أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - في جغرافيا ما فوق السحاب















المزيد.....

في جغرافيا ما فوق السحاب


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2668 - 2009 / 6 / 5 - 09:09
المحور: الادب والفن
    


غريب عسقلاني – مقاربة نقدية

في جغرافيا ما فوق السحاب
"قراءة في قصص القفز فوق السحاب للقاص محسن الغمري"
في مجموعته القصصية الأولي, القفز فوق السحاب, يفاجئنا القاص المصري محسن الغمري بقدرته على تطويع السرد بيسر وسلاسة إلى الوجهة التي يريد, ويأخذنا إلى فضاءدئه بلباقة من يمتلك المعرفة والخبرة والتجربة العملية, ويمتلك القدرة على صياغة تشكيلات قصصية محملة بحوافز المتعة والدهشة, فنحن إزاء كاتب يعيش منذ ثلاثين سنة في علبة حديدية طائرة, مسيرة بفعل قوانين صارمة تحركها وتضبط إيقاعها بين إقلاع وهبوط من أو إلى أراضي مطارات منتشرة في كل بقاع المعمورة, هذا الكائن الهوائي الطائر يبتعد عن جغرافيا الأمكنة التي تعارفنا عليها, ويختصر الأزمنة التي نعيشها بفعل تجاوز خطوط الطول والعرض, تتداخل عنده الفصول التي نعيشها بشوق أو بملل, وربما يعيش الفصول جميعا في مدى أقصر من تعاقب ليل ونهار!! فكاتبنا درس الهندسة الزراعية لينشغل مع التربة والنباتات, ويخضع للطبيعة شريكا أقوى في الإنتاج, تأخذه أقداره إلى جغرافيا الهواء مضيفا جوِّيا ثم رئيسا لطاقم ضيافة وما زال, فتتبدل معه الأجندات والمواعيد والأمكنة, وحتى الطوبوغرافيا, فأرضه هواء وسماءه هواء وبحره هواء وماؤه مغمس بالهواء, يخرج من مدارِ جذب المرئي إلى هواء يتجاوز هواء.. يلتقي في علبته الطائرة بكل أصناف البشر, وسيلته لغة ثالثة, هي على الأغلب, الانجليزية, وربما بعض كلمات مساعدة من لغات أخرى, هذا الفضائي يصبح وجوده على الأرض استثناءً, وحياته خارجها قاعدة لها محددات غاية في الاختلاف وغاية في الدقة.. لذلك نراه يتأمل حالاته وحالات الآخرين بثراء إنساني وعاطفة جياشة للحياة, وحس صوفي رائق يستصغر ما يتصارع عليه البشر, فنراه مأخوذا لدرجة الفجيعة من انزياح معايير الأرض عن منطق العقل, وقد يقف باسما على استحياء من رغبات رجل أرضي بكل شهواته المشروعة وغير المشروعة..

مراهنات الأثير

في قصة النطاطين يصف عالمه النفسي برهافة وقد استبد به القلق من احتمال إحالته إلى عالم الأرض, ومنعه عن الطيران بفعل قرارات حسيب الحسباء المدير الجديد لتكية القفز فوق السحاب, أو بفعل نتيجة القرار الطبي لشفخانة التكية بعد أن صارت تزوره نغزة في القلب.. "يا لها من صنعة عجيبة!! تجعلك منهك القوى خافق القلب منقطع الأنفاس مع استمتاع حسي يجعلك تنتفض كمن أتى شهوته بحسناء, تجري بدمك.." هذه التركيبة النفسية الناتجة عن إدمان ايجابي للمهنة, واندماج كامل في عالمها تفجر لديه قدرات كامنة "يا الله!! كم أعشق قدرتي المكتسبة على خلق حوارات مختلفة, ألبس بدلة الغوص في نفوس الآخرين دونما استئذان أو حرج.."
هذا البطل الأثيري المتسلل تحت جلود الناس, يختفي عندما ترتطم الطائرة بالأرض وتتحطم, لا يعثروا علي جثته بين الضحايا, لأنه ربما قد اختار وفي اللحظة المناسبة القفز في الهواء ولو ميتا, وجسر الهوة بين الواقع والأسطورة بالقفز إلى بؤرة زمكانية ملتبسة
وفي قصة حكاية من هناك, وعلى لسان زميل الهوائي -الذي ربما يكون هو- حكاية يمكن أن تضاف بثقة إلى حكايات ألف ليلة وليلة, بإسلوب متأمل ساحر ينثر فهماُ خاصأً بالمرأة "لاحظ السيدة, وقد فتحت عينيها, ترقب القفزات الرتيبة لجزيئات الزمن الهاربة من قدر مكتوب" من خلال علاقة عابرة مع صائدة رجال موسرة من نساء الخليج ساحرة الجمال " وضحكت كأنثى تعتصر اللذة, فيسيل الكلام في دلال وتكسر" حجزت صالون الثمانية, وكان الراوي مضيفها المتفرغ لخدمتها, فيستدعي خبرته بنساء الأرض للوصول إليها, فيما هي تعده لقضاء وقت تفرغ معه بعض شبقها " ثم, وبنغمة خاصة جدا من وتر أُستخلص من أحشاء شبقها وبلغة غانجة؟ واعدة قالت" وتتفق معه على خطفه إلى قصرها في الوقت المحدد, ليعيش أجواء فاقت ما يراه في أفلام السينما, وظهرت له " ترتدي قميصا هفهافا, يعلوه غلالة رقيقة من نسيج واحد له لون بشرتها, بياض مشرب بحمرة كوردة بلدية طازجة ذات طلاوة خاصة, وريح جسدها يفصد عرقا هو خليط من دهن العنود والعنبر ممزوج بعطر فرنسي".. يندمجان في لعبة استكشاف العواطف واختبار الشهوات على موج الشبق العاصف, وتقدم له شرابها السحري بخلطه العجيبة " صنع من شهد الحب برغبة مراهقة, مذاب فيه درهمان من حرمان أنثى, وأضيف له خلاصة جسد شبق, وخفقا بزلال حنان امرأة في بوتقة المشاعر المتقدة ونضج على شعلة أحاسيس ملتهبة" وكما نساء شهرزاد, وبلغة إيحائية شاعرة تتصاعد مع الرغبات المشبوبة لتهبط إلى قاع الهلع, إذ يكتشف أنها تمارس الغواية والخيانة بالتواطؤ مع زوجها صائد النساء الشقراوات, والذي يمتلك أنواعا عجيبة من البنادق يستخدمها في حال القبض عشيق في مخدعها, ويخفيه تلافيا للفضيحة, ما يجعله فريسة للتبول اللاإرادي الذي يلازمه كلما وقعت عينه على السلاح..
وفي قصة حكاية ثانية يأخذنا إلى مغامرة أخرى من مغامراته في الهواء وبعد عشرين سنة من الطيران, خَلعت رداء الطيبة عن الفتي الذي كان, وألبسته عباءة وأقنعة الخداع والمناورة وأصبح يمتلك القدرة على النفاذ إلى قلوب النساء بتكتيكات لا يجيدها غيره, تفاجئه بعربية سليمة وقوية مشوبة بلكنة ساحرة, تبز لغته التي طالما يسرت له سبل الوصول بما ينثره في طريقهن من مفردات ولكنه هذه المرة يلتقي بامرأة " ابتسامتها يمكن أن تستخدم أداة للتنويم المغناطيسي وسلب الإرادة بدرجة تجعلك تعتقد أن جسدها كاملٌ في حالة ابتسام" وما أن يهبطا إلى الأرض حتى تداهمه بسرعة وتفسد عليه تكتيكاته وتنطلق به " كفرس جموح معلنة العصيان على خنوعها كمطية.." إلى عالم سحري وثراء مخملي مع أبنه رجل الصناعات الثقيلة الايطالي الذي عاش في مصر, وما زال يعشقها, ولكنه غادرها مكرهاً بعد ثورة يوليو, وفي وقت الغياب المسروق تعرض عليه رغبتها به, ويعرض الأب مشاريعه المرتقبة في مصر الانفتاح, ويكلفه بتقديم معلومات لتأسيس قاعدة صناعية مضمونة النجاح, ولكنه عند الخروج من دائرة الجذب يعود إلى نقاء الفتى الأول, ويدلي بما حدث معه لضابط الأمن الذي يفوز بترقية على اعتباره مكتشفا لخلية اختراق إسرائيلية يقودها ضابط يلعب دور رجل أعمال وعشيقته نارية المزاج والجمال والمدربة على إسقاط الصيد بيسر وسهولة..
وفي قصة دارعة بشرنقة إلى حين يرصد الكاتب حالات المرأة "الدودة القارضة التي تشق شرنقتها المدفونة في الطين, وتزحف بسليقة فطرية مجردة ضد اتجاه الجاذبية نحو شجرة خضراء, تهاجم الأوراق الخضراء بشراهة وكأنها تنفذ مهمة مرسومة" ,وذلك من خلال رصد متأمل ودقيق لفصول من حياة زميلة العمل المضيفة سمراء التي تخرج من حصار فقرها إلى مدار طموحاتها وقدرتها على حصار الرجل, بوسائل أنثوية تعزف على وتر الحالة, غير آبهة بما تسببه من حرائق ودمار. فنراها تعزف على وتر الفقد الحزين للرجل الذي يقف أبوها ببابه, فيسهل لها أمر الوصول إلى وظيفة مضيفة جوية, وتدخل العالم الذي طالما حلمت به, وبعد أن تستوعب أجواء العمل, تداهم الطيار الغني الوسيم, وتتزوجه بشروطها, غير عابئة بزوجته وطفليه, ولكنه عندما يشبع من عسلها, ويخشى من طموحها يحنث بوعده ببذرها طفلا, ويرفض فكرة طموحها في الارتقاء من طاقم الضيافة إلى قائد طائرة, فتتركه إلى ذي الشعر الأبيض الذي يعاني من زوجة متسلطة أنجبت له ولدا معاقا ليتعايش مع القهر والحزن, وتنجب الطفل الموعود لكليهما, وفي أول رحلة تقود فيها الطائرة كان ما يشغلها هو رجل المرحلة القادمة..
وفي قصة مشاعر وألغام, يلتقي في مركبة الهواء بموليزا عصرية "عينيها تجيد التحدث بكل لغات البشر, تسأل وتجيب وتحاور وتناور, وتعطي إشارة خضراء بالاقتراب, وتتحول فجأة إلى منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب منها أو التصوير" يقع في مدارها ويتعرى راغبا أمامها معلنا عن وحدته وحاجته, فحياته المرتحلة جعلته بلا عش ولا وليف ولا حبيب ولا حتى صديق " كم أفتقد هذا الحبيب الصديق, الذي أتجرد أمامه من أقنعة الحياة اليومية, لأكون ذاتي دون أي تجميل.. ترهف السمع لكل كلمة ونبضة تصدر عنه, فتأخذه النشوة من ضعفه أمامها معها, ويهتف: " ما أجمل امرأة لهل قلب بآذان صاغية.." ويسألها عن موقعه منها, فتتحول إلى امرأة أخرى مفاجئة, وقد داهمتها موجة حقد طاغية, وحدثته عن "عجوز سكير عربد بجسدي الصغير.. وأفسد شيئا ما بأعماقي, وخلق إحساسا غريبا , مزيج من وقاحة مريرة واستسلام جبان, وزرع الحقد عليكم معشر الرجال.." ما جعلها تقرر أن تكون نقمة على الرجال, فهي القادرة على جعله أسيرا ينام على نبراتها, ويصحو عل نظراتها وعندما يدمنها تبتعد عنه تاركة إياه مع عذاباته.. ولكنها تعترف أمام صدقه أنه الرجل الوحيد الذي وضعته في قائمة الصديق لصدق مشاعره نحوها, " فالحب كالظل بنزوي بغروب, أما الصداقة باقية بقاء دقات القلب" فهل كانت صادقة في ما تقول؟ أم هو وهم آدم الذي ينظر لذاته مركزا للكون!!؟ ربما كان ذلك سؤال تطلقه القصة..

والتأمل من خارج المشهد

هذا الكائن الأثيري, الذي يمارس وجودا مؤقتا على الأرض كيف يتعايش مع الحياة على الأرض بما آلت إليه, وبما يحركها من عادات ومواريث وتقاليد وأحكام, وكيف يكون تأويله لتصرفات البشر وهو السادر في حالاتٍ تأملية تقوم على خبراتٍ خاصة ومفاهيم شكلتها التجربة المقرونة بالغياب والحضور المتقطع؟
أنه يعيش دهشة المفاجأة لاختلال الموازين والعلاقات من حوله, ويحاول جاهدا إخضاعها لمنطق العقل الخالص, متكئا على شفافية المشاعر الأثيرية العارية من الرتوش, فينداح مع حالاته بين نشوة الاكتشاف وخذلان الواقع, فلا تمر عليه الأحداث والأقوال مرور العابر.. يرتفع عن الواقع قليلا ليرى تفاصيله ومكامن تفاعلاته, ويعيد إنتاجه من جديد على هدي استيعابه للحياة, ويطلقه عبر بنية فنيه تعطي الواقع بقدر ما تأخذ منه, فنراه في قصة القتل 1810مرة, يقف مشدوها لدرجة الفجيعة أمام التربية الخاطئة والتقاليد البالية الراسخة في الأوساط الشعبية والمستمدة من موروث ضارب في القدم, برصده امرأة مختلفة " لها قلب ذو جينات أسمنتية, كلما سُقيَّ من لين زاد قساوة " وترى في الحب لعبة اخترعها الرجل لامتطاء المرأة وتطويعها لرغباته وشهواته, وان التعامل معه يجب أن يكون من باب الاحتياج ولفترة محدودة, فهو من يملك السائل السحري الذي يعبر بها بوابة الأمومة التي تعطيها دورها في الحياة, وهذا ما يبرر زواجها من رجل قصير في كل شيء أعطته وظيفة زوج في شركة تترأس مجلس إدارتها, وتنجب بنتا تشربها مفاهيمها وتقوم بختانها لتخلصها من العضو الذي يقود إلى الرذيلة والحاجة إلى الرجل, لكن البنت تصبح صبية عفية يخال لناظرها أنها تخفي طيورا برية جامحة في طي ملابسها, وبفعل الضرورة والحاجة تتزوج من رجل يشتعل بها رغبة وشبقا, ويرتع بها حارثا لحمها, وهي المستباحة الميتة, المنتظرة لحبل سري ينبت في خميلتها دون جدوى, فتعيش العذاب والشعور بالدونية والاستباحة, ما يقودها إلى التخلص منه بالقتل, بعد أن قتلها حسب مفاهيمها آلاف المرات, وكأني بالقاص, ومن خلال رصده العميق للظاهرة وبلغة شفافة حفلت بالتهويمات على لغة ساحرة شاعرة,عمقت من حدة المفارقة, وقدمت فجيفة تأخذنا إلى إعادة النظر وبوسائل جديدة في تداعيات الموروث الشعبي والخرافة السلبية في تكريس قيم مدمرة للبنية النفسية للإنسان المصري..
وفي قصة لا تبكِ يرضع نصيحة أبيه مع حليب أمه بأن الرجال لا يبكون, فعاش لم ير أحد دموعه, وكأن عينيه أغلقتا على بئر جف ماؤه, ولكنه يفيض على صدر أمه كلما ادلهم به الوقت, وحاصرته متاعب الحياة, ويدلق الدمع مدراراً على صدرها, وعندما جلس إلى جوارها وهي تنسحب من الحياة, تراءى له انهيار حائط مبكاه, وشوهد لأول وآخر مرة وهو يبكي.. فهل جف ماء العين بعد غياب نبع الحنان؟!!
وتبدو قدرة الكاتب على التقاط اللحظات المبكية المضحكة برهافة وسخرية لطيفة ولكنها جارحة واخزة تطلق الأسئلة!!
ففي قصة جدار الوهم يتابع الشاب الجنوبي, الذي اكتسب صلابة وملاحة شكلها العمل في قطع الصخور في الجبل ولوحتها الشمس, هذا الشاب صلته الوحيدة بالعالم هي دار السينما الموجودة في البلدة القريبة, وقد شاهد كيف تقدم المدينة للشبان مثله فرصة الثراء والنعيم, فيشد الرحال إليها ويصلها مع غروب الشمس, وينام في حديقة بأحد الأحياء الراقية, ويصحو مع الشمس ليجد نفسه محاطا بعدد من أبناء جلدته.. تصل المكان سيارة تحمل يافطة استديو السينما, يهبط منها رجل يشير للبعض وهو منهم للصعود إلى السيارة, وفي الاستديو يطلب منه هدم جدار..
يقف مخذولا!! هل هي الفرصة التي يحلم بها؟ أم هو جدار الوهم الذي هدمه؟؟
ذات اللقطة نراها في قصة الثمن الباهظ مع الشاب الفقير الذي حباه الله بالوسامة والجسم الرياضي, فيقع في الغرور والنرجسية ويخيل له أن النساء سيتساقطن تحت قدميه, ويعتاد المشي في الحي الراقي القريب من حيه الفقير, حتى كان يوما توقفت عنده سيارة تركبها فتاة الأحلام تأخذه إلى شقة فاخرة, وتسقيه شرابا, ويغيب عن الوعي, ليصحو مجردا من ملابسه, ومنهكا ومستباحا من قبل رجال شواذ!! وقد وقع فريسة, ولم يكن صياداً, وكأني بالقاص يحذر من الحراك الطبقي بالوسائل غير المشروعة, حتى ولو كانت تمنيات وأحلام, في مجتمع صارم يسرق حتى الأحلام ممن لا يمتلك شروط المنافسة
أما في قصة زوجة مصرية جدا, نرى المفارقة الساخرة في ثوب آخر, فالرجل كثير الأسفار وكثير النساء في بلاد الله بعيدا عن زوجته التي ترى في الزواج وظيفة اجتماعية, يصاب في احد سفراته بمرض كاد يقضي عليه, فيقر العودة إلى زوجته حبيبة وعشيقة وشريكة, ويعيد لها دورها, ويرى كل النساء فيها, وفي آخر سفراته أشتري ملابس ساخنة, ومني نفسه بليلة ساخنة, وعدما أغلق باب الحجرة عليهما, وعرض ما جلبه, نفرت ساخرة رافضة:
- يا مصيبتي!! أنت اتجننت يا راجل!! هو أنا ح اشتغل رقاصه..
ولعل المفارقة تكون اشد إيلاما وفجيعة في قصة جنون وكاميرا مع الفنان المصور السينمائي الذي يوحي للآخرين أنه شخص مختلف, وانه عبقرية يصعب حتى على المثقفين استيعابها, ولكنه ينتظر الفرصة لإظهار ما عنده, وفي الحالات النادرة التي تحدث عن أفكاره بين أن " الحياة مبنية على السالب والموجب, وأن الأعمال السالبة إبداع لا يقل قيمة عن إبداع الموجبة, وذلك تحتمه صيرورة الحياة.."
ولأنه المختلف, عندما واتته الفرصة كتبت الصحف عن رجل يقدم زوجته للرجال ويقوم تصويرها سينمائيا..
هل هو الاختلاف أم العجز والسقوط!!
أما المبدع الايجابي الذي لا يجد آذانا صاغية لما يقول, ولم يوفق بنشر ما يكتب نراه في قصة وغرق في بحر البشر يلوذ بالنهر, كمن يلوذ بالحقائق الخالدة, فتخرج عليه عروس أفكاره تجمع بين شبق الإنس وسحر جنيات الحلم, يبثها أشعاره, ويروي عليها أخباره, فتستجيب له استجابة العاشقة الملتزمة المؤمنة به, ما يزوده بطاقة البحث من جديد, ويغوص في بحر البشر يبحث عن الحقيقة..

وبعد:

فالقاص محسن الغمري مبدع يتريث طويلا قبل إطلاق عصافيره القصصية, ويجتهد كثيرا عند تلوينها شكلا ومضمونا, ويبحر في طقوسه الخاصة ليقدم بجلد الباحث المستقصي ما يضيف ولا يراكم, باحثا عن موطئ قدم بين كتاب هذا الفن المراوغ والجميل, ونراه مع مضامين تتعدى ظواهر القضايا المطروحة بالنفاد إلى مركباتها الداخلية ومفاعلات حركتها بتحريض تأملي فلسفي سلس, يرتكز على خبرات متعددة, ومعرفة فكرية واضحة, وتمكن من اللغة لدرجة عشق خاص, تأخذ القصة إلى تهويمات ذاتية تزيح الواقع نحو الأسطورة, فنراه يختتم المجموعة بقصة عزف منفرد, وكأنه يشير إلى ذات كاتبه تعشق تجليات البوح المحمول على لحظة عري, وكشف ذاتي شديد العذوبة والصدق " أنتِ ما ترى العين وما تسمع الأذن وما ينطق اللسان, أنت أمسٌّ سِعَدتْ به ويوم أرفل فيه, وغدٌ مفعم بأمل رؤيتكِ, لأستمع لكِ تتحدثين فكلماتك القليلة التي تنطقين ليست ككلام بشرٍ,فلكِ لغة خاصة خُلقت للسانكِ أنتِ لا يقدر على النطق به غيرك.."
وفي جانب تقنيات القص يدخل لعبة الإيهام بكفاءة واضحة, فتبدو قصصه محمولة على لسان الراوي العليم, وفي بعض الأحيان على لسان الراوي الضمني, ما يوحي للمتلقي أنه إزاء بنية تقليدية, ولكن سرعان ما يغرق مع الراوي في بحر من التفاصيل المتدافعة والمتوافقة على تشكيل كيان السهل الممتنع, يملك بصمته الخاصة, من حلال تقاطعات الزمان والمكان المادي مع زمكانية معنوية داخلية موازية, ومع تكوينات لغوية تأخذ دراما الحياة إلى أفق الأسطورة, بتآلف الواقعي مع المتخيل والمدرك الحسي مع المدرك العقلي والمعنوي, ولعل ذلك يبدو أكثر وضوحا في قصص البوح الذاتي حيث يغترف من تجربة خاصة, ربما هي بعض سيرة ذاتية له أو لمن يعرف..
----
* محسن الغمري قاص مصري يقيم في القاهرة, ويعمل رئيس طاقم ضيافة جوية, يكتب القصة القصيرة وقد اصدر مجموعتين قصصيتين
* القفز من فوق السحاب مجموعة قصصية- الطبعة الثانية منشورات دار قباء الحديثة – القاهرة عام 2007 وقد صدرت طبعتها الأولى في القاهرة عام 2005



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحر - قصة قصيرة
- يسرا الخطيب.. وعطش البحر
- شرفة الانتظار
- شظايا آمال الشاذلي وسؤال النوع الأدبي
- مقهى الذاكرة
- مرايا لا تعكس الصور
- حكاية الليلة الثانية بعد الألف..
- فوق الحياة بقليل
- فلتشربوا الأنخاب
- نداء..نداء..
- هنا غزة
- الأميرة.. وهواجس النورس - نص مشترك -
- للصمت أبجدية ولغة..--نص ثلاثي مشترك -
- رسائل في ومن الغربة -نص مشترك-
- المطر
- ما أضيق ثقوب الناي..
- مكابدات السندباد مع طائر الرخ
- تناسل الأسئلة علي ضفاف الدهشة
- رجع ناي وترانيم وتر - نص مشترك
- بطاقات الى امرأة تنتظرني - 9 -


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - في جغرافيا ما فوق السحاب