخدما أبذأ الألفاظ التي كانت تخرج من فمه ببراءة تجعلني أضحك. كان يمتلك بيتا في المغرب، وكثيرا ما اشتكى من تزايد الفقر هناك حتى لم يعد، من غضبه، لزيارته مرة أخري. يتبني شابا إيرانيا التقاه في زيارة لإيران، يعيش في ركن قصي من ورشته، يدرس الاقتصاد، لم أكن أراه إلا في الصباح ساعة الفطور. قال لي: "في اللحظة التي رأيته فيها أدركت أنه ابني"!

يصحبني معه في زيارة لأمه في الشمال. سبع ساعات من القيادة. القيادة رقص وليست قيادة. صوت خوسيه كاريراس يهز السيارة أكثر من الطريق. يتوقف في كل مدينة في طريقنا ليشتري، كالعادة، ويلتقط كل ما يصادفه: باقات ورد، أقفاص فاكهة، صناديق حلوي... يسأل النادلة أن يأخذ المفرش الصغير المطرز الذي يوضع فوقه الطبق، يطويه بعناية ويضعه فى جيبه وهو يرمقنى بنظرة طيبة. أدرك انه كان يعمل حتى وهو يأكل. نشرب القهوة في مكان آخر وليس في نفس المطعم. يقلّد حركات وجهي القردية وطريقتي المندهشة في التلفت. أري السعادة الخالصة لأمه الضئيلة الحجم وقد استحال يومها عيدا. أفكر في أمي المسكينة في القرية البعيدة تقضي اليوم كله تصلي دون جدوى، ولن يسمح لي الواقع أن أهديها يوما كهذا. نذهب إلي مرسم له في البراري لم يكتمل بناؤه. يلتقط بعض الألواح الخشبية كان قد بدأ العمل فيها منذ فترة وأهملها. نعود بها متأخرين ليلا إلي ورشته في كولونيا. استيقظ في الثامنة صباحا لأنبهر برؤية أحدها مكتملا ومعلقا ببهاء. أحتارُ طويلا في تحديد وقت انجازه. آخذ سنوات كي أدرك أن عنصر الزمن لا معني له في العملية الإبداعية، فالرؤيا تحدث كالبرق في اللازمن، وعملية الاقتراب من هذه الرؤيا وتجسيد معادل لها، شيء له علاقة بكثافة المادة وثقل الواقع، ويتساوى فيه أن تتم في دقيقة أو أن تأخذ شهورا.

أعود وأتلمس تفاصيل ذاكرتي: البوابة الحديد أمام حديقة غير مشذبة تعملقت فيها الطبيعة. الكلب الضخم البليد النائم دائما. الممر الضيق الطويل. المطبخ الحجري الكبير علي شمال المدخل. إبريق الشاي الخزفي الأبيض فوق شمعة لا تنطفئ تحفظه دافئا. صالة الاستقبال علي يمين الممر، بجدرانها الإسمنتية ولوحاتِه الكبيرة وطاولات عمله التي لا تجف الألوان من عليها: هذا مقام راحة الأرواح. فيها شيء من روح الشرق، من خفة أوقات العصاري، من رائحة العيد، من رقصة كارمن. العصفور النادر النوع في قفصه الباروكي. التليفون البعيد الذي يرن طول الوقت ولا يرد عليه إلا إذا تصادف وكان قريبا منه. غرفة نومه المتجردة والشهوانية في الوقت نفسه، بها حامل لوحات صغير تخرج منه رسومات ما قبل النوم أو وقت الاستيقاظ، في نهاية الممر. كتاب، في ركن ما، مفتوح دائما علي صفحة ما. تنكسر الطرقة يسارا لتقود إلى ورشة هائلة تتكدس فيها مئات الأعمال مابين تصوير وأعمال مركبة. أصعد خمس درجات كي أدخل إلي ورشة موازية بنفس الضخامة، أكثر إضاءة، مفروشة بعشرات اللوحات التي لا تزال في طور العمل. هو، قاذفا كيلوجرامات من الألوان فوق اللوحات الراقدة ومصوّبا خرطوم الماء عليها كي تأخذ ما تشاء من أشكال وسكك حتى لحظة ولادة الشكل واستنبات اللحن الأساسي من ذلك الصخب الهلامي وانتشاره في سوناتا اللوحة.

يطبخ يقرأ يسمع الأوبرا الزاعقة يرسم يتابع التليفزيون ويرقص في نفس الوقت ويدع التليفون يرن. لا كلمة واحدة عن الفن. لكن ما وصلني منه، وأخذ سنين حتى اختمر، أكبر فاعلية وإثراءً من أي كلام. وحادثة الحذاء المعلق تلك لم تكن مجرد مزاح، بل رسالة غير مباشرة، وكأنه يفتح أمامي أبواب التجريب و الخروج من دائرة الفكرة المتسلطة إلي آفاق آخري، حتى تعود الفكرة بعفوية، وتقفز الأشكال بخفة أكبر. آخر ما أنجزه كان عملا فراغيا ضخما، فيه من الخيال والغموض ما يتلامس مع حس المبدع بنهايته: أحد عشر لوحا نحاسيا بارتفاع ثلاثة أمتار محفور عليها بالأسود تنويعات لشكل آدمي رافع يديه في استسلام، أو كمن يدفع عن نفسه شيء، يتوسطها في الغرفة حلزون حديد هائل يحمل في تصاعده مئات من الشموع المضاءة، وينتهي في القمة بكرةٍ ذهبية كبيرة كأنها الشمس.

كنت في الطرف الآخر من الأرض عندما عرفت خبر رحيله وهو في الخمسين تماما، بثمرة ناضجة وجبين ذهبي. فيما بعد، قال لي صديق جزائري كان مقربا إليه، إن الكثافة التي عاش بها الحياة جعلته راغبا في الموت!

يوسف ليمود
النهار اللبنانية



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاطع في حيّز العابر
- صلاح بطرس .. منحوتات تستنقذ ما يتلاشى من روح مصر
- ليذهب فان جوخ إلى الجحيم
- سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث
- -بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان
- كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك
- فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
- بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
- إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
- مقدمة عن الجسد في الفن
- الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
- شيماء عزيز .. بالأسود ترسم أجسادها وبه تخفيها
- حجر قايين
- فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه
- صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن
& ...
- مائة عام على الفنون الجميلة في مصر!
- أتجرد من ماذا لحساب ماذا
- الرحيل عن بيروت
- في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة
- في رحيل المصور حسن سليمان .. وقفة بين المرئي واللامرئي


المزيد.....




- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب