أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسب الله يحيى - الدرس الثامن في التربية الشيوعية















المزيد.....

الدرس الثامن في التربية الشيوعية


حسب الله يحيى

الحوار المتمدن-العدد: 2661 - 2009 / 5 / 29 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هذا أسن شرطي يدخل بيتنا،وأول شرطي يرفض إستلام (هدية) من العائلة!
كما أنه الشرطي الوحيد الذي عرفناه متعاطفاً بصدق معنا ومع أخـــــي السجين وعد الله يحيى النجار في سجن الموصل المركزي.
أما أن عمره قد تجاوز السن القانونية ؛ فهذا أمر واضح ، وقد علمنا فيما بعد ان الحكومة قد مددت سنوات خدمته لثلاث سنوات لاحقة ، وذلك بهدف الاستفادة من خبرته الطويلة وإخلاصه في عمله وتدريبه فريقاً من الشرطة لتأهيلهم على ممارسة مهنتهم حراساً وسجانين وإداريين ..
أما رفضه أستلام (الرشا) التي نزهنا وقع فهمها وصداها في اذني الشرطي وسميناها (هدية) ،فان امر رفضها لم يكن بدافع خشية الشرطي من ابلاغنا الحكومة بشأنها بعد أن شاعت في ذلك الوقت فضيحة الشرطي الذي يقف في باب المستشفى العام في الموصل الذي كان يحول من دون زيارة ذوي المرضى ما لم يدفعوا رشا نقدية معلومة اليه ..
وعندما دون أحد الزوار رقم العملة الورقية التي دفعها للشرطي وقدم شكوى ضده لأدارة المستشفى وتم التحقيق معه والكشف عن العملة ..
بادر هذا الشرطي لاستبدال اسلوبه في استلام الرشا وذلك عن طريق استلام النقود المعدنية رافضاً استلام أية نقود ورقية مطالبا استبدالها بعملات معدنية لأنها بلا أرقام وليس بوسع أحد إتخاذها دليلاً ضده ..
لم يكن رفض صاحبنا الشرطي ينطلق من هذه الزاوية أبداً وإنما كان ذلك طبعاً فيه ومساراً في حياته الوظيفية وإكراماً لسجين إستثنائي يحترمه ويمني نفسه بولد صالح يماثل ولدنا وعد الله النجار ..
هكذا قال لأبي ..
وكان في جميع زياراته يأتينا ليلاً ومع هبوط الظلام .. يتسلل الى بيتنا كما لو انه يتخذ موقفاً مغايراً لما هو مألوف .. وبالفعل كان هو كذلك .. بحيث كنت أراه وهو في زي مدني ويتجنب مشاهدته أو رصده من قبل أي مخلوق ..
كان يتلفت الى كل الجهات ، وعندما يجد أحداً في طريقه يتجاوز زقاقنا وبيتنا ويعود الينا في وقت آخر .
لم يكن أحد يعرف أسمه ، ولم يكن بمقدور أحد سؤاله عن إسمه الحقيقي .. يكفي أن نقول أبو حسين .
وذات مرة أخطأ ابي وناداه بأبي اسماعيل .. فنهض غاضباً ..
- لست أبا اسماعيل .. انا ابو حسين .. والحسين عاش نظيفاً وقوته في نظافة عقله وقلبه وروحه .. اما اسماعيل وابو اسماعيل فهما لقبان ملازمان للمرتشين والفاسدين في الشرطة وانا لست منهم .
اعتذر أبي مراراً .. وبالكاد قبل ابا حسين الاعتذار على مضض .
وغاب أبا حسين لأسابيع تالية امتدت الى أكثر من شهرين .. حتى وجدته ذات يوم امامي ويدخل عاجلا فيما كنت اروم فتح الباب ولم يترك لي فرصة حتى ارحب به وأساله عن غيابه وأطمئن اليه ..
- أهلاً .. اهلاً عمي ابو حسين.
- هل والدك موجود ..؟
كان على عجل ، بحيث لم يجد وقتاً حتى للاجابة على سلامي .. كان مرتبكاً ، وقلقاً وحذراً ومهموماً .. وتوجه الى غرفة قميئة كان يعرف ان أبي مستلق فيها معانيا من جملة امراض .
- ها .. ابو وعد الله ، انت زين ، وعد الله زين ولكن أمر نقله الى سجن البصرة صدر اليوم وعليكم مواجهته قبل ذلك .. القطار يغادر المحطة في الساعة التاسعة .. امامكم ساعة ، ساعة واحدة.
عجل ابي بالحركة .. اراد ان ينهض ويقفز من مكانه متوجهاً الى لقاء أخي ..
- ياب .. نحن سنذهب نيابة عنك .. انا وامي واخواتي سنذهب بدلاً عنك ..
- وانا انتظر .. ووعد الله يتم تسفيره ولا اراه .. وقد لا اراه الى الابد ..!؟
وجدت في كلمات ابي الاصرار .. ورضخ ابو حسين والاهل الى اصراره وساعدناه على مغادرة سريره .
خاطبنا ابو حسين :
- يصعب عليّ المجيء الى المحطة ، لقد ودعت وعد الله وهو في السجن .. سأجيء اليكم غداً .
كان وعد الله محاطاً بعدد من الحراس ومكبلاً ومقيداً بقيود مشتركة مع شرطي شاهدناه عبر النافذة .. لوح لنا بيده الثانية .. فيما كانت حركة القطار بطيئة وتستعد للاسراع ..
قال أبي :
- حمداً لله .. لقد شاهدته قبل أن اموت .. سأموت الآن مرتاحاً ، وانا اغمض عيني على وجه وعد الله .
بكينا جميعاً .. كما لو اننا كنا ننتظر هذه الكلمات ونستأذنها لنبكي سوية .. على أخ يغادر الى سجن بعيد ، وأب مرشح للموت في أية لحظة ..
كانت امي أكثرنا هماً وأكثرنا احتباساً للألم .. مثلما كانت أكثرنا قدرة على احتمال الصبر وهو في قمة الأذى .
أمسكت ابي وجعلت تحتضنه في حضرتنا بلا حذر :
- ابو وعد الله .. وعد الله بخير ، وعد الله سبع ، وعد الله اعتاد على المصاعب ، وعد الله لايذل أبداً .
- والله تمام .. هذا الذي يجعلني اصبر .
جعلت استعيد هذا الحوار مع نفسي ، متسائلاً :
- من أين يجيء هذان الابوان بكل هذا الصبر العنيد وبكل هذا الاحتمال على الاذى ، وبكل هذه القدرات على مواجهة الصعاب .. وهما لايعرفان السياسة والسياسيين .
كانت دموع اخواتي الستة مكفنة بعباءات سوداء لاتظهر من خلالها سوى وجوه شاحبة وعيون مملوءة بالدموع واصوات نحيب مكتوم .
قالت اختي الكبرى في حسرة :
- إية .. سنبقى معذبين من وراء الشيوعية؟
أجابت أمي فوراً :
- إبنتي .. وشبيها الشيوعية ، الشيوعية صنعت رجالاً .. هل من أحد مثل وعد الله؟
سكتت اختي ولم تعلق ..
وصلنا الى البيت في قلب ليل شديد العتمة .. وجدنا في زاوية من الزقاق ثمة شبح لرجل ما .. تبيناه بوضوح ، أنه الشرطي ابو حسين الذي توجه الينا على عجل وسألنا :
- ها .. رأيتموه ، وصلتم اليه قبل مغادرة القطار .. ها ؟
قالت أمي :
- إي عيني ابو حسين .. الله يرضى عليك ، هذا فضل منك لن ننساه.
- أختي أم وعد الله .. وعد الله ليس ابنكم بس .. وعد الله ابننا جميعاً.
افتخر أن يكون لي إبن من صلبي مثل وعد الله ( الله يحفظه) .
ودعاه والدي للدخول وجعلته يتقدمني :
- ابني امسك ابوك ..انا ادخل.
ودخلنا تباعاً .. يتقدمنا أب عليل ، وام تكتم غيظها وحزنها العميق وست أخوات ينتصبن كما لو كنا الواحاً من الفحم الذي احرقته نيران الصبر الثقيل .
كنت الوحيد الذي يعمل على جمع كل هذه النفوس المثقلة بالحزن والتحلي بالهدوء امام ضيف نجله ونكبر فيه مساعدته لنا ولعزيزنا وعد الله .
جلس العم ابو حسين الى جانب أبي قال :
- ابو وعد الله .. لماذا انت حزين الى هذا الحد .. من كان له ولد مثل وعد الله يجب أن يباهي نفسه .
سأله أبي :
- حتى إن فقدته؟
اجاب ابو حسين بكلمات كان يحاول من خلالها إقناع ابي :
- ابو وعد الله .. كل الاشياء الجميلة سنفقدها يوما ما ،ما من شيء ثابت في هذه الحياة الى الابد سوى المواقف الشريفة والنبيلة والشجاعة .. ووعد الله يحمل مثل هذه المواقف .. الا يكفيك هذا ؟
صمت والدي .. ومضى أبو حسين يتحدث فيما كان الشاي الذي امامه قد فقد بخاره وصار بارداً ..
- ابو حسين اشرب شايك .
تناول ابو حسين قدح الشاي ودفعه في جوفه مرة واحدة ..
- هل ارتحت .. شربت الشاي !
- ابو وعد الله لم تسألني عن سبب تعلقي بأبنك وعد الله .. أنا لست شيوعياً ، ولكنني سأصبح شيوعياً إذا كان وعد الله يمثل نموذجهم .
- ما به وعد الله ..؟
- به كل خير .. تصور ، تصور ..
وسكت ابو حسين .. وطال سكوته :
- ها .. ابو حسين اكمل .
- لا .. لا ، اتركها لوقت آخر .. لا اريد ازعاجك .
- ابو حسين .. الحزن صار يعيش معنا ، صار جزء منا ، ينام ويأكل ويسهر معنا في كل الاوقات .
وبحسرة راح الرجل يتحدث :
- تصور .. كان جسم وعد الله مملوء بالتقيحات جراء التعذيب .
كانت جراحه تبعث رائحة كريهة .. ولم يكن بوسعي وأنا الحرس الخافر الاقتراب منه .. تصور ، تصور كان ينسيني رائحة جراحه النتنة المملوءة قيحاً بحلو حديثه..
كان يسألني عن أولادي وأحفادي واحداً واحداً .. كان يقول لي :
- عمي ابو حسين .. لاتجعلهم يتركون المدرسة .. لابد ان نعلم ابناءنا .. ما يحدث من ماسِ .. هو نتيجة للجهل , الجهل بالحقوق والواجبات .
لو كان الناس جميعاً يعرفون ماعليهم من مهمات وما يحتاجون اليه من حقوق لما حدث .. ماحدث .
المدرسة تعلم أبناءنا كل شيء ..
سألته :
- وانت قد تعلمت ياوعد الله .. وهذا ما اصابك !
إبتسم وعد الله .. قال :
- عمي ابو حسين .. كفتا الميزان اختلفت .. انا أعلم ، والآخر بقي لا يعلم .. كلانا يجب أن يعلم وفي هذه الحالة يصبح كل واحد منا يعيش وضعه الانساني السليم .
ومضى ابو حسين يتحدث :
- ابو وعد الله .. هذا الموقف علمني أن لا اكون بائساً في أصعب الظروف ، وأن احتمل الأذى في أشد الاوقات ضراوة .
وعد الله علمني دروساً كثيرة منها أن أبتسم وأنا اواجه أقسى الازمات .. وأن اتجاوز المحن باتجاه ان اصنع حياة افضل .
ظل الرجل يتحدث .. حتى وجدنا الليل قد تعب فيما كان الحديث عن وعد الله يمضي ولا تطاله كل الاوقات .. وكان ظلام الليل ماضِ فيما كان الفجر يتنفس .





#حسب_الله_يحيى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشهيد وعد الله النجار .. علمني كيف يحب بعقله!
- الدرس الرابع في التربية الشيوعية
- الدرس الثالث في التربية الشيوعية
- الدرس الثاني في التربية الشيوعية
- النقد في منظورين : الجفاء والوفاء
- الدرس الاول في التربية الشيوعية
- للكوارث في العراق الراهن..تسلسل خاص.
- الاعلام العراقي في شبكة
- نهار المدى .. شارع وحياة
- في ثقافة المصالحة والتسامح
- إعدام حلم
- الزعيم يختار الخراف الرشيقة
- الموجة تعشق البحر
- البراعة في احتمال الأذى
- سادة الانتخابات
- الأفاق الاجتماعية للكورد
- بيان في المسرح التجريبي
- في جامعة بغداد :الدراسات العليا بين الجد والمزاج
- غابرييل غارسيا ماركيز: الواقع وأبعاده
- كبار الكتاب كيف يكتبون؟


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسب الله يحيى - الدرس الثامن في التربية الشيوعية